-
تابع
وما كانت الدوائر الغربية لتقوم بما قامت به لولا أن الإسلام بوصفه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام للحياة صار هو الفكرة الوحيدة التي تشكل تهديدا حقيقيا للأنظمة القائمة في العالم الإسلامي ، وأن تيار الإسلام بوصفه تيارا سياسيا قد فرض وجوده .
9ـ من جانب آخر فإن الغرب الكافر وعلى رأسه أميركا هو الذي يقف اليوم وراء الحرب الشرسة التي تشن على الإسلام والمسلمين ، وهو الذين يطلقون ـ ولو على ألسنة عملائه ـ صرخات التحذير من خطر ما يسمى " بالأصولية " على المنطقة برمتها وعلى العالم بأسره ، للوقوف في وجه تيار الإسلام ومقاومته بإعلان الحرب على حملة الدعوة الإسلامية في كل مكان وتأليب الرأي العام العالمي على الإسلام والمسلمين باسم " محاربة التطرف والإرهاب " أو عن طريق الأعمال السياسية .
ففي الجزائر بلغ حقد الفئة العلمانية الحاكمة مداه متمثلا بأعمال القتل وسفك الدماء وهتك الأعراض بوحشية لم يسبق لها مثيل ، وفي مصر لم تكتف السلطة بملاحقة حملة الدعوة الإسلامية وزج الآلاف منهم في السجون والمعتقلات ، بل أعطت الأوامر لأجهزتها الأمنية بإطلاق النار على حملة الدعوة في الشوارع والطرقات ، وقامت بإعدام الكثيرين منهم .
أما في تركيا فقد صرح العسكريون أن إصرارهم على تطبيق الحظر الذي فرضوه على ارتداء الحجاب في الجامعات إنما هو من أجل حماية العلمانية بكل أشكالها ومظاهرها ، ولأن الحجاب يُعَد ـ على حد تعبيرهم ـ مظهرا من مظاهر عودة الإسلام للحياة السياسية ، وأكثر من ذلك فقد طالب العلمانيون بتتريك قراءة القرآن في الصلاة وبتتريك الأدعية التي يدعى بها للميت حتى يتأتى للميت فهم هذه الأدعية !! هذا إلى جانب عمليات الإقالة الجماعية من الجيش التي تطال منذ سنوات من تصفهم المؤسسة العسكرية بأنهم ذوو ميول أصولية .
وفي إيران ينشب صراع حاد بين الفئة العلمانية الحاكمة المدعومة من الغرب وبين تيار الإسلام الذي يقف بقوة في وجه التحول نحو العلمانية باسم الانفتاح الحضاري أو الانفتاح على الثقافات الأخرى .
وما الاجتماع الدوري الذي يعقده وزراء الخارجية العرب لوضع الخطط ورسم الأساليب للحيلولة دون عودة الإسلام إلى معترك الحياة تحت شعار ( مكافحة التطرف والإرهاب ) إلا عمل من أعمال هذه الحرب الشرسة .
هذه المؤشرات البارزة تدل بشكل واضح على أن فكرة إيجاد الإسلام في واقع الحياة قد بدأت بالتحول فعلا من قوة روحية في الأمة إلى قوة مادية ، وأن تيار الإسلام أصبح يقف في وجه القوى الأخرى المعادية ، وأن الإسلام أصبح عند المسلمين دينا منه الدولة ، والعقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين ارتبطت بأفكار الحياة وأنظمة التشريع ، أي أصبحت العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين عقيدة سياسية . فما على الحزب إلا أن يعمل على استكمال هذا التحول حتى يتم نقلها إلى التطبيق الفعلي في واقع الحياة .
محاولة أخذ قيادة الأمة
حتى تطبق الأفكار في واقع الحياة لا بد من تحويلها من فكر مجرد إلى قوة دافعة في الناس ، فتؤمن بها جمهرة الناس وتفهمها وتحملها ، وتكافح في سبيل تطبيقها ، وحينئذ يصبح تطبيقها أمرا حتميا ونتيجة طبيعية .
لذلك كان لزاما على الحزب أن يستكمل دور التفاعل أو دور تحويل الفكرة إلى قوة دافعة في الناس بمباشرة القيام بمحاولة قيادة الأمة الإسلامية للعمل من أجل تحقيق الفكرة الإسلامية في معترك الحياة تحت قيادته . والمحاولة تكون بقيادة الأمة كلها بوصفها أمة لأن تحمل معنا الدعوة الإسلامية لإقامة دولة الخلافة ، وتقف مع الحزب وتحت قيادته في وجه الكفر والكفار ، والعملاء والمنافقين ، فلا ينفرد الحزب في كفاح من يقفون حائلا دون تطبيق المبدأ ومن وضعوهم أمامهم من الفئات الحاكمة والظلاميين والمضبوعين بالثقافة الأجنبية ، فإذا نجح الحزب في هذه المحاولة تكون الأمة حينئذ قد اتخذت مبدأ الحزب مبدءا لها ، والحزب قائدا لها ، فينتقل الحزب إلى نقطة الارتكاز انتقالا طبيعيا ، ويقود الأمة لأخذ الحكم كطريقة لتطبيق المبدأ على الأمة ، ثم يقودها لحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم بالجهاد .
أما كيف نقود الأمة بمجموعها للعمل من أجل تحقيق الفكرة الإسلامية في معترك الحياة ؛ فإن لكل عمل يقوم به الإنسان سببين يتعاونان معا في إيجاد الإرادة التي تُعيِّن العمل ، والثاني هو السلطة التي تُنفِّذ .
والإرادة توجَد نتيجة لتحرك الطاقة الحيوية ، والاندفاع على وجه معيَّن . والذي يثير الطاقة ويحركها هو الواقع المحسوس المثير للمشاعر ، أو الفكر المعبِّر عن واقع مثير للطاقة . فإذا ثارت الطاقة تطلبت الإشباع ودفعت الإنسان لتحقيقه ؛ فكان لا بد لكل من يحاول قيادة الناس ليقوموا بأعمال معينة من تقصُّد إثارة شعور الجماعة بتطلب الإشباع ، أو مباشرة قيادتها حال شعورها بتطلب الإشباع .
أما الاندفاع للإشباع على وجه معيَّن فإنه يحصل جرّاء ارتباط المشاعر بالمفاهيم ؛ لأن الإنسان يندفع للإشباع على الكيفية التي تمليها عليه مفاهيمه ، والمفاهيم هي التي تعين للإنسان نوع المشاعر الدافعة وكيفية السير . على أن هناك فرقا بين الحماس والإرادة ينبغي التنبه له حين العمل على إيجاد الإرادة عند الأمة للقيام بأعمال حمل الدعوة لإقامة الدولة ، ذلك أن تحرك الطاقة الحيوية بمثير ما ينتج رغبة في الإشباع ، أو أمنية لتحقيق الإشباع قد ينتج عنهما حماس واندفاع للقيام بأعمال ، لكن هذا الحماس سرعان ما يخبو إذا لم توجد الإرادة ، لأن إرادة القيام بالعمل تعني التصميم على إنجاز العمل مهما كان شاقا ومضنيا ، كما تعني الثبات على ذلك والاستمرار فيه ، وحتى توجد الإرادة لا بد أن تكون إثارة المشاعر قوية ودائمة مع استمرار ربط هذه المشاعر والعامل الخارجي المثير بالمفهوم المعيَّن الذي يحصل به الإشباع ، فيصمد أصحاب هذه الإرادة للعواصف التي تستهدف إطفاء جذوتها في النفوس ، قال تعالى : الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم ، إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا .
فإذا كانت العقيدة الإسلامية حية في نفوس المسلمين فهي كفيلة بإيجاد قوة روحية هائلة تؤدي إلى إيجاد إرادة خوض الصراع وحمل الدعوة ، لكن إذا فقدت نفوسهم تصوير العقيدة لما بعد الحياة من عذاب ونعيم وانطفأت جذوتها في النفوس وأصبحت العوامل الخارجية الأخرى أشد تأثيرا في الطاقة من المفهوم المعيَّن كأن يكون عقاب السلطة أقوى تأثيرا في نفوس المسلمين من عذاب الله ، أو يكون متاع الدنيا وزخرفتها أقوى تأثيرا من ترغيب القرآن الكريم بالجنة وترهيبه من النار ، فإنه لن توجد عندهم إرادة القيام بأعمال حمل الدعوة ،
-
تابع
قال تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ، قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين أتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله ، والله بصير بالعباد .
فالمسألة في إيجاد إرادة حمل الدعوة في الأمة لإقامة الدولة تكمن في تمكين الأمة من لمس الواقع الذي تدل عليه الأفكار المتعلقة بحمل الدعوة . وفي ربط هذه الأفكار بالعقيدة الإسلامية وبيان انبثاقها عنها . وفي مقابل ذلك يجب إضعاف تأثير العوامل الخارجية الأخرى في نفوس المسلمين عن طريق إعطاء المفاهيم الصحيحة عنها ؛ بجعل العقيدة هي الأساس في النظرة إليها ، قال تعالى يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ، إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ، والله على كل شيء قدير . وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ، والله لا يهدي القوم الفاسقين .
وإلى جانب القوة الروحية الهائلة التي تحدثها العقيدة الإسلامية في الأمة هناك عوامل إيجابية أخرى لا بد من الأخذ بها لإثارة الشعور بضرورة هدم أنظمة الكفر المطبقة عليهم وإقامة الخلافة على أنقاضها ، مثل إثارة الإحساس بظلم الحكام وتآمرهم وتفريطهم بمصالح الأمة الحقيقية ، وإبراز التناقض بين ما عند المسلمين من مشاعر عيّنتها مفاهيم الإسلام عن الحياة وبين الكيفية التي تجري على أساسها رعاية الشؤون من قبل السلطة ؛ فإن تقصّد مثل هذه الأمور من شأنه أن يذكي مشاعر السخط والغضب عند الأمة ويقوي الحافز الحاد عندها للتحرك الجماعي من أجل هدم أنظمة الكفر المطبقة عليها وإقامة الخلافة .
ومما يجب ملاحظته أن إيجاد الإرادة في الجماعة أسهل من إيجادها في الأفراد ، وذلك لقرب الجماعة لإثارة المشاعر أكثر من الأفراد ، والشعور هو الذي يوقظ الفكر ، وبتفاعلهما تحصل الحركة ، وتوجد في الأمة إرادة التغيير والنهوض ، والثقافة الجماعية هي أنجع الطرق في إيجاد التفاعل بين الفكر والشعور . فحتى يتسنى لنا قيادة الأمة الإسلامية لحمل الدعوة من أجل إقامة الدولة لا بد أن نسلك طريق التثقيف الجماعي ، فالثقافة الجماعية هي التي تحرك جمهرة الناس وتوجِد فيهم الفهم ، وتجعل الدعوة في المجتمع إعصارا جارفا وتيارا كاسحا . على أن يلاحَظ في الثقافة الجماعية التأثير على المشاعر حين البحث العقلي وإعطاء الأفكار العميقة ، وأن يلاحَظ فيها إثارة الأفكار العميقة حين مخاطبة المشاعر ، حتى لا تكون عقلية بحتة فتغدو جامدة غير مستساغة عند جمهور الناس ، ولا تكون عاطفية محضة فتصبح تافهة غير مقبولة عند المفكرين .
إنه وإن كانت الجماعة قادرة على أن تؤثر كليا على الأفراد ؛ لأن شعورها قوي موقِظ قادر على إيقاظ الفكر ، إلا أن الجماعة أقل قدرة على الصبر من الأفراد ، والرؤية عندها أقل وضوحا ، وأضعف منها عند الأفراد ، لذلك لا بد أن تكون الغاية التي توضع للشعوب غاية قريبة ممكنة التحقيق ، فالممكن عقلا لا تستطيع الشعوب أن تجعله غاية ، بل الممكن فعلا هو الذي يمكن أن تراه وتسعى لتحقيقه . فصار لزاما علينا أن نضع للمسلمين غايات قريبة كمرحلة من المراحل على طريق العمل لإقامة الخلافة ، كأن نحضّ المسلمين على العمل لجعل الأفكار الإسلامية هي الطاغية في المجتمع بأن يحملوها إلى غيرهم وأن يجعلوها مسيطرة على حديث الناس في كل مكان ، أو أن نحضّهم على العمل لتركيز وجود الحزب في المجتمع بأن يقوموا أولا بتهيئة الأجواء للحزب عن طريق إيجاد الثقة به وبجدارته لأن تحتضنه الأمة لوعيه وإخلاصه وللعقيدية الصلبة التي يتحلى بها ، وثانيا بجلب الأنصار والمؤيدين له ولفكرته . ومن هذه الغايات القريبة التصدي لأفكار الكفر كالديمقراطية والقومية والوطنية ، والتصدي لدعاتها وتقريعهم ونبذهم وإظهار العداء لهم ولأفكارهم الفاسدة .
وبما أننا نريد قيادة الناس للقيام بأعمال معينة ، كان لا بد من ربط الأفكار المتعلقة بأعمال حمل الدعوة لمشاعر الناس حتى تصبح مفاهيم عندهم ، فيتحركوا للإشباع بأعمال حمل الدعوة ، وما لم تقترن مشاعر الناس بالأفكار الإسلامية المتعلقة بحمل الدعوة ؛ فإنهم لن يندفعوا نحو تحقيق الفكرة الإسلامية في معترك الحياة .
فإذا أثرنا مشاعر التدين في الأمة ، أو تحرك فيها شعور التدين بتأثير الوقائع الملموسة والحوادث الجارية انفع الناس لإشباع التدين بالصلاة والصيام والصدقة أو بغير ذلك من الأعمال التي تُشبِع غريزة التديّن من غير أن يلتفتوا إلى أي عمل من أعمال حمل الدعوة ؛ لأن التديّن لم يرتبط في أذهانهم بمفاهيم حمل الدعوة كما هو مرتبط بسائر العبادات والطاعات .
فحتى يتأتى لنا قيادة الأمة لتحمل معنا مسؤولية إقامة الخلافة لا بد من جعل المسلمين يتقرّبون إلى الله تعالى بأعمال كفاح الكفر والكفار وأعوانهم كما يتقربون إليه بالنوافل ، قال تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه , ذلك بأنهم لا يصيبهم ظلما ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح , إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون . ولتحقيق ذلك يُعمل على ربط مشاعر التديّت بمفهوم حمل الدعوة لإقامة الدولة وبكل الأفكار المتعلقة به . فيجب علينا مداومة العمل على تمكين المسلمين من وضع الإصبع على الواقع المحسوس الذي تدل عليه هذه الأفكار , وربطها بالعقيدة وبيان انبثاقها عنها , وربطها بالعقيدة يكون ببيان علاقة هذه الأفكار بالإيمان والطاعة , أي علاقتها برضوان الله تعالى وغضبه , وعلاقتها بالجنة والنار والثواب والعقاب . وبيان انبثاقها عن العقيدة يكون بالإتيان بالدليل الشرعي لكل فكر من هذه الأفكار ولكل حكم من هذه الأحكام .
أما الأفكار التي يراد تحويلها إلى مفاهيم دافعة للعمل عند الأمة الإسلامية فهي مسؤوليتها عن حمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية وحملها إلى العالم بالجهاد , وأن الحكم هو الطريقة لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية , وأن هذه المسؤولية تحتّم عليها أن تكافح الكفر ومن يقفون حائلا دون تطبيق الإسلام . وهذا يوجِب علينا العمل على تمكين الأمة بمجموعها من لإدراك واقع الصراع بإدراك الصعيد الأصلي للصراع وأدواته وأعماله .
أما صعيد الصراع فإنه صراع بين إسلام وكفر وبين مسلمين وكفار , فالإسلام بوصفه مبدءا أي بوصفه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام شامل لجميع نواحي الحياة يجب أن يأخذ موقعه في حلبة الكفاح في مواجهة الكفر المتمثل بالمبدأ الرأسمالي الذي يعتنقه الغرب الكافر برمته . والأمة كلها بوصفها أمة إسلامية يجب أن تدخل حلبة الكفاح في مواجهة هذا العدو الذي يقف حائلا دون تطبيق الإسلام , فيجب علينا أن نمكن الأمة بمجموعها من أن تدرك أن العدو الذي يتربص بنا الدوائر هو هذا الغرب الكافر , وأن موضوع الصراع بيننا وبينه هو كونه كافرا , فعلى حملة الدعوة إفهام الأمة أنه لا يجوز لأي مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله اتخاذ الحياد موقفا له من معركة الإسلام مع الكفر , بل يجب أن تتخذ الأمة وكل مسلم موقف العداء من الكفر والكفار وأعوانهم , قال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا .
ويجب أن تدرِك الأمة أن الغرب الكافر وأعوانه يسوّقون الديمقراطية على أنها نظام حكم لا يتعارض مع الشورى وعلى أساس أن الديمقراطية تعني إعطاء الناس حق اختيار الحاكم وحق محاسبته وأن لا بديل من الديمقراطية سوى القمع والاضطهاد والاستبداد ، خداعا للمسلمين عن كفر النظام الديمقراطي وعن انبثاقه عن عقيدة الكفر عقيدة فصل الدين عن الحياة .
أما أدوات الصراع فإن الحزب المبدئي هو أداة الأمة في صراعها الكفر الكفار ، فلا بد أن تلتف الأمة حوله وأن تدخل حلبية الصراع تحت قيادته ، وهذا يتطلب منا أن نقوم بجميع الأعمال التي من شأنها أن توجِد في الأمة الثقة بالحزب وشبابه حتى تتخذه وحده أداة لها في صراعها الكفر والكفار ، وأن نبتعد في ذات الوقت عن أي قول أو عمل أو إشارة توهِم انفصال الحزب عن الأمة ، لأن هذا يبعد الأمة عن الحزب ودعوته ، وإذا ابتعدت الأمة عن الحزب فقد تخلّت عن أداتها في الصراع ، وإذا تخلّت عن دعوته فقد أبعدت الإسلام عن موقعه في حلبة الكفاح .
وعلينا أن نعمل على تمكين الأمة من أن تدرك إدراكا حسيا أن الفئات الحاكمة والظلاميين والمضبوعين بالثقافة الغربية هم أدوات الكفار في معركتهم ضد الإسلام والمسلمين ، عن طريق ربط جميع الأعمال التي تقوم بها الفئات الحاكمة والمضبوعين والظلاميون بالغرب الكافر ، وأنه لا تجوز موالاتهم أو تأييدهم أو التعاطف معهم ، قال تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون .
-
تابع
أما أعمال الصراع فهي أعمال حمل الدعوة لإقامة الخلافة تقوم بها الأمة تحت قيادة الحزب ، وهي تتمثل في ثلاثة أعمال رئيسية هي : أولا : القيام بحمل أفكار الإسلام الأساسية وجعلها هي الطاغية في المجتمع ، مع حمل آراء الحزب في الوقائع البارزة والأحداث الجارية . ثانيا : دعم الحزب ومساندته والالتفاف حوله ، وذلك بتهيئة الأجواء العامة له في كل الأوساط باعتباره أهلا للثقة وجديرا بأن تحتضنه الأمة ، وبجلب الأنصار والمؤيدين له ولفكرته . ثالثا : الوقوف في وجه الكفر وأنظمته ونبذ العملاء المنافقين والمضبوعين بثقافته . ومن الخطأ الاقتصار على دعوة المسلمين للدخول في الحزب ؛ لأن هذا يساعد على إبقاء الأمة محايدة في معركة الإسلام مع الكفر ولأن هذا الخطاب يجعل المسلمين بين خيارين : إما أن يكونوا أعضاء في الحزب أو أن لا يكونوا شيئا في معركة الإسلام مع الكفر .
وليس المطلوب من أجل تمكين الحزب من الوصول إلى غايته أن تصبح الأمة كلها أو أكثرها أعضاء في الحزب ، بل المطلوب هو أن نقود الأمة كلها بوصفها أمة لأن تقف في وجه الكفر والكفار وأعوانهم . ويكفي دليلا على صحة ذلك أن الذين أسلموا في بيعة العقبة الأولى كفاهم شخص واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعب بن عمير لأن يغيّر بهم المدينة ويقلب الأفكار والمشاعر الموجودة في مجتمعها . فالمطلوب تحقيقه الآن هو أن نقود الأمة لحمل الدعوة كما نحملها ، وهو ما يؤدي ضرورة إلى أن تنتقل الدعوة في المجتمع من حركة حزبية إلى حركة شعبية ، ومن حركة شعبية إلى دولة ، وهذا يعني نقل صراع الكفر والكفار وأدواتهم من الحزب السياسي المبدئي إلى الأمة كلها بإدخالها حلبة الكفاح .
ويجب لفت النظر إلى ما يقوم به الغرب الكافر مباشرة أو عن طريق أدواته من أعمال تتعلق بالإسلام والمسلمين وبلادهم سواء كان عملا سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا أو فكريا ، وأن يُربط على أنه عمل من أعمال الصراع ضد الإسلام والمسلمين ، وهذا يعني أن يبيّن الرأي السياسي الذي يعطى للأمة صعيد الصراع من أنه صراع بين إسلام وكفر وبين مسلمين وكفار .
وعلى الأمة الإسلامية أن تدرك إدراكا يقينيا أنها إن دخلت حلبة الكفاح انتصارا لدين الله واستجابة لأمره بإقامة سلطان الإسلام وحمل رسالته ، فإن الله سبحانه ناصرها على عدوّها ، قال تعالى : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، وأن تكون على ثقة بقدرتها على إقامة الدولة إذا خاضت الصراع وحملت الدعوة من أجلها كما أقيمت الدولة في المدينة تماما ولو كره الكافرون ولا بد كذلك أن تثق بقدرتها على حماية الدولة ولو تكاثفت قوى الكفر على هدمها ، كما حصل في غزوة الأحزاب ، وأن تثق بقدرتها على ضم جميع بلاد الإسلام رغم أنوف الكافرين ، وهو أهون من قيام الدولة الإسلامية الأولى ومدّ سلطانها على جزيرة العرب التي كانت بلاد كفر وكان أهلها كفارا ، ولا بد أن تكون الأمة واثقة بقدرتها على حمل الإسلام بالجهاد رسالة إلى العالم كله ، كما حمله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والمسلمون من بعدهم ولو كره المشركون .
وإلى جانب ذلك يلفت نظر الأمة إلى الثروات المادية والبشرية الهائلة التي تملكها ، وإلى الموقع الاستراتيجي لبلدانها . فعليها أن تدرك أنها من أغنى الأمم إن لم تكن أغناها ، إذا جُمعت ثروتها في دولة واحدة كما يفرض الإسلام عليها .
هذه هي أهم الأفكار المتعلقة بحمل الدعوة لإقامة الخلافة ، والتي يجب أن نعمل على جعلها مفاهيم بل قناعات عند الأمة ، حتى نتمكن من قيادتها فعلا للقيام بأعمال حمل الدعوة وخوض الصراع ضد الكفر والكفار . وذلك بالعمل على تمكين المسلمين من وضع الأصبع على الواقع المحسوس الذي تدل عليه هذه الأفكار ، وربط هذه الأفكار بالعقيدة وبيان انبثاقها عنها حتى تثبت للمسلمين صحة هذه الأفكار وصدقها . فإذا تكرر ثبوت صحة أفكار الصراع هذه وصدقها وجدت القناعة بها ، وإذا عمّت هذه القناعة وتركزت الثقة في نفوس الناس بنصر الله ، ووجد رأي عام منبثق عن وعي عام على أفكار الصراع فلا شك أن الأمة كلها ستدخل تحت قيادة الحزب ساحة الصراع ومواجهة الكفر والكفار وعملائهم حتى تقوم الخلافة بإذن الله تعالى .
أما السبب الثاني الذي يتعاون مع الإرادة في إيجاد العمل فهو السلطة التي تنفّذ ، والسلطة التي تنفذ تتمثل في ناحيتين : في سيطرة الإنسان على قواه ، ثم في تسليط هذه القوى على الوجه المعين الذي يحصل به الإشباع . وقوى الإنسان تشمل طاقته البشرية ، والوسائل والأساليب التي تلزم لتنفيذ العمل ، ومع أن قيام الإنسان بالسيطرة على قواه ثم قيامه بتسليطها نحو الوجه المعين الذي يحصل به الإشباع ناتج عن وجود الإرادة لديه إلا أنه يشترط حتى توجَد السلطة التي تنفذ أن تكون قواه الجسمية تكفي للقيام بالعمل ، كما يشترط أن تكون الوسائل والأساليب التي تلزم لتنفيذ العمل موجودة أو ممكنة الإيجاد ، ويستوي في ذلك الأفراد والشعوب والأمم ، فإنه إذا وضعت للشعوب والأمم أهداف أو غايات تحتاج إلى جهد فوق طاقة البشر ، أو تحتاج إلى وسائل وأساليب غير موجودة أو غير ممكنة الإيجاد فإنها لن تسعى لتحقيقها ، وبالتالي لن تتحرك للقيام بالأعمال التي توجدها .
لذلك كان من العبث بل ومما يدعو إلى اليأس والإحباط أن نقوم بتوجيه نداء للمسلمين بأن يعملوا لتحقيق أهداف أو غايات إذا كانت الوسائل والأساليب التي تلزم لتحقيقها غير موجودة أو غير ممكنة الإيجاد ، ذلك أن الغاية هدف يسعى إليه نفس الساعي ، ولا يسعى إليه إذا كان مسلَّما لديه أنه لن يحققه . وما دام يريد أن يسعى إليه فإنه يحتاج إلى الوسائل التي يحققه بواسطتها ، فإذا لم توجَد لديه الوسائل التي يسعى بها فإنه لن يسعى إليه ، حتى لو تظاهر بالسعي ، أو لو خدع نفسه بأنه يسعى ، وهو يسعى بطاقته البشرية ، فإذا كانت طاقته البشرية لا تكفي للسعي ، فإنه لن يسعى مطلقا ؛ لأنه لا يكلَّف الإنسان فوق طاقته ، بل لا يستطيع أن يعمل فوق طاقته .
وهنا يجب التذكير بأن الوسائل والأساليب قد تخفى على المفكرين ، فضلا عن عامة الناس ، لذلك يجب أن نحرص كل الحرص حين مخاطبة الأمة بالقيام بأعمال حمل الدعوة لإقامة الدولة وما يقتضي ذلك من أعمال مواجهة الكفر والكفار وأعوانهم على أن نمكِّن المسلمين من إدراك الوسائل والأساليب التي تلزم لتنفيذ هذه الأعمال إدراكا حسيا ، حتى لو اضطررنا للدخول مع الناس في بحث أدق التفاصيل حتى يدرِك كل من يريد مباشرة العمل الكيفية العملية التي يستطيع بواسطتها أن يقوم بالعمل ، إذ قد تكون وسائل وأساليب تنفيذ العمل موجودة بين أيدي الناس وباستطاعتهم استعمالها لكنهم لا يدركون أن هذه الوسائل والأساليب تنفع في تنفيذ العمل ، أو قد لا تكون موجود لكنها ممكنة الإيجاد إلا أنهم لا يدركون كيفية إيجادها ، لذلك لا يقومون بتنفيذ العمل .
هذه هي كيفية العمل للنجاح في محاولة أخذ قيادة الأمة للعمل مع الحزب لحمل الدعوة من أجل إقامة الخلافة ، وما يقتضي ذلك من وقوف الأمة وتصديها للكفر والكفار وأعوانهم حتى تقوم الخلافة بإذن الله ، لأن الأفكار الدينامية إذا حملتها الأمة بوصفها أمة ، تكون قادرة على نسف أكبر قوة سياسية ، وعلى تدمير كل فكر باطل وكل حكم فاسد .
-
تابع
مقتضيات النجاح
في محاولة أخذ قيادة الأمة
أولا : وجود القصد الواعي
لا بد أن يكون لكل عمل قصد متصوَّر قبل القيام بالعمل ، وهذا القصد هو جزء من الجو الإيماني ، لأن الجو الإيماني يتكون من الإيمان بالمبدأ أي بالإسلام ، ومن القاعدة العلمية التي هي اقتران الفكر بالعمل وأن يكونا من أجل غاية ، وكون الفكر والعمل من أجل غاية معينة هو المراد من أنه يجب أن يكون لكل عمل قصد ، وهذا القصد لا بد من وجوده لدى الحزب باعتباره كلا ، ولدى كل عضو من أعضاء الحزب ، ويجب أن يربَّى هذا القصد وأن يوجَد في نفوس الناس .
فالعمل القيادي حتى يوجَد لا بد له من وجود القصد الواعي لأخذ القيادة ، وإذا لم يوجد هذا القصد الواعي عند الحزب ككل أي عند مجموع الأجهزة ومجموع الشباب ، وفي كل عمل من أعماله ، فإن العمل القيادي لن يوجَد ، وسيبقى الحزب يدور حول نفس الأعمال التي كان يقوم بها حتى الآن ، وهذا يعني أن يبقى الحزب في حالة الانتكاس ، أي يبقى السير متجمدا فلا يحصل الانتقال الطبيعي من دور التفاعل إلى نقطة الارتكاز مهما بذل الحزب من جهود في سبيل ذلك ، ومهما قام به من أعمال والقصد الواعي في هذا الدور الذي يمر به الحزب هو محاولة أخذ قيادة الأمة بآراء وأحكام وأفكار لتحمل معنا الدعوة فنقيم الخلافة ونحرسها ونحمل رايات الجهاد لنشرها في الأرض ، فمن المهم جدا أن يبقى القصد الواعي ماثلا في الأذهان والأعمال ، فيعرف كل شاب معرفة واضحة وبشكل ملفت للنظر أهمية واجباته في هذا الدور .
ولا يصح أن ينتظر الظروف وما تأتي به الظروف ، بل على الحزب وأي عضو من أعضائه أن يوجِد الظروف وأن يستغل الظروف التي تحصل ، لأن الاستسلام للتواكل وما تأتي به الظروف ، أي الاستسلام للعفوية معناه الوقوف الذي قد يؤدي إلى الانتكاس . والذي يحمي من التواكل والاعتماد على الظروف هو وجود القصد من العمل ، ودوام التفكير في الدعوة والدأب عليها ، وعدم الركون إلى كل ما يتأتى اتفاقا أو عفوا دون بذل جهد ، وأن يكون ربط الأسباب بالمسببات هو المسيطر على الأذهان ، وأن لا يركن إلى ما يشعر به الإنسان داخليا ، حتى ولو كان هذا الشعور صادقا .
فلأجل إيجاد هذا القصد الواعي يجب أن نقوم بما يلي :
أولا : اتباع القاعدة العملية ، وهي أن يكون العمل مبنيا على الفكر ، وأن يكون العمل والفكر من أجل غاية معينة .
ثانيا : أن يكون ذلك كله مبنيا على الإيمان حتى يبقى الإنسان سائرا في الجو الإيماني سيرا دائميا . وهذا الجو الإيماني علاوة على أنه يفرض طريقة من التفكير والتي يعتبر وجود القصد جزءا منها ، فإنه يوجِد الإرادة لتحقيق القصد ، وهذا ما يبقي القصد الواعي ماثلا في الأذهان والأعمال .
ثالثا : وضع الخطط ورسم الأساليب التي تمكن من الوصول إلى الغاية المعيَّنة ، وذلك لأن الغاية المعيَّنة إذا لم تُدرك الوسائل والأساليب التي تلزم لتحقيقها فإن الإنسان لن يسعى لتحقيقها .
رابعا : المتابعة ، أي متابعة تنفيذ الأعمال مربوطة بالغاية المعيَّنة . وتكون المتابعة بالحضّ والحثّ وبعث الهمم وتقوية الثقة بالنفس ، كما تكون بالمحاسبة على التقصير . والمتابعة توجِب الإحاطة بسير العمل ، وإدراك العقبات ، والعمل على تذليل الصعوبات التي تقف عائقا أمام القيام بالأعمال أو تحول دون تحقيق نتائج العمل . وهذا من شأنه أن يبقى القصد الواعي ماثلا في الأذهان والأعمال ، لأن المتابعة في حقيقتها هي متابعة تحقيق نتائج الأعمال أي متابعة تحقيق القصد من العمل .
ثانيا : الانقياد للفكرة لا ينفصل عن الانقياد لحامل الفكرة
إن تصدي الحزب لقيادة الأمة إنما يكون عن طريق شبابه الذين تتجسد فيهم شخصية الحزب المعنوية تجسدا تاما لا عن طريق شخصيته المعنوية فحسب ، وذلك لأن شخصية الحزب المعنوية مهما علت وسمت مكانتها في نظر الناس لا تستطيع أن تباشر قيادة الناس لتحقيق الفكرة في معترك الحياة ، ولم يحدث تاريخيا أو واقعيا أن انقاد الناس لأية شخصية معنوية من غير أن تكون الشخصية المعنوية مجسدة في شخص أو أشخاص حقيقيين . فالأمة لا تقاد بالفكر وحده ولا تنظر إلى الفكر بمعزل عن شخصية القائد ، وهي تعشق الكفاح والنضال وتفتتن بالرجولة وتطرب للبطولة وتتغنى بقصصها حتى لوصدرت عن قطّاع طرق ، ولذلك فهي تتفحص شخصية القائد قبل تسلمه قيادتها مفتشة عن العيوب والنقائص ومواطن الضعف ، والأمة لا تسلم قيادتها لجبان ولا لضعيف أو متخاذل .
وعلى ذلك فإن الحزب بشخصيته المعنوية وحدها لن يكون قادرا على التصدي لأخذ القيادة الفعلية للأمة ، والشباب بأشخاصهم بمعزل عن شخصية الحزب وإن كان من الممكن أن ينجحوا في أخذ قيادة الناس ، إلا أن القيادة تكون في هذه الحالة أقرب إلى مفهوم الزعامة منها إلى مفهوم القيادة ، وتكون أقرب إلى المشاعر والعواطف منها إلى أحكام المبدأ ، بمعنى أن الانقياد يكون انقيادا للأشخاص أكثر منه انقيادا للمبدأ ، مما يجعلها قيادة هشة لا تقوى على الصمود أمام العواصف ، ولذلك تكون عرضة للخطر المبدئي .
لذلك لا يجوز أن يتصدر الشباب لأخذ قيادة الأمة بأشخاصهم فقط أو باسم الحزب فحسب ، بل يجب أن يباشروا محاولة أخذ القيادة بأشخاصهم وبشخصية الحزب المعنوية المتجسدة فيهم تجسدا تاما . فمعنى قيام الحزب بقيادة الأمة هو أن يقودها بأفكاره وآرائه وبلجانه وشبابه ، وهذا يعني أن إيصال الأفكار للناس لا يكفي لقيادتهم بها وأن إيصال الكتاب أو النشرة لأكبر عدد ممكن من الناس لا يمكن أن يجعلهم ينقادون للحزب ولا للأفكار التي قرأوها ، فلا بد أن يرى الناس الأفكار مجسَّدة في كتلة أو في أفراد يعرف الناس أنهم من كتلة .
وقد كان لمحاولة الشباب التخفي من الأجهزة الأمنية عن طريق استعمال الكنى ، أو التنقل الدائم لمكان السكن أو مكان العمل أثر كبير في عدم بروز الشباب بأشخاصهم كقادة بين الناس ، والمواقف النضالية والأعمال البطولية التي كان يقوم بها شباب الحزب في مواجهة السلطات كان يعرف منها الناس أن شباب الحزب تلاحقهم السلطات وتضطهدهم وتزج بهم في السجون والمعتقلات ، وأنهم يتّصفون بالإخلاص ويتحلون بالعقيدية الصلبة لكن دون أن يعرف الناس أشخاص هؤلاء الشباب إلا قلة قليلة ممن تربطهم صلة بهذا الشاب أو ذاك .
والحزب لم يتقصد تعريف الناس بأشخاص الشباب ، بل إن الشباب أنفسهم قد تقصّدوا عدم إبراز أشخاصهم بين الناس ، ولم يكن ذلك بسبب الناحية الأمنية فقط بل نتيجة للتطبيق المغلوط لما قاله الحزب من أن الدعوة يجب أن تكون باسم الحزب وعن طريق الحزب ، ونتيجة للفهم المغلوط لمعنى وجوب الانصهار في الحزب انصهارا تاما . ثم إن شخصية الحزب قد أدركها الناس من خلال نشرات الحزب أكثر بكثير من إدراكهم لها من خلال أشخاص شبابه ، فقد اعتمد الحزب في الوصول إلى الناس على النشرة أكثر مما اعتمد على وجود شبابه بين الناس ، لذلك نستطيع القول إن الناس قد أدركوا وجود حزب سياسي يقوم على مبدأ الإسلام إلا أن القادة السياسيين الذين يرعون شؤون أمتهم بأفكار الإسلام وأحكامه ليس لهم حتى هذه اللحظة وجود مؤثر بين الناس .
ولقد كانت هذه الأسباب من جملة الأسباب التي أدت إلى أن ترتفع شخصية الحزب المعنوية وتسمو في نظر الناس دون أن يرافق ذلك بروز أشخاص الشباب سواء على صعيد الأوساط التي يعيشون فيها عيشا طبيعيا أو على صعيد الأمة ، وإذا كان للنشرة تلك الفاعلية وذلك التأثير في الرأي العام ، فإن نجاح الحزب في
-
تابع
محاولة أخذ القيادة الفعلية للأمة يتوقف على عيش أعضاء الحزب عيشا طبيعيا كحملة دعوة بين الناس ، تماما كما كان عيش مصعب بن عمير رضي الله عنه في وسط أهل المدينة .
وبناءً عليه يجب أن يكون من أولى المهمات التي يجب أن يضطلع بها الحزب بشكل عام واللجان المحلية بشكل خاص هي تجسيد شخصية الحزب المعنوية تجسيدا تاما في مجموع شبابه ، حتى تصبح صورة كل خلية من خلاياه هي صورة الحزب في الوسط الذي تشتغل فيه لأخذ قيادته .
فعلى كل شاب من شباب الحزب أن يباشر العمل في محاولة أخذ قيادة الأمة دون أن يكون مجهول الهوية في الوسط الذي يشتغل فيه لمحاولة أخذ قيادته . وعلى كل شاب أن يعمل على تمكين الوسط الذي يتصدى لأخذ قيادته من أن يدرك في شخصيته شخصية الحزب المعنوية إدراكا حسيا بالاتصال الحيّ أو من خلال العيش الطبيعي كحامل دعوة تسير في طريقها السياسي .
كما يجب أن نقوم باستعمال كافة الوسائل والأساليب التي من شأنها أن تبقي على كل من يُعتقل من أعضاء الحزب قيادة حية في أذهان الناس ، فبدلا من أن يكون السجن بمنزلة المقبرة يجب أن نجعل من السجن والاعتقال أداة فاعلة في ترسيخ ثقة الأمة بالحزب وشبابه ، وبالعقيدية الصلبة التي يتحلّون بها ، وبثباتهم على المبدأ ، وبكفاحهم الدؤوب لإقامة دولة الخلافة . وحتى نأخذ قيادة الأمة لا بد أن تكون شخصية القائد السياسي هي شخصية كل شاب من شباب الحزب عند الناس ، لتأخذ الأمة عنا صورة القائد ، صورة السياسي ، صورة المفكر ، صورة الحاكم القوي ، أي تكون شخصية كل حزبي عند الناس شخصية سياسية نضالية ، تحاول أخذ قيادة الناس لخوض غمرات الكفاح ، وأن يكون تصرف كل حزبي تصرف نضال واعٍ من أجل تركيز الراية وتحقيق الغاية .
وإن أخوف ما يُخاف على الحزب تسرّب الضعف للعقيدية الصلبة التي يتحلى بها ، ولذلك فإن على اللجان والشباب أن تكون العقيدية فيهم سجية من السجايا ، تصدر عفوية وببساطة . وتلمسها الأمة في تصرفاتهم كلها أعمالا وأفكارا لمس اليد ، وإلا لن يتمكنوا من جعل عقيدية الأمة صلبة لا تلين ، ولن يستطيعوا قيادة الأمة نحو الهدف الذي يقودونها إليه .
إن العمل القيادي ليس بالأمر السهل لكل من يريد أن يتصدى له بل هو عمل شاق يحتاج إلى ثبات ووعي وإخلاص ومثابرة . وأما الثبات فلأن الأمة لا تعطي قيادتها لجبان متلوِّن ، وأما الوعي فلأن الأمة أيضا لا تمنح قيادتها لجاهل يقودها إلى متاهات ومخاطر ويمرّغ بخيانته أعراضها ومقدساتها وأهلها بالوحل مستهترا بكل القيم كما فعل حكامها ، وأما المثابرة فلأن الناس لا يعطون انقيادهم لكل من أراد بسهولة ويسر خاصة إذا كان يدغدغ فيهم مشاعرهم ولا يرضي فيهم غرورهم ولا يستجيب لمطالبهم الآنية وكانت المهام المنوطة بهم مصيرية .
ثالثا : الانفراد بقيادة الأمة
إن الحزب لا يصبح قائدا للأمة إلا إذا انقادت له وأطاعته ، ولا يبقى القائد قائدا إذا لم يكن لديه من يقودهم ، ولا يكون القائد قائدا إلا إذا كانت القيادة له وحده ، لأن فكرة القيادة توجِب وجود مقودين ، وتنفي إمكان قبول قائدين في آن واحد . وعلى ذلك لا يبقى الحزب قائدا إلا إذا كانت الأمة مقودة له ، ولا يتمكن من القيادة إلا إذا كان وحده القائد المطاع ، فعلى الحزب أن يقوم بما يجعل الأمة تسير في طاعته عن رضى واطمئنان ، وأن يحعل أفكاره تسيطر على المجتمع سيطرة تؤدي إلى حل أو شل القيادات الأخرى فينفرد بقيادة الأمة .
ولا يقوم الحزب بأي عمل من شأنه أن يعطي الشرعية في القيادة لأية قيادة من القيادات السياسية التي تسعى إلى تصدر قيادة الأمة سواء كانت فردا أو حزبا ، وسواء كانت مخلصة أم مأجورة . ولا يتعاون ولا ينساق ولا يشترك مع أية قيادة من هذه القيادات في أي عمل سواء كان كبيرا أم صغيرا . إلا أن الحزب في تصدّيه لقيادة الأمة أو في سعيه للانفراد بقيادتها لا يعمل بل لا يهدف إلى شطب قادة الناس أو ممثليهم الحقيقيين أو المؤثرين فيهم . كما لا يهدف إلى الدخول في صراع معهم أو منافستهم على أخذ قيادة من يمثلونهم ، وإنما يسعى إلى أخذ قيادة الأمة عن طريق أخذ أمثال هؤلاء إلى جانبه ، فالحزب يعمل في الأمة ويريد أن يصل إلى قيادة الأمة ، ولتحقيق ذلك يعمل على أخذ قادة الناس وعلى أخذ من يمثلون الناس تمثيلا حقيقيا . لكن إذا وجَدَ الحزب أن جميع هؤلاء أو بعضهم أو واحدا منهم يعلن عن رفضه الانقياد للمبدأ أو يعمل على الوقوف في وجه الدعوة أو يقف عقبة أمام قيام الخلافة ، فإن على الحزب أن يعمل حينئذ على إسقاط كل من يتصدى للدعوة وكل من يقف في وجه إقامة الخلافة وكل من يتصدى لقيادة الأمة بغير حق .
رابعا : توطيد صلة الشباب بالناس
لإدراك أهمية الصلات الطبيعية في نجاح الشباب في محاولة أخذ القيادة الفعلية للأمة نعرض للدور البارز لها في سير الدعوة في المدينة ، وهي نجاح مصعب بن عمير في الوصول إلى أخذ القيادة الفعلية لأهل المدينة ، فقد كان لعمل مصعب في المدينة بواسطة أهل المدينة أنفسهم الأثر الكبير في تجاوب الناس على نطاق واسع مع الدعوة كما كان له الأثر الأكبر في تجاوب سادة المدينة وقادتها .
ويكفي دليلا على ذلك أهمية الصلة التي كانت تربط أسعد بن زرارة بسعد بن معاذ في تمكين مصعب من كسب سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل ، فقد ورد في السيرة : أن سعد بن معاذ قال لأسيد بن حضير عندما دخل مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة ومعهما جمع ممن كان قد أسلم إلى بستان من بساتينهم : " لا أبا لك ، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفِّها ضعفاءنا ، فازجرهما وانْهَهُما عن أن يأتيا دارينا ، فإنه لولا لأن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتُك ذلك ، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما " .
ثم إن أسيد بن حضير بعد أن شرح الله صدره للإسلام وقد أدرك ما رمى إليه سعد بن معاذ من تذكيره إياه بالصلة التي تربطه بأسعد بن زرارة استعمل الصلة الخاصة التي تربطهما معا حافزا محركا لسعد بن معاذ للوقوف على حقيقة الدعوة التي يحملها مصعب وآمن بها ابن خالته أسعد بن زرارة فذهب إليه وكان مما قاله : " وقد حُدِّثْتُ أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليُخفروك " لذلك فإنه لما سمع منه ما سمع : " قام مُغْضبا مبادرا ، تخوّفا للذي ذُكر له من بني حارثة " ثم إن سعدا لما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتّما ، ثم قال لأسعد بن زرارة : " يا أبا أمامة ، لولا ما بيني وبينك من قرابة ما رُمتَ هذا مني ، أتغشانا في دارَيْنا بما نكره " ، فكان أن سار الحوار بينهم بالطريق الموصل لإدراك الحق تماما كما سار مع أسيد بن حضير .
-
تابع
والصلات الطبيعية بين الناس هامّة ؛ لأن وجود الصلة يعني وجود الثقة ، وذلك أن الناس لا يمكن أن يسيروا وراء من لا يثقون بإخلاصه أو مقدرته على الوصول بهم ومعهم إلى تحقيق الغاية ، والثقة لا تأتي اعتباطا ، بل تحتاج إلى تكرار ثبوت الإخلاص ، وإلى تكرار ثبوت الجدارة والأهلية لأن ينقاد الناس له ، وهذا يتحقق بأحد طريقين :
أولاهما : أن يعيش القائد عيشا طبيعيا في الوسط الذي يريد أن يباشر محاولة أخذ قيادته ، وعن هذا الطريق يدرك الناس إدراكا حسيا سجايا القائد التي من شأنها أن تدفعهم للانقياد له . وهذا هو الطريق الأشق والأطول لأنه يحتاج إلى صبر ومثابرة .
وثانيهما : التوثيق ، أي أن يثق الناس بك عن طريق توثيقك من قِبَل من يثقون به ، وهذا هو الطريق الأسهل والأقصر ، وبواسطته يتمكن القائد من الحصول على ثقة أكبر عدد ممكن من الناس وذلك لأن الحصول على ثقة من يثق الناس به ، يضمن الحصول على ثقة جميع الناس الذين يثقون به ، فقد كان يكفي أن يحصل مصعب على ثقة سعد بن معاذ وأسيد بن حضير حتى يحوز ثقة جميع الناس الذين يمثلهم سعد أو يمثلهم أسيد .
ومع أن هذا الطريق هو الأسهل والأقصر إلا أنه يتطلب الحصول على ثقة الموثِّق بالطريق الأصعب ، لذلك كان لا بد أن يكون لكل شاب وسطه الذي يعيش فيه عيشا طبيعيا كحامل دعوة تسير في طريقها السياسي .
وما يجب إدراكه أن مباشرة الشباب محاولة أخذ قيادة الأمة باسم الحزب وعن طريقه من شأنه أن يضفي على شخصية الشباب الشخصية القيادية ؛ لأن شخصية الحزب المبدئي السياسي وإن كانت شخصية معنوية إلا أنها شخصية قيادية فإذا تجسدت شخصية الحزب المعنوية في شخصية حقيقية جعلت منها طبيعيا شخصية قيادية .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه إذا كانت صورة الحزب في أذهان الناس هي صورة القائد والسياسي والمفكر والحاكم ، فإن هذه الصورة سوف تنتقل طبيعيا لتكون هي صورة كل شاب من شباب الحزب في أذهان الناس ، وذلك أن تفكير الناس يغلب عليه القياس الشمولي والاستنتاجات المنطقية ، وهذا من شأنه أن يقصر الطريق التي يحتاج الشاب أن يقطعها من أجل الحصول على ثقة الناس ، لا سيما الثقة بوعيه وإخلاصه . وبما أن الصلة بالناس هي الجسر الذي لا بد من أن يمر من فوقه كل من يريد الوصول إلى أخذ قيادة الأمة ، فإن على كل شاب أن يبادر إلى توطيد صلته بالوسط الذي يريد أن يباشر العمل في محاولة أخذ قيادته ، ويكون ذلك إما بإحياء صلات قديمة أو تمتين صلات قائمة أو بناء صلات جديدة أو بكل ذلك . أما الصلات الجديدة فيحتاج بناؤها إلى إبداع في الوسائل والأساليب ، وغالبا ما تكون العلاقات القديمة أو القائمة فعلا هي الأسلوب الفعال في إقامتها . وتوطيد الصلة بالناس تكون بتفقد أحوالهم والاهتمام بهم وبقضاياهم اهتمام رعاية وغيرة وأخوة ومؤازرة ومناصرة ، وبمشاركتهم أفراحهم وأتراحهم والوقوف إلى جانبهم في الملمات .
خامسا : الأسلوب يقرره نوع العمل
في أعمال محاولة أخذ القيادة يجب إتباع الأساليب التي ينتج عنها أخذ الناس للأفكار أو للحزب أو مؤيدين . لأن الغاية هي أخذ الناس لا الدخول معهم في صراع ، وهذا لا يعني مطلقا أن نجامل الناس على حساب المبدأ أو ننحني أمام الرأي العام في مسألة ما إذا كان خاطئا ، بل يعني أننا إذا لاحظنا في الأمة تنكبا نبّهنا فيها إيمانها وعبقريتها ، ثم نصحح ما يحتاج لديها إلى تصحيح من مفاهيم مغلوطة ، أو آراء فاسدة أو أفكار سقيمة ، لكن ليس بالهجوم العنيف أو النقد اللاذع أو القدح والتجريح أو الحط من قدر الناس ، أو تقصد إظهار تفاهة آرائهم وسخافة عقولهم ، إذ لا يعني عدم تملق الناس توجيه النقد اللاذع إليهم وتسفيه عقولهم ، كما لا يعني عدم الدخول في صراع معهم مداهنتهم أو إقرارهم على الباطل .
وقد أدرك المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة أن الأسلوب قرره نوع العمل ، وأن العمل يجب أن يكون مبنيا على الفكر ، وأن يكون الفكر والعمل من أجل غاية معينة ، فلم يروَ عنهم أنهم دخلوا في صراع مع النجاشي وبطارقته ، لكن دون أن يمنعهم ذلك من قول كلمة الحق . والحوار المشهور الذي دار بينهم وبين النجاشي يدل على ذلك أوضح دلالة ، لأن القصد من الهجرة لم يكن سوى اللجوء إلى بلد يأمنون فيه على دينهم فرارا من أذى قريش .
أما في المدينة فقد كان الناس يشعرون بخطأ الأفكار التي يحملونها ويبحثون عن أفكار أخرى ونظام آخر لحياتهم ، أي أن الأفكار الفاسدة لم تكن تتحكم في مجتمعهم كما كان الحال في مكة . لذا لم يجد مصعب حاجة إلى استعمال الأسلوب الهجومي العنيف لصهر المجتمع في المدينة في بوتقة الإسلام ، كما لم يستعمله في أي عمل من الأعمال التي قام بها من أجل الوصول إلى أخذ القيادة الفعلية لأهل المدينة ، وإن ما ورد في كتب السيرة ليدل على ذلك أتم دلالة ، إذ روي أن أسيد بن حضير وقف على مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة متشتّما ومعه حربته ، فقال مصعب : أوَتجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره ،
-
تابع
فقال أسيد : أنصفت " ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن ، وذُكر عنهما أنهما قالا : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله " . وبنفس الأسلوب حقق ما كان يطمح إليه في أخذ سعد بن معاذ ، فمصعب لم يقابل التحدي بتحد مثله ، ولم تُحدِث الحربة في نفسه أثرا ، فلم يتراجع ولم يتخلّ عما جاء من أجله ، بل قال : " أوَتقعد فتسمع " ، فلا هو أخذه الغضب ، ولا تملكه الخوف فجبن عن المواجهة ، وإنما واجه الموقف بعقلية القائد السياسي المبدع وبنفسية المسلم الذي لا يخشى في الله لومة لائم .
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به ، من غير أن يقرن ذلك بالصراع ، خلافا لما كان يخوضه من صراع داخل مجتمع مكة ذلك المجتمع الذي كان مرتاحا إلى ما هو عليه ، حريصا على بقائه . ففي سيرة ابن هشام : " ورسول الله يقف على منازل القبائل من العرب ، فيقول : يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعوني ، حتى أبين عن الله ما بعثني به " . وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين سمع بسويد بن الصامت الذي كان يسميه قومه الكامل ، لجلَده وشعره وشرفه ونسبه حين قدم مكة حاجا أو معتمرا تصدى له : " فدعاه إلى الله وإلى الإسلام ، فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان ـ يعني حكمة لقمان ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إعرضها عليَّ ، فعرضها عليه ، فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ ، هو هدى ونور . فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، ودعاه إلى الإسلام . فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا لقول حسن " .
سادسا : العناية الفائقة بالتثقيف الجماعي
من أجل تحقيق النجاح في محاولة أخذ القيادة الفعلية للأمة لا بد من القيام بالتثقيف السياسي الجماعي على أوسع نطاق وبمختلف الوسائل والأساليب الممكنة ، على أن تتميز الثقافة الجماعية بالبساطة وسهولة الفهم ، والقدرة على تحريك الناس ، تشيع فيهم التلهب والحماس ، لحفزهم على نصرة قضية الإسلام بجدية وصدق ، والوقوف في وجه الكفر والكفار وأعوانهم ، وتوجِد عند الأمة إرادة العمل للخلافة وتدفعها لاحتضان الحزب والعمل تحت قيادته لإقامتها .
إلا أنه يجب التفريق بين الثقافة الجماعية والخطاب الجماهيري ، لأن الخطاب الجماهيري يعني التحدث إلى الجماعات المتعددة المتجمعة تجمعا آنيا ، وأما الثقافة الجماعية فتعني تثقيف الناس من غير أعضاء الحزب كجماعات ، بغض النظر عن المكان الذي تجري فيه عملية التثقيف سواء كان المكان عاما كالمسجد والسيارة أو كان خاصا كالبيت ، وبغض النظر عن كون تجمع الناس كجماعات متعددة كالمستشفى والعيادة الطبية ، أو كونه جماعة واحدة كالطلبة في المدرسة والجامعة وأفراد العشيرة الواحدة ، وبغض النظر أيضا عن كون تجمع الناس عفويا كالوجود في المسجد أو في مكان تقديم التعزية ، أو مقصودا كأن نقوم بدعوتهم للاستماع إلى حديث عن قضية معينة في مكان محدد .
وعلى ذلك فإن الخطاب الجماهيري يندرج تحت التثقيف الجماعي ، فكل خطاب جماهيري يعتبر من الثقافة الجماعية ، لكن ليس كل تثقيف جماعي خطابا جماهيريا . لذلك إذا كان المقصود من الخطاب التأثير في الرأي العام فقط فلا بد في هذه الحالة أن يكون خطابا جماهيريا ، لكن إذا أريد منه محاولة أخذ القيادة الفعلية للأمة فلا بد من أن يصحب الخطاب الجماهيري تثقيف جماعي للناس في كل مكان مستطاع ، وبكل وسيلة من الوسائل المتاحة في التثقيف الجماعي ، وقد كان هذا العمل من أهم أعمال حمل الدعوة في المدينة ، وكان له الأثر العظيم في نجاح مصعب في محاولة أخذ القيادة الفعلية لأهل المدينة . والكيفية المنتجة في التثقيف الجماعي هي الموعظة الحسنة أو التذكير الجميل ، ويعني إثارة مشاعر الناس حين مخاطبة عقولهم وإثارة أفكارهم حين مخاطبة مشاعرهم ، حتى تكون المشاعر مرتبطة مع الأفكار فينتج العمل إنتاجا كاملا . فإذا أردنا مثلا أن نبين للمسلمين فساد المبدأ الرأسمالي فإننا يجب أن نبين مناقضة عقيدة هذا المبدأ للفطرة ، وفي نفس الوقت نبين فيه عدم موافقتها للعقل حتى يتصل إدراك المسلمين لفساد الديمقراطية بمشاعر غريزة التدين ، ويكون ذلك بأن نبين للمسلمين بوضوح تام وبساطة متناهية أن الديمقراطية تقرر أن الشرع الذي يضعه الإنسان لنفسه ، هو الشرع الذي يجب أن يسير عليه الناس لا شرع الخالق عز وجل ، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ويقول : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، وعلينا أن نبين للمسلمين بنفس الوضوح والبساطة أن الذين يؤمنون بالديمقراطية قد كفروا بافترائهم على الخالق عز وجل حين قالوا إن صلته بعباده يجب أن لا تتجاوز حد دار العبادة إلى تنظيم شؤون الحياة ، فالديمقراطية كفر ، وكل من يؤمن بها كافر حقا ، قال تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا ، ولما كانت كلمة كفر وكافر وكفار لها مدلول يثير مشاعر غريزة التدين عند المسلمين فإن ربط الديمقراطية بهذه الكلمات من شأنه أن يثير مشاعر السخط والاشمئزاز في نفوس المسلمين ، وإذا تكررت عملية الربط امتزجت حينئذ الديمقراطية بهذه المشاعر بشكل حتمي .
ومن ناحية أخرى يمكن أن نعمل على ربط فساد الديمقراطية بمشاعر غريزة النوع ، وذاك بأن نبين خطر النظام الديمقراطي على أعراض المسلمين بقوله بالحرية الشخصية وبأن الدولة تكفل هذه الحرية لكل فرد من أفراد المجتمع ، وأن القانون يعاقب كل من يحاول أن يمنع الأفراد من ممارسة حريتهم الشخصية حتى لو كانت الحرية تتمثل باقتراف جريمة الزنا . وكذلك يمكن ربط فساد الديمقراطية بمشاعر غريزة البقاء ، بأن نبين صلة النظام الديمقراطي بشيوع الجريمة بمختلف أشكالها ، وذلك بسبب جعله النفعية هي المقياس للأعمال وبسبب إطلاقها العنان للحريات . وبهذه الكيفية لا نكون قد أوجدنا القناعة بفساد الديمقراطية فحسب بل وأوجدنا كذلك الحافز المحرك لدى المسلمين لأن يتصدوا للديمقراطية ولأن يقفوا في وجه دعاة الكفر في بلاد الإسلام .
وقد سار القرآن على هذا النهج ، فكان في الوقت الذي يخاطب فيه الفكر يثير المشاعر ، قال تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون وقال تعالى : إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاءً وفاقا ، ذلك أن الخطاب إذا اقترن بالجنة والنار والثواب والعقاب من شأنه أن يثير في النفس الشعور بالتدين ؛ لأن دخول الجنة والنجاة من النار بيد الله تعالى فيتحرك نتيجة لذلك الشعور بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر ، فيدفعه هذا الشعور إلى التفكير وإعمال الذهن .
-
تابع
هذه الكيفية في التثقيف الجماعي تحتم علينا أن نقوم بتثقيف المسلمين بأفكار الإسلام وأحكامه مقترنة بالنصوص الشرعية التي دلت عليها فترتبط الأفكار أو الأحكام التي دل عليها النص الشرعي بوجدان الناس ، وبذلك يحصل التفاعل بين الفكر والشعور ، كما أن هذه الكيفية في التثقيف الجماعي تحتم علينا أن نعيد للمجتمع استعمالات الإسلام للجمل والكلمات ؛ لأن الواقع المتصور في ذهن المسلمين لمدلول هذه الجمل والكلمات يثير المشاعر ، وهذا لا يتأتى إلا إذا تقصدنا هذه الكلمات ، فنستعمل كلمة فاسق وفساق لمن يرتكبون عدة محرَّمات ، ومنافق للسياسي الذي يتظاهر بالإسلام أمام المسلمين ويتنكر له أمام الكفار ، واستعمال كلمة كفر وكفار عند الحديث عن الكفر والكفار .
هذه من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الثقافة الجماعية يجب أن تتضمن الكلمات والمعاني التي من شأنها أن تثير في المسلمين الإحساس بانتمائهم إلى الأمة الإسلامية أو تقوي فيهم الشعور بأنهم جزء من كلٍّ هو الأمة الإسلامية . والكلمات الدالة على الإحساس بخير المسلمين والعمل للمسلمين .
ويجب التشديد على المعنى الموجود في دعاء عمر رضي الله عنه في صلاة الفنوت " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، وأصلح ذات بينهم ، وألف بين قلوبهم ، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة ، وثبِّتهم على ملة رسولك ، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه ، وانصرهم على عدوّك وعدوّهم ، إله الحق ، واجعلنا منهم " . ولمّا كان الدعاء عبادة لقوله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " . وجب أن نعمل على جعل الخلافة والعمل من أجلها جزءا من الدعاء الذي يدعو به المسلم ربه ، ويكون ذلك أعمق أثرا إذا كان الدعاء مع الجماعة وفي أجواء الجماعة حتى ترتبط الخلافة والعمل لها وما يقتضيه العمل لإقامتها ـ من مواجهة الكفر والكفار وأعوانهم ـ بالمشاعر الروحية التي تنشأ عن إدراك المسلم صلته بربه .
سابعا : تمكين الشباب حتى يكونوا سياسيين فعليين
من أجل جعل الشباب سياسيين فعليين ، لا بد من أن يتتبعوا الأخبار السياسية والأعمال السياسية والأحداث السياسية في العالم تتبع معرفة وإدراك ليعطوا رأيهم فيها ويرعوا شؤون الناس حسب هذه الآراء ، فعلى الشخص حتى يكون سياسيا أن يتتبع الأخبار السياسية وأن يحلل هذه الأخبار وأن يعطي رأيه فيها للناس على شرط أن يكون هذا الرأي صادرا عن وعي أو مرتكزا إلى وعي ولا يكون الرأي كذلك إلا إذا كان صادرا عن زاوية خاصة تتعلق بوجهة النظر في الحياة أو مرتكزا إلى هذه الزاوية ، وهذا يعني أن الرأي لا يكون سياسيا إلا إذا أعطي للناس من زاوية خاصة في الحدث أو الواقعة الجارية ، أي يُعطى منزَّلاً على الواقع ولا يجوز أن ينفصل عن البحث في الواقع .
والسياسيون الفعليون هم الذين يقومون برعاية الشؤون عن طريق ربط الفكر المنزَّل على واقعٍ بالدولة الحاضرة ، وأعمال الدولة الحاضرة والحكام ، وهذا يقتضي أن تتجسد السياسة بالشباب فعلا بإيصالهم الأفكار والآراء إلى الناس عن طريق الاتصال الحي ورعاية شؤونهم بها ، وأن يحسنوا وجودهم بين الناس في رعاية شؤونهم بأفكار الإسلام وأحكامه . ذلك أن شباب حزب التحرير حملة دعوة ، وأصحاب فكر ، فعليهم حمل الدعوة الإسلامية والعمل لاستئناف الحياة الإسلامية ، وفي حالة استئنافها يكونون قوامين على المجتمع للحيلولة دون اندحاره أو تغييره ، فعملهم هو العمل لفكرتهم سواء كان بحملها للناس أو بتثقيفهم بها أو بهدايتهم لما تحويه وتهدف إليه ، إلا أن هذا العمل إنما هو في ذاته رعاية شؤون الناس ، أي هو في ذاته سياسة لذلك لا بد أن يكون شباب حزب التحرير سياسيين ، وما لم يكونوا سياسيين ، فإنهم لا يمتّون لحزبهم بصلة ولو انتسبوا إليه .
إلا أنه مما يجب أن يكون واضحا أن السياسة ليست هي الأخبار السياسية ولا المعلومات السياسية وإن كانت السياسة لا توجد إلا بهذه الأخبار والمعلومات ، لأن السياسي يرعى الشؤون وهذه الشؤون لا يعرفها إلا عن طريق الأخبار ، ورعاية الشؤون التي يقوم بها سباب الحزب ليست مجرد رعاية شؤون لما فيه مصلحة الناس ، وما فيه الصلاح لهم حسبما يرون ، بل هي رعاية شؤون الناس بمبدأ الإسلام لأن المصلحة هي ما يقول بها الإسلام ، ولأن الصلاح إنما هو بما جاء به الإسلام فهم إذن سياسيون من نوع معين خاص ، وليسوا تجار سياسة .
وهذا وحده هو الذي يجعل الناس ينظرون إلى الشباب على أنهم سياسيون ، ولا يجوز لهم الاتكال على النشرة في ذلك ، لأن النشرة تجسد شخصية الحزب المعنوية التي أصدرت النشرة ، ولا تجعل من شخصية الشاب ، شخصية سياسية ، وحتى يكون للرأي أثر أو تأثير في نظرة الناس إلى الوقائع والأحداث وحتى يكون لهم قيمة أو وزن في رعاية شؤون الناس ، لا بد من جعل الناس ينظرون إلى الوقائع والأحداث من نفس الزاوية الخاصة التي صدر عنها الرأي أو ارتكز إليها ، وإذا صار الرأي صادرا من نفس الزاوية الخاصة التي تنظر الأمة من خلالها إلى الوقائع والأحداث أصبح لرأينا السياسي وزن في المجتمع وقيمة حقيقية بين الناس ، وإلا تحوَّل الحزب عن رعاية الشؤون إلى تخدير الناس بالأماني والوعود .
وحتى نمكن الشباب من التحول إلى سياسيين فعليين لا بد من تثقيفهم بالمفاهيم السياسية وتزويدهم بتحاليل سياسية متتابعة تساعد على فهم كيفية التحليل السياسي وتوفير المعلومات السياسية وإثرائها بالمناقشة .
-
تابع
أسلوب تنفيذ خطة عمل الحزب
إن خطة عمل الحزب تهدف إلى استكمال بناء القاعدة الشعبية بتحقيق النجاح في محاولة أخذ قيادة الأمة حتى ينتقل الحزب من مرحلة التفاعل إلى نقطة الارتكاز انتقالا طبيعيا ، ولا يتم بناء القاعدة الشعبية إلا بأسلوب عملي وقوي .
والواقع يُري أن الناس مهما تعددت فئاتهم ومهما اختلفت أحوالهم ومهنهم يعيشون عيشا طبيعيا بصلات متعددة يتصل بعضها ببعض ، ويسيطر عليهم مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات ، فالصلات الطبيعية ممتدة ومتشعبة وليست محصورة في جهة معينة ، مما يعني إمكانية الوصول إلى أي وسط عبر الصلات الطبيعية التي بين الأوساط ، كما يعني أن التأثير في أي وسط يؤثر طبيعيا أو ينعكس صدى تأثيره على سائر الأوساط .
ولا يكون العيش طبيعيا إلا بوجود أمر مشترك ودائم بين الناس كالجوار أو القرابة أو المهنة أو العمل الحزبي . ومن خلال العيش الطبيعي تتكشف السجايا وتحصل الثقة ، لذلك كان على كل من يحاول أخذ قيادة الناس أن يعمل في وسطه الطبيعي ، أي في الجهة التي يكون فيها وجوده طبيعيا غير مصطنع ، وتربطه بأهلها صلات طبيعية ، فالقيادة لا تحصل لقائد إلا إذا كان عيشه في الوسط الذي يحاول أخذ قيادته عيشا طبيعيا ، تبرز من خلال هذا العيش سجايا القائد والثقة بإخلاصه وأهليته للقيادة .
والقيادة لا تحصل بوجود الحواجز التي تفصل بين من يحاول القيادة وبين الناس ، سواء كانت هذه الحواجز مادية أو معنوية أو فكرية ، فمن يُفرض عليه مباشرة محاولة أخذ القيادة في منطقة محددة لا تربطه بأهلها صلة طبيعية ، لا يمكن أن ينجح في محاولته مهما بذل من جهود ومهما كان النظام الذي ينظم عمله دقيقا وصارما .
من هنا كان إخفاق أسلوب نظام المناطق الذي وضعه الحزب عام 1959م في إيصال الحزب إلى أخذ قيادة الأمة رغم متابعته الدؤوبة لتنفيذه حتى الثلث الأخير من السبعينات ، ورغم أثره الكبير في إيجاد وعي عام انبثق عنه رأي عام للإسلام .
لهذا كله يُترك لكل شاب اختيار الوسط الذي يسهل عليه قيادته والعمل فيه ، من غير إلزام بجهة معينة على أن يُسار في العمل على النحو التالي :
أولا : يجب أن تتم دراسة كل وسط دراسة واقعية ، فيكون فهم واقع الوسط ناتج عن منطق الإحساس لا عن استنتاج منطقي وفرض نظري .
ثانيا : معرفة القادة والمؤثرين في الأمة بناء على إدراك واقع كل وسط إدراكا حسيا بعيدا عن التعميم أو القياس الشمولي ، فلا يقال أن النواب كلهم قياديون أو أن شيوخ العشائر كلهم مؤثرون ، ولا يقال إن صغار السن ليسوا قياديين ، أو ليسوا مؤثرين ، فقد يكون نائب مؤثرا وآخر ليس مؤثرا .
وقد يكون شيخ عشيرة ممثلا حقيقيا لأبناء عشيرته ، وغيره ليس كذلك ، إذ قد تكون الدولة هي التي فرضته شيخا للعشيرة ، كما أنه يوجد أشخاص ذوو تأثير في أوساطهم ولكن لا تلتفت الأنظار إليهم ، كمن هم في سن الشباب ، مع أن الناظر أو العارف بأحوال الأحياء الشعبية بشكل خاص يدرك أن في كل حي تجمعا شبابيا طبيعيا بحكم الجوار ، ويكون في الغالب من بينهم شخص أو أكثر له عندهم مكانة وكلمته مسموعة من قِبَلِهم ، كما أن بعض الأوساط في المساجد والحارات تكون ملتفة حول شخص أو أشخاص من كبار السن ، وهكذا يجب أن ندرس واقع كل منطقة وواقع كل وسط على حِدة وبناء عليه نستطيع معرفة القادة والمؤثرين معرفة حسية .
ثالثا : العمل من داخل كل وسط بقوى الحزب الموجودة فيه من شباب وأنصار ، وفي حال عدم وجود قوى للحزب فيه يعمل على دخول الوسط بالتأثير على أفراد منه لجعلهم من قوى الحزب ، وإذا لم تكن قوى الحزب كافية لإحداث التأثير توضع الوسائل والأساليب اللازمة لإيجادها .
رابعا: العمل في الوسط يجب أن يجري في اتجاهين متوازيين : الأول في الوسط بشكل عام ، وأما الثاني فيوجه إلى قادة الوسط والمؤثرين فيه بشكل خاص ، وفي حالة عدم تجاوب قادة الوسط مع الحزب ، فإن علينا في هذه الحالة أن نعمل على أن يكونوا على أقل تقدير إلى جانب الإسلام ، أما إذا اتخذوا موقفا معاديا للإسلام أو للحزب فإن علينا العمل في هذه الحالة على تقصد إبراز قادة جدد للوسط ممن يعتبرون من قوى الحزب . وبغض النظر عن نتائج العمل في القادة والمؤثرين يجب أن يبقى العمل في الاتجاه الأول قائما .
وفي كل الأحوال يجب أن يسير العمل في أخذ قيادة هذه الأوساط على قاعدة أن التأثير في الأجواء العامة للوسط يؤدي إلى التأثير في قادة الوسط ، وأن أخذ قادة الوسط يؤدي إلى أخذ غالبية الوسط .
خامسا : تقوم قوى الحزب بتثقيف الناس تثقيفا سياسيا جماعيا بأفكار الإسلام الأساسية والمفاهيم المتعلقة بحمل الدعوة منزَّلة على الوقائع والحوادث الجارية ، على أن تكون هذه الثقافة سهلة وخالية من التعقيد ، ويصطنع لذلك الوسائل والأساليب المناسبة مثل الانترنت والقنوات الفضائية وأشرطة الفيديو والكاسيت وغيرها .
سادسا : تحديد أعمال حمل الدعوة التي يراد قيادة الوسط للقيام بها وهي أولا : حمل أفكار الإسلام الأساسية من عقيدة وخلافة وجهاد ، مضافا إليها آراء الحزب في الوقائع والأحداث وجعلها المسيطرة على أجواء الوسط . ثانيا : دعم الحزب ومساندته والالتفاف حوله بإيجاد الثقة بالحزب وأهليته للقيادة وبجلب الأنصار والمؤيدين له ولفكرته . ثالثا : التصدي لأفكار الكفر وأنظمته ونبذ العملاء والمنافقين . وتتم ترجمة هذه الأعمال بحسب واقع كل وسط وما يمكن أن يقدمه ، فيطلب من خطيب المسجد تضمين خطبته أفكارا وآراءً معينة ، ويطلب من الصحفي نشر مقال أو تعليق ، ويطلب من النقابي ترتيب ندوة أو محاضرة ، ويطلب من شيخ العشيرة تهيئة أجواء عشيرته للحزب وفكرته .
سابعا : تمكين كل وسط من إدراك الوسائل والأساليب اللازمة لتنفيذ هذه الأعمال .
ثامنا : جعل الأمة تدرك أنها باستجابتها للحزب توجد القاعدة الشعبية كتلك التي أوجدها مصعب في المدينة ، وهي بذلك تقوم بدور الأنصار ، أهل المدينة الذين رهنوا حياتهم كلها ووضعوا قواهم كلها لإقامة سلطان الإسلام ، هذا الدور الذي لهم فيه الأجر والثواب إلى يوم القيامة ، وهم يستطيعون ذلك إن أرادوا أن يكونوا رجالا كما استطاع الأنصار ذلك ، هذا الدور المتمثل بتهيئة الأجواء للإسلام ولاحتضان الحزب الذي يعمل لإيجاده في الحياة ، وهذا يماثل احتضان الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد بايعوه بيعة الثبات والطاعة ، ومن ثم أقبل رجالاتهم سيدا سيدا لنصرة دين الله حتى بايعوه بيعة الحرب ، البيعة التي عرَّضوا أنفسهم فيها لأخطار هائلة هانت في نظرهم لأن ثمنها أعظم منها ، ( الجنة ) .
إن الحزب لا يصل إلى الحكم إلا إذا أصبح قوة سياسية كبيرة في البلاد وقوة مؤثرة في المجتمع برأيه العام وبقيادته للأمة وبصوته الذي يعلو على كل صوت ، ولا يأخذ الحزب الحكم إلا بقوة الأمة وإرادتها ، ولا يأخذه بغير ذلك مطلقا .
والحزب لا يكون قوة سياسية كبيرة إلا بقوة شخصيات شبابه المتمثلة بقوة عقلياتهم وقوة نفسياتهم ، وذلك لا يكون إلا بانصهارهم في الدعوة انصهارا تاما ، حتى يظل المبدأ متجسدا فيهم تجسدا تاما ، فلا بد أن يحدث ذلك ليس في الحزب وأجهزته فحسب ، وإنما في كل شاب من شبابه .
لذلك فإن على كل شاب من شباب الحزب أن يستعد من الآن لأن يكون هو مصعب بن عمير في الوسط الذي يشتغل فيه لأخذ قيادته ، ولأن يجعل الوسط الذي يشتغل فيه لأخذ قيادته كأنصار المدينة الذين نصروا الدعوة وأقاموا الدولة . وعلى كل شاب أن يسير في العمل لأخذ القيادة الفعلية للأمة على أساس أن المستحيل ليس هو أخذ القيادة الفعلية للأمة قبل قيام الدولة ، بل على أساس أن المستحيل هو قيام الدولة الإسلامية من دون أخذ القيادة الفعلية للأمة .
وبعد :
فهذه هي كيفية العمل للنجاح في محاولة أخذ قيادة الأمة بمجموعها للعمل مع الحزب لحمل الدعوة لإقامة الخلافة ، وما يقتضي ذلك من وقوف الأمة وتصديها للكفر والكفار وأعوانهم ، لكن هذا من ناحية ما نحن مكلفون ، أو ما نحن مسؤولون عنه كبشر ، إلا أنه لا يجوز أن يغيب عن البال لحظة أن الله سبحانه محيط بكل شيء وأنه سبحانه قد وعد عباده المؤمنين بالنصر إن هم نصروه ، والله سبحانه لا يخلف الميعاد . قال تعالى :
إنا لَنَنْصُرُ رُسلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
-
هل وصل الحزب والشباب إلى الجمود واليأس ؟ .
رمضان 1436هـ .