مؤمن
28-08-2008, 01:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم معلومات للشباب
3- اسيا الوسطى و روسيا
ب- روسيا ( القسم الثاني )
خطوط عريضة حول السياسة الروسية
منذ إنهيار الشيوعية وسقوط الإتحاد السوفياتي عام 1991 في زمن ميخائيل غورباتشوف، تخلت روسيا عن أحد أهم مقومات سياستها الدولية التي كانت تسير فيها سابقا أي توسيع حدود الدولة ونفوذها، وهي الآن تصارع في تحقيق المقوّم الثاني لسياستها الدولية المتعلق بحماية نفسها داخليا وخارجيا أمام هجوم الغرب الأطلسي عليها بزعامة أمريكا. وفي مقابل ذلك توجهت روسيا منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي لجذب الصين و اغرائها ببناء شراكة استراتيجية معها تقوم على تعزيز شامل للعلاقات السياسية والإقتصادية والعسكرية. وهذا التحول يعتبر بحد ذاته تغييرا في سياسة روسيا القديمة التي وضعت الخطر الصيني في مقدمة سياستها الخارجية. إن مفتاح قوة روسيا بزعامة فلادمير بوتين وخلفه ديميتري ميدفيديف ـ في تصديها لخططِ واشنطن العسكرية والسياسية ـ يكمن في نَجاح قدرتها على تحصين وضعها الداخلي وفي الدِفَاع عن إستراتيجيتها الخاصة بالطاقة في أوراسيا مَع تملكها رادع عسكري ونووي موثوق وفي دفعها الصين للتحالف معها . هذه هي أسس السياسة الروسية التي خطها بوتين ومن الأكيد أن يسير عليه خلفه ديمتري ميدفيديف. وسنعمل في هذا الموضوع على معالجة هذه القواعد الأربعة من خلال تناول الوضع الداخلي والإقليمي لروسيا ثم علاقاتها مع كل من أمريكا والصين ونختم ذلك ببحث إمكانيات روسيا في التصدي لأمريكا والعودة للتاثير في الموقف الدولي بشكل فاعل .
1 ـ الوضع الداخلي والإقليمي لروسيا:
منذ تسلمه للحكم عام 2000 قام فلادمير بوتين بإدخال تغييرات جوهرية على توجهات السياسة الروسية داخليا وخارجيا في محاولة منه لمعالجة آثار ما سماه هو نفسه بـ "الكارثة الجيوبوليتيكية" التي حلت بروسيا أي سقوط الإتحاد السوفياتي وتأثير ذلك على مركز روسيا الدولي والإقليمي بل والداخلي بسبب الفوضى العارمة التي صبغت فترة حكم سلفه بوريس يلتسين. فأثناء ولاية يلتسين لم تسفر الديمقراطية والإنتخابات التي كان يدعمها الغرب، إلا عن نظام برلماني نيابي، خاض أشرس المعارك ضد يلتسين نفسه، مما أصاب الحياة السياسية بالشلل الدائم. كما تم في عهده نهب ممتلكات الدولة وأصولها على يد "الأوليجاركية الجديدة" التي فتحت الحدود الروسية على مصراعيها تحت مسمى إقتصاد السوق؛ وهو ما أدى إلى إنهيار الإقتصاد الروسي وإختراقه من قبل المؤسسات المالية الغربية. وفي عهد يلتسين أيضا حصلت شتى المناطق والولايات الروسية على الكثير من صلاحيات الحكم الذاتي، وهو ما شجع أمريكا على دعم من يرغب في الإنفصال عن الإتحاد الروسي بالمال والسلاح، لإضعاف روسيا وتفكيكها من الداخل. وفي خضم هذه الإنتكاسات الداخلية والخارجية التي كانت تعاني منها روسيا، كان فلادمير بوتين يترأس منذ حزيران/ يونيو 1991 لجنة العلاقات الخارجية في إدارة مدينة سانت بطرسبورغ. وفي اب/أغسطس 1996 شغل منصب نائب مدير الشؤون الإدارية لدى الرئاسة الروسية. ثم عين في تموز/يوليو 1998 مديرا لدائرة الأمن الفدرالي الروسي، وتولى في الوقت نفسه منصب أمين مجلس الأمن لروسيا الاتحادية منذ اذار/مارس 1999. وفي اب/أغسطس 1999 أصبح رئيسا للحكومة الروسية. ويبدو أن بوتين ـ العقيد السابق بجهازال "KGB" بين عامي 1985 و1990 ـ قد عقد صفقة سياسية مع بوريس يلتسين المريض، تولى بموجبها بوتين إختصاصات رئيس روسيا بالوكالة منذ 31 كانون اول/ديسمبر 1999 بعد إستقالة الرئيس بوريس. ثم انتخب بوتين في 26 اذار/مارس 2000 رئيسا لروسيا، وتولى منصبه في 7 ايار/مايو 2000. وبعد ذلك أعيد إنتخابه للرئاسة مرة ثانية في 14 اذار/مارس 2004. وفي 8 ايار/مايو 2008 تولى بوتين منصب رئاسة الوزارة بطلب من الرئيس الجديد لروسيا ديمتري ميدفيديف.
إنه منذ تولي بوتين الحكم رسميا في عام 2000 عمل على إرجاع هيبة الدولة إلى حد يشبّهه البعض بأنه عاد بروسيا إلى ما يشبه الحكم القيصري من خلال تركيز السلطات بالعاصمة وتعيين حكام الأقاليم بل وحتى محاولة تعيين عُمد المدن الروسية الكبيرة بدل إنتخابهم. كما تمكنت الدولة الروسية في عهده من وضع حد كبير للوسائل التي كان يستعملها الغرب لإختراق روسيا من الداخل. فتم التحكم بالبث التلفزيوني والبرلمان وقطاع الطاقة ، وسعى بوتين للسيطرة على الصحف ووضع رقابة شديدة على المنظمات الناشطة في ما يسميه الغرب بمجال حقوق الإنسان والترويج للديمقراطية. بحيث يمكن القول أن روسيا تبدو اليوم ـ بعد ثماني سنوات من حكم بوتين ـ تشبه الصين إلى حد ما، حيث يزدهر الإقتصاد وتتسع الحريات الفردية، بينما تظل السياسات الداخلية والخارجية وكل ما يتعلق بالشأن العام تحت سيطرة ومراقبة مشددة من الدولة. ورغم إتهام الغرب بأن روسيا تحكم بقبضة حديدية، إلا أن فلادمير بوتين كان ومازال يحظى بتأييد حقيقي من الرأي العام الروسي بسبب إعادته الإعتبار لوحدة روسيا وشخصيتها القومية وبسبب النمو الذي حققه الإقتصاد القومي الروسي بمعدل يساوي خمسة مرات عما كان عليه في ظل إدارة يلتسين. وهذا هو الذي مكن حزب روسيا الموحدة الموالي لبوتين من الفوز الساحق في الإنتخابات البرلمانية في 02/12/2007، وهو ما مكن أيضا من فوز ديمتري مدفيديف في الإنتخابات الرئاسية في بداية اذار/مارس 2008.
وهكذا بعد أن ورث بوتين من يلتسين أزمة إقتصادية طاحنة تمثلت في وصول معدلات التضخم إلى 37% وإرتفاع الديون الخارجية إلى 165 مليار دولار أمريكي، فضلا عن إتساع دائرة الفقر وإنتشار الفساد على كافة المستويات، تمكنت روسيا في عهد بوتين من تحقيق إستقرار سياسي وإقتصادي ملحوظ، عززته الخطوات الإصلاحية التي هدفت إلى محاربة الفساد الإداري والمالي والارتفاع بالمستوي المعيشي للمواطنين الروس، وتحكم الدولة بثرواتها القومية خاصة النفط والغاز.. لقد تصدى بوتين لتلك الأزمات، ونجح في تحقيق خطوات ثابتة كتراجع معدلات التضخم إلي 9% فقط، وزيادة مستوى الدخل القومي في العام 2006 بنسبة 13%، وتحقيق معدل نمو إجمالي بلغ 7%، وإمتلاك روسيا لإحتياطي من الذهب تقدر قيمته بـ 303 مليارات دولار، وزيادة حجم صندوق الإستقرار المالي ليبلغ 88 مليار دولار. وقد نتج عن ذلك أن إرتفعت عائدات روسيا السنوية من 200 مليار دولار إلى 920 مليار دولار. وهو ما جعل روسيا التي طالما عرفت في الماضي بعجزها المالي، تتمكن من سداد كل ما عليها من ديون خارجية حتى قبل حلول موعد السداد.
لقد خرجت روسيا من نفق الأزمة الخانقة الذي دخلته منذ تفكك الدولة السوفياتية. وبدأ الاقتصاد الروسي يتعافى تدريجيا ووصل لوضع مقبول لدى الرأي العام الداخلي الذي بدأ يستعيد ثقته بنفسه من جديد بعد سنوات التيه التي مر بها أيام يلتسين. كما أن المنشآت الصناعية تحسنت نوعيا وتعززت قدرتها الإنتاجية والتصديرية، وبدأت المنتجات الروسية تأخذ مكانتها من جديد في الأسواق العالمية. وظهر ذلك خاصة في مجالي صناعة السلاح والنفط. وهذا ما سيتم تناوله لاحقا، ولكن سنقف هنا على بعض الخطوات التي سلكتها روسيا في عهد رئاسة بوتين لاستعادة الحيوية لاقتصادها الذي كان يسير نحو الهاوية قبل تولي بوتين للسلطة ودعم الإستقلال الداخلي.
و خلافا لما ظهر من خطة امريكا تجاه الاقتصاد الروسي لشله و دفعه نحو التراجع بتسليط الاهتمام نحو تصدير النفط و الغاز و المواد الخام- كما هو حال دول الخليج العربي مثلا- وصرفه عن الاعتماد بشكل اساسي على التصنيع فقد صب بوتين جل اهتمامه على اعادة الحيوية للصناعات الثقيلة و بناءا على هذا التوجه فقد عادت روسيا بقوة إلى سوق السلاح العالمية، حيث أعلنت موسكو ـ عقب مؤتمر ميونيخ في 09-10/02/2007 ـ أنها ستزيد مبيعاتها من السلاح إلى مستوي قياسي يبلغ 7.5 مليار دولار في العام 2007 وما يليه، بعد أن كانت هذه المبيعات وصلت إلى 6.4 في عام 2006، وذلك من خلال دخولها أسواقا جديدة في المجال العسكري في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وبلدان الشرق الأوسط. وظهرت تفاصيل إتفاق سلاح بمليارات الدولارات مع فنزويلا بعد زيارة الرئيس هوجو شافيز إلى موسكو في صيف 2006. كما باعت روسيا معدات عسكرية إلى سوريا وميانمار والسودان وإيران. وتحقق مبيعات السلاح الروسية إيرادات بمليارات الدولارات لقطاع السلاح، الذي يهيمن عليه مسئولون أمنيون سابقون يشكلون عنصرا رئيسيا في القاعدة التي يستند إليها جماعة بوتين في الحكم. وقد سبق لفلادمير بوتين أن صرح أن موسكو لن تتوقف حتى تصبح أكبر مصدر للأسلحة في العالم كله.
وللتأكيد على هذا التوجه الجديد لروسيا، نقلت وكالة "نوفوستي" الروسية للأنباء (26/12/2006) عن إيفانوف قوله: "إن "بلادنا لا يمكن أن تحتفظ بوضعها كدولة عظمى على أساس أراضيها ومواردها الطبيعية وحدها"، وأضاف: "لدينا حل واحد فقط: إنتاج منتجات تنافسية وفتح أسواق دولية". وأشار إلى أن صناعة الدفاع "المستقرة" تساهم في تطوير الصناعات المرتبطة بالعلم وفي تقدم الاقتصاد الروسي. وفي نفس الإطار، تقوم روسيا ببحث عقود لبناء مفاعلات وتطوير صناعات نووية مع الجزائر والمغرب، هذا بالإضافة إلى المفاعلات النووية التي تبنيها روسيا بالفعل في الصين والهند وإيران. وإجمالا فإن روسيا تتزعم مصدري الأسلحة للدول النامية، قبل أمريكا وفرنسا؛ وهو ما يعتبر من الموارد المهمة للخزينة الروسية ومن العوامل الهامة التي تساهم في تطوير الصناعات المرتبطة بها مثل صناعات المعادن والسيارات والآلات عموما.
كما قام الرئيس السابق فلادمير بوتين خلال فترة ولايته بوضع، حد لتدخل الغرب وإختراقه للشؤون الداخلية الروسية. وأهم عمل سياسي داخلي قام به بوتين لوقف إختراق أمريكا تحديدا والغرب عموما لروسيا ومحاولة توجيهها داخليا وخارجيا لتكون تابعا للسياسات الغربية، هو تصديه لزعماء الأوليجاركية الجديدة الذين نشأوا أيام حكم يلتسين وكانوا رأس حربة متقدمة في إضعاف روسيا وإلحاقها بالمشاريع والمخططات الأمريكية. وهنا يعتبر توقيف البليونيرِ الروسي ميخائيل خدوركفسكي (Khodorkovsky) من قبل مكتبِ المدّعي العام الروسيِ في 25 تشرين اول/أكتوبر 2003 بتهمة التهرب الضريبي، وما نتج عن ذلك من تجميد أرصدته الشخصية وتجميد أسهم شركة يوكوس ( Yukos) وإنهيار سعر أسهمها وبيعها بعد ذلك، أهم عمل سياسي قام به بوتين لوضع حد لمحاولات أمريكا التحكم بسياسة النفط والسياسة الداخلية الروسية.
إن تحرك بوتين ضد خدوركفسكي كان إدراكا منه لخطورة هذا الرجل الذي نسج شبكة من العلاقات الكبيرة مع مؤسسات الحكم في أمريكا وبريطانيا. كما أسس جمعية خيرية سماها "مؤسسة روسيا المفتوحة"، على شاكلَة "مؤسسةِ المجتمعِ المفتوح" لصديقه المقرّبِ جورج سوروس وكان من بين المشاركين في "موسسة روسيا المفتوحة" هنري كيسينجر وصديق كيسنجر، اللّورد يعقوب روثشيلد سليل العائلةِ المصرفيةِ بلندن، وآرثر هرتمان السفير الأمريكي السابق في موسكو. لقد جاء توقيف خدوركفسكي ضمن سياق إعلان إدارة بوشِ من جانب واحد أن الولايات المتّحدةِ ألغت إلتزاماتَها مَع روسيا بشأن معاهدتِها السابقةِ لمنع انتشار الصواريخ البالستيّة، لكي تمْضي قدما في تطويرِ منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكيِ، وهو ما إعتبرته روسيا فعلا عدائيا تجاه أمنِها.
وبعد أن فشلت أمريكا من خلال خدوركفسكي وغيره في التحكم بروسيا من الداخل عملت على محاصرتها من خلال دول الجوار. فمباشرة بعد إعتقال خدوركفسكي قامت أمريكا بسلسلة من الأعمال السرية التي مولتها لزعزعة عدد من الحكومات المحيطة بروسيا. ففي تشرين ثاني/نوفمبر 2003 دعمت "الثورة الوردية" في جورجيا التي طَردتْ إدوارد شيفرنادزي لمصلحة رئيس موال لمنظمة حلف شمال الأطلسي الذي تلقى تعليمه في امريكا هو ميخائيل شاكسفيلي الذي وافقَ على دَعْم خطّ أنابيب نفطِ باكوا تبليسي جيهان الذي من شأنه أن يلغي سيطرةَ خطِ أنابيب موسكو على نفطِ آذربيجان المستخرج من بحر قزوين. ومنذ وصول شاكسفيلي إلى السلطة يقوم الخبراء العسكريون الأمريكيون بتدريب القوات الجورجية، فيما تضخ أمريكا ملايين الدولارات لتَهْيِئة جورجيا كي تُصبحَ جزءَا من منظمة حلف شمال الأطلسي. وبالفعل أعلنت جورجيا مؤخرا جاهزيتها لنصب مستلزمات الدرع المضاد للصواريخ الأميركي على أراضيها، وذلك بسبب تضاعف الإنفاق العسكري في البلاد أكثر من 10 مرّات، حسب الأرقام الرسمية، منذ "ثورة الورد" في 2003. كما أعلنت جورجيا أيضا – لإظهار ولائها لأمريكا- رفع وحداتها العسكرية في العراق من 850 إلى 2000 جندي، وهو ما جعلها ثالث أكبر قوة عسكرية من قوّات الاحتلال بإدارة أميركية. وتحسبا من ردود فعل روسيا الغاضبة قام الجيش الجورجي ببناء قاعدة عسكرية جديدة قادرة على إيواء أكثر من 3000 جندي في سيناكي، بالقرب من أبخازيا؛ وهناك قاعدة ثانية هي في قيد الإنشاء في غوري، على بعد نصف ساعة من تسخينفالي، عاصمة أوسيتيا الجنوبية. ومن المرجح اعداد القاعدتين و تهيئتهما من اجل الصراعات المستقبلية في أوسيتيا الجنوبية و أبخازيا اللتين أعلنتا إستقلالهما من طرف واحد بدعم من روسيا.
وبعد "الثورة الوردية" في جورجيا، قامت منظمات غير حكومية مدعومة من قبل واشنطن و من ابرزها "بيت ولزي للحريةِ" ( Woolsey's Freedom House ) و"الهبة الوطنية للديمقراطيةِ" (National Endowment for Democracy )، ومؤسسةَ سوروس وغيرها، في تشرين ثاني/نوفمبر 2004 ـ بشكل سافر وإستفزازي ـ بدعم "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا. والهدف من ذلك هو إيجاد نظام موال لمنظمة حلف شمال الأطلسي برئاسةِ فيكتور يوشنكو ، في بلاد قادرة بشكل إستراتيجي على قَطْع تدفقِ خطِ الأنابيب الرئيسيِ مِنْ النفطِ والغاز الروسيِ المتجه إلى أوربا الغربية. كما قامت أمريكا بدعم حركات "المعارضة الديمقراطية" في بيلوروسيا وقرغيزستان وأوزبكستان جمهوريات سوفيتية سابقة أهمها كازاخستان. وقد أغدقت عليها إدارة بوش ملايين الدولارات وذلك بقصد تَشكيل حاجز أمام خطوطِ أنابيب الطاقةِ المحتملةِ التي قد تَرْبطُ الصين مَع روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة. وردا على هذه التحركات الأمريكية هدد فلادمير بوتين مؤخرا بضرب أوكرانيا لو إنضمت لبرنامج الدرع الصاروخي الأمريكي وقبلت انتشار مواقع لمنظومة الدفاع المضادة للصّواريخ على أرضها. ففي مؤتمر صحافي عقده بوتين مع نظيره الأوكراني الرّئيس فيكتور يوتشينكو قال: إن تطلّعات أوكرانيا للانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي ستقلص سيادتها. وأردف بوتين: "إنه مما يثير القلق ليس فقط الكلام عن هذه الاحتمالات وإنما مجرد التفكير فيها، ولو حدث بالفعل أن حدث هذا الانتشار للدفاع الصاروخي في الأرض الأوكرانية فإن روسيا ستوجه رؤوسها الحربية كإجراء انتقامي".
2 ـ العلاقات الروسية الأمريكية:
بنهاية 2004 كَانَ واضحَا لروسيا بزعامة بوتين أن "حربا باردة جديدة" غير معلنة للسيطرةِ الإستراتيجيةِ على الطاقةِ والسبق النووي الأحادي هما ما تسعى إلى تحقيقه أمريكا في ظل تفردها بالموقف الدولي. كما كانَ واضحَا أيضاً مِنْ خلال تحركات ومشاريع أمريكا منذ سقوط الإتحاد السوفيتي في عام 1991، أن الهدف النهائي للسياسة الأمريكيةِ في أوراسيا ليس الصين ولا كوريا الشمالية ولا إيران بل روسيا نفسها؛ فهي الدولة الوحيدة المؤهلة ـ بحكم طاقاتها النووية والنفطية ـ للعودة إلى المسرح الدولي إذا ما توفرت لها الإرادة السياسية وأحسنت إستغلال الأجواء الدولية. ويمكن حصر أهم الخطط الإستراتيجية التي تسير فيها أمريكا لمحاصرة روسيا وتحقيق التفوق النووي عليها في مسألتين: توسيع الحلف الأطلسي شرقا وبناء منظومة الدفاع الصاروخي.
أ ـ التوسع الشرقي للحلف الأطلسي:
إن شرق أوربا الذي عملت كل من روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية على السيطرة عليه مباشرة أو بالنفوذ وفي أسوأ حالات ضعف روسيا عملت على جعله "منطقة حيادية" بإعتباره صمام أمان للحدود الغربية لروسيا قد إبتلعته أمريكا التي لم تكتفي بذلك بل زحفت نحو "الأطراف الخارجية" (آسيا الوسطى) للاتحاد السوفياتي السابق، بله وصلت إلى حد "الأطراف الداخلية" (أي القوقاز وجمهوريات البلطيق). لقد كان الاستراتيجيون الأمريكيون، أيام الإتحاد السوفياتي، يعتبرون جمهوريات آسيا الوسطى بمثابة "البطن الرخو" للإمبراطورية الحمراء الأكثر قابلية للاختراق من الناحية الاستراتيجية. ولذلك عملت أمريكا على وضع روسيا في مأزق حقيقي، وهي لا تبالي بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الصواريخ الباليستية الموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام 1972، لأنها عازمة على إستغلال "الفرصة التاريخية" المتوفرة لها بالمضي قدما في مشروع منظومة الدفاع الصاروخي الذي لا يهدف كما يدعي بوش لحماية أمريكا من خطر الصواريخ العابرة للقارات التي يمكن أن تطلقها "دول مارقة" مثل إيران وكوريا الشمالية، بل الهدف الحقيقي هو تطويق ومحاصرة القدرات الروسية وتهديد الأمن القومي الروسي على المدى البعيد. وحتى هذه الساعة نجحت أمريكا إلى حد كبير في تحقيق هدفها في المنطقة، حيث تمكنت من تحقيق درجات متفاوتة من التغلغل السياسي والاقتصادي والعسكري في كل من آسيا الوسطى والقوقاز. وهذا ما جعل روسيا تفقد تماما إمكانية "غزو أوروبا" بل حتى لم تعد ترعب سكان الجزء الغربي من القارة بعد أن إختفى المكون الإيديولوجي للمواجهة ونزلت القوة العسكرية الروسية عن مستواها السابق أيام الإتحاد السوفياتي. وبدا واضحا أن روسيا ، بتبنيها لرأسمالية مرقعة، قد عانت أزمة هوية بالمعنى الشامل للكلمة أيام حكم بوريس يلتسين إلى أن تسلم فلادمير بوتين السلطة من بعده.
ومما زاد في تغول أمريكا على روسيا هو أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 التي كانت نقطة التحول الرئيسية في تكثيف التواجد العسكري الأمريكي في آسيا الوسطى. فحتى ذلك التاريخ كان هذا التواجد الأمريكي مقتصرا على عدد من الإتفاقيات الثنائية التي تتمحور حول بعض المساعدات العسكرية، والتي تطورت فيما بعد لتشمل إقامة قواعد عسكرية في كل من قرغيزستان وأوزبكستان في إطار ما سمته أمريكا بالحرب الكونية على الارهاب .(Global War on Terror) ورغم أن الخطة الأساسية المعلنة لأمريكا كانت تقضي بإعتبار هذه المنشآت قواعد مؤقتة، فإنها تمثل أساسا للتواجد العسكري الأمريكي الدائم بآسيا الوسطى. فهذه الأخيرة باتت بحكم قربها الجغرافي من أفغانستان منطقة لا يمكن الإستغناء عن خدماتها. ويأتي هذا الإنتشار العسكري تلبية للإحتياجات الجيوستراتيجية الأمريكية والتي بدأت تأخذ شكل البحث عن قواعد صغيرة وعملياتية بدلا من القواعد الكبيرة والدائمة كما كانت عليه إبان الحرب الباردة. ففي عملية ملء الفراغ في المناطق التي كانت خاضعة للهيمنة السوفياتية، وجدت الولايات المتحدة نفسها بحاجة إلى إسناد لوجيستي جديد، وتسهيلات وقواعد أخف وأكثر ملاءمة للتحديات الأمنية الجديدة التي صنعتها بنفسها، وروج لها العديد من المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد الذي أوصى بضرورة بناء هذه القواعد في مناطق جغرافية إستراتيجية بحيث يكون لأمريكا أنظمة حكم ونخب سياسية يمكن الإعتماد عليها عند الضرورة.
وسواء إكتسبت القواعد الأمريكية في آسيا الوسطي وضعا دائما أو مؤقتا، فإن الولايات المتحدة ستكون في موقع يمكنها من إستخدام القوة العسكرية إذا إقتضت مخططاتها ذلك. فآسيا الوسطي وبحر قزوين ليسا أكثر إستقرارا من الخليج العربي، كما أن تطوير إمدادات الطاقة بوسط آسيا لتكون البديل لمنابع النفط والغاز بالشرق الأوسط، لا قيمة له ـ أمريكيا ـ إذا لم يكن مقترنا بضمانات عسكرية تؤمن تدفق موارد هذه المنطقة نحو الأسواق العالمية. وفي هذا السياق دعمت أمريكا علاقاتها بصورة خاصة مع كازخستان حيث تستثمر فيها شركة شيفرون الأمريكية عدة مليارات من الدولارات في مجال النفط، وتجري أمريكا من حين لآخر مع كازخستان وقيرغيزستان مناورات عسكرية مشتركة في إطار برنامج الشراكة من أجل السلام الذي إنضمت إليه جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
إلا أن أول إختراق قامت به أمريكا في المنطقة كان تعاونها العسكري مع أوزبكستان، حيث عقد الطـــرفان في تشرين اول/أكتوبر 2001 إتفاقية يســمح بمقتضـــاها لواشنـــطن بإستعمال الأراضي الأوزبكــية في إطـــار عملياتها العسكرية في أفغانستان. وتمنح هذه الإتفاقية القـــوات الأمريكية معـــاملة سياديّة تتمــتع بموجبها هذه القوات بحرية مطلقة في التحرك خارج إطار الرقابة من قبل الدولة المضيفة. كما تحتفظ الولايات المتحدة في أوزبكستان بقاعدة "تيرمس" (Termez) العسكرية المتاخمة للحدود الأفغانية والتي ينتشر فيها ما يزيد عن 1000 عسكري أمريكي ينتمي معظمهم إلى الفرقة الجبلية العاشرة، وهي وحدة مختصة في العمليات القتالية في المناطق الجبلية الوعرة وفي ظروف مناخية صعبة.
أما في قرغيزستان، وهو البلد الأكثر فقرا في آسيا الوسطي، والذي تتأرجح فيه الحياة السياسية منذ آخر إنقلاب في اذار/مارس 2005 بين أزمة وأخرى، فقد كرست أمريكا جهودها في تدعيم وجودها العسكري في قاعدة "مناس" الموجودة في المطار الدولي للعاصمة القرغيزية "بشكيك". وتكمن أهمية هذه القاعدة في موقعها الجغرافي والجيوستراتيجي، فهي على مرمى حجر من الحدود الصينية (500 كلم) وتفصلها عن أفغانستان مسافة تقدر بـ 650 كلم. ويتـــواجد بهذه القاعدة 3000 عسكري أمريكي و6 مقاتلات F/A-18 وبعض الأســـراب من طـائرات النقل العسكرية C-130 و C-17 وكــذلك طائرات التزويد بالوقود.
وما زاد في قلق روسيا الكبير هو سعي جورجيا وأذريبجان الحثيث إلى الإنضمام لحلف شمال الأطلسي، في الوقت الذي رفضتا فيه الإنضمام إلى معاهدة الأمن الجماعي التي وقعتها روسيا في ايار/مايو 1992 مع كل من بيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزيا وطاجيكستان من أصل البلدان الـ 12 الأعضاء في رابطة الدول المستقلة. أما ثالثة الأثافي في إحساس روسيا بقرب الخطر الأطلسي على بابها هو أن أمريكا لم ولن تقف عند حد شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز، فهي تعمل الآن لتوسيع الناتو حتى يشمل دول البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا. وإذا ما نجحت أمريكا بذلك فإن القوات الأمريكية ـ تحت غطاء حلف شمال الأطلسي ـ تكون قد صارت لها حدودًا مشتركة مع روسيا، بحيث لن تبعد إلا 40 ميلاً من سانت بطرسبورج.
وهكذا بات ظاهرا لكل متابع للموقف الروسي عن قرب أن روسيا قد خَسِرَت الكثير من نفوذها القديم في معركة التصدي للزحف الأمريكي على إرث الإتحاد السوفياتي الخارجي (أوروبا الوسطى والشرقية) بل وحتى الداخلي (أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق الثلاث التي تسعى للإلتحاق بالناتو). والسبب في ذلك هو الخطأ الإستراتيجي الذي سارت فيه روسيا في عهد غورباتشوف وتبعه يلتسين في ذلك، وحاول فلادمير بوتين إصلاحه قدر المستطاع. ويتمثل هذا الخطأ في أن روسيا إختارت بعد سقوط الشيوعية التوجه نحو الدول الغربيّة وعلى رأسها أمريكا، على أمل أن تكون جزءا من عالمهم "الرأسمالي الديمقراطي". وفي نفس الوقت أدارت روسيا ظهرها لدول أوروبا الشرقية والوسطى، وأظهرت إزاءها إحتقاراً واضحا عندما فضلت الحديث عن مصير أوروبا الوسطى والشرقية، ليس مع أبناء المنطقة أنفسهم، بل من فوق رؤوسهم، مع ما كانت تسميه "الشركاء الغربيين". وقد كانت نتيجة هذه السياسة أن دفعت موسكو، عملياً وبيديها، بلدان أوروبا الوسطى والشرقية بإتجاه الغرب، وفشلت في وقف تمدد حلف شمال الأطلسي شرقا، رغم سعيها لوقف ذلك. ومع ذلك فإن روسيا مازالت تملك القدرة على التحرك الديبلوماسي والمناورة السياسية بل والتخطيط الإستراتيجي بعد أن خرجت من مرحلة الإصلاح لما أفسده يلتسين ودخلت مرحلة التنمية الشاملة بما تملكه من رادع نووي وفائض مالي جراء بيع النفط والسلاح.
وهنا يلاحظ أن روسيا قد دخلت مرحلة جديدة في التعامل مع أمريكا، فقد حدث تغيير كبير في خطاب السياسة الروسية رسميا وفي الأوساط السياسية والحزبية والإعلامية، خاصة في الفترة الثانية من حكم الرئيس بوتين. وبدأنا نشهد في الفترة الأخيرة تراجع الحديث عن الشراكة الإستراتيجية والعلاقات الجديدة مع الغرب، وإرتفعت الأصوات في روسيا خاصة من الوطنيين والشيوعيين تؤكد على أن حلف الأطلسي لا يزال يعتبر تهديدا جديا وحقيقيا لمصالح الأمن الروسي، لأن توسعه نحو الشرق هو "بمثابة تقريب للخطر نحو حدود الوطن". ولذلك فإن من المتوقع أن لا تقف روسيا عند حد الإكتفاء بتسجيل الإحتجاجات وإطلاق التهديدات. ولعل إعلان الرئيس بوتين في 27/04/2007 في خطابه السنوي عن حالة الإتحاد أمام البرلمان عن إمكانية إنسحاب روسيا خلال سنة من "إتفاقية القوات التقليدية في أوروبا" بصيغتها الأصلية والموقعة بين حلفي وارسو والناتو عام 1990، ثم تعليق هذه الإتفاقية رسميا إبتداء من 12/12/2007 وإعلانه أن روسيا لن تعمل بها ما لم يعدل الحلف الاطلسي الإتفاقية ويقوم بتطبيقها بشكل صارم ، أحد أهم الأعمال السياسية التي يمكن أن تحدث قلقا وإرباكا بين زعماء دول الناتو وعلى رأسهم أمريكا، وقد تدفعم إلى إعادة النظر في طريقة تعاملهم ونظرتهم لروسيا بمنطق الغالب والمغلوب بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي. وقد سبق لبوتين أن أكد على هذا المعنى ـ قبل تعليق الإتفاقية عمليا ـ في خطاب ألقاه أمام إجتماع للقيادة العسكرية الروسية بقوله أن حلف الناتو يقوم بتعزيز قدراته العسكرية على مقربة من الحدود الروسية، مشددًا على أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي حيال عملية "إستعراض العضلات" هذه. وأشار الرئيس الروسي إلى أن تجميد العمل بمعاهدة القوات التقليدية كان واحدًا من الإجراءات الجوابية التي تعتزم روسيا القيام بها. وأضاف أن روسيا لن تنتظر إلى الأبد إنضمام الدول الغربية لمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا "ولن تنفذ منها شيئًا"، مشيرًا إلى أن بعض الدول لم تبرم هذه المعاهدة فحسب بل لم توقع عليها أصلا. وتعهد بوتن بإعادة الإلتزام ببنود هذه المعاهدة بمجرد أن تلتزم الدول الغربية بتنفيذها.
ب ـ البرنامج القومي الدفاع الصاروخي:
بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض وتنفيذا لأحد أهم نقاط برنامجه الإنتخابي، أعلن جورج بوش الإبن في خطابه الذي ألقاه أمام جامعة الدفاع القومي في واشنطن في أول ايار/مايو 2001، عن تصميم الإدارة الأميركية على تطوير ونشر النظام القومي للدفاع المضاد للصواريخ(NMD ). ويتضمن هذا البرنامج التسليحي الضخم جداً ـ كما أعلن عنه رسميا ـ والذي تقدر ميزانيته بـ 160 مليار دولار، الدفاع عن أراضي ومصالح الولايات المتحدة الأميركية، ومهاجمة وتدمير الصواريخ البالستية عابرة القارات (ICBM) الاستراتيجية المعادية، سواء كانت ذات رؤوس نووية أو جرموثية. ورغم فشل تجربتين من ثلاث تجارب تم إجراؤها في إطار (حرب النجوم) الجديدة فإن إدارة بوش مصممة على المضي قدما في برنامج الدرع المضادة للصواريخ، ضاربة عرض الحائط بمعاهدة حظر الصواريخ المضادة (ABM) الموقعة بين ريتشارد نيكسون وليونيد برجنيف عام 1972 والتي إستهدفت ضمان أن لا تؤدي أنظمة الدفاع الصاروخية المضادة إلى تقويض الردع النووي السوفياتي – الأميركي.
وقد سبق لبوش الإبن أن ندد بهذه المعاهدة التي حافظت على توازن الرعب النووي بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إبان فترة الحرب الباردة، حيث قال بأن هذه المعاهدة " تجسد الماضي ونحن مطالبون بتجاوز إكراهات هذه المعاهدة القديمة منذ ثلاثين عاماً ". وأضاف بوش بأن هذه المعاهدة "تؤبد وضعاً قائماً على الحذر وعدم الثقة، وهي تقلل من شأن التقدم الأساسي في مجال الثورة التكنولوجية للعقود الثلاثة الأخيرة، وهي تمنعنا من تفحص كل الخيارات. والحال هذه يجب إستبدالها بإطار جديد يجسد القطيعة الواضحة والصريحة مع إرث العداء للحرب الباردة". وبناء عليه وبعد أن نجحت إدارة بوش بالفعل في إقامة جزء من هذا البرنامج في ولايتي ألاسكا وكاليفورنيا، تحاول الآن جاهدة إستكماله في أوروبا. ولذلك فقد أعلنت الولايات المتحدة رسميا يوم 20 كانون ثاني/يناير 2007، أنها بدأت مفاوضات مع جمهورية التشيك لإقامة محطة رادارات على أراضيها، ومع بولندا لنصب عشرة صواريخ قادرة على إعتراض الصواريخ الباليستية. وتدعي الولايات المتحدة أن نشر هذه المنظومة يستهدف حماية أراضيها وأراضي حلفائها من أي هجوم إيراني أو كوري شمالي محتمل .
ومما لا شك فيه أن قرار الولايات المتحدة الأميركية المضي قدماً بنشر نظام الدفاع الصاروخي سيكون له مضاعفات سياسية وعسكرية على العلاقات مع روسيا والصين بل حتى مع حلفاء أمريكا الأوروبيين، مما ينذر بإمكانية عودة أجواء مرحلة الحرب الباردة وما تعنيه من سباق تسلح وإستقطاب دولي. ذلك أن منظومة الدفاع الصاروخي التي تعتزم أمريكا نشرها في شرق أوروبا، ستشمل أيضا محطة رادار يمكن نصبها في منطقة القوقاز، وهذا ما يجعل روسيا خاصة تعارضها بشدة. فقد أعلن رئيس الوكالة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ هنري أوبيرينغ يوم 30 اذار/مارس 2007 في بروكسل أن رادار القوقاز سيكون "متنقلاً"، وأن الدرع "تشمل راداراً محمولاً يمكن نصبه في أي منطقة، خلال أيام، وبسرعة كبيرة جداً". وسيلتقط هذا "الرادار المتنقل"، الذي سيتم نصبه في منطقة القوقاز، الإشارات الأولى لأي صاروخ "معادٍ"، ليبثها إلى المحطة الأميركية الرئيسية للرادارات، التي تنوي واشنطن إقامتها في تشيكيا، للتصدي لأي هجمات محتملة من إيران أو كوريا الشمالية.
ولكن يبدو واضحا أن أمريكا لا تبالي بالإنتقادات الموجهة لها في ظل تفردها بالموقف الدولي وسعيها لإستغلال هذه "الفرصة التاريخية" لتحقيق سبق نووي من خلال بناء نظام الدرع الصاروخي. فهذه السياسة الأمريكية الجديدة في عسكرةِ الفضاءِ هي جزء متمم لإستراتيجيتها المسماة بـ "هيمنةِ الطيفِ الشامل" (full-spectrum dominance ) أو بـ "هيمنة التصعيد" ( escalation dominance ) ـ حسب تعبير البنتاغون. فإكمال النظام الدفاعي الصاروخي الأوروبيِ وعسكرة الشرق الأوسطِ كله وتطويق روسيا والصين بشبكة من القواعد العسكريةِ الأمريكيةِ الجديدةِ في آسيا الوسطى تحت مسمى"الحرب على الإرهابِ"، كُلّ ذلك يدخل ضمن هذه الإستراتيجيةَ الأمريكية، أي القدرة على الفوز بالحرب بأي مستوى من العنف بما في ذلك الحرب النووية. وقد جاءت هذه الإستراتيجية في الوثيقة الصادرة بتاريخ 31 اب/أغسطس عام 2006، والتي إعتمد فيها بوش الإبن سياسة فضاءِ قومية أمريكيةِ جديدةِ تعطى للبرامجِ ونشاطاتِ الفضاءِ الأمريكيةِ أولوية قصوى في إستراتيجيةِ الدفاعِ الأمريكي. وتُعلنُ هذه الوثيقةَ بأنّ الولايات المتّحدةَ سَتتخذُ "تلك الأعمالِ الضروريةِ لحِماية قدراتها الفضائِية وللرد على التدخلِ؛ ولمنع، إذا كان لازما، الخصوم الذين يستعملون إمكانيات الفضاءِ عدائيا ضد المصالح القومية الأمريكيةِ ". كما تؤكد هذه الوثيقة أن أمريكا لن تسمح لأيّ هيئة َأو معاهدة دولية تعيق عسكرتَها للفضاءِ. "فالولايات المتّحدة سَتُعارضُ إصدار الأنظمةِ القانونيةِ الجديدةِ أَو القيودِ الأخرى التي تريد مَنْع أَو تَحديد وصول أَو إستعمالِ أمريكا للفضاءِ. إن إتفاقيات أَو قيود الحَدّ من الأسلحةِ المُقتَرَحةِ لا يَجِبُ أنْ يقللا من حقوقِ الولايات المتّحدةِ في إجْراء بحثِ أو تطوير أو إختبار أوعمليات أَو نشاطات أخرى في الفضاءِ للولايات المتّحدةِ .
وهكذا يتضح أن إعطاء أمريكا الحق لنفسها في عسكرة الفضاء جاء لقطع الطريق على أية محاولات دولية لمنعها من ذلك. وقد أعادت كوداليزا رايس هذا المعني في المؤتمر الصحفي بعد لقائها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، إذا قالت "لا أظن أن أحدا يتوقع أن تسمح أمريكا بوضع فيتو على مصالحها الأمنية" . ولكن يبدو أن روسيا منذ الفترة الثانية لحكم بوتين عازمة على الدخول في إحراج أمريكا دوليا والدخول معها في صراع سياسي وديبلوماسي حول مسألة عسكرة الفضاء عبر برنامج الدرع الصاروخي. ففي مؤتمر ميونيخ الذي عقد يومي 9 و10 شباط/فبراير 2007، وبعد أن شن فلادمير بوتين في خطابه هجوما على السياسة الأمريكية في العالم، حذر من تسليح الفضاء وأعلن أنه سيقدم قريبا مشروع معاهدة دولية لتحييد الفضاء من التسلح. وبالرغم من تأكيد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية شون ماكورماك أن هذا المشروع لا يستهدف روسيا، بل الدول غير المسئولة التي يمكن أن تمتلك تكنولوجيا تهدد الولايات المتحدة وأصدقاءها وحلفاءها وأنه يهدف إلى وقايتها من أية هجمات محتملة من إيران أو كوريا الشمالية أو أي دولة أخري، إلا أن قائد القوات الفضائية الروسية الجنرال فلاديمير بوبوفكين يرى أن عسكرة الفضاء الأوروبي عبر نشر رادارات وصواريخ إعتراضية إضافية في أوروبا بحلول 2011 سيشكل تهديدا أكيدا لأمن روسيا ومصالحها، خاصة أن إقامة قاعدة رادارات في التشيك ستسمح بمراقبة نشاطات منشآت الصواريخ في وسط روسيا أو أسطول الشمال الروسي، وهذا الأمر سيسبب إنكشافا إستراتيجيا لروسيا.
ومن جانبه، فند فلادمير بوتين المزاعم الأمريكية بأن نشر مظلات صاروخية في أوروبا الشرقية إنما يستهدف التصدي لأية هجمات من قبل إيران أو كوريا الشمالية، مؤكدا أن تلك حجج واهية وباطلة وغير مقنعة، لأن إيران لا تملك صواريخ بعيدة المدى بمقدورها الوصول إلي أوروبا أو أمريكا. فالإيرانيون لا يملكون صواريخ باليستية عابرة للقارات تستطيع تهديد أوروبا ناهيك عن الولايات المتحدة، أما روسيا فإنها تملك مثل هذه الصواريخ. وحتى لو افترضنا أن التهديد الإيراني موجود فعلا، ألا يجدر بالولايات المتحدة نشر عناصر من منظومتها الدفاعية المضادة للصواريخ في مكان آخر كتركيا مثلا وليس في أوروبا الشرقية وبالذات في تشيكيا وبولندا ؟ وقد ذكر بوتين أن روسيا ستكون مستعدة في مثل هذه الحال للتعاون مع الولايات المتحدة، ولكن بشرط أن يبدأ بناء مواقع المنظومة الدفاعية المضادة للصواريخ من الصفر وعلى أساس التكافؤ. فروسيا ترى أن الخطط الأميركية تخل بتوازن القوى الاستراتيجية في أوروبا، وتثير سباقا جديدا للتسلح. واعتبر الرئيس السابق بوتين أنَّ نشر الدرع الأمريكي من شأنه أن يحوِّل أوروبا إلى "برميل بارود"، متهمًا واشنطن بخلق سباق تسلح عالمي جديد، وخرق معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية. وشدّد على أنه "إذا وصل جزء من القوة النووية الأمريكية إلى أوروبا، ورأى خبراؤنا العسكريون أن ذلك سيهددنا؛ فسنضطر وقتئذ إلى إتخاذ خطوات مماثلة ردًا على ذلك"، مشيرًا لإعادة توجيه الصواريخ الروسية ضد أوروبا. وقد أكد فلادير بوتين على هذا المعنى من جديد، في مؤتمره الصحافي السنوي الأخير قبل مغادرته الكرملين، من أن روسيا لن تنزلق إلى مواجهات مع أي طرف، لكنه أطلق تهديدًا صريحًا بتصويب صواريخ في إتجاه بولندا وتشيكيا وأوكرانيا، إذا تحققت مشاريع توسيع الحلف الأطلسي .
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فقد إتهم أمريكا صراحة بأنها تسعي للتفوق النووي على روسيا . وأكد لافروف أن روسيا لا تخطط لإطلاق أي صواريخ، لكن النظام الدفاعي الصاروخي الأمريكي سيمنح الفرصة للولايات المتحدة لشن ما أسماها الضربة الأولى. وقال لافروف إن الموقع المقترح للنظام الدفاعي الأمريكي ـ في بولندا وجمهورية التشيك ـ أكثر ملائمة لإعتراض الصواريخ التي يتم إطلاقها من روسيا. أما قائد القوات الجوية الروسية السابق فلاديمير ميخايلوف فقد ذكر أن نصب أنظمة رادار أميركية مضادة للصواريخ في القوقاز "لن يؤثر على قدرات روسيا الدفاعية"، وأشار إلى أن بلاده "قادرة على تقديم رد مناسب على نشر درع الدفاع الصاروخي" الأميركي. وتابع ميخايلوف إن الأميركيين "لديهم الكثير من الأموال، فلندعهم ينفقونها"، موضحاً أن أنظمة صواريخ "أس ـ 400" الروسية، التي يزيد مداها على 400 كيلومتر، "تضمن الأمن، بما في ذلك من ناحية الدفاع الجوي الفضائي".. وقد بدأت روسيا فعلا تحتاط لمواجهة ما قد تضعه الولايات المتحدة من أسلحة خطيرة في القارة الأوروبية وفي الفضاء، واتخذت في ذلك إجراءات فعلية كتجهيز صواريخها "توبول – م" بعدة رؤوس نووية. ويتضمن برنامج تسليح القوات المسلحة الروسية صنع قاذفتي قنابل جديدتين من طراز "تو – 160" اللتان تستطيعان إختراق شبكات إصطياد الصواريخ. كما تستعد روسيا لنشر صواريخ "إسكندر "التكتيكية بالقرب من حدودها بالإضافة إلى نشر صواريخ جديدة من طراز «أس - 400» التي تستطيع تدمير الأهداف الباليستية.
وهكذا فإن ما يحدث الآن على الساحة الدولية يعني بوضوح أن سباق التسلح بين واشنطن وموسكو قد بدأ بالفعل، حتى ولو نفاه الطرفان لأسباب سياسية داخلية ودولية. ولكن الأكيد أن أمريكا تسعى لإجبار الدول الأوروبية ودول أخرى في الشرق الأوسط وفي آسيا على شراء أسلحة أميركية حديثة تتناسب مع طبيعة الحروب المتطورة القادمة. وهذا ما سوف ينعش في آن الاقتصاد الأميركي ويؤثر سلبا على إقتصادات الدول الأخرى، بينما ستكون روسيا الطرف الآخر للعبة الأميركية المزدوجة. ذلك أن روسيا لن تقبل وجود هذه الأسلحة الحديثة المتطورة بالقرب من حدودها ولن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستسعى بالضرورة للحفاظ على توازن القوى مع الولايات المتحدة، الأمر الذي سيدفعها للإنفاق بكثافة على التسليح ، مما قد يؤدي إلى ضعف تدريجي لإقتصادها وربما إنهيار كامل له بعد ذلك. هذه هي اللعبة التي سبق أن إستخدمتها أمريكا مع الاتحاد السوفييتي وكان ذلك أحد أسباب إنهياره. والسؤال الآن هو هل تستطيع روسيا تفادي الوقوع في شراك اللعبة الأميركية عبر الإستعانة بالصين في ذلك؟
3 ـ العلاقات الروسية الصينية:
بعد إنهيارِ الإتحاد السوفياتِي، ركّزتْ روسيا سياستها الخارجيةَ بشكل رئيسي على العلاقاتِ بالغربِ وعلى دخول "البيت الأوروبي المشترك" مَتجاهلة علاقاتَها السابقة مَع جيرانِها الآسيويين. ولكن بسبب التجاهل الغربي المتعمد و المصود منه إضعاف روسيا وبضغط من المخابرات الروسية والمجمع الصناعي ـ العسكري الروسي بدأت الحكومة الروسية في تغيير موقفها وتوجهاتها خاصة مع وصول فلادمير بوتين إلى الحكم. وكانت أول إشارة بعث بها بوتين إلى الغرب هو زيارته للصين في بدايات عهده ـ في تموز/ يوليو 2000 ـ وسعيه لتمتين العلاقات الصينية الروسية. إن مغزى زيارة بوتين هذه أن روسيا لن تسير في سياستها الخارجية على النهج الذي سار فيه بوريس يلتسين أي التوجه نحو الغرب من دون مقابل ومن جانب واحد. والواضح أن روسيا بوتين هي التي سعت جاهدة إلى ربط مصالح الصين بها خاصة في مجالي الطاقة والتسلح العسكري. وهذه السياسة الروسية جاءت بمثابة ردة الفعل على سياسة أمريكا في عزل روسيا عن الصين وربط نمو الإقتصاد الصيني بأمريكا، إذ بلغ الفائض التجاري الصيني مع أمريكا العام 2006 مقدار 230 مليار دولار، كما ربطت أمريكا إحتياجات الصين من الطاقة بدول بعيدة عن روسيا ولكنها خاضعة للنفوذ الأمريكي. وما سماح أمريكا للصين بالحصول على عقود نفط كبيرة في أفريقيا والبلاد العربية إلا دليلا على ذلك.
وهكذا فالسياسة التي إتبعتها وتتبعها الولايات المتحدة في مجال فرض سيطرتها على العالم والتحكم به وخاصة في آسيا الوسطى والشرق الأقصى في مجالات الطاقة والتوسع العسكري والنفوذ السياسي دفعت بروسيا إلى مراجعة سياستها التقليدية تجاه الصين والتي كانت تقوم على أساس الإتفاق مع أمريكا بتقييد الصين وإتقاء خطرها. فبعد زيارة بوتين إلى الصين عام 2000 قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين بزيارة مماثلة إلى موسكو في تموز/ يوليو عام 2001، نتج عنها توقيع "المعاهدة الروسية الصينية في حسن الجوار والصداقة والتعاون". وتشكل هذه المعاهدة التي تمتد على مدى 20 سنة أول وثيقة من نوعها يجري توقيعها بين البلدين منذ عام 1950.
ومع ذلك فلا يمكن الحديث هنا عن أن الإتفاق الروسي ـ الصيني الحالي هو محور ضد أمريكا أو تكتل معاد لها كما يمكن أن يتصوره البعض. فالبلدان مازالا يسعيان للتعاون مع أمريكا ومع الغرب عموما في الكثير من المجالات الإقليمية والدولية. إن ما جمع البلدان هو الهم المشترك في التصدي للمخططات الأمريكية وليس العمل المشترك في إضعاف موقع أمريكا المتفرد بالموقف الدولي. فروسيا تخشى بالدرجة الأولى من توسع الناتو في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز كما تخشى من سعى أمريكا لتنفيذ برنامج الدرع الصاروخي الأوروبي. أما الصين، وإن كانت تتخوف هي أيضا من الدرع الصاروخي، إلا أن سبب إقترابها الأول من روسيا هو قلقها الشديد من معاهدة الأمن الإستراتيجي بين اليابان وأمريكا التي تنظر إليها بإعتبارها تحالفا موجها ضدها في الشرق الأقصى، كما أن الصين تحتاج إلى روسيا لتأييد موقفها تجاه تايوان وتزايد النفوذ الأمريكي في الجزيرة.
إلا أنه رغم أهمية الشراكة الروسية الصينية التي أكد عليها بوتين في قمة شنغهاي خمسة بدوشنبه في تموز/يوليو 2000 بقوله: "إن الصين حقا بالنسبة لنا شريك إستراتيجي في كُلّ مجالاتِ النشاطِ "، فإن روسيا لا تعتبر أن هذه "الشراكة الإستراتيجية" ضمان لدعمِ الصين لكُلّ سياساتِ روسيا الدولية سواء اليوم أوفي المستقبلِ، خاصة فيما يتعلق بالوقوف الجدي أمام المخططات الأمريكية. فالصين أقامت "شراكات" مع العديد مِنْ البلدانِ الأخرى ـ بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا العظمى واليابان ـ وهي لَيْسَ لديها نيةُ في تحويل هذه الشراكات إلى تحالف عسكري سياسي مَع أي واحد منهم. وهذا ما يدركه بوتين وعبر عنه بقوله في قمة شنغهاي السالفة أيضا: "إن روسيا يَجِبُ أَنْ تتكئ على جناحين: الأوروبي والآسيوي". ووضّحَ ذلك بقوله "نحن نَعْرفُ أن روسيا هي بلد أوروبي وآسيوي في نفس الوقت. لذلك فإننا نوفق بين البراغماتية الأوروبية والحكمة الشرقية. لذا فإن سياسة روسيا يَجِبُ أَنْ تكون متُوَازنَة. وبهذا المعنى فإن العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية يَجِبُ بلا شك أَنْ تكون إحدى أولوياتنا الرئيسية".
وإذا أردنا أن نعدد أهم مجالات التقارب والتعاون الروسي ـ الصيني على ضوء المعاهدة التي تمت بينهما والتي جاءت كرد على الهيمنة الأمريكية في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأقصي، فإننا نأتي على ذكر ما يلي:
أ ـ مجالات التقارب الروسي الصيني:
1ـ الدرع الصاروخي وتوسع الناتو:
يمثل برنامج الدرع الصاروخي الذي تصر أمريكا على تنفيذه أحد أهم التهديدات المشتركة التي دفعت روسيا والصين للتقارب فيما بينهما والتعاون في القطاع العسكري وخاصة في مجال السلاح النووي. فروسيا تعتقد أن هذا النظام الأمريكي المذكور يشكل إنتهاكا صارخا للمعاهدة الأمريكية السوفييتية للدفاع المضاد للصواريخ (أي.بي.أم) الموقعة في عام 1972، كما ترى فيه تهديدا للجهود الروسية ـ الأمريكية الحالية حول معاهدة نزع السلاح الاستراتيجي (ستارت ـ 3) التي تنص على خفض الصواريخ النووية بمعدل 1500 لكل منهما. بينما تعتقد الصين أن الولايات المتحدة تهدف من وراء نظامها الصاروخي المضاد إلى إدخال مناطق من آسيا والمحيط الهادي في إستراتيجيتها الأمنية "هيمنة الطيف الشامل"، من خلال إدخال تايوان بشكل من الأشكال في النظام المذكور؛ وهذا الأمر تعتبره الصين تدخلا في شئونها الداخلية ومساسا بمبدأ الصين الواحدة. كما يتخوف البلدان من أن يعطل المشروع الصاروخي الأمريكي قوتهما للردع النووي وأن يؤدي إلى إطلاق سباق جديد للتسلح تصعب السيطرة عليه. وإضافة إلى كل ما سبق تشعر الصين وروسيا بالتهديد المباشر من جراء عمل أمريكا على توسيع الحلف الأطلسي شرقا والإستحواذ على قواعد عسكرية قريبة جدا من حدود البلدين، بما من شأنه أن يعطيها سبقا نوويا وجيوستراتيجيا على كل من روسيا الصين. وإنطلاقا من رؤية هذه الأهداف الأمريكية والمخاطر الأمنية والسياسية المترتبة عليها بالنسبة لروسيا والصين، عمل البلدان على تعزيز تقاربهما الإستراتيجي ودعم الشراكة بينهما في مجالات متعددة، خاصة بعد زوال الخلافات الإيديولوجية التي كانت تفرق بينهما وإنتهاء سياسة الوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا.
2ـ الإستقرار الإقليمي:
إذا كانت المشاكل الحدودية بين الإتحاد السوفييتي السابق والصين الشعبية أهم أسباب نشوب الحرب التي جرت بينهما عام 1969 وإنتهت بهزيمة قاسية للصين، فإن التطلعات القومية والدينية للشعوب الموجودة على طرفي الحدود تشكل حاليا القاسم الأمني المشترك للبلدين. وهو ما جعل هذا الموضوع يحظى بإهتمام كبير في محادثات الرئيسين بوتين وزيمين، فقد أكد إعلان بكين المشترك على "ضرورة توفير الأمن والإستقرار الإقليميين" وذلك من خلال الحد من "النزعات القومية والإنفصالية والتطرف الديني وحركة الإجرام التي تتخطى الحدود". وفي هذا الباب تتفق روسيا والصين على أن تطور النزعة القومية والدينية للشعوب الاسلامية في هذه الأقاليم والجمهوريات الحدودية للبلدين تنذر بسلسلة مترابطة من المطالب والحقوق والأحداث التي قد لا تنتهي عند حد معين، بل قد تؤدي إلى تفكك البلدين إلى مجموعة من الجمهوريات على أسس عرقية وقومية ودينية. وبناء عليه فان الصين تدعم روسيا في سياستها الحديدية في الشيشان فيما تدعم هذه الأخيرة السياسة الصينية في إقليم كسينجيانج (تركستان الشرقية، الذي تسكنها أكثرية من الأويجور المسلمين المطالبين بالإستقلال عن الصين) تحت ستار الشأن الداخلي والحفاظ على الوحدة ومجابهة التحديات الاقليمية. وتبدأ هذه السياسة المشتركة بين روسيا والصين بالتعاون في مجال تبادل المعلومات والخبرات والتنسيق في المسائل الأمنية على جانبي الحدود لتنتهي بدعم كل طرف لسياسة الآخر على المستوى الرسمي في المحافل الدولية.
3ـ التعاون الإقتصادي:
ويشمل هذا الباب تعاون البلدين في شؤون التجارة عموما والطاقة والأسلحة خصوصا، حيث تعد الصين مستوردا رئيسيا للنفط والغاز الطبيعي والأسلحة الروسية بينما ترغب روسيا في أن تتاح لها فرص أفضل للدخول إلى السوق الصيني القوي الذي يبلغ حجمه مليارات الدولارات. ورغم أن نسبة التبادل التجاري السنوي بين البلدين لاتزيد على ستة مليارات دولار، إلا أن البلدين تعهدا في العام 2006 بالوصول بهذه النسبة إلى عشرين مليار دولار خلال العام 2007. وتعتبر منظمة تعاون شنغهاي إحدى أهم وسائل تقوية العلاقات الإقتصادية والتجارية بين البلدين. فهذه المنظمة التي تأسست في حزيران/يونيو 2001 بمبادرة مشتركة لتضم الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان تهدف بشكل معلن إلى تسهيل "التعاون في شؤون السياسة والإقتصادِ والتجارةِ، وفي المجالات التربوية والثقافية والعلمية التقنية وكذلك في مجالات الطاقةِ والنقل والسياحة وحقول حمايةِ البيئةِ". لكن الغرض الحقيقي من هذه المنظمة أن تكون تجمعا سياسيا في مجال الطاقة والمال يقف بوجه محاولات الهيمنة الأمريكية في آسيا الوسطى. وقد قام فلادمير بوتين في عهده بعدد مِنْ الخطواتِ لتَقْوِية العلاقاتِ التجارية مَع الصين في محاولة لربط إحتياجاتها النفطية بروسيا. ففي اذار/مارس 2006 ذَهبَ بوتين إلى بيكين لمُنَاقَشَة التعاونِ الثنائيِ في مجال إحتياجات الصين المتزايدة للطاقةِ. وقد كان على رأس جدول الأعمال أمنيةَ الصين بمد خط أنابيب مِنْ تايشيت في سيبيريا لجَلْب النفطِ إلى داكينغ في الصين. بالإضافة إلى ذلك وقعت شركة الصين القومية للنفط عدة إتفاقيات لمشاريعِ الطاقةِ المشتركةِ مع شركة روسنفط (Rosneft ) كما وقعت مذكّرة تفاهم مع غازبروم ( Gazprom ) لتصدير الغاز الطبيعي الروسيِ إلى الصين.
أما في مجال التعاون العسكري، فتعتبر الصين أكبر مشتري للسلاح الروسي، إذ يقدر الخبراء أن الصين تستورد أكثر من خمسين بالمائة منْ إنتاجِ روسيا العسكري. فقد سجلت أرقام مبيعات السلاح الروسي المتقدم للصين وأحجامها وأنواعها تطورا ملحوظا منذ توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين في عام 2001. وتشمل هذه الأسلحة صواريخ أس ـ 300 المضادة للطائرات والصواريخ، وغواصات متطورة من طراز (كيلو) وقاذفات مقاتلة من طراز (سوخوي 27). كما أعطت روسيا للصين ترخيص صنع طائرات حربية من طراز سوخوي. وفي اب/أغسطس 2005 قام البلدان بأول مناورات عسكرية مشتركةِ، بل وهناك مشاريع بتدريب عناصر من الجيش الصيني في معاهد وزارة الدفاع الروسية. وقد حاولت روسيا الإستفادة من علاقاتها القوية بالهند للدعوة إلى إقامة تحالف إستراتيجي يجمعهما مع بكين للوقوف بوجه المارد الأمريكي، لكن التناقضات التي تغذيها أمريكا بين نيودلهي وبكين وإعلان أمريكا بأن الهند حليف إستراتيجي لها خاصة بعد الاتفاق النووي المشترك في العام 2006 حالت دون نجاح هذا المسعى الروسي.
4 ـ زيادة الإنفاق العسكري:
إن من نتائج التقارب بين الصين وروسيا والتعاون بينهما هو زيادة الصين في إنفاقها العسكري، وهذا أمر يقلق كثيرا الولايات المتحدة الأميركية. لقد باتت الصين اليوم تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم عدة وعددا، إذ وصل تعداد الجيش الصيني حوالي 3 ملايين مقاتل. كما أن الصين بدأت منذ سنوات قليلة سياسة إصلاح في الجيش تهدف إلى تحويله إلى جيش حديث من حيث التجهيز والكفاءة العملياتية، وهو مزود بتسعة آلاف دبابة وترسانة كبيرة من الصواريخ التكتيكية والبالستية والعابرة للقارات. وتركز القيادة الصينية حاليا على بناء أسطول بحري للمياه العميقة، بعد أن وصل عدد قطع الأسطول الصيني ـ حسب دراسة للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن ـ إلى حوالي 1200 سفينة تضم 63 غواصة و18 مدمرة وأكثر من 700 زورق صاروخي و119 كاسحة ألغام و73 سفينة إنزال برية وعشرات سفن الدعم والتموين. كما وتوجد للصين خطط لبناء حاملة طائرات وزيادة عدد غواصاتها المزودة بصواريخ نووية عابرة للقارات, أما سلاح الجو الصيني فيضم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتلة وقاذفة من مختلف الأجيال. وتعمل المصانع الصينية على تطوير قدرة قواتها في الحرب الإلكترونية ووسائل الإتصال الفضائية، حيث أطلقت بكين عددا من الأقمار الصناعية لأغراض التجسس والإتصال والسيطرة المعلوماتية التي باتت تشكل اليوم عصب الجيوش الحديثة.
وقد كان للمناقشات التي أجرتها أمريكا مع تايوان في سنة 2006 وتخصيصها مبلغ 50 مليار دولار لعشر سنوات مقبلة بقصد تعزيز القدرات العسكرية للجزيرة، أن دفع الصين للقيام بتجربة تدمير قمر صناعي بواسطة صاروخ في 11 كانون ثاني/يناير2007. وهو ما أحدث صدى كبيرا في واشنطن التي إعتبر بعض خبرائها العسكريين أن التجربة الصينية هي بمثاية رسالة تحذير لأمريكا في حال حصول مواجهة بشأن تايوان. فهذ التجربة الأخيرة التي برهنت خلالها الصين أنها قادرة على إصابة قمر صناعي يحلق بإرتفاع 950 كلم، وهو مدى يتجاوز إرتفاع كافة الأقمار الصناعية الأمريكية العسكرية، دفع بعض المصادر الأمريكية للقول أن الصين هي من أرسلت في ايلول/سبتمبر 2006 إشعاعات "لايزر" من الأرض في إتجاه قمر صناعي أمريكي أحدثت له إرباكا في عمله. ويذهب بعض خبراء وزارة الدفاع الأمريكية إلى الظن بأن تدمير الصين لأقمار المراقبة الأمريكية سوف يكون المرحلة الأولى في هجوم صيني، تحتفظ فيه بكين بموقع أفضل لتواجه أسطولا أمريكيا أعمى. ووفقا لهذا السيناريو، فإن الصين سوف تستخدم فريقا معلوماتيا لإختراق شبكات كومبيوترات الدفاع الأمريكية وشلها، وفي نفس الوقت يقوم الجيش الصيني بنشر كمية كبيرة من صواريخ أرض ـ بحر، لمنع حاملات الطائرات الأمريكية من الإقتراب من السواحل الصينية.
ب ـ رد فعل أمريكا على التقارب الصيني الروسي:
إذا بدأنا برد الفعل الأمريكي على تدمير الصين في بداية عام 2007 لقمر صناعي مهجور كان مخصصا لرصد الأحوال الجوية الذي ذكرناه سابق، فإن وزارة الدفاع الأمريكية قد أعلنت بتاريخ 21/02/2008 عن نجاحها في إسقاط أحد أقمارها الاصطناعية التجسسية العسكرية، قالت أنه خرج عن سيطرتها، بصاروخ أطلق من سفينة تابعة لسلاح البحرية بأمر من الرئيس جورج بوش. وقد علل البنتاغون سبب ذلك بأنه كان منعا لسقوط ذلك القمر ـ الذي أطلقته في 14 كانون اول/ديسمبر من عام 2006 ـ على الأرض وتسرب محتواه إلى الغلاف الجوي وهو يحمل خزان وقود سام من مادة الهيدرازين. ورغم التفسير المعلن من قبل أمريكا لتلك العملية فقد عبرت كل من موسكو وبكين عن قلقهما من هذه العملية، وقالت وزارة الدفاع الروسية أن العملية قد تستخدم ستارا لتجربة سلاح فضائي جديد قادر على إسقاط الأقمار الصناعية، ضمن "تجربة سلاح مضاد للصواريخ". ويمكن القول أن إسقاط أمريكا لذلك القمر الصناعي هو الرد العملي على ما أقدمت عليه الصين في كانون ثاني/يناير 2007 وهو كذلك رسالة إلى روسيا في تقاربها مع الصين من أن العبرة ليس في إرسال أقمار صناعية إلى الفضاء بل في القدرة على إسقاطها من مدارها عند اللزوم أو في حالات الحرب.
إن قلق أمريكا بشأن زيادة الصين إنفاقها العسكري ينبع من خوفها أن تزداد الصين قربا من روسيا بتمكن روسيا من اغرائها لتقليل إرتباطها بأمريكا في مجالي الطاقة والنمو الإقتصادي بحيث تمكنها روسيا من الحصول على مواد تكنولوجية عالية الدقة خاصة في مجال الصناعة الحربية. فروسيا تدرك جيدا أن الصين لن تصل ـ دوليا ـ إلى التمايز السياسي عن أمريكا ما لم تعالج ضعفها الإستراتيجي في مجال تبعيتها المتزايدة للطاقة التي تحتاجها لنموها الإقتصادي وعجزها على أن تشكل قوة ردع نووي إذا ما تعرضت لهجوم نووي أمريكي أول. وفي هذا السياق تمثل منظمة تعاون شنغهاي إطارا سياسيا مناسبا يقوي من شراكة روسيا الإستراتيجية مَع الصين ويمكن الصين من سد ضعفها الإستراتيجي في مجالي الطاقة والردع النووي. ذلك أن روسيا هي القوَّةُ الباقيةُ الوحيدة التي ما زالَتْ لَها إمكانيةُ رَدْعِ عسكريِ كافيِ في ترسانتِها النوويةِ الإستراتيجيةِ، وهذه القوة تَتوسّعُ جنبا إلى جنب مع إمكانات الطاقةِ الوفيرةِ التي باتت تملكها الدولة بما يؤهلها أن تصبح قوة عالمية تكافئ التفوق العسكري والسياسي الأمريكي، إذا ما توفرت عندها الإرادة السياسية.
ولذلك تخشى أمريكا كثيرا من التقارب الروسي الصيني منذ وصول بوتين إلى الحكم عام 2000. ويبدو أن هذا التقارب سيزداد في عهد دميتري ميدفيديف الذي جعل من الصين أول دولة يزورها خارج الفضاء السوفياتي السابق. وقد كان أهم بنود هذه الزيارة التي تمت في 23/05/2008 هو ما نص عليه الإعلان المشترك الذي صدر في ختام مباحثات الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف والزعيم الصيني هو جينتاو في بكين من أن البلدين يدعوان إلى إستخدام الفضاء للأغراض السلمية، ويشددان على أهمية الإسراع في إعداد وثيقة قانونية دولية لمنع نشر الأسلحة في الفضاء في إطار مؤتمر جنيف لنزع السلاح. و تجدر الاشارة هنا أن الصين وروسيا قدمتا في مؤتمر منظمة الأمم المتحدة الذي عقد في جنيف في شهر شباط/فبراير الماضي مشروع إتفاقية دولية جديدة لمنع سباق التسلح في الفضاء وحظر نشر جميع أنواع الأسلحة في الفضاء وليس النووية فقط. ويعتبر مشروع هذه الوثيقة التي رفضتها أميركا متذرعة بحاجتها الحيوية للأقمار الصناعية، محاولة دولية من روسيا لجر الصين معها في التصدي لرغبة أمريكا في إحياء برنامج "المبادرة الدفاعية الإستراتيجية" الذي أطلقت عليه أمريكا في ثمانينات القرن الماضي تسمية "حرب النجوم".
إلا أنه رغم هذه المحاولات الروسية لجر الصين في مخططاتها فإن أمريكا لم تغير سياستها التقليدية تجاه الصين، تلك السياسة القائمة على ركيزتين. الأولى: الفصل بين روسيا والصين والحيلولة دون بلوغ الصين مستوى الحليف الإستراتيجي لروسيا التي تعمل على ربط مصالح الصين بها مثلما تفعل أمريكا نفسها مع الصين. والثانية: الإحتواء السلبي والإيجابي للصين، فالأول يكون عبر الوجود الأمريكي في اليابان وعبر دعم أمريكا لقضايا الداخل الصيني مثل تايوان والتيبت وحقوق الانسان والديمقراطية، والثاني يكون عبر دفع الصين إلى مزيد من الإنغماس والإنخراط في القضايا الإقليمية (قضية كوريا الشمالية) والدولية (قضايا الحد من الإنتشار النووي وقضايا الطاقة والبيئة). ورغم إرتفاع بعض الأصوات في أمريكا مطالبة بالتصعيد مع الصين ووضعها على قائمة "محور الشر"، فإن أصحاب التخطيط والقرار في أمريكا ما زالوا يتمسكون بالسياسة التقليدية لأمريكا تجاه الصين. لذلك ليس مستغربا أن يدعو أحد مفكري وأقطاب السياسة الأمريكية السابقين (هنري كسينجر)، الإدارة الأمريكية إلى التفاهم مع الصين حول النظام العالمي الجديد، كون الصين أصبحت تمتلك كل مقومات الدولة العظمي، وهو بهذا يدعو إلى تفاهمات إستباقية منفردة مع دولة واحدة قبل أن تكون أمريكا مضطرة للخضوع لنظام عالمي جديد تفرضه دول متعددة وفي مقدمتها روسيا، تخسر فيه الولايات المتحدة أو تضطر للتنازل عن الكثير من "مصالحها القومية". فقد أكد هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق خلال محاضرته التي ألقاها في الأكاديمية الصينية للعلوم، على أن صعود الصين على المستوى العالمي أمر حتمي ليس في مقدور الولايات المتحدة فعل شيء تجاهه، مشددًا في الوقت ذاته على ضرورة ألا تفعل واشنطن أي شيء لوقف ذلك الصعود، وأن الأجدر بها أن تتعاون مع الصين لإقامة نظام عالمي جديد. وتابع قائلاً: "أنظر إلى العلاقات الصينية الأمريكية على أنها تحد لبناء نظام دولي جديد يقوم على إحترام حقوق الإنسان وعلى العمل التعاوني لتفادي كارثة" المواجهة بين البلدين و يبدو ان ما يريده كيسينجر من الادارة الامريكية ان تتعامل مع الصين لجذبها بشكل اكبر خاصة اذا ما قوي عند الصين الشعور بالعظمة لتعالج الاغراءات الروسية لها في كافة المجالات .
4 ـ الوضع الدولي لروسيا:
إن روسيا اليوم ليست هي روسيا التي كانت في عام 1991 بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، يومها كانت تستجدي المعونات من صندوق النقد الدولي لدعم إقتصادها "الرأسمالي" الوليد، وكانت تقدم التنازلات الإستراتيجية ليس على مستوى العالم فقط بل في مجالها الحيوي الذي دافع عنه قياصرة الروس من قبل وجود الدولة الشيوعية نفسها. كما أن المكانة الدولية لأمريكا اليوم ـ رغم إستمرار تفردها بالموقف الدولي ـ لم تعد هي نفسها كما كان عليه الحال عند إعلان جورج بوش الأب في زهو وتكبر عام 1991 عن ميلاد النظام العالمي الجديد. وقد كان لافرازات تدخل امريكا في قضايا دولية عديدة و ما اصبح عليه حال الراي العام المناهض لسياساتها في كثير من الدول اثر في تحريك الرغبة والإرادة لدى روسيا بقيادة بوتين في إستعادة موقعها كقوة دولية عظمى تزاحم أمريكا في الساحة الدولية. فإما أن تنجح روسيا في زعزعة مكانة أمريكا كخطوة أولى قبل إزاحتها وإما أن تقبل بها أمريكا شريكا دوليا حقيقيا وليس صوريا في إدارة شؤون العالم أو على الأقل بعض شؤونه مع إعترافها بالمجال الحيوي لروسيا.
إلا أن مزاحمة روسيا لأمريكا في الموقف الدولي ليس أمرا سهلا ولا سريع الإنجاز. ذلك أن الحصار الجيوستراتيجي (توسع الناتو شرقا) والحصار العسكري (مشروع الدرع الصاروخي) الذي تفرضه أمريكا ولازالت على روسيا قد وضع موسكو في مأزق كبير: فإما أن تفك هذا الحصار بالتصدي الجدي له وإما أن تعتبره أمرا واقعا وتتكيف معه وتكتفي من حين لآخر بإصدار إحتجاجات لفظية لا ترقى إلى مستوى تصرفات الدول الكبرى ومن باب أولى أن لا تحدث أي تهديد فعلي لأمريكا أو مصالحها أو مصالح حلفائها الأوروبيين. والظاهر أن التهديدات الروسية الأخيرة والسابقة بإستعمال قدراتها العسكرية للتصدي لمنظومة الدفاع الصاروخي الذي تعتزم أمريكا نشرها في بولندا والتشيك، وإن كانت تعبر فعلا عن ضيقها من الحصار الأمريكي المفروض حولها إلا أنه لا يمكن القول أن روسيا لا تسعى للوقوف بوجه أمريكا؛ وإن كان هذا السعي يتم بخطى بطيئة بسبب الجو الدولي الذي شحنته أمريكا ـ وأوروبا الغربية من ورائها ـ بشعارت الحرب على الإرهاب وحقوق الإنسان والحريات العامة وإقتصاد السوق.
أما الدلائل على صحوة الدب الأبيض فإن روسيا اليوم قد تجاوزت مرحلة التيه التي نتجت عن سقوط الإتحاد السوفياتي وحكم بوريس يلتسين. وهي اليوم ـ وبعد ثماني سنوات من حكم بوتين ـ قد نجحت في ترتيب شؤونها الداخلية وظهر ذلك خاصة في القضاء على عملاء الغرب وعودة هيبة الدولة والتحكم بثرواتها القومية ونشاط الماكينة العسكرية الروسية. ولقد جاء خطاب بوتين السنوي للبرلمان في 10/05/2007 ليؤكد على تحول روسيا من مرحلة "الإصلاح والتطهير" لما أفسده بوريس يلتسين، الذي تزامن إعلان موته مع خطاب بوتين، إلى مرحلة "التنمية والتنافس". لقد طالب بوتين في خطابه أن تسعى روسيا لتحقيق الأمور التالية حتى تتكمن من النجاح في تحقيق التنمية الداخلية والتنافس الدولي:
1 ـ التوجه نحو إقتصاد المعرفة بإعتباره هدفا إستراتيجيا للتنمية الإقتصادية.
2 ـ التركيز على اللغة الروسية والقيم التقليدية لروسيا كمناوئ لمن له ميول غربية.
3 ـ تسخير جزء من إيرادات النفط لحل القضايا الاجتماعية وخاصة التراجع في حجم السكان.
4 ـ تعظيم دور الدولة في الإقتصاد بإعتبارها "مستثمرا حكوميا" ممثلا بعدد من الشركات الوطنية.
5 ـ إستمرار العمل في إنشاء نظام سياسي جديد يعتمد على القوى السياسية التي تقبل مبادئ السياسة الجديدة. أما القوى التي ترفض ذلك فسوف يتم تقييد نشاطها السياسي ولن يسمح لها بدخول المؤسسة الحاكمة.
6 ـ مراجعة روسيا لعلاقاتها مع الغرب وبلدان الجوار إدراكا منها أن الضغط الخارجي عليها قد يكون عاملا دائما.
وهكذا بعد أن حصنت روسيا نفسها من الغزو الداخلي بالقضاء على المافيات السياسية والمالية ذات الإمتدادات الخارجية وبعد أن رتبت شؤون بيتها ببناء قاعدة شعبية (كسب الرأي العام الداخلي لصالح سياسات بوتين وجماعته) وسياسية (نجاح حزب "روسيا الموحدة" الداعم لبوتين في الإنتخابات البرلمانية والرئاسية) وإقتصادية (التحكم بالثروة القومية ودعم الرأسمال الوطني)، وهذه أمور لازمة للنهوض والتنمية، بعد كل هذا قام بوتين بسلسلة من الإجراءات والتحركات الدفاعية للوقوف بوجه سياسةَ أمريكا الواضحةَ جداً في تَطْويق وإضْعاف روسيا، كما إتخذ بوتين مواقف سياسية تصاعدية علنية ضد النهج الأمريكي في الهيمنة على العالم والإستفراد بحل الأزمات الدولية. وقد إرتكز بوتين في العودة بروسيا إلى الواجهة الدولية من جديد على أربعة ركائز هي، تقوية الوضع الداخلي والتقارب مع الصين ووضع سياسة عسكرية جديدة والتحكم بعماد الثروة القومية أي النفط. وقد تناولنا فيما سبق الركيزتين الأوليتين (إصلاح الوضع الداخلي والتقارب مع الصين) وسنعمد الآن إلى معالجة الركيزتين الأخيرتين (وضع سياسة عسكرية جديدة والتحكم بالثروة النفطية) الذين مكنا وسيمكنان روسيا على المدى الطويل من الوقوف الجدي بوجه أمريكا ومشاريعها الإقليمية والدولية.
أ ـ السياسة العسكرية:
بعد إنهيار الاتحاد السوفييتي مارست الولايات المتحدة بقيادة جورج بوش الأب ضغوطا بالغة الشدة على روسيا لإجبارها على الإلتزام بخفض تسلحها النووي (إتفاقية ستارت ـ 2) وضمان عدم تسرب العلماء والتكنولوجيا والمواد النووية من روسيا (وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة) إلى دول أخرى، وخاصة إلى تلك التي تسميها أمريكا بالدول المارقة أو محور الشر. كما قامت أمريكا بالضغط السياسي على روسيا من أجل إجبارها على سحب قواتها العسكرية وإغلاق قواعدها من دول حلف وارسو السابق بأسرع ما يمكن. وعندما جاءت إدارة كلينتون الديمقراطية إلى الحكم واصلت ما بدأه الجمهوريون من سعي حثيث لتوسيع حلف الناتو بإتجاه الشرق، وهو ما تم في سياقه إلتحاق التشيك والمجر وبولندا بالحلف. كما واصلت إدارة كلينتون جهود إدارة بوش الأب في السعي إلى عزل روسيا ليس فقط عن دول أوروبا الشرقية بل وأيضا عن الجمهوريات السوفييتية السابقة في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى. وكان طبيعيا أن تؤدي محاولات عزل روسيا وإضعاف مكانتها الدولية والإقليمية والتدخل في شؤونها الداخلية إلى شعور عميق بجرح الكرامة القومية لدى أغلبية الروس، وخاصة في صفوف المؤسسة العسكرية وقطاع واسع من النخبة السياسية.
وهكذا بدأت تتصاعد في موسكو خلال السنوات الأخيرة من حكم يلتسين الدعوات إلى وقف تبعية روسيا للولايات المتحدة بل وتعالت الأصوات بتحدي محاولات أمريكا للهيمنة على العالم تحت إسم النظام العالمي الجديد. وعندما وصل بوتين إلى الحكم، بعد أن عقد صفقة مخابراتية مع يلتسين، وجد الأجواء الداخلية في روسيا مهيئة لإتخاذ مواقف وتصورات أكثر وضوحا تجاه المصالح الإستراتيجية لروسيا عما كان عليه الحال أيام يلتسين. وهنا تزايدت المطالبات في روسيا بإعادة النظر في دور القوات المسلحة كلها، وتعديل مخططات ومسارح العمليات، وإقامة بنية تحتية عسكرية إضافية، بل وإعادة نشر قوات عسكرية كبيرة على أطراف الإتحاد السوفياتي السابق. وبعبارة أخرى شجع وصول بوتين إلى الحكم "الصقور" في روسيا سواء كانوا من السياسيين أو من العسكريين أو من الخبراء على مطالبة الرئيس الجديد بعسكرة السياسة الروسية وإعادة توجيهها نحو المجابهة مع أمريكا أو على الأقل التصدي لها وللغرب عموما تحت شعار "الدفاع عن المصالح القومية لروسيا العظمى".
ومما ساهم في غلبة الإتجاه القومي الوطني على الصعود أنه منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي في 1991، وترسانة روسيا الإستراتيجية النووية في تدهورَ حاد مقارنة بسعي أمريكي حثيث لتحقيق سبق نووي عالمي من خلال برنامج الدفاع الصاروخي (الطبعة الجديدة من مشروع حرب النجوم الريغاني). كما أن حصّة روسيا في الميزان الكلي للتسليح في أوروبا قلت بمقدار أربع مرات عما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي. فقبل تفتت هذا الإتحاد بقليل كانت قوة روسيا حتى عام 1989 تفوق ثلاث مرات قوة حلف شمال الأطلسي، أما بعد ذلك فقد وصل الحال بروسيا عام 2003 أن تشتري من أوكرانيا مفجّري قنابل إستراتيجية وصواريخ بالستية عابرة للقارات. هنا أدركت كل من وزارة الدفاع الروسية وقيادة الأركان العامة أن إهمال القوى النووية والسير في بناء قوى تقليدية وإن كانت كبيرة بحجة ترشيد الميزانية أمر لا يخدم أبدا مصلحة الأمن القومي الروسي.
ومنذ ذلك الحين، أعطت روسيا أولويتها القصوى لإعادة بناء قواتها النووية الإستراتيجية، وساعدها في ذلك إرتفاع مداخيلها مِنْ صادراتِ الغازَ والنفطَ، بعد أن بات المصرف المركزي الروسي أحد أكبر خمس بنوك مركزية في العالم يحتفظ بالدولارِ، بإحتياطيات تفوق أكثر مِنْ 270 بليون. كما أن صادرات الأسلحةِ، بالإضافة إلى النفطَ والغازَ، تعتبر أحد أفضل الطرقِ لروسيا في كَسْب العملة الصعبةِ المطلوبة بشدّةِ لإقتصادها القومي وأمنها الإستراتيجي؛ إذ تحتل روسيا الآن مرتبة ثاني أكبر مصدّرِ عالميِ للتكنولوجيا العسكريةِ بعد الولايات المتّحدةِ. ولذلك ورغم أن الجيش الروسي وقواته الجوية والبحرية تعرضت للإهمال بعد سقوط الإتحاد السوفياتي إلا أن عناصر النهوض العسكري لروسيا ما زالت موجودة. فروسيا لم تتوقف أبدا ـ بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ـ عن إنتاج أحدث التقنياتِ العسكريةِ التي تقدمها في معارضِ التجارة الدوليةِ المُخْتَلِفةِ، رغم الصعوباتِ الماليةِ والإقتصاديةِ التي مرت بها سابقا. وبعبارة أخرى فإن روسيا لا زالت تملك تكنولوجيا المعرفة الخاصة بإنتاج وتصنيع الأسلحة بكل أنواعها.
وهكذا وبناءا على وعي روسيا لواقعها العسكري، وبعد ثلاث سنوات من حكم فلادمير بوتين، طالب هذا الأخير في خطابه للبرلمان عن حالة الأمةِ في ايار/مايو 2003، بوجوب تَقْوِية وعَصْرَنَة رادعِ روسيا النووي بإنتاج أنواعِ جديدةِ مِن الأسلحةِ، خاصة منها الإستراتيجية، بما يضْمن "قابلية الدفاعَ عن روسيا وحلفائها في المدى البعيدِ". كما توقّفت روسيا عن سحب و تدمير صواريخ إس إس ـ 18 مرفيد ( SS-18 MIRVed )، ما أن أعلنتْ إدارة بوشَ ـ من طرف واحد ـ نهاية إلتزامها بمعاهدة منع إنتشار الصواريخ البالستيّةِ وإلغاءها بحكم الأمر الواقع معاهدة (ستارت 2) الخاصة بتخفيضِ الأسلحةِ الإستراتيجيةِ. بل وأعلنت روسيا تراجعها عن الإلتزام بهذه المعاهدة وإيقاف التفاوض حول (ستارت ـ 3) الخاصة بتقليص التسلح النووي. ويذكر هنا أن مصادقة البرلمان الروسي على معاهدة (ستارت ــ 2) في ربيع عام 2000، قد ربط بوتين ـ بعيد وصوله للحكم ـ البدء في تنفيذها بإلتزام الولايات المتحدة بالتوقف عن مشروعها في إقامة درع الصواريخ المضادة للصواريخ النووية. لقد أدرك بوتين وجماعته أن هدف أمريكا من الانفاق الهائل في البلدان المحيطة بروسيا التي تعتبر القلب النابض لأوراسيا ليس فقط للسيطرة على النفط بل أيضا وهذا الأهم تحويل روسيا ـ بشكل دائم ـ إلى دولة ضعيفة والتحكم بوصولها إلى البحار وإلى الصين.
وتوالت بعد ذلك توجيهات بوتين بضرورة أن يكون الجيش الروسي "قادرًا تمامًا على الرد على نحو ملائم على التهديدات المعاصرة"، بحيث وكما قال ـ في خطابه السنوي للبرلمان عن حالة البلاد في ايار/مايو 2006 ـ "ينبغي أن نكون قادرين على رد أية محاولات من أي شخص لفرض ضغوط على روسيا في شؤون السياسة الخارجية، لتعزيز مواقفهم على حسابنا". ومع ذلك فقد أكد بوتين أن روسيا "لن تكرر أخطاء الاتحاد السوفيتي السابق بالإسراف في الإنفاق على الجيش على حساب قطاعات الإقتصاد الأخرى"، . وهذا يعني أن روسيا وعت تماما الفخ الإستراتيجي الذي وقع فيه الإتحاد السوفياتي عندما تسابق مع أمريكا في مشروع حرب النجوم إبان حكم ريغان، وهي لن تكرر الخطأ نفسه. فقد صرح بوتين في مقابلة أجرتها معه وسائل إعلام من مجموعة الدول الثماني الكبرى قبل إنعقاد قمة المجموعة قائلا: "أنا ضد أي سباق للتسلح. لقد إستفدنا من تجربة الإتحاد السوفيتي ولن ننجر إلى سباق التسلح الذي يفرض علينا. سنرد بطرق ووسائل أخرى لا تقل فعالية. وهذا ما يسمى بالرد غير المماثل". وأكد أن روسيا ستقوم ببناء منظومات أخرى أقل تكلفة ولكنها تتمتع بما يكفي من الفعالية لتجاوز منظومات الدفاعات المضادة للصواريخ لتحافظ بهذا الشكل على توازن القوى في العالم. وشدد على أن روسيا ستواصل السير على هذا النهج في المستقبل أيضا.
أما أهم "الإجراءات الملائمة" التي إتخذتها أو ستتخذها روسيا إذا ما سارت أمريكا في نشر عناصر النظام الدفاعي الصاروخي الأمريكيِ الجديدِ في بولندا والتشيك، فيمكن ذكر الإجراءات التالية:
1 ـ قامت روسيا بزيادة ميزانيتها الدفاعية بشكل كبير، وساعدها في ذلك إرتفاع مداخيلها من تصدير النفط و الغاز . ويتوقع لهذه الميزانية أن تقفز بنسبة 23 في المئة خلال العام 2007 وما يليه لتصل إلى 32.4 مليار دولار، محققةً بذلك إرتفاعاً قياسياً في الإنفاق الدفاعي في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
2 ـ كشف وزير الدفاع الروسي سيرجي إيفانوف ـ في مستهل شباط/فبراير 2007 ـ النقاب عن برنامج لإعادة تسليح وتحديث القوات المسلحة الروسية، تصل تكاليفه إلى 189 مليار دولار، ويتم من خلاله إستبدال نصف كمية المعدات والأسلحة الروسية الحالية في موعد لا يتجاوز عام 2015. ومن ضمن المعدات التي ستحصل عليها تلك القوات شبكة رادار للإنذار المبكر مجددة بالكامل، وصواريخ جديدة عابرة للقارات، وأسطول من قاذفات "تي يو- 160" الإستراتيجية الأسرع من الصوت و31 سفينة جديدة من بينها حاملات طائرات.
3 ـ عرض الرئيس السابق بوتين ـ في شهر كانون ثاني/يناير 2007 ـ على الهند الدخول في شراكة لإنتاج نسخة المستقبل من "الجيل الخامس" من الطائرات المقاتلة التي يعكف المصممون الروس على تطويرها في الوقت الراهن، والتي يمكن أن تصبح جاهزة للطيران خلال فترة وجيزة لا تتجاوز عام 2009. وأمريكا هي الدولة الوحيدة حالياً التي تمكنت من نشر طائرات مقاتلة نفاثة من هذا الجيل الأسرع من الصوت والأغلى سعراً في العالم ، والتي تتميز بقدرات فائقة في مجال التخفي والمناورة وقدرات الكشف الإلكتروني. وتبلغ قيمة الطائرة الواحدة والتي يطلق عليها إسم "إف/ آيه 22 رابتور" مقدار 260 مليون دولار.
4 ـ وزيادة على رفع ميزانية الدفاع وتحديث أسلحة الجيش وإنتاج جيل جديد من الطائرات المقاتلة ذكر فلادمير بوتين في مؤتمر صحفي عقده في كانون ثاني/يناير 2007 أن "روسيا لا تخشى منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية، لأن منظومة الصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات الجديدة من طراز (توبول- إم) تتمتع بقدرات هائلة على التخفي تمكنها من إختراق الدرع الصاروخي الأميركي، وأن روسيا تعمل على إنتاج جيل جديد من تلك الصواريخ قادر على جعل منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية عاجزة".
5 ـ هدد الرئيس السابق فلاديمير بوتين في المقابلة التي تمت مع عدد من الصحفيين الأوروبيين قبيل قمة الثمانية بتوجيه صواريخ روسية تجاه أهداف في أوروبا في حال إستمرار الولايات المتحدة ببناء نظام الدرع الصاروخي في دول أوروبية. فقد نقلت صحيفة كورييري ديلا سيرا ـ وهي كبرى الصحف الإيطالية ـ عن بوتين قوله "إذا إتسعت القدرات النووية الأميركية عبر أراض أوروبية فسنحدد أهدافا جديدة لنا في أوروبا. وعلى قادتنا العسكريين تحديد هذه الأهداف وكذلك الإختيار بين الصواريخ البالستية والصواريخ العابرة للقارات".
6 ـ أعاد الأسطول البحري الحربي الروسي ـ بعد إنقطاع طويل ـ تواجده الدائم عبر المحيطات من خلال تنفيذ رحلات للقطع البحرية الروسية إلى شمال شرقي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. والهدف من هذه الرحلات، كما أعلن عن ذلك وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف في تقرير قدمه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو "تأمين التواجد البحري العسكري الروسي الدائم وتوفير الظروف الأمنية لملاحة السفن الروسية"،. وفي أواسط اب/أغسطس من العام 2007 استأنف سلاح الطيران البعيد المدى الروسي طلعاته الإستراتيجية للقاذفات العملاقة القادرة على حمل أسلحة نووية بهدف القيام بالدوريات الجوية في مناطق العالم النائية عن روسيا والتي انقطعت في التسعينات من القرن الماضي.
7 ـ إيقاف روسيا بتاريخ 12/12/2007 العمل بإتفاقية القوات التقليدية في أوروبا الموقعة رسميا في باريس في 19 تشرين ثاني/نوفمبر 1999 من قبل الدول الأعضاء في حلفي وارسو والأطلسي؛ وهو مّا يوجّه ضربة قاسية للتحكّم في التسلّح في أوروبا. وقد نص الإعلان الروسي على تطبيق قرار التعليق بسبب ما وصفته القيادة الروسية "بالظروف الاستثنائية التي تؤثر على الأمن القومي وبشكل يتطلب إتخاذ إجراءات فورية". وهذا فيه إشارة واضحة إلى برنامج الدرع الصاروخي الذي تعمل الولايات المتحدة على إقامته في بولندا والتشيك، بعد أن إنسحبت أحاديا من إتفاقية حظر الصواريخ البالستية التي تمنع كلا من روسيا والولايات المتحدة من إنشاء أنظمة دفاعية جديدة.
8 ـ أما أهم إجراء أو بالأحرى إختبار نوايا وفضح لمخططات أمريكا من وراء الدرع الصاروخي فهو ما أعلن عنه بوتين نفسه في قمة الثمانية بمنتجع هايليغيندام في ألمانيا. فقد عرض بوتين (رغم إدراكه أن أمريكا لن توافقه على ذلك) إقامة قاعدة رادار أميركية روسية مشتركة في منطقة غابالي بأذربيجان لتطوير درع صاروخية يمكن أن تغطي كل أنحاء أوروبا. وقال الرئيس بوتين في ختام لقائه مع بوش على هامش القمة: "إتفقتا مع جورج بوش على أن يباشر خبراء من البلدين العمل في هذا المجال في أسرع وقت ممكن. وستزيل مثل هذه الخطوة ضرورة نشر منظومات الصواريخ الروسية الضاربة قرب الحدود الأوروبية، ونشر عناصر من المنظومة الأمريكية للدفاعات المضادة للصواريخ في الفضاء. وآمل أن لا تستخدم هذه المحادثات كستار لبدء خطوات أحادية الجانب". وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجددا على هذا المعنى في ختام لقاء قمة جمعه مع نظيره الأميركي جورج بوش في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود معارضة روسيا للدرع الصاروخية الأميركية، لكنه أبدى إهتماما بمنظومة دفاع صاروخي تشارك فيها موسكو وأوروبا وواشنطن. وجاء في بيان مشترك للرئيسيين أن الجانبين إتفقا على "إطار إستراتيجي" للتعاون، وأن روسيا تشاطر الولايات المتحدة "الاهتمام بإنشاء نظام رد" على تهديدات الصواريخ، وتحدث بوتين عن شراكة روسية أميركية أوروبية محتملة في هذا المجال.
9 ـ وبالإضافة إلى كل الإجراءات السابقة قامت روسيا منذ وصول فلادمير بوتين إلى الحكم بتعديل عقيدتها الأمنية التي باتت تتيح لها حق إستخدام السلاح النووي تحت أي ظرف وليس فقط عند الضربة النووية الشاملة. فوثيقة الأمن القومي التي أعدت في عهد بوتين عام 2000 تسمح باستخدام القوة النووية ضد أي إعتداء، صغيرا كان أم كبيرا، حتى ولو لم يهدد وجود وكيان الدولة. كما أن هذه المهمة تتضمن الاستخدام المحدود للقوة النووية مقارنة مع الضربة النووية الشاملة ردا على أي هجوم واسع النطاق كما ورد في وثيقة 1997. ومن أهم الفقرات المتصلة بالسلاح النووي الواردة في المفهوم الجديد أن "من أولويات مهام الإتحاد الروسي توفير الرادع الذي يمنع شن أي إعتداء بما في ذلك الإعتداء النووي على روسيا وحلفائها"، كما "يجب على الاتحاد الروسي إمتلاك الأسلحة النووية القادرة على إلحاق الضرر بأي دولة معتدية أو تحالف من الدول المعتدية تحت أي ظرف كان". ولتطمين أوروبا وأمريكا أشارت وثيقة الأمن القومي الروسي إلى أن الاعتماد على السلاح النووي تحت أي ظرف يبقى إجراء مؤقتا إلى حين إستكمال جميع الخطط والإصلاحات لتطوير وتحديث القوات التقليدية...
إن كل هذه الإجراءات التي إتخذتها روسيا في عهد فلادمير بوتين أو ستتخذها في عهد ديميتري ميدفيديف لم تكن لتوجد أصلا لولا توفر الإرادة السياسية عند القادة الروس أولا وحسن التصرف في مداخيل الإقتصاد الروسي وإعادة توظيفه في مجال الأمن القومي الإستراتيجي ثانيا. وهنا يعتبر النفط من أهم الأدوات الإقتصادية والسياسية التي أحسن الروس إداراتها في معركتهم مع الولايات المتحدة.
ب ـ السياسة النفطية:
عملت الولايات المتحدة منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي على محاولة إقصاء روسيا من مسار أنابيب النفط والغاز المتجهة غربا إنطلاقا من بحر قزوين. ولذلك وبعد إستقلال دول آسيا الوسطى عن الإتحاد السوفياتي كثفت أمريكا من حملاتها الدبلوماسية والسياسية لإقناع هذه البلدان بفتح حقولها أمام إستثمارات الشركات النفطية الغربية والأمريكية منها خاصة. ومما ساعد أمريكا على الدخول إلى هذه المنطقة هو إفتقاد أهلها بما فيها روسيا (في ذلك الوقت) إلى رؤوس الأموال والتكنولوجيا اللازمة لعمليات البحث والتنقيب عن الموارد النفطية والغازية. ويمكن إرجاع أسباب إهتمام أمريكا باعادة هيكلة وتأهيل القطاع النفطي لآسيا الوسطي وبحر قزوين إلى سببين رئيسيين. أولا: سعي الولايات المتحدة إلى تقليص إعتمادها إلى أقصى حد ممكن على النفط القادم من
3- اسيا الوسطى و روسيا
ب- روسيا ( القسم الثاني )
خطوط عريضة حول السياسة الروسية
منذ إنهيار الشيوعية وسقوط الإتحاد السوفياتي عام 1991 في زمن ميخائيل غورباتشوف، تخلت روسيا عن أحد أهم مقومات سياستها الدولية التي كانت تسير فيها سابقا أي توسيع حدود الدولة ونفوذها، وهي الآن تصارع في تحقيق المقوّم الثاني لسياستها الدولية المتعلق بحماية نفسها داخليا وخارجيا أمام هجوم الغرب الأطلسي عليها بزعامة أمريكا. وفي مقابل ذلك توجهت روسيا منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي لجذب الصين و اغرائها ببناء شراكة استراتيجية معها تقوم على تعزيز شامل للعلاقات السياسية والإقتصادية والعسكرية. وهذا التحول يعتبر بحد ذاته تغييرا في سياسة روسيا القديمة التي وضعت الخطر الصيني في مقدمة سياستها الخارجية. إن مفتاح قوة روسيا بزعامة فلادمير بوتين وخلفه ديميتري ميدفيديف ـ في تصديها لخططِ واشنطن العسكرية والسياسية ـ يكمن في نَجاح قدرتها على تحصين وضعها الداخلي وفي الدِفَاع عن إستراتيجيتها الخاصة بالطاقة في أوراسيا مَع تملكها رادع عسكري ونووي موثوق وفي دفعها الصين للتحالف معها . هذه هي أسس السياسة الروسية التي خطها بوتين ومن الأكيد أن يسير عليه خلفه ديمتري ميدفيديف. وسنعمل في هذا الموضوع على معالجة هذه القواعد الأربعة من خلال تناول الوضع الداخلي والإقليمي لروسيا ثم علاقاتها مع كل من أمريكا والصين ونختم ذلك ببحث إمكانيات روسيا في التصدي لأمريكا والعودة للتاثير في الموقف الدولي بشكل فاعل .
1 ـ الوضع الداخلي والإقليمي لروسيا:
منذ تسلمه للحكم عام 2000 قام فلادمير بوتين بإدخال تغييرات جوهرية على توجهات السياسة الروسية داخليا وخارجيا في محاولة منه لمعالجة آثار ما سماه هو نفسه بـ "الكارثة الجيوبوليتيكية" التي حلت بروسيا أي سقوط الإتحاد السوفياتي وتأثير ذلك على مركز روسيا الدولي والإقليمي بل والداخلي بسبب الفوضى العارمة التي صبغت فترة حكم سلفه بوريس يلتسين. فأثناء ولاية يلتسين لم تسفر الديمقراطية والإنتخابات التي كان يدعمها الغرب، إلا عن نظام برلماني نيابي، خاض أشرس المعارك ضد يلتسين نفسه، مما أصاب الحياة السياسية بالشلل الدائم. كما تم في عهده نهب ممتلكات الدولة وأصولها على يد "الأوليجاركية الجديدة" التي فتحت الحدود الروسية على مصراعيها تحت مسمى إقتصاد السوق؛ وهو ما أدى إلى إنهيار الإقتصاد الروسي وإختراقه من قبل المؤسسات المالية الغربية. وفي عهد يلتسين أيضا حصلت شتى المناطق والولايات الروسية على الكثير من صلاحيات الحكم الذاتي، وهو ما شجع أمريكا على دعم من يرغب في الإنفصال عن الإتحاد الروسي بالمال والسلاح، لإضعاف روسيا وتفكيكها من الداخل. وفي خضم هذه الإنتكاسات الداخلية والخارجية التي كانت تعاني منها روسيا، كان فلادمير بوتين يترأس منذ حزيران/ يونيو 1991 لجنة العلاقات الخارجية في إدارة مدينة سانت بطرسبورغ. وفي اب/أغسطس 1996 شغل منصب نائب مدير الشؤون الإدارية لدى الرئاسة الروسية. ثم عين في تموز/يوليو 1998 مديرا لدائرة الأمن الفدرالي الروسي، وتولى في الوقت نفسه منصب أمين مجلس الأمن لروسيا الاتحادية منذ اذار/مارس 1999. وفي اب/أغسطس 1999 أصبح رئيسا للحكومة الروسية. ويبدو أن بوتين ـ العقيد السابق بجهازال "KGB" بين عامي 1985 و1990 ـ قد عقد صفقة سياسية مع بوريس يلتسين المريض، تولى بموجبها بوتين إختصاصات رئيس روسيا بالوكالة منذ 31 كانون اول/ديسمبر 1999 بعد إستقالة الرئيس بوريس. ثم انتخب بوتين في 26 اذار/مارس 2000 رئيسا لروسيا، وتولى منصبه في 7 ايار/مايو 2000. وبعد ذلك أعيد إنتخابه للرئاسة مرة ثانية في 14 اذار/مارس 2004. وفي 8 ايار/مايو 2008 تولى بوتين منصب رئاسة الوزارة بطلب من الرئيس الجديد لروسيا ديمتري ميدفيديف.
إنه منذ تولي بوتين الحكم رسميا في عام 2000 عمل على إرجاع هيبة الدولة إلى حد يشبّهه البعض بأنه عاد بروسيا إلى ما يشبه الحكم القيصري من خلال تركيز السلطات بالعاصمة وتعيين حكام الأقاليم بل وحتى محاولة تعيين عُمد المدن الروسية الكبيرة بدل إنتخابهم. كما تمكنت الدولة الروسية في عهده من وضع حد كبير للوسائل التي كان يستعملها الغرب لإختراق روسيا من الداخل. فتم التحكم بالبث التلفزيوني والبرلمان وقطاع الطاقة ، وسعى بوتين للسيطرة على الصحف ووضع رقابة شديدة على المنظمات الناشطة في ما يسميه الغرب بمجال حقوق الإنسان والترويج للديمقراطية. بحيث يمكن القول أن روسيا تبدو اليوم ـ بعد ثماني سنوات من حكم بوتين ـ تشبه الصين إلى حد ما، حيث يزدهر الإقتصاد وتتسع الحريات الفردية، بينما تظل السياسات الداخلية والخارجية وكل ما يتعلق بالشأن العام تحت سيطرة ومراقبة مشددة من الدولة. ورغم إتهام الغرب بأن روسيا تحكم بقبضة حديدية، إلا أن فلادمير بوتين كان ومازال يحظى بتأييد حقيقي من الرأي العام الروسي بسبب إعادته الإعتبار لوحدة روسيا وشخصيتها القومية وبسبب النمو الذي حققه الإقتصاد القومي الروسي بمعدل يساوي خمسة مرات عما كان عليه في ظل إدارة يلتسين. وهذا هو الذي مكن حزب روسيا الموحدة الموالي لبوتين من الفوز الساحق في الإنتخابات البرلمانية في 02/12/2007، وهو ما مكن أيضا من فوز ديمتري مدفيديف في الإنتخابات الرئاسية في بداية اذار/مارس 2008.
وهكذا بعد أن ورث بوتين من يلتسين أزمة إقتصادية طاحنة تمثلت في وصول معدلات التضخم إلى 37% وإرتفاع الديون الخارجية إلى 165 مليار دولار أمريكي، فضلا عن إتساع دائرة الفقر وإنتشار الفساد على كافة المستويات، تمكنت روسيا في عهد بوتين من تحقيق إستقرار سياسي وإقتصادي ملحوظ، عززته الخطوات الإصلاحية التي هدفت إلى محاربة الفساد الإداري والمالي والارتفاع بالمستوي المعيشي للمواطنين الروس، وتحكم الدولة بثرواتها القومية خاصة النفط والغاز.. لقد تصدى بوتين لتلك الأزمات، ونجح في تحقيق خطوات ثابتة كتراجع معدلات التضخم إلي 9% فقط، وزيادة مستوى الدخل القومي في العام 2006 بنسبة 13%، وتحقيق معدل نمو إجمالي بلغ 7%، وإمتلاك روسيا لإحتياطي من الذهب تقدر قيمته بـ 303 مليارات دولار، وزيادة حجم صندوق الإستقرار المالي ليبلغ 88 مليار دولار. وقد نتج عن ذلك أن إرتفعت عائدات روسيا السنوية من 200 مليار دولار إلى 920 مليار دولار. وهو ما جعل روسيا التي طالما عرفت في الماضي بعجزها المالي، تتمكن من سداد كل ما عليها من ديون خارجية حتى قبل حلول موعد السداد.
لقد خرجت روسيا من نفق الأزمة الخانقة الذي دخلته منذ تفكك الدولة السوفياتية. وبدأ الاقتصاد الروسي يتعافى تدريجيا ووصل لوضع مقبول لدى الرأي العام الداخلي الذي بدأ يستعيد ثقته بنفسه من جديد بعد سنوات التيه التي مر بها أيام يلتسين. كما أن المنشآت الصناعية تحسنت نوعيا وتعززت قدرتها الإنتاجية والتصديرية، وبدأت المنتجات الروسية تأخذ مكانتها من جديد في الأسواق العالمية. وظهر ذلك خاصة في مجالي صناعة السلاح والنفط. وهذا ما سيتم تناوله لاحقا، ولكن سنقف هنا على بعض الخطوات التي سلكتها روسيا في عهد رئاسة بوتين لاستعادة الحيوية لاقتصادها الذي كان يسير نحو الهاوية قبل تولي بوتين للسلطة ودعم الإستقلال الداخلي.
و خلافا لما ظهر من خطة امريكا تجاه الاقتصاد الروسي لشله و دفعه نحو التراجع بتسليط الاهتمام نحو تصدير النفط و الغاز و المواد الخام- كما هو حال دول الخليج العربي مثلا- وصرفه عن الاعتماد بشكل اساسي على التصنيع فقد صب بوتين جل اهتمامه على اعادة الحيوية للصناعات الثقيلة و بناءا على هذا التوجه فقد عادت روسيا بقوة إلى سوق السلاح العالمية، حيث أعلنت موسكو ـ عقب مؤتمر ميونيخ في 09-10/02/2007 ـ أنها ستزيد مبيعاتها من السلاح إلى مستوي قياسي يبلغ 7.5 مليار دولار في العام 2007 وما يليه، بعد أن كانت هذه المبيعات وصلت إلى 6.4 في عام 2006، وذلك من خلال دخولها أسواقا جديدة في المجال العسكري في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وبلدان الشرق الأوسط. وظهرت تفاصيل إتفاق سلاح بمليارات الدولارات مع فنزويلا بعد زيارة الرئيس هوجو شافيز إلى موسكو في صيف 2006. كما باعت روسيا معدات عسكرية إلى سوريا وميانمار والسودان وإيران. وتحقق مبيعات السلاح الروسية إيرادات بمليارات الدولارات لقطاع السلاح، الذي يهيمن عليه مسئولون أمنيون سابقون يشكلون عنصرا رئيسيا في القاعدة التي يستند إليها جماعة بوتين في الحكم. وقد سبق لفلادمير بوتين أن صرح أن موسكو لن تتوقف حتى تصبح أكبر مصدر للأسلحة في العالم كله.
وللتأكيد على هذا التوجه الجديد لروسيا، نقلت وكالة "نوفوستي" الروسية للأنباء (26/12/2006) عن إيفانوف قوله: "إن "بلادنا لا يمكن أن تحتفظ بوضعها كدولة عظمى على أساس أراضيها ومواردها الطبيعية وحدها"، وأضاف: "لدينا حل واحد فقط: إنتاج منتجات تنافسية وفتح أسواق دولية". وأشار إلى أن صناعة الدفاع "المستقرة" تساهم في تطوير الصناعات المرتبطة بالعلم وفي تقدم الاقتصاد الروسي. وفي نفس الإطار، تقوم روسيا ببحث عقود لبناء مفاعلات وتطوير صناعات نووية مع الجزائر والمغرب، هذا بالإضافة إلى المفاعلات النووية التي تبنيها روسيا بالفعل في الصين والهند وإيران. وإجمالا فإن روسيا تتزعم مصدري الأسلحة للدول النامية، قبل أمريكا وفرنسا؛ وهو ما يعتبر من الموارد المهمة للخزينة الروسية ومن العوامل الهامة التي تساهم في تطوير الصناعات المرتبطة بها مثل صناعات المعادن والسيارات والآلات عموما.
كما قام الرئيس السابق فلادمير بوتين خلال فترة ولايته بوضع، حد لتدخل الغرب وإختراقه للشؤون الداخلية الروسية. وأهم عمل سياسي داخلي قام به بوتين لوقف إختراق أمريكا تحديدا والغرب عموما لروسيا ومحاولة توجيهها داخليا وخارجيا لتكون تابعا للسياسات الغربية، هو تصديه لزعماء الأوليجاركية الجديدة الذين نشأوا أيام حكم يلتسين وكانوا رأس حربة متقدمة في إضعاف روسيا وإلحاقها بالمشاريع والمخططات الأمريكية. وهنا يعتبر توقيف البليونيرِ الروسي ميخائيل خدوركفسكي (Khodorkovsky) من قبل مكتبِ المدّعي العام الروسيِ في 25 تشرين اول/أكتوبر 2003 بتهمة التهرب الضريبي، وما نتج عن ذلك من تجميد أرصدته الشخصية وتجميد أسهم شركة يوكوس ( Yukos) وإنهيار سعر أسهمها وبيعها بعد ذلك، أهم عمل سياسي قام به بوتين لوضع حد لمحاولات أمريكا التحكم بسياسة النفط والسياسة الداخلية الروسية.
إن تحرك بوتين ضد خدوركفسكي كان إدراكا منه لخطورة هذا الرجل الذي نسج شبكة من العلاقات الكبيرة مع مؤسسات الحكم في أمريكا وبريطانيا. كما أسس جمعية خيرية سماها "مؤسسة روسيا المفتوحة"، على شاكلَة "مؤسسةِ المجتمعِ المفتوح" لصديقه المقرّبِ جورج سوروس وكان من بين المشاركين في "موسسة روسيا المفتوحة" هنري كيسينجر وصديق كيسنجر، اللّورد يعقوب روثشيلد سليل العائلةِ المصرفيةِ بلندن، وآرثر هرتمان السفير الأمريكي السابق في موسكو. لقد جاء توقيف خدوركفسكي ضمن سياق إعلان إدارة بوشِ من جانب واحد أن الولايات المتّحدةِ ألغت إلتزاماتَها مَع روسيا بشأن معاهدتِها السابقةِ لمنع انتشار الصواريخ البالستيّة، لكي تمْضي قدما في تطويرِ منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكيِ، وهو ما إعتبرته روسيا فعلا عدائيا تجاه أمنِها.
وبعد أن فشلت أمريكا من خلال خدوركفسكي وغيره في التحكم بروسيا من الداخل عملت على محاصرتها من خلال دول الجوار. فمباشرة بعد إعتقال خدوركفسكي قامت أمريكا بسلسلة من الأعمال السرية التي مولتها لزعزعة عدد من الحكومات المحيطة بروسيا. ففي تشرين ثاني/نوفمبر 2003 دعمت "الثورة الوردية" في جورجيا التي طَردتْ إدوارد شيفرنادزي لمصلحة رئيس موال لمنظمة حلف شمال الأطلسي الذي تلقى تعليمه في امريكا هو ميخائيل شاكسفيلي الذي وافقَ على دَعْم خطّ أنابيب نفطِ باكوا تبليسي جيهان الذي من شأنه أن يلغي سيطرةَ خطِ أنابيب موسكو على نفطِ آذربيجان المستخرج من بحر قزوين. ومنذ وصول شاكسفيلي إلى السلطة يقوم الخبراء العسكريون الأمريكيون بتدريب القوات الجورجية، فيما تضخ أمريكا ملايين الدولارات لتَهْيِئة جورجيا كي تُصبحَ جزءَا من منظمة حلف شمال الأطلسي. وبالفعل أعلنت جورجيا مؤخرا جاهزيتها لنصب مستلزمات الدرع المضاد للصواريخ الأميركي على أراضيها، وذلك بسبب تضاعف الإنفاق العسكري في البلاد أكثر من 10 مرّات، حسب الأرقام الرسمية، منذ "ثورة الورد" في 2003. كما أعلنت جورجيا أيضا – لإظهار ولائها لأمريكا- رفع وحداتها العسكرية في العراق من 850 إلى 2000 جندي، وهو ما جعلها ثالث أكبر قوة عسكرية من قوّات الاحتلال بإدارة أميركية. وتحسبا من ردود فعل روسيا الغاضبة قام الجيش الجورجي ببناء قاعدة عسكرية جديدة قادرة على إيواء أكثر من 3000 جندي في سيناكي، بالقرب من أبخازيا؛ وهناك قاعدة ثانية هي في قيد الإنشاء في غوري، على بعد نصف ساعة من تسخينفالي، عاصمة أوسيتيا الجنوبية. ومن المرجح اعداد القاعدتين و تهيئتهما من اجل الصراعات المستقبلية في أوسيتيا الجنوبية و أبخازيا اللتين أعلنتا إستقلالهما من طرف واحد بدعم من روسيا.
وبعد "الثورة الوردية" في جورجيا، قامت منظمات غير حكومية مدعومة من قبل واشنطن و من ابرزها "بيت ولزي للحريةِ" ( Woolsey's Freedom House ) و"الهبة الوطنية للديمقراطيةِ" (National Endowment for Democracy )، ومؤسسةَ سوروس وغيرها، في تشرين ثاني/نوفمبر 2004 ـ بشكل سافر وإستفزازي ـ بدعم "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا. والهدف من ذلك هو إيجاد نظام موال لمنظمة حلف شمال الأطلسي برئاسةِ فيكتور يوشنكو ، في بلاد قادرة بشكل إستراتيجي على قَطْع تدفقِ خطِ الأنابيب الرئيسيِ مِنْ النفطِ والغاز الروسيِ المتجه إلى أوربا الغربية. كما قامت أمريكا بدعم حركات "المعارضة الديمقراطية" في بيلوروسيا وقرغيزستان وأوزبكستان جمهوريات سوفيتية سابقة أهمها كازاخستان. وقد أغدقت عليها إدارة بوش ملايين الدولارات وذلك بقصد تَشكيل حاجز أمام خطوطِ أنابيب الطاقةِ المحتملةِ التي قد تَرْبطُ الصين مَع روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة. وردا على هذه التحركات الأمريكية هدد فلادمير بوتين مؤخرا بضرب أوكرانيا لو إنضمت لبرنامج الدرع الصاروخي الأمريكي وقبلت انتشار مواقع لمنظومة الدفاع المضادة للصّواريخ على أرضها. ففي مؤتمر صحافي عقده بوتين مع نظيره الأوكراني الرّئيس فيكتور يوتشينكو قال: إن تطلّعات أوكرانيا للانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي ستقلص سيادتها. وأردف بوتين: "إنه مما يثير القلق ليس فقط الكلام عن هذه الاحتمالات وإنما مجرد التفكير فيها، ولو حدث بالفعل أن حدث هذا الانتشار للدفاع الصاروخي في الأرض الأوكرانية فإن روسيا ستوجه رؤوسها الحربية كإجراء انتقامي".
2 ـ العلاقات الروسية الأمريكية:
بنهاية 2004 كَانَ واضحَا لروسيا بزعامة بوتين أن "حربا باردة جديدة" غير معلنة للسيطرةِ الإستراتيجيةِ على الطاقةِ والسبق النووي الأحادي هما ما تسعى إلى تحقيقه أمريكا في ظل تفردها بالموقف الدولي. كما كانَ واضحَا أيضاً مِنْ خلال تحركات ومشاريع أمريكا منذ سقوط الإتحاد السوفيتي في عام 1991، أن الهدف النهائي للسياسة الأمريكيةِ في أوراسيا ليس الصين ولا كوريا الشمالية ولا إيران بل روسيا نفسها؛ فهي الدولة الوحيدة المؤهلة ـ بحكم طاقاتها النووية والنفطية ـ للعودة إلى المسرح الدولي إذا ما توفرت لها الإرادة السياسية وأحسنت إستغلال الأجواء الدولية. ويمكن حصر أهم الخطط الإستراتيجية التي تسير فيها أمريكا لمحاصرة روسيا وتحقيق التفوق النووي عليها في مسألتين: توسيع الحلف الأطلسي شرقا وبناء منظومة الدفاع الصاروخي.
أ ـ التوسع الشرقي للحلف الأطلسي:
إن شرق أوربا الذي عملت كل من روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية على السيطرة عليه مباشرة أو بالنفوذ وفي أسوأ حالات ضعف روسيا عملت على جعله "منطقة حيادية" بإعتباره صمام أمان للحدود الغربية لروسيا قد إبتلعته أمريكا التي لم تكتفي بذلك بل زحفت نحو "الأطراف الخارجية" (آسيا الوسطى) للاتحاد السوفياتي السابق، بله وصلت إلى حد "الأطراف الداخلية" (أي القوقاز وجمهوريات البلطيق). لقد كان الاستراتيجيون الأمريكيون، أيام الإتحاد السوفياتي، يعتبرون جمهوريات آسيا الوسطى بمثابة "البطن الرخو" للإمبراطورية الحمراء الأكثر قابلية للاختراق من الناحية الاستراتيجية. ولذلك عملت أمريكا على وضع روسيا في مأزق حقيقي، وهي لا تبالي بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الصواريخ الباليستية الموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام 1972، لأنها عازمة على إستغلال "الفرصة التاريخية" المتوفرة لها بالمضي قدما في مشروع منظومة الدفاع الصاروخي الذي لا يهدف كما يدعي بوش لحماية أمريكا من خطر الصواريخ العابرة للقارات التي يمكن أن تطلقها "دول مارقة" مثل إيران وكوريا الشمالية، بل الهدف الحقيقي هو تطويق ومحاصرة القدرات الروسية وتهديد الأمن القومي الروسي على المدى البعيد. وحتى هذه الساعة نجحت أمريكا إلى حد كبير في تحقيق هدفها في المنطقة، حيث تمكنت من تحقيق درجات متفاوتة من التغلغل السياسي والاقتصادي والعسكري في كل من آسيا الوسطى والقوقاز. وهذا ما جعل روسيا تفقد تماما إمكانية "غزو أوروبا" بل حتى لم تعد ترعب سكان الجزء الغربي من القارة بعد أن إختفى المكون الإيديولوجي للمواجهة ونزلت القوة العسكرية الروسية عن مستواها السابق أيام الإتحاد السوفياتي. وبدا واضحا أن روسيا ، بتبنيها لرأسمالية مرقعة، قد عانت أزمة هوية بالمعنى الشامل للكلمة أيام حكم بوريس يلتسين إلى أن تسلم فلادمير بوتين السلطة من بعده.
ومما زاد في تغول أمريكا على روسيا هو أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 التي كانت نقطة التحول الرئيسية في تكثيف التواجد العسكري الأمريكي في آسيا الوسطى. فحتى ذلك التاريخ كان هذا التواجد الأمريكي مقتصرا على عدد من الإتفاقيات الثنائية التي تتمحور حول بعض المساعدات العسكرية، والتي تطورت فيما بعد لتشمل إقامة قواعد عسكرية في كل من قرغيزستان وأوزبكستان في إطار ما سمته أمريكا بالحرب الكونية على الارهاب .(Global War on Terror) ورغم أن الخطة الأساسية المعلنة لأمريكا كانت تقضي بإعتبار هذه المنشآت قواعد مؤقتة، فإنها تمثل أساسا للتواجد العسكري الأمريكي الدائم بآسيا الوسطى. فهذه الأخيرة باتت بحكم قربها الجغرافي من أفغانستان منطقة لا يمكن الإستغناء عن خدماتها. ويأتي هذا الإنتشار العسكري تلبية للإحتياجات الجيوستراتيجية الأمريكية والتي بدأت تأخذ شكل البحث عن قواعد صغيرة وعملياتية بدلا من القواعد الكبيرة والدائمة كما كانت عليه إبان الحرب الباردة. ففي عملية ملء الفراغ في المناطق التي كانت خاضعة للهيمنة السوفياتية، وجدت الولايات المتحدة نفسها بحاجة إلى إسناد لوجيستي جديد، وتسهيلات وقواعد أخف وأكثر ملاءمة للتحديات الأمنية الجديدة التي صنعتها بنفسها، وروج لها العديد من المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد الذي أوصى بضرورة بناء هذه القواعد في مناطق جغرافية إستراتيجية بحيث يكون لأمريكا أنظمة حكم ونخب سياسية يمكن الإعتماد عليها عند الضرورة.
وسواء إكتسبت القواعد الأمريكية في آسيا الوسطي وضعا دائما أو مؤقتا، فإن الولايات المتحدة ستكون في موقع يمكنها من إستخدام القوة العسكرية إذا إقتضت مخططاتها ذلك. فآسيا الوسطي وبحر قزوين ليسا أكثر إستقرارا من الخليج العربي، كما أن تطوير إمدادات الطاقة بوسط آسيا لتكون البديل لمنابع النفط والغاز بالشرق الأوسط، لا قيمة له ـ أمريكيا ـ إذا لم يكن مقترنا بضمانات عسكرية تؤمن تدفق موارد هذه المنطقة نحو الأسواق العالمية. وفي هذا السياق دعمت أمريكا علاقاتها بصورة خاصة مع كازخستان حيث تستثمر فيها شركة شيفرون الأمريكية عدة مليارات من الدولارات في مجال النفط، وتجري أمريكا من حين لآخر مع كازخستان وقيرغيزستان مناورات عسكرية مشتركة في إطار برنامج الشراكة من أجل السلام الذي إنضمت إليه جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
إلا أن أول إختراق قامت به أمريكا في المنطقة كان تعاونها العسكري مع أوزبكستان، حيث عقد الطـــرفان في تشرين اول/أكتوبر 2001 إتفاقية يســمح بمقتضـــاها لواشنـــطن بإستعمال الأراضي الأوزبكــية في إطـــار عملياتها العسكرية في أفغانستان. وتمنح هذه الإتفاقية القـــوات الأمريكية معـــاملة سياديّة تتمــتع بموجبها هذه القوات بحرية مطلقة في التحرك خارج إطار الرقابة من قبل الدولة المضيفة. كما تحتفظ الولايات المتحدة في أوزبكستان بقاعدة "تيرمس" (Termez) العسكرية المتاخمة للحدود الأفغانية والتي ينتشر فيها ما يزيد عن 1000 عسكري أمريكي ينتمي معظمهم إلى الفرقة الجبلية العاشرة، وهي وحدة مختصة في العمليات القتالية في المناطق الجبلية الوعرة وفي ظروف مناخية صعبة.
أما في قرغيزستان، وهو البلد الأكثر فقرا في آسيا الوسطي، والذي تتأرجح فيه الحياة السياسية منذ آخر إنقلاب في اذار/مارس 2005 بين أزمة وأخرى، فقد كرست أمريكا جهودها في تدعيم وجودها العسكري في قاعدة "مناس" الموجودة في المطار الدولي للعاصمة القرغيزية "بشكيك". وتكمن أهمية هذه القاعدة في موقعها الجغرافي والجيوستراتيجي، فهي على مرمى حجر من الحدود الصينية (500 كلم) وتفصلها عن أفغانستان مسافة تقدر بـ 650 كلم. ويتـــواجد بهذه القاعدة 3000 عسكري أمريكي و6 مقاتلات F/A-18 وبعض الأســـراب من طـائرات النقل العسكرية C-130 و C-17 وكــذلك طائرات التزويد بالوقود.
وما زاد في قلق روسيا الكبير هو سعي جورجيا وأذريبجان الحثيث إلى الإنضمام لحلف شمال الأطلسي، في الوقت الذي رفضتا فيه الإنضمام إلى معاهدة الأمن الجماعي التي وقعتها روسيا في ايار/مايو 1992 مع كل من بيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزيا وطاجيكستان من أصل البلدان الـ 12 الأعضاء في رابطة الدول المستقلة. أما ثالثة الأثافي في إحساس روسيا بقرب الخطر الأطلسي على بابها هو أن أمريكا لم ولن تقف عند حد شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز، فهي تعمل الآن لتوسيع الناتو حتى يشمل دول البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا. وإذا ما نجحت أمريكا بذلك فإن القوات الأمريكية ـ تحت غطاء حلف شمال الأطلسي ـ تكون قد صارت لها حدودًا مشتركة مع روسيا، بحيث لن تبعد إلا 40 ميلاً من سانت بطرسبورج.
وهكذا بات ظاهرا لكل متابع للموقف الروسي عن قرب أن روسيا قد خَسِرَت الكثير من نفوذها القديم في معركة التصدي للزحف الأمريكي على إرث الإتحاد السوفياتي الخارجي (أوروبا الوسطى والشرقية) بل وحتى الداخلي (أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق الثلاث التي تسعى للإلتحاق بالناتو). والسبب في ذلك هو الخطأ الإستراتيجي الذي سارت فيه روسيا في عهد غورباتشوف وتبعه يلتسين في ذلك، وحاول فلادمير بوتين إصلاحه قدر المستطاع. ويتمثل هذا الخطأ في أن روسيا إختارت بعد سقوط الشيوعية التوجه نحو الدول الغربيّة وعلى رأسها أمريكا، على أمل أن تكون جزءا من عالمهم "الرأسمالي الديمقراطي". وفي نفس الوقت أدارت روسيا ظهرها لدول أوروبا الشرقية والوسطى، وأظهرت إزاءها إحتقاراً واضحا عندما فضلت الحديث عن مصير أوروبا الوسطى والشرقية، ليس مع أبناء المنطقة أنفسهم، بل من فوق رؤوسهم، مع ما كانت تسميه "الشركاء الغربيين". وقد كانت نتيجة هذه السياسة أن دفعت موسكو، عملياً وبيديها، بلدان أوروبا الوسطى والشرقية بإتجاه الغرب، وفشلت في وقف تمدد حلف شمال الأطلسي شرقا، رغم سعيها لوقف ذلك. ومع ذلك فإن روسيا مازالت تملك القدرة على التحرك الديبلوماسي والمناورة السياسية بل والتخطيط الإستراتيجي بعد أن خرجت من مرحلة الإصلاح لما أفسده يلتسين ودخلت مرحلة التنمية الشاملة بما تملكه من رادع نووي وفائض مالي جراء بيع النفط والسلاح.
وهنا يلاحظ أن روسيا قد دخلت مرحلة جديدة في التعامل مع أمريكا، فقد حدث تغيير كبير في خطاب السياسة الروسية رسميا وفي الأوساط السياسية والحزبية والإعلامية، خاصة في الفترة الثانية من حكم الرئيس بوتين. وبدأنا نشهد في الفترة الأخيرة تراجع الحديث عن الشراكة الإستراتيجية والعلاقات الجديدة مع الغرب، وإرتفعت الأصوات في روسيا خاصة من الوطنيين والشيوعيين تؤكد على أن حلف الأطلسي لا يزال يعتبر تهديدا جديا وحقيقيا لمصالح الأمن الروسي، لأن توسعه نحو الشرق هو "بمثابة تقريب للخطر نحو حدود الوطن". ولذلك فإن من المتوقع أن لا تقف روسيا عند حد الإكتفاء بتسجيل الإحتجاجات وإطلاق التهديدات. ولعل إعلان الرئيس بوتين في 27/04/2007 في خطابه السنوي عن حالة الإتحاد أمام البرلمان عن إمكانية إنسحاب روسيا خلال سنة من "إتفاقية القوات التقليدية في أوروبا" بصيغتها الأصلية والموقعة بين حلفي وارسو والناتو عام 1990، ثم تعليق هذه الإتفاقية رسميا إبتداء من 12/12/2007 وإعلانه أن روسيا لن تعمل بها ما لم يعدل الحلف الاطلسي الإتفاقية ويقوم بتطبيقها بشكل صارم ، أحد أهم الأعمال السياسية التي يمكن أن تحدث قلقا وإرباكا بين زعماء دول الناتو وعلى رأسهم أمريكا، وقد تدفعم إلى إعادة النظر في طريقة تعاملهم ونظرتهم لروسيا بمنطق الغالب والمغلوب بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي. وقد سبق لبوتين أن أكد على هذا المعنى ـ قبل تعليق الإتفاقية عمليا ـ في خطاب ألقاه أمام إجتماع للقيادة العسكرية الروسية بقوله أن حلف الناتو يقوم بتعزيز قدراته العسكرية على مقربة من الحدود الروسية، مشددًا على أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي حيال عملية "إستعراض العضلات" هذه. وأشار الرئيس الروسي إلى أن تجميد العمل بمعاهدة القوات التقليدية كان واحدًا من الإجراءات الجوابية التي تعتزم روسيا القيام بها. وأضاف أن روسيا لن تنتظر إلى الأبد إنضمام الدول الغربية لمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا "ولن تنفذ منها شيئًا"، مشيرًا إلى أن بعض الدول لم تبرم هذه المعاهدة فحسب بل لم توقع عليها أصلا. وتعهد بوتن بإعادة الإلتزام ببنود هذه المعاهدة بمجرد أن تلتزم الدول الغربية بتنفيذها.
ب ـ البرنامج القومي الدفاع الصاروخي:
بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض وتنفيذا لأحد أهم نقاط برنامجه الإنتخابي، أعلن جورج بوش الإبن في خطابه الذي ألقاه أمام جامعة الدفاع القومي في واشنطن في أول ايار/مايو 2001، عن تصميم الإدارة الأميركية على تطوير ونشر النظام القومي للدفاع المضاد للصواريخ(NMD ). ويتضمن هذا البرنامج التسليحي الضخم جداً ـ كما أعلن عنه رسميا ـ والذي تقدر ميزانيته بـ 160 مليار دولار، الدفاع عن أراضي ومصالح الولايات المتحدة الأميركية، ومهاجمة وتدمير الصواريخ البالستية عابرة القارات (ICBM) الاستراتيجية المعادية، سواء كانت ذات رؤوس نووية أو جرموثية. ورغم فشل تجربتين من ثلاث تجارب تم إجراؤها في إطار (حرب النجوم) الجديدة فإن إدارة بوش مصممة على المضي قدما في برنامج الدرع المضادة للصواريخ، ضاربة عرض الحائط بمعاهدة حظر الصواريخ المضادة (ABM) الموقعة بين ريتشارد نيكسون وليونيد برجنيف عام 1972 والتي إستهدفت ضمان أن لا تؤدي أنظمة الدفاع الصاروخية المضادة إلى تقويض الردع النووي السوفياتي – الأميركي.
وقد سبق لبوش الإبن أن ندد بهذه المعاهدة التي حافظت على توازن الرعب النووي بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إبان فترة الحرب الباردة، حيث قال بأن هذه المعاهدة " تجسد الماضي ونحن مطالبون بتجاوز إكراهات هذه المعاهدة القديمة منذ ثلاثين عاماً ". وأضاف بوش بأن هذه المعاهدة "تؤبد وضعاً قائماً على الحذر وعدم الثقة، وهي تقلل من شأن التقدم الأساسي في مجال الثورة التكنولوجية للعقود الثلاثة الأخيرة، وهي تمنعنا من تفحص كل الخيارات. والحال هذه يجب إستبدالها بإطار جديد يجسد القطيعة الواضحة والصريحة مع إرث العداء للحرب الباردة". وبناء عليه وبعد أن نجحت إدارة بوش بالفعل في إقامة جزء من هذا البرنامج في ولايتي ألاسكا وكاليفورنيا، تحاول الآن جاهدة إستكماله في أوروبا. ولذلك فقد أعلنت الولايات المتحدة رسميا يوم 20 كانون ثاني/يناير 2007، أنها بدأت مفاوضات مع جمهورية التشيك لإقامة محطة رادارات على أراضيها، ومع بولندا لنصب عشرة صواريخ قادرة على إعتراض الصواريخ الباليستية. وتدعي الولايات المتحدة أن نشر هذه المنظومة يستهدف حماية أراضيها وأراضي حلفائها من أي هجوم إيراني أو كوري شمالي محتمل .
ومما لا شك فيه أن قرار الولايات المتحدة الأميركية المضي قدماً بنشر نظام الدفاع الصاروخي سيكون له مضاعفات سياسية وعسكرية على العلاقات مع روسيا والصين بل حتى مع حلفاء أمريكا الأوروبيين، مما ينذر بإمكانية عودة أجواء مرحلة الحرب الباردة وما تعنيه من سباق تسلح وإستقطاب دولي. ذلك أن منظومة الدفاع الصاروخي التي تعتزم أمريكا نشرها في شرق أوروبا، ستشمل أيضا محطة رادار يمكن نصبها في منطقة القوقاز، وهذا ما يجعل روسيا خاصة تعارضها بشدة. فقد أعلن رئيس الوكالة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ هنري أوبيرينغ يوم 30 اذار/مارس 2007 في بروكسل أن رادار القوقاز سيكون "متنقلاً"، وأن الدرع "تشمل راداراً محمولاً يمكن نصبه في أي منطقة، خلال أيام، وبسرعة كبيرة جداً". وسيلتقط هذا "الرادار المتنقل"، الذي سيتم نصبه في منطقة القوقاز، الإشارات الأولى لأي صاروخ "معادٍ"، ليبثها إلى المحطة الأميركية الرئيسية للرادارات، التي تنوي واشنطن إقامتها في تشيكيا، للتصدي لأي هجمات محتملة من إيران أو كوريا الشمالية.
ولكن يبدو واضحا أن أمريكا لا تبالي بالإنتقادات الموجهة لها في ظل تفردها بالموقف الدولي وسعيها لإستغلال هذه "الفرصة التاريخية" لتحقيق سبق نووي من خلال بناء نظام الدرع الصاروخي. فهذه السياسة الأمريكية الجديدة في عسكرةِ الفضاءِ هي جزء متمم لإستراتيجيتها المسماة بـ "هيمنةِ الطيفِ الشامل" (full-spectrum dominance ) أو بـ "هيمنة التصعيد" ( escalation dominance ) ـ حسب تعبير البنتاغون. فإكمال النظام الدفاعي الصاروخي الأوروبيِ وعسكرة الشرق الأوسطِ كله وتطويق روسيا والصين بشبكة من القواعد العسكريةِ الأمريكيةِ الجديدةِ في آسيا الوسطى تحت مسمى"الحرب على الإرهابِ"، كُلّ ذلك يدخل ضمن هذه الإستراتيجيةَ الأمريكية، أي القدرة على الفوز بالحرب بأي مستوى من العنف بما في ذلك الحرب النووية. وقد جاءت هذه الإستراتيجية في الوثيقة الصادرة بتاريخ 31 اب/أغسطس عام 2006، والتي إعتمد فيها بوش الإبن سياسة فضاءِ قومية أمريكيةِ جديدةِ تعطى للبرامجِ ونشاطاتِ الفضاءِ الأمريكيةِ أولوية قصوى في إستراتيجيةِ الدفاعِ الأمريكي. وتُعلنُ هذه الوثيقةَ بأنّ الولايات المتّحدةَ سَتتخذُ "تلك الأعمالِ الضروريةِ لحِماية قدراتها الفضائِية وللرد على التدخلِ؛ ولمنع، إذا كان لازما، الخصوم الذين يستعملون إمكانيات الفضاءِ عدائيا ضد المصالح القومية الأمريكيةِ ". كما تؤكد هذه الوثيقة أن أمريكا لن تسمح لأيّ هيئة َأو معاهدة دولية تعيق عسكرتَها للفضاءِ. "فالولايات المتّحدة سَتُعارضُ إصدار الأنظمةِ القانونيةِ الجديدةِ أَو القيودِ الأخرى التي تريد مَنْع أَو تَحديد وصول أَو إستعمالِ أمريكا للفضاءِ. إن إتفاقيات أَو قيود الحَدّ من الأسلحةِ المُقتَرَحةِ لا يَجِبُ أنْ يقللا من حقوقِ الولايات المتّحدةِ في إجْراء بحثِ أو تطوير أو إختبار أوعمليات أَو نشاطات أخرى في الفضاءِ للولايات المتّحدةِ .
وهكذا يتضح أن إعطاء أمريكا الحق لنفسها في عسكرة الفضاء جاء لقطع الطريق على أية محاولات دولية لمنعها من ذلك. وقد أعادت كوداليزا رايس هذا المعني في المؤتمر الصحفي بعد لقائها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، إذا قالت "لا أظن أن أحدا يتوقع أن تسمح أمريكا بوضع فيتو على مصالحها الأمنية" . ولكن يبدو أن روسيا منذ الفترة الثانية لحكم بوتين عازمة على الدخول في إحراج أمريكا دوليا والدخول معها في صراع سياسي وديبلوماسي حول مسألة عسكرة الفضاء عبر برنامج الدرع الصاروخي. ففي مؤتمر ميونيخ الذي عقد يومي 9 و10 شباط/فبراير 2007، وبعد أن شن فلادمير بوتين في خطابه هجوما على السياسة الأمريكية في العالم، حذر من تسليح الفضاء وأعلن أنه سيقدم قريبا مشروع معاهدة دولية لتحييد الفضاء من التسلح. وبالرغم من تأكيد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية شون ماكورماك أن هذا المشروع لا يستهدف روسيا، بل الدول غير المسئولة التي يمكن أن تمتلك تكنولوجيا تهدد الولايات المتحدة وأصدقاءها وحلفاءها وأنه يهدف إلى وقايتها من أية هجمات محتملة من إيران أو كوريا الشمالية أو أي دولة أخري، إلا أن قائد القوات الفضائية الروسية الجنرال فلاديمير بوبوفكين يرى أن عسكرة الفضاء الأوروبي عبر نشر رادارات وصواريخ إعتراضية إضافية في أوروبا بحلول 2011 سيشكل تهديدا أكيدا لأمن روسيا ومصالحها، خاصة أن إقامة قاعدة رادارات في التشيك ستسمح بمراقبة نشاطات منشآت الصواريخ في وسط روسيا أو أسطول الشمال الروسي، وهذا الأمر سيسبب إنكشافا إستراتيجيا لروسيا.
ومن جانبه، فند فلادمير بوتين المزاعم الأمريكية بأن نشر مظلات صاروخية في أوروبا الشرقية إنما يستهدف التصدي لأية هجمات من قبل إيران أو كوريا الشمالية، مؤكدا أن تلك حجج واهية وباطلة وغير مقنعة، لأن إيران لا تملك صواريخ بعيدة المدى بمقدورها الوصول إلي أوروبا أو أمريكا. فالإيرانيون لا يملكون صواريخ باليستية عابرة للقارات تستطيع تهديد أوروبا ناهيك عن الولايات المتحدة، أما روسيا فإنها تملك مثل هذه الصواريخ. وحتى لو افترضنا أن التهديد الإيراني موجود فعلا، ألا يجدر بالولايات المتحدة نشر عناصر من منظومتها الدفاعية المضادة للصواريخ في مكان آخر كتركيا مثلا وليس في أوروبا الشرقية وبالذات في تشيكيا وبولندا ؟ وقد ذكر بوتين أن روسيا ستكون مستعدة في مثل هذه الحال للتعاون مع الولايات المتحدة، ولكن بشرط أن يبدأ بناء مواقع المنظومة الدفاعية المضادة للصواريخ من الصفر وعلى أساس التكافؤ. فروسيا ترى أن الخطط الأميركية تخل بتوازن القوى الاستراتيجية في أوروبا، وتثير سباقا جديدا للتسلح. واعتبر الرئيس السابق بوتين أنَّ نشر الدرع الأمريكي من شأنه أن يحوِّل أوروبا إلى "برميل بارود"، متهمًا واشنطن بخلق سباق تسلح عالمي جديد، وخرق معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية. وشدّد على أنه "إذا وصل جزء من القوة النووية الأمريكية إلى أوروبا، ورأى خبراؤنا العسكريون أن ذلك سيهددنا؛ فسنضطر وقتئذ إلى إتخاذ خطوات مماثلة ردًا على ذلك"، مشيرًا لإعادة توجيه الصواريخ الروسية ضد أوروبا. وقد أكد فلادير بوتين على هذا المعنى من جديد، في مؤتمره الصحافي السنوي الأخير قبل مغادرته الكرملين، من أن روسيا لن تنزلق إلى مواجهات مع أي طرف، لكنه أطلق تهديدًا صريحًا بتصويب صواريخ في إتجاه بولندا وتشيكيا وأوكرانيا، إذا تحققت مشاريع توسيع الحلف الأطلسي .
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فقد إتهم أمريكا صراحة بأنها تسعي للتفوق النووي على روسيا . وأكد لافروف أن روسيا لا تخطط لإطلاق أي صواريخ، لكن النظام الدفاعي الصاروخي الأمريكي سيمنح الفرصة للولايات المتحدة لشن ما أسماها الضربة الأولى. وقال لافروف إن الموقع المقترح للنظام الدفاعي الأمريكي ـ في بولندا وجمهورية التشيك ـ أكثر ملائمة لإعتراض الصواريخ التي يتم إطلاقها من روسيا. أما قائد القوات الجوية الروسية السابق فلاديمير ميخايلوف فقد ذكر أن نصب أنظمة رادار أميركية مضادة للصواريخ في القوقاز "لن يؤثر على قدرات روسيا الدفاعية"، وأشار إلى أن بلاده "قادرة على تقديم رد مناسب على نشر درع الدفاع الصاروخي" الأميركي. وتابع ميخايلوف إن الأميركيين "لديهم الكثير من الأموال، فلندعهم ينفقونها"، موضحاً أن أنظمة صواريخ "أس ـ 400" الروسية، التي يزيد مداها على 400 كيلومتر، "تضمن الأمن، بما في ذلك من ناحية الدفاع الجوي الفضائي".. وقد بدأت روسيا فعلا تحتاط لمواجهة ما قد تضعه الولايات المتحدة من أسلحة خطيرة في القارة الأوروبية وفي الفضاء، واتخذت في ذلك إجراءات فعلية كتجهيز صواريخها "توبول – م" بعدة رؤوس نووية. ويتضمن برنامج تسليح القوات المسلحة الروسية صنع قاذفتي قنابل جديدتين من طراز "تو – 160" اللتان تستطيعان إختراق شبكات إصطياد الصواريخ. كما تستعد روسيا لنشر صواريخ "إسكندر "التكتيكية بالقرب من حدودها بالإضافة إلى نشر صواريخ جديدة من طراز «أس - 400» التي تستطيع تدمير الأهداف الباليستية.
وهكذا فإن ما يحدث الآن على الساحة الدولية يعني بوضوح أن سباق التسلح بين واشنطن وموسكو قد بدأ بالفعل، حتى ولو نفاه الطرفان لأسباب سياسية داخلية ودولية. ولكن الأكيد أن أمريكا تسعى لإجبار الدول الأوروبية ودول أخرى في الشرق الأوسط وفي آسيا على شراء أسلحة أميركية حديثة تتناسب مع طبيعة الحروب المتطورة القادمة. وهذا ما سوف ينعش في آن الاقتصاد الأميركي ويؤثر سلبا على إقتصادات الدول الأخرى، بينما ستكون روسيا الطرف الآخر للعبة الأميركية المزدوجة. ذلك أن روسيا لن تقبل وجود هذه الأسلحة الحديثة المتطورة بالقرب من حدودها ولن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستسعى بالضرورة للحفاظ على توازن القوى مع الولايات المتحدة، الأمر الذي سيدفعها للإنفاق بكثافة على التسليح ، مما قد يؤدي إلى ضعف تدريجي لإقتصادها وربما إنهيار كامل له بعد ذلك. هذه هي اللعبة التي سبق أن إستخدمتها أمريكا مع الاتحاد السوفييتي وكان ذلك أحد أسباب إنهياره. والسؤال الآن هو هل تستطيع روسيا تفادي الوقوع في شراك اللعبة الأميركية عبر الإستعانة بالصين في ذلك؟
3 ـ العلاقات الروسية الصينية:
بعد إنهيارِ الإتحاد السوفياتِي، ركّزتْ روسيا سياستها الخارجيةَ بشكل رئيسي على العلاقاتِ بالغربِ وعلى دخول "البيت الأوروبي المشترك" مَتجاهلة علاقاتَها السابقة مَع جيرانِها الآسيويين. ولكن بسبب التجاهل الغربي المتعمد و المصود منه إضعاف روسيا وبضغط من المخابرات الروسية والمجمع الصناعي ـ العسكري الروسي بدأت الحكومة الروسية في تغيير موقفها وتوجهاتها خاصة مع وصول فلادمير بوتين إلى الحكم. وكانت أول إشارة بعث بها بوتين إلى الغرب هو زيارته للصين في بدايات عهده ـ في تموز/ يوليو 2000 ـ وسعيه لتمتين العلاقات الصينية الروسية. إن مغزى زيارة بوتين هذه أن روسيا لن تسير في سياستها الخارجية على النهج الذي سار فيه بوريس يلتسين أي التوجه نحو الغرب من دون مقابل ومن جانب واحد. والواضح أن روسيا بوتين هي التي سعت جاهدة إلى ربط مصالح الصين بها خاصة في مجالي الطاقة والتسلح العسكري. وهذه السياسة الروسية جاءت بمثابة ردة الفعل على سياسة أمريكا في عزل روسيا عن الصين وربط نمو الإقتصاد الصيني بأمريكا، إذ بلغ الفائض التجاري الصيني مع أمريكا العام 2006 مقدار 230 مليار دولار، كما ربطت أمريكا إحتياجات الصين من الطاقة بدول بعيدة عن روسيا ولكنها خاضعة للنفوذ الأمريكي. وما سماح أمريكا للصين بالحصول على عقود نفط كبيرة في أفريقيا والبلاد العربية إلا دليلا على ذلك.
وهكذا فالسياسة التي إتبعتها وتتبعها الولايات المتحدة في مجال فرض سيطرتها على العالم والتحكم به وخاصة في آسيا الوسطى والشرق الأقصى في مجالات الطاقة والتوسع العسكري والنفوذ السياسي دفعت بروسيا إلى مراجعة سياستها التقليدية تجاه الصين والتي كانت تقوم على أساس الإتفاق مع أمريكا بتقييد الصين وإتقاء خطرها. فبعد زيارة بوتين إلى الصين عام 2000 قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين بزيارة مماثلة إلى موسكو في تموز/ يوليو عام 2001، نتج عنها توقيع "المعاهدة الروسية الصينية في حسن الجوار والصداقة والتعاون". وتشكل هذه المعاهدة التي تمتد على مدى 20 سنة أول وثيقة من نوعها يجري توقيعها بين البلدين منذ عام 1950.
ومع ذلك فلا يمكن الحديث هنا عن أن الإتفاق الروسي ـ الصيني الحالي هو محور ضد أمريكا أو تكتل معاد لها كما يمكن أن يتصوره البعض. فالبلدان مازالا يسعيان للتعاون مع أمريكا ومع الغرب عموما في الكثير من المجالات الإقليمية والدولية. إن ما جمع البلدان هو الهم المشترك في التصدي للمخططات الأمريكية وليس العمل المشترك في إضعاف موقع أمريكا المتفرد بالموقف الدولي. فروسيا تخشى بالدرجة الأولى من توسع الناتو في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز كما تخشى من سعى أمريكا لتنفيذ برنامج الدرع الصاروخي الأوروبي. أما الصين، وإن كانت تتخوف هي أيضا من الدرع الصاروخي، إلا أن سبب إقترابها الأول من روسيا هو قلقها الشديد من معاهدة الأمن الإستراتيجي بين اليابان وأمريكا التي تنظر إليها بإعتبارها تحالفا موجها ضدها في الشرق الأقصى، كما أن الصين تحتاج إلى روسيا لتأييد موقفها تجاه تايوان وتزايد النفوذ الأمريكي في الجزيرة.
إلا أنه رغم أهمية الشراكة الروسية الصينية التي أكد عليها بوتين في قمة شنغهاي خمسة بدوشنبه في تموز/يوليو 2000 بقوله: "إن الصين حقا بالنسبة لنا شريك إستراتيجي في كُلّ مجالاتِ النشاطِ "، فإن روسيا لا تعتبر أن هذه "الشراكة الإستراتيجية" ضمان لدعمِ الصين لكُلّ سياساتِ روسيا الدولية سواء اليوم أوفي المستقبلِ، خاصة فيما يتعلق بالوقوف الجدي أمام المخططات الأمريكية. فالصين أقامت "شراكات" مع العديد مِنْ البلدانِ الأخرى ـ بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا العظمى واليابان ـ وهي لَيْسَ لديها نيةُ في تحويل هذه الشراكات إلى تحالف عسكري سياسي مَع أي واحد منهم. وهذا ما يدركه بوتين وعبر عنه بقوله في قمة شنغهاي السالفة أيضا: "إن روسيا يَجِبُ أَنْ تتكئ على جناحين: الأوروبي والآسيوي". ووضّحَ ذلك بقوله "نحن نَعْرفُ أن روسيا هي بلد أوروبي وآسيوي في نفس الوقت. لذلك فإننا نوفق بين البراغماتية الأوروبية والحكمة الشرقية. لذا فإن سياسة روسيا يَجِبُ أَنْ تكون متُوَازنَة. وبهذا المعنى فإن العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية يَجِبُ بلا شك أَنْ تكون إحدى أولوياتنا الرئيسية".
وإذا أردنا أن نعدد أهم مجالات التقارب والتعاون الروسي ـ الصيني على ضوء المعاهدة التي تمت بينهما والتي جاءت كرد على الهيمنة الأمريكية في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأقصي، فإننا نأتي على ذكر ما يلي:
أ ـ مجالات التقارب الروسي الصيني:
1ـ الدرع الصاروخي وتوسع الناتو:
يمثل برنامج الدرع الصاروخي الذي تصر أمريكا على تنفيذه أحد أهم التهديدات المشتركة التي دفعت روسيا والصين للتقارب فيما بينهما والتعاون في القطاع العسكري وخاصة في مجال السلاح النووي. فروسيا تعتقد أن هذا النظام الأمريكي المذكور يشكل إنتهاكا صارخا للمعاهدة الأمريكية السوفييتية للدفاع المضاد للصواريخ (أي.بي.أم) الموقعة في عام 1972، كما ترى فيه تهديدا للجهود الروسية ـ الأمريكية الحالية حول معاهدة نزع السلاح الاستراتيجي (ستارت ـ 3) التي تنص على خفض الصواريخ النووية بمعدل 1500 لكل منهما. بينما تعتقد الصين أن الولايات المتحدة تهدف من وراء نظامها الصاروخي المضاد إلى إدخال مناطق من آسيا والمحيط الهادي في إستراتيجيتها الأمنية "هيمنة الطيف الشامل"، من خلال إدخال تايوان بشكل من الأشكال في النظام المذكور؛ وهذا الأمر تعتبره الصين تدخلا في شئونها الداخلية ومساسا بمبدأ الصين الواحدة. كما يتخوف البلدان من أن يعطل المشروع الصاروخي الأمريكي قوتهما للردع النووي وأن يؤدي إلى إطلاق سباق جديد للتسلح تصعب السيطرة عليه. وإضافة إلى كل ما سبق تشعر الصين وروسيا بالتهديد المباشر من جراء عمل أمريكا على توسيع الحلف الأطلسي شرقا والإستحواذ على قواعد عسكرية قريبة جدا من حدود البلدين، بما من شأنه أن يعطيها سبقا نوويا وجيوستراتيجيا على كل من روسيا الصين. وإنطلاقا من رؤية هذه الأهداف الأمريكية والمخاطر الأمنية والسياسية المترتبة عليها بالنسبة لروسيا والصين، عمل البلدان على تعزيز تقاربهما الإستراتيجي ودعم الشراكة بينهما في مجالات متعددة، خاصة بعد زوال الخلافات الإيديولوجية التي كانت تفرق بينهما وإنتهاء سياسة الوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا.
2ـ الإستقرار الإقليمي:
إذا كانت المشاكل الحدودية بين الإتحاد السوفييتي السابق والصين الشعبية أهم أسباب نشوب الحرب التي جرت بينهما عام 1969 وإنتهت بهزيمة قاسية للصين، فإن التطلعات القومية والدينية للشعوب الموجودة على طرفي الحدود تشكل حاليا القاسم الأمني المشترك للبلدين. وهو ما جعل هذا الموضوع يحظى بإهتمام كبير في محادثات الرئيسين بوتين وزيمين، فقد أكد إعلان بكين المشترك على "ضرورة توفير الأمن والإستقرار الإقليميين" وذلك من خلال الحد من "النزعات القومية والإنفصالية والتطرف الديني وحركة الإجرام التي تتخطى الحدود". وفي هذا الباب تتفق روسيا والصين على أن تطور النزعة القومية والدينية للشعوب الاسلامية في هذه الأقاليم والجمهوريات الحدودية للبلدين تنذر بسلسلة مترابطة من المطالب والحقوق والأحداث التي قد لا تنتهي عند حد معين، بل قد تؤدي إلى تفكك البلدين إلى مجموعة من الجمهوريات على أسس عرقية وقومية ودينية. وبناء عليه فان الصين تدعم روسيا في سياستها الحديدية في الشيشان فيما تدعم هذه الأخيرة السياسة الصينية في إقليم كسينجيانج (تركستان الشرقية، الذي تسكنها أكثرية من الأويجور المسلمين المطالبين بالإستقلال عن الصين) تحت ستار الشأن الداخلي والحفاظ على الوحدة ومجابهة التحديات الاقليمية. وتبدأ هذه السياسة المشتركة بين روسيا والصين بالتعاون في مجال تبادل المعلومات والخبرات والتنسيق في المسائل الأمنية على جانبي الحدود لتنتهي بدعم كل طرف لسياسة الآخر على المستوى الرسمي في المحافل الدولية.
3ـ التعاون الإقتصادي:
ويشمل هذا الباب تعاون البلدين في شؤون التجارة عموما والطاقة والأسلحة خصوصا، حيث تعد الصين مستوردا رئيسيا للنفط والغاز الطبيعي والأسلحة الروسية بينما ترغب روسيا في أن تتاح لها فرص أفضل للدخول إلى السوق الصيني القوي الذي يبلغ حجمه مليارات الدولارات. ورغم أن نسبة التبادل التجاري السنوي بين البلدين لاتزيد على ستة مليارات دولار، إلا أن البلدين تعهدا في العام 2006 بالوصول بهذه النسبة إلى عشرين مليار دولار خلال العام 2007. وتعتبر منظمة تعاون شنغهاي إحدى أهم وسائل تقوية العلاقات الإقتصادية والتجارية بين البلدين. فهذه المنظمة التي تأسست في حزيران/يونيو 2001 بمبادرة مشتركة لتضم الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان تهدف بشكل معلن إلى تسهيل "التعاون في شؤون السياسة والإقتصادِ والتجارةِ، وفي المجالات التربوية والثقافية والعلمية التقنية وكذلك في مجالات الطاقةِ والنقل والسياحة وحقول حمايةِ البيئةِ". لكن الغرض الحقيقي من هذه المنظمة أن تكون تجمعا سياسيا في مجال الطاقة والمال يقف بوجه محاولات الهيمنة الأمريكية في آسيا الوسطى. وقد قام فلادمير بوتين في عهده بعدد مِنْ الخطواتِ لتَقْوِية العلاقاتِ التجارية مَع الصين في محاولة لربط إحتياجاتها النفطية بروسيا. ففي اذار/مارس 2006 ذَهبَ بوتين إلى بيكين لمُنَاقَشَة التعاونِ الثنائيِ في مجال إحتياجات الصين المتزايدة للطاقةِ. وقد كان على رأس جدول الأعمال أمنيةَ الصين بمد خط أنابيب مِنْ تايشيت في سيبيريا لجَلْب النفطِ إلى داكينغ في الصين. بالإضافة إلى ذلك وقعت شركة الصين القومية للنفط عدة إتفاقيات لمشاريعِ الطاقةِ المشتركةِ مع شركة روسنفط (Rosneft ) كما وقعت مذكّرة تفاهم مع غازبروم ( Gazprom ) لتصدير الغاز الطبيعي الروسيِ إلى الصين.
أما في مجال التعاون العسكري، فتعتبر الصين أكبر مشتري للسلاح الروسي، إذ يقدر الخبراء أن الصين تستورد أكثر من خمسين بالمائة منْ إنتاجِ روسيا العسكري. فقد سجلت أرقام مبيعات السلاح الروسي المتقدم للصين وأحجامها وأنواعها تطورا ملحوظا منذ توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين في عام 2001. وتشمل هذه الأسلحة صواريخ أس ـ 300 المضادة للطائرات والصواريخ، وغواصات متطورة من طراز (كيلو) وقاذفات مقاتلة من طراز (سوخوي 27). كما أعطت روسيا للصين ترخيص صنع طائرات حربية من طراز سوخوي. وفي اب/أغسطس 2005 قام البلدان بأول مناورات عسكرية مشتركةِ، بل وهناك مشاريع بتدريب عناصر من الجيش الصيني في معاهد وزارة الدفاع الروسية. وقد حاولت روسيا الإستفادة من علاقاتها القوية بالهند للدعوة إلى إقامة تحالف إستراتيجي يجمعهما مع بكين للوقوف بوجه المارد الأمريكي، لكن التناقضات التي تغذيها أمريكا بين نيودلهي وبكين وإعلان أمريكا بأن الهند حليف إستراتيجي لها خاصة بعد الاتفاق النووي المشترك في العام 2006 حالت دون نجاح هذا المسعى الروسي.
4 ـ زيادة الإنفاق العسكري:
إن من نتائج التقارب بين الصين وروسيا والتعاون بينهما هو زيادة الصين في إنفاقها العسكري، وهذا أمر يقلق كثيرا الولايات المتحدة الأميركية. لقد باتت الصين اليوم تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم عدة وعددا، إذ وصل تعداد الجيش الصيني حوالي 3 ملايين مقاتل. كما أن الصين بدأت منذ سنوات قليلة سياسة إصلاح في الجيش تهدف إلى تحويله إلى جيش حديث من حيث التجهيز والكفاءة العملياتية، وهو مزود بتسعة آلاف دبابة وترسانة كبيرة من الصواريخ التكتيكية والبالستية والعابرة للقارات. وتركز القيادة الصينية حاليا على بناء أسطول بحري للمياه العميقة، بعد أن وصل عدد قطع الأسطول الصيني ـ حسب دراسة للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن ـ إلى حوالي 1200 سفينة تضم 63 غواصة و18 مدمرة وأكثر من 700 زورق صاروخي و119 كاسحة ألغام و73 سفينة إنزال برية وعشرات سفن الدعم والتموين. كما وتوجد للصين خطط لبناء حاملة طائرات وزيادة عدد غواصاتها المزودة بصواريخ نووية عابرة للقارات, أما سلاح الجو الصيني فيضم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتلة وقاذفة من مختلف الأجيال. وتعمل المصانع الصينية على تطوير قدرة قواتها في الحرب الإلكترونية ووسائل الإتصال الفضائية، حيث أطلقت بكين عددا من الأقمار الصناعية لأغراض التجسس والإتصال والسيطرة المعلوماتية التي باتت تشكل اليوم عصب الجيوش الحديثة.
وقد كان للمناقشات التي أجرتها أمريكا مع تايوان في سنة 2006 وتخصيصها مبلغ 50 مليار دولار لعشر سنوات مقبلة بقصد تعزيز القدرات العسكرية للجزيرة، أن دفع الصين للقيام بتجربة تدمير قمر صناعي بواسطة صاروخ في 11 كانون ثاني/يناير2007. وهو ما أحدث صدى كبيرا في واشنطن التي إعتبر بعض خبرائها العسكريين أن التجربة الصينية هي بمثاية رسالة تحذير لأمريكا في حال حصول مواجهة بشأن تايوان. فهذ التجربة الأخيرة التي برهنت خلالها الصين أنها قادرة على إصابة قمر صناعي يحلق بإرتفاع 950 كلم، وهو مدى يتجاوز إرتفاع كافة الأقمار الصناعية الأمريكية العسكرية، دفع بعض المصادر الأمريكية للقول أن الصين هي من أرسلت في ايلول/سبتمبر 2006 إشعاعات "لايزر" من الأرض في إتجاه قمر صناعي أمريكي أحدثت له إرباكا في عمله. ويذهب بعض خبراء وزارة الدفاع الأمريكية إلى الظن بأن تدمير الصين لأقمار المراقبة الأمريكية سوف يكون المرحلة الأولى في هجوم صيني، تحتفظ فيه بكين بموقع أفضل لتواجه أسطولا أمريكيا أعمى. ووفقا لهذا السيناريو، فإن الصين سوف تستخدم فريقا معلوماتيا لإختراق شبكات كومبيوترات الدفاع الأمريكية وشلها، وفي نفس الوقت يقوم الجيش الصيني بنشر كمية كبيرة من صواريخ أرض ـ بحر، لمنع حاملات الطائرات الأمريكية من الإقتراب من السواحل الصينية.
ب ـ رد فعل أمريكا على التقارب الصيني الروسي:
إذا بدأنا برد الفعل الأمريكي على تدمير الصين في بداية عام 2007 لقمر صناعي مهجور كان مخصصا لرصد الأحوال الجوية الذي ذكرناه سابق، فإن وزارة الدفاع الأمريكية قد أعلنت بتاريخ 21/02/2008 عن نجاحها في إسقاط أحد أقمارها الاصطناعية التجسسية العسكرية، قالت أنه خرج عن سيطرتها، بصاروخ أطلق من سفينة تابعة لسلاح البحرية بأمر من الرئيس جورج بوش. وقد علل البنتاغون سبب ذلك بأنه كان منعا لسقوط ذلك القمر ـ الذي أطلقته في 14 كانون اول/ديسمبر من عام 2006 ـ على الأرض وتسرب محتواه إلى الغلاف الجوي وهو يحمل خزان وقود سام من مادة الهيدرازين. ورغم التفسير المعلن من قبل أمريكا لتلك العملية فقد عبرت كل من موسكو وبكين عن قلقهما من هذه العملية، وقالت وزارة الدفاع الروسية أن العملية قد تستخدم ستارا لتجربة سلاح فضائي جديد قادر على إسقاط الأقمار الصناعية، ضمن "تجربة سلاح مضاد للصواريخ". ويمكن القول أن إسقاط أمريكا لذلك القمر الصناعي هو الرد العملي على ما أقدمت عليه الصين في كانون ثاني/يناير 2007 وهو كذلك رسالة إلى روسيا في تقاربها مع الصين من أن العبرة ليس في إرسال أقمار صناعية إلى الفضاء بل في القدرة على إسقاطها من مدارها عند اللزوم أو في حالات الحرب.
إن قلق أمريكا بشأن زيادة الصين إنفاقها العسكري ينبع من خوفها أن تزداد الصين قربا من روسيا بتمكن روسيا من اغرائها لتقليل إرتباطها بأمريكا في مجالي الطاقة والنمو الإقتصادي بحيث تمكنها روسيا من الحصول على مواد تكنولوجية عالية الدقة خاصة في مجال الصناعة الحربية. فروسيا تدرك جيدا أن الصين لن تصل ـ دوليا ـ إلى التمايز السياسي عن أمريكا ما لم تعالج ضعفها الإستراتيجي في مجال تبعيتها المتزايدة للطاقة التي تحتاجها لنموها الإقتصادي وعجزها على أن تشكل قوة ردع نووي إذا ما تعرضت لهجوم نووي أمريكي أول. وفي هذا السياق تمثل منظمة تعاون شنغهاي إطارا سياسيا مناسبا يقوي من شراكة روسيا الإستراتيجية مَع الصين ويمكن الصين من سد ضعفها الإستراتيجي في مجالي الطاقة والردع النووي. ذلك أن روسيا هي القوَّةُ الباقيةُ الوحيدة التي ما زالَتْ لَها إمكانيةُ رَدْعِ عسكريِ كافيِ في ترسانتِها النوويةِ الإستراتيجيةِ، وهذه القوة تَتوسّعُ جنبا إلى جنب مع إمكانات الطاقةِ الوفيرةِ التي باتت تملكها الدولة بما يؤهلها أن تصبح قوة عالمية تكافئ التفوق العسكري والسياسي الأمريكي، إذا ما توفرت عندها الإرادة السياسية.
ولذلك تخشى أمريكا كثيرا من التقارب الروسي الصيني منذ وصول بوتين إلى الحكم عام 2000. ويبدو أن هذا التقارب سيزداد في عهد دميتري ميدفيديف الذي جعل من الصين أول دولة يزورها خارج الفضاء السوفياتي السابق. وقد كان أهم بنود هذه الزيارة التي تمت في 23/05/2008 هو ما نص عليه الإعلان المشترك الذي صدر في ختام مباحثات الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف والزعيم الصيني هو جينتاو في بكين من أن البلدين يدعوان إلى إستخدام الفضاء للأغراض السلمية، ويشددان على أهمية الإسراع في إعداد وثيقة قانونية دولية لمنع نشر الأسلحة في الفضاء في إطار مؤتمر جنيف لنزع السلاح. و تجدر الاشارة هنا أن الصين وروسيا قدمتا في مؤتمر منظمة الأمم المتحدة الذي عقد في جنيف في شهر شباط/فبراير الماضي مشروع إتفاقية دولية جديدة لمنع سباق التسلح في الفضاء وحظر نشر جميع أنواع الأسلحة في الفضاء وليس النووية فقط. ويعتبر مشروع هذه الوثيقة التي رفضتها أميركا متذرعة بحاجتها الحيوية للأقمار الصناعية، محاولة دولية من روسيا لجر الصين معها في التصدي لرغبة أمريكا في إحياء برنامج "المبادرة الدفاعية الإستراتيجية" الذي أطلقت عليه أمريكا في ثمانينات القرن الماضي تسمية "حرب النجوم".
إلا أنه رغم هذه المحاولات الروسية لجر الصين في مخططاتها فإن أمريكا لم تغير سياستها التقليدية تجاه الصين، تلك السياسة القائمة على ركيزتين. الأولى: الفصل بين روسيا والصين والحيلولة دون بلوغ الصين مستوى الحليف الإستراتيجي لروسيا التي تعمل على ربط مصالح الصين بها مثلما تفعل أمريكا نفسها مع الصين. والثانية: الإحتواء السلبي والإيجابي للصين، فالأول يكون عبر الوجود الأمريكي في اليابان وعبر دعم أمريكا لقضايا الداخل الصيني مثل تايوان والتيبت وحقوق الانسان والديمقراطية، والثاني يكون عبر دفع الصين إلى مزيد من الإنغماس والإنخراط في القضايا الإقليمية (قضية كوريا الشمالية) والدولية (قضايا الحد من الإنتشار النووي وقضايا الطاقة والبيئة). ورغم إرتفاع بعض الأصوات في أمريكا مطالبة بالتصعيد مع الصين ووضعها على قائمة "محور الشر"، فإن أصحاب التخطيط والقرار في أمريكا ما زالوا يتمسكون بالسياسة التقليدية لأمريكا تجاه الصين. لذلك ليس مستغربا أن يدعو أحد مفكري وأقطاب السياسة الأمريكية السابقين (هنري كسينجر)، الإدارة الأمريكية إلى التفاهم مع الصين حول النظام العالمي الجديد، كون الصين أصبحت تمتلك كل مقومات الدولة العظمي، وهو بهذا يدعو إلى تفاهمات إستباقية منفردة مع دولة واحدة قبل أن تكون أمريكا مضطرة للخضوع لنظام عالمي جديد تفرضه دول متعددة وفي مقدمتها روسيا، تخسر فيه الولايات المتحدة أو تضطر للتنازل عن الكثير من "مصالحها القومية". فقد أكد هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق خلال محاضرته التي ألقاها في الأكاديمية الصينية للعلوم، على أن صعود الصين على المستوى العالمي أمر حتمي ليس في مقدور الولايات المتحدة فعل شيء تجاهه، مشددًا في الوقت ذاته على ضرورة ألا تفعل واشنطن أي شيء لوقف ذلك الصعود، وأن الأجدر بها أن تتعاون مع الصين لإقامة نظام عالمي جديد. وتابع قائلاً: "أنظر إلى العلاقات الصينية الأمريكية على أنها تحد لبناء نظام دولي جديد يقوم على إحترام حقوق الإنسان وعلى العمل التعاوني لتفادي كارثة" المواجهة بين البلدين و يبدو ان ما يريده كيسينجر من الادارة الامريكية ان تتعامل مع الصين لجذبها بشكل اكبر خاصة اذا ما قوي عند الصين الشعور بالعظمة لتعالج الاغراءات الروسية لها في كافة المجالات .
4 ـ الوضع الدولي لروسيا:
إن روسيا اليوم ليست هي روسيا التي كانت في عام 1991 بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، يومها كانت تستجدي المعونات من صندوق النقد الدولي لدعم إقتصادها "الرأسمالي" الوليد، وكانت تقدم التنازلات الإستراتيجية ليس على مستوى العالم فقط بل في مجالها الحيوي الذي دافع عنه قياصرة الروس من قبل وجود الدولة الشيوعية نفسها. كما أن المكانة الدولية لأمريكا اليوم ـ رغم إستمرار تفردها بالموقف الدولي ـ لم تعد هي نفسها كما كان عليه الحال عند إعلان جورج بوش الأب في زهو وتكبر عام 1991 عن ميلاد النظام العالمي الجديد. وقد كان لافرازات تدخل امريكا في قضايا دولية عديدة و ما اصبح عليه حال الراي العام المناهض لسياساتها في كثير من الدول اثر في تحريك الرغبة والإرادة لدى روسيا بقيادة بوتين في إستعادة موقعها كقوة دولية عظمى تزاحم أمريكا في الساحة الدولية. فإما أن تنجح روسيا في زعزعة مكانة أمريكا كخطوة أولى قبل إزاحتها وإما أن تقبل بها أمريكا شريكا دوليا حقيقيا وليس صوريا في إدارة شؤون العالم أو على الأقل بعض شؤونه مع إعترافها بالمجال الحيوي لروسيا.
إلا أن مزاحمة روسيا لأمريكا في الموقف الدولي ليس أمرا سهلا ولا سريع الإنجاز. ذلك أن الحصار الجيوستراتيجي (توسع الناتو شرقا) والحصار العسكري (مشروع الدرع الصاروخي) الذي تفرضه أمريكا ولازالت على روسيا قد وضع موسكو في مأزق كبير: فإما أن تفك هذا الحصار بالتصدي الجدي له وإما أن تعتبره أمرا واقعا وتتكيف معه وتكتفي من حين لآخر بإصدار إحتجاجات لفظية لا ترقى إلى مستوى تصرفات الدول الكبرى ومن باب أولى أن لا تحدث أي تهديد فعلي لأمريكا أو مصالحها أو مصالح حلفائها الأوروبيين. والظاهر أن التهديدات الروسية الأخيرة والسابقة بإستعمال قدراتها العسكرية للتصدي لمنظومة الدفاع الصاروخي الذي تعتزم أمريكا نشرها في بولندا والتشيك، وإن كانت تعبر فعلا عن ضيقها من الحصار الأمريكي المفروض حولها إلا أنه لا يمكن القول أن روسيا لا تسعى للوقوف بوجه أمريكا؛ وإن كان هذا السعي يتم بخطى بطيئة بسبب الجو الدولي الذي شحنته أمريكا ـ وأوروبا الغربية من ورائها ـ بشعارت الحرب على الإرهاب وحقوق الإنسان والحريات العامة وإقتصاد السوق.
أما الدلائل على صحوة الدب الأبيض فإن روسيا اليوم قد تجاوزت مرحلة التيه التي نتجت عن سقوط الإتحاد السوفياتي وحكم بوريس يلتسين. وهي اليوم ـ وبعد ثماني سنوات من حكم بوتين ـ قد نجحت في ترتيب شؤونها الداخلية وظهر ذلك خاصة في القضاء على عملاء الغرب وعودة هيبة الدولة والتحكم بثرواتها القومية ونشاط الماكينة العسكرية الروسية. ولقد جاء خطاب بوتين السنوي للبرلمان في 10/05/2007 ليؤكد على تحول روسيا من مرحلة "الإصلاح والتطهير" لما أفسده بوريس يلتسين، الذي تزامن إعلان موته مع خطاب بوتين، إلى مرحلة "التنمية والتنافس". لقد طالب بوتين في خطابه أن تسعى روسيا لتحقيق الأمور التالية حتى تتكمن من النجاح في تحقيق التنمية الداخلية والتنافس الدولي:
1 ـ التوجه نحو إقتصاد المعرفة بإعتباره هدفا إستراتيجيا للتنمية الإقتصادية.
2 ـ التركيز على اللغة الروسية والقيم التقليدية لروسيا كمناوئ لمن له ميول غربية.
3 ـ تسخير جزء من إيرادات النفط لحل القضايا الاجتماعية وخاصة التراجع في حجم السكان.
4 ـ تعظيم دور الدولة في الإقتصاد بإعتبارها "مستثمرا حكوميا" ممثلا بعدد من الشركات الوطنية.
5 ـ إستمرار العمل في إنشاء نظام سياسي جديد يعتمد على القوى السياسية التي تقبل مبادئ السياسة الجديدة. أما القوى التي ترفض ذلك فسوف يتم تقييد نشاطها السياسي ولن يسمح لها بدخول المؤسسة الحاكمة.
6 ـ مراجعة روسيا لعلاقاتها مع الغرب وبلدان الجوار إدراكا منها أن الضغط الخارجي عليها قد يكون عاملا دائما.
وهكذا بعد أن حصنت روسيا نفسها من الغزو الداخلي بالقضاء على المافيات السياسية والمالية ذات الإمتدادات الخارجية وبعد أن رتبت شؤون بيتها ببناء قاعدة شعبية (كسب الرأي العام الداخلي لصالح سياسات بوتين وجماعته) وسياسية (نجاح حزب "روسيا الموحدة" الداعم لبوتين في الإنتخابات البرلمانية والرئاسية) وإقتصادية (التحكم بالثروة القومية ودعم الرأسمال الوطني)، وهذه أمور لازمة للنهوض والتنمية، بعد كل هذا قام بوتين بسلسلة من الإجراءات والتحركات الدفاعية للوقوف بوجه سياسةَ أمريكا الواضحةَ جداً في تَطْويق وإضْعاف روسيا، كما إتخذ بوتين مواقف سياسية تصاعدية علنية ضد النهج الأمريكي في الهيمنة على العالم والإستفراد بحل الأزمات الدولية. وقد إرتكز بوتين في العودة بروسيا إلى الواجهة الدولية من جديد على أربعة ركائز هي، تقوية الوضع الداخلي والتقارب مع الصين ووضع سياسة عسكرية جديدة والتحكم بعماد الثروة القومية أي النفط. وقد تناولنا فيما سبق الركيزتين الأوليتين (إصلاح الوضع الداخلي والتقارب مع الصين) وسنعمد الآن إلى معالجة الركيزتين الأخيرتين (وضع سياسة عسكرية جديدة والتحكم بالثروة النفطية) الذين مكنا وسيمكنان روسيا على المدى الطويل من الوقوف الجدي بوجه أمريكا ومشاريعها الإقليمية والدولية.
أ ـ السياسة العسكرية:
بعد إنهيار الاتحاد السوفييتي مارست الولايات المتحدة بقيادة جورج بوش الأب ضغوطا بالغة الشدة على روسيا لإجبارها على الإلتزام بخفض تسلحها النووي (إتفاقية ستارت ـ 2) وضمان عدم تسرب العلماء والتكنولوجيا والمواد النووية من روسيا (وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة) إلى دول أخرى، وخاصة إلى تلك التي تسميها أمريكا بالدول المارقة أو محور الشر. كما قامت أمريكا بالضغط السياسي على روسيا من أجل إجبارها على سحب قواتها العسكرية وإغلاق قواعدها من دول حلف وارسو السابق بأسرع ما يمكن. وعندما جاءت إدارة كلينتون الديمقراطية إلى الحكم واصلت ما بدأه الجمهوريون من سعي حثيث لتوسيع حلف الناتو بإتجاه الشرق، وهو ما تم في سياقه إلتحاق التشيك والمجر وبولندا بالحلف. كما واصلت إدارة كلينتون جهود إدارة بوش الأب في السعي إلى عزل روسيا ليس فقط عن دول أوروبا الشرقية بل وأيضا عن الجمهوريات السوفييتية السابقة في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى. وكان طبيعيا أن تؤدي محاولات عزل روسيا وإضعاف مكانتها الدولية والإقليمية والتدخل في شؤونها الداخلية إلى شعور عميق بجرح الكرامة القومية لدى أغلبية الروس، وخاصة في صفوف المؤسسة العسكرية وقطاع واسع من النخبة السياسية.
وهكذا بدأت تتصاعد في موسكو خلال السنوات الأخيرة من حكم يلتسين الدعوات إلى وقف تبعية روسيا للولايات المتحدة بل وتعالت الأصوات بتحدي محاولات أمريكا للهيمنة على العالم تحت إسم النظام العالمي الجديد. وعندما وصل بوتين إلى الحكم، بعد أن عقد صفقة مخابراتية مع يلتسين، وجد الأجواء الداخلية في روسيا مهيئة لإتخاذ مواقف وتصورات أكثر وضوحا تجاه المصالح الإستراتيجية لروسيا عما كان عليه الحال أيام يلتسين. وهنا تزايدت المطالبات في روسيا بإعادة النظر في دور القوات المسلحة كلها، وتعديل مخططات ومسارح العمليات، وإقامة بنية تحتية عسكرية إضافية، بل وإعادة نشر قوات عسكرية كبيرة على أطراف الإتحاد السوفياتي السابق. وبعبارة أخرى شجع وصول بوتين إلى الحكم "الصقور" في روسيا سواء كانوا من السياسيين أو من العسكريين أو من الخبراء على مطالبة الرئيس الجديد بعسكرة السياسة الروسية وإعادة توجيهها نحو المجابهة مع أمريكا أو على الأقل التصدي لها وللغرب عموما تحت شعار "الدفاع عن المصالح القومية لروسيا العظمى".
ومما ساهم في غلبة الإتجاه القومي الوطني على الصعود أنه منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي في 1991، وترسانة روسيا الإستراتيجية النووية في تدهورَ حاد مقارنة بسعي أمريكي حثيث لتحقيق سبق نووي عالمي من خلال برنامج الدفاع الصاروخي (الطبعة الجديدة من مشروع حرب النجوم الريغاني). كما أن حصّة روسيا في الميزان الكلي للتسليح في أوروبا قلت بمقدار أربع مرات عما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي. فقبل تفتت هذا الإتحاد بقليل كانت قوة روسيا حتى عام 1989 تفوق ثلاث مرات قوة حلف شمال الأطلسي، أما بعد ذلك فقد وصل الحال بروسيا عام 2003 أن تشتري من أوكرانيا مفجّري قنابل إستراتيجية وصواريخ بالستية عابرة للقارات. هنا أدركت كل من وزارة الدفاع الروسية وقيادة الأركان العامة أن إهمال القوى النووية والسير في بناء قوى تقليدية وإن كانت كبيرة بحجة ترشيد الميزانية أمر لا يخدم أبدا مصلحة الأمن القومي الروسي.
ومنذ ذلك الحين، أعطت روسيا أولويتها القصوى لإعادة بناء قواتها النووية الإستراتيجية، وساعدها في ذلك إرتفاع مداخيلها مِنْ صادراتِ الغازَ والنفطَ، بعد أن بات المصرف المركزي الروسي أحد أكبر خمس بنوك مركزية في العالم يحتفظ بالدولارِ، بإحتياطيات تفوق أكثر مِنْ 270 بليون. كما أن صادرات الأسلحةِ، بالإضافة إلى النفطَ والغازَ، تعتبر أحد أفضل الطرقِ لروسيا في كَسْب العملة الصعبةِ المطلوبة بشدّةِ لإقتصادها القومي وأمنها الإستراتيجي؛ إذ تحتل روسيا الآن مرتبة ثاني أكبر مصدّرِ عالميِ للتكنولوجيا العسكريةِ بعد الولايات المتّحدةِ. ولذلك ورغم أن الجيش الروسي وقواته الجوية والبحرية تعرضت للإهمال بعد سقوط الإتحاد السوفياتي إلا أن عناصر النهوض العسكري لروسيا ما زالت موجودة. فروسيا لم تتوقف أبدا ـ بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ـ عن إنتاج أحدث التقنياتِ العسكريةِ التي تقدمها في معارضِ التجارة الدوليةِ المُخْتَلِفةِ، رغم الصعوباتِ الماليةِ والإقتصاديةِ التي مرت بها سابقا. وبعبارة أخرى فإن روسيا لا زالت تملك تكنولوجيا المعرفة الخاصة بإنتاج وتصنيع الأسلحة بكل أنواعها.
وهكذا وبناءا على وعي روسيا لواقعها العسكري، وبعد ثلاث سنوات من حكم فلادمير بوتين، طالب هذا الأخير في خطابه للبرلمان عن حالة الأمةِ في ايار/مايو 2003، بوجوب تَقْوِية وعَصْرَنَة رادعِ روسيا النووي بإنتاج أنواعِ جديدةِ مِن الأسلحةِ، خاصة منها الإستراتيجية، بما يضْمن "قابلية الدفاعَ عن روسيا وحلفائها في المدى البعيدِ". كما توقّفت روسيا عن سحب و تدمير صواريخ إس إس ـ 18 مرفيد ( SS-18 MIRVed )، ما أن أعلنتْ إدارة بوشَ ـ من طرف واحد ـ نهاية إلتزامها بمعاهدة منع إنتشار الصواريخ البالستيّةِ وإلغاءها بحكم الأمر الواقع معاهدة (ستارت 2) الخاصة بتخفيضِ الأسلحةِ الإستراتيجيةِ. بل وأعلنت روسيا تراجعها عن الإلتزام بهذه المعاهدة وإيقاف التفاوض حول (ستارت ـ 3) الخاصة بتقليص التسلح النووي. ويذكر هنا أن مصادقة البرلمان الروسي على معاهدة (ستارت ــ 2) في ربيع عام 2000، قد ربط بوتين ـ بعيد وصوله للحكم ـ البدء في تنفيذها بإلتزام الولايات المتحدة بالتوقف عن مشروعها في إقامة درع الصواريخ المضادة للصواريخ النووية. لقد أدرك بوتين وجماعته أن هدف أمريكا من الانفاق الهائل في البلدان المحيطة بروسيا التي تعتبر القلب النابض لأوراسيا ليس فقط للسيطرة على النفط بل أيضا وهذا الأهم تحويل روسيا ـ بشكل دائم ـ إلى دولة ضعيفة والتحكم بوصولها إلى البحار وإلى الصين.
وتوالت بعد ذلك توجيهات بوتين بضرورة أن يكون الجيش الروسي "قادرًا تمامًا على الرد على نحو ملائم على التهديدات المعاصرة"، بحيث وكما قال ـ في خطابه السنوي للبرلمان عن حالة البلاد في ايار/مايو 2006 ـ "ينبغي أن نكون قادرين على رد أية محاولات من أي شخص لفرض ضغوط على روسيا في شؤون السياسة الخارجية، لتعزيز مواقفهم على حسابنا". ومع ذلك فقد أكد بوتين أن روسيا "لن تكرر أخطاء الاتحاد السوفيتي السابق بالإسراف في الإنفاق على الجيش على حساب قطاعات الإقتصاد الأخرى"، . وهذا يعني أن روسيا وعت تماما الفخ الإستراتيجي الذي وقع فيه الإتحاد السوفياتي عندما تسابق مع أمريكا في مشروع حرب النجوم إبان حكم ريغان، وهي لن تكرر الخطأ نفسه. فقد صرح بوتين في مقابلة أجرتها معه وسائل إعلام من مجموعة الدول الثماني الكبرى قبل إنعقاد قمة المجموعة قائلا: "أنا ضد أي سباق للتسلح. لقد إستفدنا من تجربة الإتحاد السوفيتي ولن ننجر إلى سباق التسلح الذي يفرض علينا. سنرد بطرق ووسائل أخرى لا تقل فعالية. وهذا ما يسمى بالرد غير المماثل". وأكد أن روسيا ستقوم ببناء منظومات أخرى أقل تكلفة ولكنها تتمتع بما يكفي من الفعالية لتجاوز منظومات الدفاعات المضادة للصواريخ لتحافظ بهذا الشكل على توازن القوى في العالم. وشدد على أن روسيا ستواصل السير على هذا النهج في المستقبل أيضا.
أما أهم "الإجراءات الملائمة" التي إتخذتها أو ستتخذها روسيا إذا ما سارت أمريكا في نشر عناصر النظام الدفاعي الصاروخي الأمريكيِ الجديدِ في بولندا والتشيك، فيمكن ذكر الإجراءات التالية:
1 ـ قامت روسيا بزيادة ميزانيتها الدفاعية بشكل كبير، وساعدها في ذلك إرتفاع مداخيلها من تصدير النفط و الغاز . ويتوقع لهذه الميزانية أن تقفز بنسبة 23 في المئة خلال العام 2007 وما يليه لتصل إلى 32.4 مليار دولار، محققةً بذلك إرتفاعاً قياسياً في الإنفاق الدفاعي في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
2 ـ كشف وزير الدفاع الروسي سيرجي إيفانوف ـ في مستهل شباط/فبراير 2007 ـ النقاب عن برنامج لإعادة تسليح وتحديث القوات المسلحة الروسية، تصل تكاليفه إلى 189 مليار دولار، ويتم من خلاله إستبدال نصف كمية المعدات والأسلحة الروسية الحالية في موعد لا يتجاوز عام 2015. ومن ضمن المعدات التي ستحصل عليها تلك القوات شبكة رادار للإنذار المبكر مجددة بالكامل، وصواريخ جديدة عابرة للقارات، وأسطول من قاذفات "تي يو- 160" الإستراتيجية الأسرع من الصوت و31 سفينة جديدة من بينها حاملات طائرات.
3 ـ عرض الرئيس السابق بوتين ـ في شهر كانون ثاني/يناير 2007 ـ على الهند الدخول في شراكة لإنتاج نسخة المستقبل من "الجيل الخامس" من الطائرات المقاتلة التي يعكف المصممون الروس على تطويرها في الوقت الراهن، والتي يمكن أن تصبح جاهزة للطيران خلال فترة وجيزة لا تتجاوز عام 2009. وأمريكا هي الدولة الوحيدة حالياً التي تمكنت من نشر طائرات مقاتلة نفاثة من هذا الجيل الأسرع من الصوت والأغلى سعراً في العالم ، والتي تتميز بقدرات فائقة في مجال التخفي والمناورة وقدرات الكشف الإلكتروني. وتبلغ قيمة الطائرة الواحدة والتي يطلق عليها إسم "إف/ آيه 22 رابتور" مقدار 260 مليون دولار.
4 ـ وزيادة على رفع ميزانية الدفاع وتحديث أسلحة الجيش وإنتاج جيل جديد من الطائرات المقاتلة ذكر فلادمير بوتين في مؤتمر صحفي عقده في كانون ثاني/يناير 2007 أن "روسيا لا تخشى منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية، لأن منظومة الصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات الجديدة من طراز (توبول- إم) تتمتع بقدرات هائلة على التخفي تمكنها من إختراق الدرع الصاروخي الأميركي، وأن روسيا تعمل على إنتاج جيل جديد من تلك الصواريخ قادر على جعل منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية عاجزة".
5 ـ هدد الرئيس السابق فلاديمير بوتين في المقابلة التي تمت مع عدد من الصحفيين الأوروبيين قبيل قمة الثمانية بتوجيه صواريخ روسية تجاه أهداف في أوروبا في حال إستمرار الولايات المتحدة ببناء نظام الدرع الصاروخي في دول أوروبية. فقد نقلت صحيفة كورييري ديلا سيرا ـ وهي كبرى الصحف الإيطالية ـ عن بوتين قوله "إذا إتسعت القدرات النووية الأميركية عبر أراض أوروبية فسنحدد أهدافا جديدة لنا في أوروبا. وعلى قادتنا العسكريين تحديد هذه الأهداف وكذلك الإختيار بين الصواريخ البالستية والصواريخ العابرة للقارات".
6 ـ أعاد الأسطول البحري الحربي الروسي ـ بعد إنقطاع طويل ـ تواجده الدائم عبر المحيطات من خلال تنفيذ رحلات للقطع البحرية الروسية إلى شمال شرقي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. والهدف من هذه الرحلات، كما أعلن عن ذلك وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف في تقرير قدمه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو "تأمين التواجد البحري العسكري الروسي الدائم وتوفير الظروف الأمنية لملاحة السفن الروسية"،. وفي أواسط اب/أغسطس من العام 2007 استأنف سلاح الطيران البعيد المدى الروسي طلعاته الإستراتيجية للقاذفات العملاقة القادرة على حمل أسلحة نووية بهدف القيام بالدوريات الجوية في مناطق العالم النائية عن روسيا والتي انقطعت في التسعينات من القرن الماضي.
7 ـ إيقاف روسيا بتاريخ 12/12/2007 العمل بإتفاقية القوات التقليدية في أوروبا الموقعة رسميا في باريس في 19 تشرين ثاني/نوفمبر 1999 من قبل الدول الأعضاء في حلفي وارسو والأطلسي؛ وهو مّا يوجّه ضربة قاسية للتحكّم في التسلّح في أوروبا. وقد نص الإعلان الروسي على تطبيق قرار التعليق بسبب ما وصفته القيادة الروسية "بالظروف الاستثنائية التي تؤثر على الأمن القومي وبشكل يتطلب إتخاذ إجراءات فورية". وهذا فيه إشارة واضحة إلى برنامج الدرع الصاروخي الذي تعمل الولايات المتحدة على إقامته في بولندا والتشيك، بعد أن إنسحبت أحاديا من إتفاقية حظر الصواريخ البالستية التي تمنع كلا من روسيا والولايات المتحدة من إنشاء أنظمة دفاعية جديدة.
8 ـ أما أهم إجراء أو بالأحرى إختبار نوايا وفضح لمخططات أمريكا من وراء الدرع الصاروخي فهو ما أعلن عنه بوتين نفسه في قمة الثمانية بمنتجع هايليغيندام في ألمانيا. فقد عرض بوتين (رغم إدراكه أن أمريكا لن توافقه على ذلك) إقامة قاعدة رادار أميركية روسية مشتركة في منطقة غابالي بأذربيجان لتطوير درع صاروخية يمكن أن تغطي كل أنحاء أوروبا. وقال الرئيس بوتين في ختام لقائه مع بوش على هامش القمة: "إتفقتا مع جورج بوش على أن يباشر خبراء من البلدين العمل في هذا المجال في أسرع وقت ممكن. وستزيل مثل هذه الخطوة ضرورة نشر منظومات الصواريخ الروسية الضاربة قرب الحدود الأوروبية، ونشر عناصر من المنظومة الأمريكية للدفاعات المضادة للصواريخ في الفضاء. وآمل أن لا تستخدم هذه المحادثات كستار لبدء خطوات أحادية الجانب". وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجددا على هذا المعنى في ختام لقاء قمة جمعه مع نظيره الأميركي جورج بوش في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود معارضة روسيا للدرع الصاروخية الأميركية، لكنه أبدى إهتماما بمنظومة دفاع صاروخي تشارك فيها موسكو وأوروبا وواشنطن. وجاء في بيان مشترك للرئيسيين أن الجانبين إتفقا على "إطار إستراتيجي" للتعاون، وأن روسيا تشاطر الولايات المتحدة "الاهتمام بإنشاء نظام رد" على تهديدات الصواريخ، وتحدث بوتين عن شراكة روسية أميركية أوروبية محتملة في هذا المجال.
9 ـ وبالإضافة إلى كل الإجراءات السابقة قامت روسيا منذ وصول فلادمير بوتين إلى الحكم بتعديل عقيدتها الأمنية التي باتت تتيح لها حق إستخدام السلاح النووي تحت أي ظرف وليس فقط عند الضربة النووية الشاملة. فوثيقة الأمن القومي التي أعدت في عهد بوتين عام 2000 تسمح باستخدام القوة النووية ضد أي إعتداء، صغيرا كان أم كبيرا، حتى ولو لم يهدد وجود وكيان الدولة. كما أن هذه المهمة تتضمن الاستخدام المحدود للقوة النووية مقارنة مع الضربة النووية الشاملة ردا على أي هجوم واسع النطاق كما ورد في وثيقة 1997. ومن أهم الفقرات المتصلة بالسلاح النووي الواردة في المفهوم الجديد أن "من أولويات مهام الإتحاد الروسي توفير الرادع الذي يمنع شن أي إعتداء بما في ذلك الإعتداء النووي على روسيا وحلفائها"، كما "يجب على الاتحاد الروسي إمتلاك الأسلحة النووية القادرة على إلحاق الضرر بأي دولة معتدية أو تحالف من الدول المعتدية تحت أي ظرف كان". ولتطمين أوروبا وأمريكا أشارت وثيقة الأمن القومي الروسي إلى أن الاعتماد على السلاح النووي تحت أي ظرف يبقى إجراء مؤقتا إلى حين إستكمال جميع الخطط والإصلاحات لتطوير وتحديث القوات التقليدية...
إن كل هذه الإجراءات التي إتخذتها روسيا في عهد فلادمير بوتين أو ستتخذها في عهد ديميتري ميدفيديف لم تكن لتوجد أصلا لولا توفر الإرادة السياسية عند القادة الروس أولا وحسن التصرف في مداخيل الإقتصاد الروسي وإعادة توظيفه في مجال الأمن القومي الإستراتيجي ثانيا. وهنا يعتبر النفط من أهم الأدوات الإقتصادية والسياسية التي أحسن الروس إداراتها في معركتهم مع الولايات المتحدة.
ب ـ السياسة النفطية:
عملت الولايات المتحدة منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي على محاولة إقصاء روسيا من مسار أنابيب النفط والغاز المتجهة غربا إنطلاقا من بحر قزوين. ولذلك وبعد إستقلال دول آسيا الوسطى عن الإتحاد السوفياتي كثفت أمريكا من حملاتها الدبلوماسية والسياسية لإقناع هذه البلدان بفتح حقولها أمام إستثمارات الشركات النفطية الغربية والأمريكية منها خاصة. ومما ساعد أمريكا على الدخول إلى هذه المنطقة هو إفتقاد أهلها بما فيها روسيا (في ذلك الوقت) إلى رؤوس الأموال والتكنولوجيا اللازمة لعمليات البحث والتنقيب عن الموارد النفطية والغازية. ويمكن إرجاع أسباب إهتمام أمريكا باعادة هيكلة وتأهيل القطاع النفطي لآسيا الوسطي وبحر قزوين إلى سببين رئيسيين. أولا: سعي الولايات المتحدة إلى تقليص إعتمادها إلى أقصى حد ممكن على النفط القادم من