أبوحفص
17-07-2008, 10:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد "دشنت" الامة الاسلامية القرن العشرين و هي تعيش ازمة ثقة عميقة بنظام الاسلام ، تحولت باضافة العامل التاريخي - الاستعماري إلى ازمة هوية هددت كيان الامة وجوديا ، وعكست "العطب" العميق الذي طرأ على كيان الامة تدريجيا، و الذي تجلى بانحلال المجتمع الاسلامي لمجرد سقوط النظام السياسي الاسلامي - بعجره و بجره !! - و ها هي قد خرجت من هذا القرن الاقصر وهي تعاني جدلية نادرة في التاريخ : من جهة هي تعيش حالة حيرة حضارية ، إذ لم تستطع -بعد- أن تبلور هوية حضارية واضحة ، ومن جهة اخرى تتصاعد الصحوة الاسلامية في جنباتها بوتيرة سريعة .
وكأن حالة الامة الداخلية تلك لم تكن لتكفيها ، إذ ها هي أمريكا تعلن بنبرة تبشيرية مقيتة انها قدمت إلى العالم الاسلامي لتعيد تشكيله على الطريقة الديموقراطية ، في اطار ما صار يعرف في الادبيات السياسية بمشروع الشرق الاوسط الكبير . وبالرغم من كل الغموض ، فإن الديموقراطية تستمر بالظهور دوما عند الحديث عن الشرق الاوسط الكبير . و يصبح ضروريا على الامة ، و على النخب الثقافية ، والاحزاب السياسية أن تحسم أمرها إزاء الديموقراطية كعملية قبلية لبناء موقف من مشروع الشرق الاوسط الكبير ، بل كجزء من تحديد الهوية الحضارية ، و رسم العلاقة مع الاخر .
كثيرا ما تم تناول ثنائية الاسلام - الديموقراطية على نحو يكشف اهمية التحديد النهائي لشكل المقارنة او العلاقة ، أهمية تعكس نفسها في السياسة المباشرة - سياسة يوم بيوم - كما هو الحال في سياسة بناء الامة - سياسة الفكر و الثقافة - ولسنا هنا في صدد سرد المواقف و المقاربات ، ببساطة لانها اتخذت كافة الاشكال الممكنة بين التحمس ، والفتور ، والحياد، والرفض . ولكننا نريد أن نطرح تلك الثنائية على السؤال المعرفي : هل تنبثق الديموقراطية معرفيا ، وبشكل تلقائي من الاسلام ؟ اي هل هي جزء اصيل من المنظومة المعرفية للاسلام ؟ و من ثم ، إن كانت الاجابة بالنفي ، هل يمكن أن نضع الديموقراطية مع ملحقات تلك المنظومة دون ان تقتضيها ذاتيا ؟ و اخيرا هل يمكن ان تتعايش الديموقراطية مع الاسلام دون المس باحدهما معرفيا ؟
إن دالة البحث هنا هي تحديد المعايير المعرفية للاسلام ، و بالتحديد الاجابة عن السؤالين الاتيين : ما هو مصدر المعرفة في الاسلام ، و كيف نحدد اسلامية المعرفة ؟ و لسنا بحاجة لجهد كبير للاجابة على السؤال الاول ، إذ ان الاسلام يقرر أن كل معرفة اخلاقية تتعلق بوجهة النظر في الحياة لا بد وأن يكون مصدرها الوحي ، وان اية معرفة من هذا القبيل لا يكون مصدرها الوحي فهي بالتعريف نقيض الاسلام ، أي كفر . هنا نرى ان الاسلام لا يمكن أن يكون حياديا تجاه أية مشكلة انسانية : المشكلة الفكرية ، والمشكلة الاقتصادية ، والمشكلة الاجتماعية ، بل وحتى المشكلة المعرفية قال الاسلام فيها قوله النهائي ، ووضع الخطوط العريضة لنظرية المعرفة في الاسلام . أما فيما يتعلق بالمعرفة التاملية الصرفة ، والتي يندرج تحتها اكتشاف الكون والانسان و الحياة ، وتفسيرها وصفيا - لا وجوديا - ، و استيلاد الاشكال المادية التي يسخر بها الطبيعة ؛ فإن الاسلام يطلق العقل التاملي على آخره في مجالها ، ولكنه لا يطلق المعرفة ، بل يحدد لها معياره الخاص ، وهو - مرة اخرى - ما اتي به الوحي .
و لاول وهلة يلحظ البعض ان ثمة مصادرة للعقل التاملي ايضا حين يضع الاسلام له معيارا للمعرفة ، و الاجابة تكمن في توضيح نظرية المعرفة في الاسلام بشكل كبسولي سريع . فالاسلام يرى بأن المعرفة من حيث هي لا بد ان تنتهي في مصادرها الاولى إلى تفاعل بين العقل و الوحي ، او بين العقل و الحس . وكل ما دون ذلك اعتبره الاسلام خرصا ، و في احسن الاحوال ظنا حيث لا يقبل الظن في مجال الحقائق ، لا سيما الحقائق الكبرى . فإن كان موضوع المعرفة يقع عليه الحس المباشر ، فإن المعرفة التي ينتجها العقل عندها - بحسب الاسلام - معرفة محايدة ، فلا معنى لقولنا علم الفيزياء الاسلامي ، او فن الملاحة الشيوعي .... في حين ان المعارف التي لا يقع موضوعها تحت الحس مباشرة يقدم الاسلام فيها الخطوط العريضة التي يباشر العقل على اساسها تكوين مفهومه الخاص - واشدد على الخاص - عنها . ومثال ذلك التاريخ ، فإن موضوع التاريخ من حيث تفسيره لا يقع عليه الحس مباشرة ، وإن كان يقع على جزء مهم منه . هنا يقدم لنا الاسلام اسس التفسير الاسلامي للتاريخ ، ويترك للعقل بعدها أن ينطلق . وهكذا في كل مجالات المعرفة الخاصة - الثقافة - بدرجات متفاوتة من التدخل و التاسيس .
ولعله من المفيد ان نستعير بعض الاصطلاحات لبلورة هذه المقاربة . فكل معرفة اخلاقية - عملية تتعلق بوجهة النظر في الحياة وبانظمة التشريع لا بد أن تنبثق انبثاقا عن العقيدة الاسلامية ، بحيث لا توجد ابتداء الا بالتاسيس على العقيدة الاسلامية . اما المعارف التاملية المحضة فإنها تبنى بناء على العقيدة الاسلامية ، أي تقاس عليها ، فما وافقها - وإن لم تات به - اعتبر معرفة اسلامية ، أو فكرا اسلاميا، وما خالفها يعتبر معرفة غير اسلامية - هكذا ببساطة - وما لم تدلي به العقيدة الاسلامية براي يعتبر معرفة محايدة . فمصدر المعرفة في الاسلام - إذن - هو الوحي و الحس . و معيار اسلامية المعرفة هو الانبثاق أو البناء .
ولا بد هنا من التشديد على انبثاق المعرفة عن العقيدة الاسلامية ، فلاجل أن تعتبر المعرفة الاخلاقية - العملية معرفة اسلامية لا بد أن تؤخذ بوصفها قد اتت بها العقيدة الاسلامية . فلا يكتفى بمجرد التشابه العرضي ، او حتى التشابه المطلق بين معرفة اخلاقية ما واخرى اسلامية لكي تدخل الاولى في نطاق الاسلام ، بل لا بد أن ياتي بها الوحي ، وأن تؤخذ على اساس انه قد اتى بها الوحي ، والا فإن الممارسة لا تخضع لفلسفة الاسلام عن الحياة ، التي نختزلها بمزج المادة بالروح عند القيام بالافعال . اي القيام بها مع التقيد بالحكم التي اتت به العقيدة الاسلامية ، اي انبثق عنها .
هكذا نكون قد تزودنا بما يؤهلنا للاجابة عن السؤال الاول : هل تنبثق الديموقراطية معرفيا ، وبشكل تلقائي من الاسلام ؟
متسلحين بالتنظير الذي أجريناه حول المعرفة في الاسلام نقول بكل ثقة أن الاجابة عن هذا التساؤل هي بالنفي قطعا . وبقطع النظر عن اية مقارنات قد يجريها البعض بين الديموقراطية من حيث قيمة ، ومن حيث هي جزء من الاديولوجية الغربية ، ومن حيث الشكل السياسي للفكرة العلمانية ، ومن حيث هي ممارسة سياسية ، وبين ما يقابل تلك الحيثيات في الاسلام ؛ بقطع النظر عن تلك المقارنات فإن الديموقراطية لا تقع تلقائيا ضمن منظومة الاسلام المعرفية ، لانها - ببساطة - لم تنبثق عن العقيدة الاسلامية بشكلها المعرفي المنظم ، ولا حتى في تفاصيلها التي يحلو للبعض أن يجمع ما "يشابهها" في الاسلام رغما عنها ليسمها بالديموقراطية ، او حتى بالنسخة الاسلامية عن الديموقراطية . في هذه المقاربة لم نكن مضطرين حتى للخوض في التفاصيل : هل الاسلام يعطي الحقوق السياسية للناس بناء على مواطنتهم ؟ هل الاسلام يجعل السيادة للناس ؟ هل الاسلام يقر بالمساواة السياسية ؟ ... بل مجرد كون الديموقراطية لم تأت بها العقيدة الاسلامية جعلها بالتعريف خارج منظومة الاسلام المعرفية .
قد يعترض البعض قائلين أن في المقاربة السابقة تبسيطا للامور ، ومحاولة لانهاء النقاش مبكرا ، حتى قبل أن نصل إلى التفاصيل ، متذرعين بأننا اسسنا البحث على استخدام المفهوم - مفهوم الديموقراطية كحزمة منظمّة من الافكار - أو عدم استخدامه في الاسلام ، وأنا قد تجاهلنا أن تفاصيل الديموقراطية ، بل وحتى اسسها المعرفية قد أتى بها الاسلام ، اي انها انبثقت عن العقيدة الاسلامية ، وإن كانت بحاجة للتنسيق و الاخراج لكي تاتي على صورة الديموقراطية في الاستخدام المعاصر . ولكي نرد على هؤلاء دعونا نطور النقاش قليلا بعد . ولكن قبل ذلك علينا أن نسقط أي ثقل ثقافي علق بالديموقراطية ، يحول دون النظر إليها معرفيا . فمثلا : بمجرد ورود لفظة الديموقراطية للاسماع فإن الاذهان تذهب إلى الانتخاب الحر للحكام ، او التعبير الحر عن الراي السياسي ، او احترام رأي الاكثرية . واخطر من ذلك وصف الديموقراطية على انها قيمة انسانية محايدة - كالصدق مثلا !! - ودون أن نتخلص من هذا الثقل الثقافي فإننا سنجنح على الدوام إلى اختراع صلات مفترضة بين الديموقراطية و الاسلام كي ندفع عن الاسلام شذوذا قيميا عن العالم الذي قبل بالديموقراطية ، وجعلها بمثابة بديهية اخلاقية - سياسية . ولا شك أن ذلك سيعطل أي عملية تفكير جدية لفهم الديموقراطية معرفيا ، وبالتالي تفكيك ثنائية الاسلام - الديموقراطية .
لابد لنا اذن أن نبحث عن المفاهيم الاساسية التي تتركب منها الديموقراطية ، إذ من السذاجة اعتبار الديموقراطية فكرة بسيطة غير قابلة للتحليل إلى عناصر أكثر اساسية . ومهما بحثنا عن تعريف أكثر دقة للديموقراطية فإننا لن نقع على ما هو اكثر بلاغة من تعريف الرئيش الامريكي ابراهام لنكولن للديموقراطية عندما قال أنها حكم الشعب للشعب و بالشعب . إن ما تنطوي عليه هذه الكلمات القليلة أمور عظيمة ، غيرت بحق مسار التاريخ ، ونهضت باوروبا وأمريكا ، وجعلت الحضارة الغربية سيدة العالم بلا منازع في القرنين الفائتين . ولكن ما الذي قصده لنكولن ؟ تقوم الديموقراطية معرفيا على أكثر خواص الحضارة الغربية التصاقا بها ، وهو مركزية الانسان الوجودية و الاخلاقية ، فكل شيء نسبي عدا الانسان ، كل شيء يقاس بالنسبة إلى الانسان : المعرفة ، الاخلاق وحتى الله !!! لاجل ذلك الزعم لا بد أن يكون الانسان هو المتصرف المطلق بمصيره . والانسان في العقل الغربي ليس مفهوما ينتظر التخلق او التعين، ليس جنسا ، الانسان هو الفرد الذي يعبر بفرديته الخاصة عن طبيعة الانسان ، الذي قدسها الغرب ، واعتبرها امرا مطلقا تتحدد الاشياء نسبة اليه . إذن فأكثر الاشياء اساسية في الديموقراطية هو مركزية الانسان الفرد ، وطبيعته التي حلت دراستها في العقل الغربي مكان اللاهوت الكنسي ، كما حل الخير البنيوي في طبيعة الانسان مكان الشر البنيوي الذي اسست له الكنيسة ، باعتبار الانسان وارث للخطيئة الاولى .
ثم تضع الديموقراطية الانسان في بيئة الجماعة ، وتتسائل ، كيف نعامل الانسان في هذه البيئة ؟ وتقدم الاجابة بحتمية حفظ كيان الانسان الفردي من تاثير الجماعة ، واتاحة المجال التام لكي يمارس فرديته الخيرة - بالفرض - وبالتالي سيادته المطلقة على ذاته وما يتعلق بها حصريا . ثم تتسائل : وماذا عن القانون ، ماذا عن الدولة ؟ وتقدم الاجابة بحتمية التنازل الجزءي - الطوعي من كل فرد عن شيء من فرديته وحريته حتى يتاح للدولة حماية حرية الافراد وفرديتهم و الحؤول دون السقوط في الفوضى الكلية ، في مقابل أن يتمتع الافراد ، كل الافراد بحق ممارسة السيادة الجماعية اي سيادة الشعب عبر الممارسة السياسية غير المباشرة ، اي التي لا تتعلق بادارة شؤون المجتمع مباشرة . ولكن كيف ؟ وتقدم الاجابة عبر الية الانتخاب المباشر و الحر لمن يتولى الشان العام سواء في تمثيل ارادة المجموع أو تنفيذ تلك الارادة، وعبر تاسيس التشكيلات السياسية ، حزبية و نقابية ... تقوم بمراقبة الدولة و محاسبتها .
ثم تتسائل الديموقراطية عن الحقوق ، كيف يحصل الفرد على حقوقه ، هل تكفل له انسانيته حقوقه ، ام أن انتساب الفرد للمجتمع وولائه للدولة هو الكفيل ؟ وتقدم لنا الاجابة في مذهبين ، احدهما طبيعي ، يرى ان حقوق الانسان هي حقوق طبيعية ، لا يتحصل عليها من طرف اخر ، وانما هي اتية في تركيبه ، اي ان حقوق الانسان تعرف بدرجة قدرته على ممارسة ارادته . والمذهب الاخر اقل ليبرالية يرى بان مواطنة الانسان هي التي تجعله اهلا لنيل حقوقه التي يعرفها المجتمع و تحميها الدولة . ويتفق الفريقان على اعتبار المساواة - سواء في الانسانية او في المواطنة - هي المعيار الوحيد لتوزيع الحقوق ، وان ليس ثمة معيار اخر يكفل للانسان ان يمارس ارادته دون ضغط من المجتمع و الدولة .
هكذا باختصار شديد ، بل شديد جدا نضع اسس الديموقراطية معرفيا . و يكتشف البعض لشدة دهشتهم ان لاشي مما ذكر قد اتى به الاسلام !!! هل يتناقض مع ما اتى به الاسلام ؟ نترك الاجابة عن هذا السؤال عند الحديث عن تساؤلنا التحليلي الثاني في هذه الاطروحة : هل يمكن أن نضع الديموقراطية مع ملحقات منظومة الاسلام المعرفية دون ان تقتضيها ذاتيا ؟ ولكن المقطوع به أن الاسس المعرفية للديموقراطية حسب التوصيف الاخير لم يات بها الاسلام ، اي لم تنبثق عن العقيدة الاسلامية ، ولا عن وجهة نظر الاسلام في الحياة ، ولا عن وجهة نظره عن الانسان . وهكذا نؤكد ما توصلنا إليه سابقا من كون الديموقراطية لا تاتي تلقائيا ضمن منظومة الاسلام المعرفية ، وهي بالتالي فكر كفر حسب الاسلام .
قد لا يشاركنا البعض وجهة نظرنا التحليلية السابقة حول الديموقراطية ، وهؤلاء غالبا ما ينتمون للتيار التوفيقي ، الذي يميل اصحابه بشكل عام للبحث عن "نقاط تقاطع" مع الاخر . ولسنا في صدد تقييم - او تقويم - منهج هؤلاء ، ولكننا نحب أن يشاركونا ما خلصنا إليه . ولغايات تفادي الاختلاف التحليلي ؛ فإننا سنتبنى طريقة اخرى لعرض خلاصتنا حول رفض الديموقراطية لاسباب معرفية . ولا نختلف مع أي كان في أن التناقض الصريح بين أي فكر أو حكم غير اسلامي المنشأ - كما شرحنا سابقا - وبين الاسلام يضطرنا للحكم بكونه فكر كفر أو حكم كفر ، وإن لم يتعلق بالعقيدة ذاتها ، إذ لا يجوز أن نتوهم أن خلع وصف الكفر على فكر ما أو نظام ما لا بد وأن يتعلق موضوعه مباشرة بالعقيدة الاسلامية ، بل كل ما لم تأت به العقيدة في مجال الاحكام - المعارف الاخلاقية كما شرحنا سابقا - هو من قبيل الكفر ، بقطع النظر عن الكيفية التي نحكم بها على كون المعرفة لم يات بها الاسلام : أكانت ما قدمنا له قبلا ، ام بملاحظة التناقض الصريح بينه وبين ما أتت به العقيدة الإسلامية ، ووقع تلقائيا ضمن المنظومة المعرفية للإسلام .
وقد اخترنا اسسا ثلاثة تقوم عليها الديموقراطية معرفيا لبيان تناقضها الصريح مع ما أتت به العقيدة الإسلامية : موضوع السيادة السياسية ، و الحقوق السياسية ، والمساواة السياسية . قد يعترض البعض على استخدام الوصف المعرفي لسمة هذه الاسس ، لكن البحث العميق يري فعلا أنها اسس معرفية ، وليست اسسا سياسية أو تاريخية ..... فالسيادة في الديموقراطية - بوصفها نظاما سياسيا- هي للشعب حصريا ، والمقصود بالسيادة هو انها ممارسة الارادة ، أي القيام بالفعل على الوجه الذي يمليه توجه القصد نحو ميل معين عند صاحب السيادة ، لا على اي وجه اخر . و معنى أن يكون الشعب هو صاحب السيادة المطلقة هو أن يمارس ارادته دون تتدخل أو تقييد من أي سلطة ما ، سواء اكانت سلطة اخلاقية كسلطة الدين ، او سلطة سياسية كسلطة الدولة ، او سلطة مادية كسلطة العسكر . ومعنى هذا أن يمتلك الشعب الصلاحية المطلقة في وضع القوانين ، و ايكال امرها لسلطة الدولة كي تقوم على تنفيذها بغية حماية حرية الافراد . وبقطع النظر عن الظرف التاريخي الذي أنتج فكرا كذا ؛ فإن الاساس المعرفي الذي اشتقت منه فكرة سيادة الشعب هو جعل الانسان الحر مصدرا للاخلاق ، وبالتالي مصدرا لتحديد الارادة و تقييدها ، وبالتالي أن يكون الانسان سيد نفسه عندما يقرر أي وجه يقوم بافعاله عليه ، أي أن يكون الانسان حرا من أي قيد غير ذلك الذي يمليه عليه ضميره الذي يعبر - حسب النظرة الغربية - عن الخير المطلق في الطبيعة الانسانية . فالعقل الغربي كما قدمنا يرى أن الانسان خيّر بطبيعته ، أي ان الخير بنيوي فيه ، فالانسان خيّر لان طبيعته خيّرة ، لا لأمر خارج عن تلك الطبيعة ، وأن الشر هو أمر عرضي طاريء ينتج عن تقييد الانسان ، و محاولة ترويض طبيعته واجبارها على ما ليس فيها . و من الطبيعي و الحال تلك أن يجيب العقل الغربي عن التساؤل الاعلى في المسالة الاجتماعية بجعل الانسان هو مصدر الاخلاق . فالسؤال الاهم في المسالة الاجتماعية هو حول مصدر الاخلاق الصحيح الذي يعين للانسان الخير الأكيد ، وبالتالي السعادة الفردية و الاجتماعية .
دعونا نفحص الكلام اعلاه لنرى تناقضه الصريح مع الاسلام . فأولا : القول بأن الإنسان خيّر بنيويا أي خيّر بطبيعته ، وما علينا لكي نرى الخير في كل تصرفاته إلا أن ندع له المجال كي يمارس ارادته التي يمليها عليه ضميره الخيّر ، يتناقض مع وجهة نظر الاسلام في الاخلاق في جوانب عدة . فالاسلام يرى بأن الطبيعة الانسانية محايدة اخلاقيا ، فليس الانسان خيّرا أو شريرا على نحو بنيوي ، ولا يمكن وصف طبيعته بالخير أو الشر الذاتي ، كما لا يمكن وصف طبيعة الكون مثلا بالخير أو الشر الذاتي ، على أن الانسان لكونه فاعل في الاشياء بخلاف الطبيعة الكونية ، فإن فاعليته تلك هي التي يقع عليها الحكم الاخلاقي ، وليس طبيعته . فإذن موضوع الاخلاق ليس واحدا عند الطرفين ، ففي حين يؤسس الغرب للديموقراطية اخلاقيا بأن يحدد موضوع الاخلاق في الطبيعة الانسانية ؛ يرى الاسلام أن الطبيعة الانسانية محادية اخلاقيا ، وأن موضوع الاخلاق هو افعال الانسان . فالانسان من وجهة نظر الاسلام فيه طاقات حيوية تتطلب الاشباع ، فإن اشبعها وفق نظام صحيح كان اشباعه هذا اشباعا خيرا ، وإلا فلا . قال تعالى :" ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها" . وقال "إنّا هديناه النجدين أما كافرا وأما شكورا" . هذا بالنسبة لموضوع الاخلاق ، اما من حيث مصدرها فإن الاسلام ليرفض بشكل قاطع أن يكون مصدر الاخلاق طبيعيا ، ويؤسس لذلك بطريقين ، اولهما : هو اعتبار الحكم الاخلاقي حكما شرطيا يخضع للظروف و الملابسات التي تكتنف الفعل - موضوع الاخلاق - ولا يخضع بحال لما تمليه الطبيعة الانسانية ، فالقتل مثلا واحد ازاء الطبيعة الانسانية ، اكان قتل المرتد ، او الكافر الحربي ، او الزاني الثيب ... أو قتل المسلم محرم الدم ، او المعاهد او المستامن ... لكن الحكم الاخلاقي ليس واحدا في حق المجموعتين . واختلاف الحكم ، مع اتحاد الواقع يكشف بشكل قطعي عن كون الحكم لا يتأتى بحال أن يكون ذاتيا ، أي من الفعل نفسه او من الطبيعة التي لا تميز بين الافعال حال اختلاف الحكم تجاهها ، بل لا بد أن يكون حكما موضوعيا يحدده أمر خارج عن الفعل نفسه ، وعن الطبيعة الانسانية . أما الطريق الثاني الذي يؤسس به الاسلام لرفض الطبيعة كمصدر للاخلاق ، فهو التحديد النهائي بأن المصدر الوحيد و المطلق للاحكام الاخلاقية هو الله تعالى . قال تعالى " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " والطاغوت هو المطاع لاسباب اخلاقية لغير سبب أمر الله بطاعته . وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " . وواضح أن الباعث على الحكم الاخلاقي في الاسلام لا يخضع للطبيعة الانسانية ، ولا حتى للمفردة العقلانية فيها ، إذ الاسلام يقرر أن الانسان قاصر عن التوصل للحكم الاخلاقي الصحيح ، لما في طبيعته من نقص و عجز واحتياج ، تدل على وجود جهة عليا على الانسان يرجع إليها الانسان لسد ما فيه من نقص و عجز و احتياج ، ومن جهة اخرى تفاوته و اختلافه و تناقضه عند وضع الاحكام الاخلاقية ، مما يدل على وجود جهة عليا مطلقة لا يعتورها تفاوت او اختلاف او تناقض ، تماما كما أن وجود الواحد و الاثنين ... يحكم بوجود اللانهاية ، فإن الاختلاف و التفاوت و التناقض في الأحكام الاخلاقية يحكم بوجود الملطق الاخلاقي . قال تعالى : "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا " وقال : " الا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " . على أن الديموقراطية ترى وفق رؤيتها السابقة بأن الاخلاق نسبية ، لا يمكن أن تحدد فيها نتيجة نهائية ثابتة ، بل هي خاضعة للتفاعل الخاص بين الطبيعة الانسانية ، والظرف الذي يعيشه الانسان ، فما يراه عمرو خيرا ، قد يراه زيد شرا مستطيرا . وهي بذلك تدعو إلى نسبية الاخلاق التامة ، والتي ينتج عنها سياسيا التبدل الدائم في مجال القوانين و الانظمة . في حين أن الاسلام يرى بأن الاخلاق مطلقة ، لا يجوز أن تتغير بتغير الظروف ، او اختلاف الاشخاص أو البيئات .
على أن ارادة الانسان ذاتها مقيدة بقيد الطبيعة الانسانية ذاتها ، فهل ثمة معنى لان يمتلك الانسان ارادة احالة المستحيل إلى ممكن - مثلا - ؟ فلا بد إذن أن القيد الطبيعي ذاته يدفع بالانسان إلى الشر وفق التفسير الغربي للاخلاق ، وهو يتوق بطاقته الفكرية إلى ما وراء حدود طبيعته !! ثم إن قصر الانسان على ما لا تمليه عليه طبيعته إن كان فيه تحويل هذه الطبيعة عن خيريتها المفترضة ، فإذن ليست طبيعة الانسان خيرة ذاتيا ، إذ كيف تمس الطبيعة بالتغيير ؟ لا بد وانه التفكير الطفولي الذي راود مؤسسي الفكر الغربي !!! . ثم إن نسبية الاخلاق تحكم بأن تكون خاضعة للقياس نسبة لأمر اخلاقي مطلق ، فوجود النسبي الاخلاقي يحكم قطعا بوجود المطلق الاخلاقي !!! ، اضافة إلى كون الاخلاق ذاتها مقياس تخضع له الافعال ، ولا يجوز أن تخضع ذاتها للقياس . كل هذا يؤكد - بعجالة - على نقص النظرية الغربية حول الاخلاق .
هكذا إن نكشف عن التناقض المعرفي الاول بين الاسلام والديموقراطية : فالديموقراطية تجعل السيادة للشعب ، في حين يمنع ان تكون السيادة لغير الشرع ، ويعتبر ذلك كفرا صراحا .
أما عن الحقوق السياسية ، فإن الديموقراطية يؤسس لها في هذا الجانب بمذهبين : الاول يرى أن الحقوق طبيعية ، يمتلكها الانسان الفرد لكونه انسانا ، ولا يحوزها باللجوء إلى طرف أخر غير فرديته الخاصة . وهي بهذا المعنى قدرة الانسان على ممارسة ارادته الحرة ، فلسيت الحقوق الانسانية سوى تعبير عن حريات الانسان ، وهي حرية الفكر ، وحرية الراي ، وحرية التملك ، والحرية الشخصية . فلا الدولة ، ولا المجتمع ، وبالتاكيد ليس الدين هو الذي يعرف الحقوق ، بل طبيعة الانسان الفرد هي التي تعينها . و المذهب الاخر يرى بأن الانسان يحوز حقوقه السياسية عن طريق مواطنته ، أي انتسابه للمجتمع وولائه للدولة ، فالمجتمع هو الذي يعرف الحقوق ، ويعطيها لمن ينتسب إليه ، والدولة تحمي هذه الحقوق . على أن المذهب الاخير لا يختلف كثيرا في تعريف هذه الحقوق عن المذهب الاول ، فهو يرى بأن هذه الحقوق هي عين الحريات العامة انفة الذكر ، إلا انه يرى بأن هذه الحقوق ليست طبيعية ، وإنما يختار المجتمع الديموقراطي أن يعطيها لافراده وفق فكرة التعاطف empathy أي تساوي الجميع اخلاقيا قياسا على ما يتوق إليه الانسان لذاته .
وهنا ايضا تتناقض الديموقراطية مع الاسلام ، فالاسلام يرى بأن الحق من حيث هو يعطيه الله للانسان بوصفه خالقه ومالك امره ، فهو الذي يعرفه ابتداء ، وهو الذي يعطيه للانسان ، فلا يمتلك الانسان حقوقه طبيعيا ، ولا يعطيه اياها المجتمع ، بل يعرفها الله ، ويعطيها للعباد ، فحق الحياة مثلا يعطيه الله للعباد بتحريم قتل النفس المحرمة ، و يخلعه عمن يستحق القتل منهم . وحق التملك يعطيه بإباحة الملكية الفردية ، وتحريم السرقة ، والتأميم ... و يخلعه عن السفيه مثلا ... و حق التقدم للمناصب العامة في الدولة يمنحه الله للمسلمين للذكور الاحرار العدول البالغين من اهل الكفاية ، ويخلعه عمن لا يحقق هذه الشروط ..... وهكذا . فالحقوق إذن يعرفها الله ، ويعطيها للعباد أو يحرمهم منها وفق ما جاء به نظام الاسلام .
بقي موضوع المساواة السياسية بين الديموقراطية و الاسلام . و تسعف البعض قدرتهم على المراوغة اللفظية ، فيما يقبع وراءها استلاب ذهني للاخر الغربي ، و يسارع للقول بان الناس سواسية كاسنان المشط في محاولته للتاكيد على المساواة السياسية التي يعطيها الاسلام للرعية . و الحقيقة أن ثمة مغالطة كبيرة في اسقاط التساوي في الانسانية على موضوع اخلاقي كالمساواة السياسية من حيث الحقوق و الواجبات . فصحيح ان الاسلام ينظر إلى الانسان بوصفه الانساني لا باي وصف اخر كالوصف الاثني او الجنسي ... بمعنى انه يعالج الانسان من حيث هو ، و لايحفل للاختلاف الاثني او الجنسي ، وهذا واضح في اعلان الاسلام الاحتفالي بالانسانية المعذبة تحت وطئة التهميش و الاطضهاد الاثني او الجنسي ؛ تحت مفهوم لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى ، وإن اكرمكم عند الله اتقاكم . و لا تطول هذه المساواة في الانسانية موضوع الحقوق و الواجبات ، مرة اخرى لان الطبيعة الانسانية ليست هي موضوع الاخلاق ، وليست مصدرا لها من وجهة نظر الاسلام، كما ان الاخلاق شرطية تخضع للظروف و الملابسات التي تحيط بالفعل ، وليست ذاتية في الفعل حتى تعطى الاحكام الاخلاقية واحدة دون النظر إلى ما يساورها من ملابسات خارجية . و بالتالي في حين تجعل الديموقراطية الحقوق و الواجبات السياسية على السواء لجميع الرعايا ، فإن الاسلام ينوعها وفق فهم خاص للتنظيم السياسي . فليس من حق كائنا من كان في الدولة الاسلامية أن يتولى منصب الخلافة مثلا ، و ليس من واجب اهل الذمة ان يشاركوا الدولة فتوحاتها ، وفي حين يعطي الاسلام حق المحاسبة - مثلا - لاعضاء مجلس الشورى المسلمين ، فإنه يحصره في شان الجؤار او التظلم للاعضاء غير المسلمين . و في حين يوجب الزكاة على الرعايا المسلمين بوصفه عبادة اسلامية ، فإنه لا يوجبها على غير المسلمين ، وانما يوجب عليهم الجزية . و الاهم من ذلك و الاخطر في موضوع تاسيس الاحزاب السياسية ، و مراقبة الدولة و محاسبتها بشكل عام مفتوح ، فإنه يعطي للمسلمين وحدهم هذا الحق ، و يعطيهم اياه مقيدا وفق العقيدة الاسلامية ، فلا يجوز مثلا قيام احزاب غير اسلامية ، اي لا تقوم على اساس العقيدة الاسلامية ، و لا يجوز مثلا محاسبة الدولة على تطبيق حكم شرعي معين يتناقض مع نظرة غير اسلامية ما . كما ان الاسلام يحصر حق الرعاية العامة الدائمية في دائرة الدولة و تشكيلاها ، ويمنع جهات غير حكومية من القيام باعباء الدولة ، في حين تعطي الديموقراطية وفق فكرة المساواة السياسية للنقابات مثلا حق الرعاية العامة . و في حين تعطي الديموقراطية "حق" نقد الدولة و محاسبتها تاسيسا على كون الافراد جميعا متساوون في المسؤولية السياسية ، فإن الاسلام يوجب على المسلمين ايجابا أن يحاسبوا الدولة ، كما يوجب عليهم الثورة على الحاكم إذا حكم بالكفر . هكذا إذن يتناقض الاسلام مع الديموقراطية في موضوع المساواة السياسية .
بهذا نكون قد اجينا عن تساؤلنا الثاني في هذه المقالة : هل يمكن أن نضع الديموقراطية مع ملحقات تلك المنظومة دون ان تقتضيها ذاتيا ؟ بقي السؤال الاخير ، وهو هل يمكن ان تتعايش الديموقراطية و الاسلام دون المس باحدهما معرفيا ؟ و لاشك ان من يشاركنا الاجابة عن السؤالين السابقين سيسارع للاجابة بالنفي عن السؤال الاخير . إذ كيف تتعايش منظوميتن فكريتين مختلفتين معا دون حصول علاقة محرمة ، ينتج عنها هجين مختلف عن الاصلين معا !!؟؟ كان صموئيل هانتغتون قد كتب : إن الاسلام غير ديموقراطي في طبيعته . ورد عليه أحد المشايخ مصرا على ديموقراطية الاسلام !! إنه مشهد محزن بحق ، يسربل بالخزي والعار . و يعيد للذاكرة محاولات مشابهة للمزاوجة بين الاسلام والاشتراكية ، او حتى بين الاسلام والقومية . إن من يفعلون ذلك يصرون على التأكيد بان الاسلام محايد اديولوجيا ، وهو قابل للتعايش مع اية اديولوجيا سياسية ، دون ان يكون له موقف ذاتي خاص ، و ينزعون عن الاسلام بفعلتهم تلك اي وصف مبدئي - سياسي ، و بالتالي يروضون الامة على قبول الاخر ، و التعايش معه مع اعتراف كامل بأحقية ما يحمله من افكار و اديولوجيات ، حتى وإن كان هذا الاخر هو من يسوم امتهم سوء العذاب .
وبعد :
يقولون : سؤال العارف استنكار ، ولا شك أننا حين نطرح التساؤل المعرفي عن العلاقة بين الاسلام والديموقراطية فإننا نستنكر وجود هذه العلاقة ، بل نستنكر فكرة الديموقراطية ذاتها . ولكن يبقى السؤال الاخطر ، والاكثر الحاحا ، الا وهو السؤال السياسي : ما هو دور الديموقراطية في المشهد الاوسع : مشروع الشرق الاوسط الكبير ؟ وكيف لامريكا ان تجعل سبب نهضتها سببا في تبعية شعوب المنطقة ؟ و الاهم من ذلك : كيف للامة الاسلامية أن تقود امريكا للعجز في مشروعها ، و أن نكون نحن اصحاب " المعجزة" !!
لقد "دشنت" الامة الاسلامية القرن العشرين و هي تعيش ازمة ثقة عميقة بنظام الاسلام ، تحولت باضافة العامل التاريخي - الاستعماري إلى ازمة هوية هددت كيان الامة وجوديا ، وعكست "العطب" العميق الذي طرأ على كيان الامة تدريجيا، و الذي تجلى بانحلال المجتمع الاسلامي لمجرد سقوط النظام السياسي الاسلامي - بعجره و بجره !! - و ها هي قد خرجت من هذا القرن الاقصر وهي تعاني جدلية نادرة في التاريخ : من جهة هي تعيش حالة حيرة حضارية ، إذ لم تستطع -بعد- أن تبلور هوية حضارية واضحة ، ومن جهة اخرى تتصاعد الصحوة الاسلامية في جنباتها بوتيرة سريعة .
وكأن حالة الامة الداخلية تلك لم تكن لتكفيها ، إذ ها هي أمريكا تعلن بنبرة تبشيرية مقيتة انها قدمت إلى العالم الاسلامي لتعيد تشكيله على الطريقة الديموقراطية ، في اطار ما صار يعرف في الادبيات السياسية بمشروع الشرق الاوسط الكبير . وبالرغم من كل الغموض ، فإن الديموقراطية تستمر بالظهور دوما عند الحديث عن الشرق الاوسط الكبير . و يصبح ضروريا على الامة ، و على النخب الثقافية ، والاحزاب السياسية أن تحسم أمرها إزاء الديموقراطية كعملية قبلية لبناء موقف من مشروع الشرق الاوسط الكبير ، بل كجزء من تحديد الهوية الحضارية ، و رسم العلاقة مع الاخر .
كثيرا ما تم تناول ثنائية الاسلام - الديموقراطية على نحو يكشف اهمية التحديد النهائي لشكل المقارنة او العلاقة ، أهمية تعكس نفسها في السياسة المباشرة - سياسة يوم بيوم - كما هو الحال في سياسة بناء الامة - سياسة الفكر و الثقافة - ولسنا هنا في صدد سرد المواقف و المقاربات ، ببساطة لانها اتخذت كافة الاشكال الممكنة بين التحمس ، والفتور ، والحياد، والرفض . ولكننا نريد أن نطرح تلك الثنائية على السؤال المعرفي : هل تنبثق الديموقراطية معرفيا ، وبشكل تلقائي من الاسلام ؟ اي هل هي جزء اصيل من المنظومة المعرفية للاسلام ؟ و من ثم ، إن كانت الاجابة بالنفي ، هل يمكن أن نضع الديموقراطية مع ملحقات تلك المنظومة دون ان تقتضيها ذاتيا ؟ و اخيرا هل يمكن ان تتعايش الديموقراطية مع الاسلام دون المس باحدهما معرفيا ؟
إن دالة البحث هنا هي تحديد المعايير المعرفية للاسلام ، و بالتحديد الاجابة عن السؤالين الاتيين : ما هو مصدر المعرفة في الاسلام ، و كيف نحدد اسلامية المعرفة ؟ و لسنا بحاجة لجهد كبير للاجابة على السؤال الاول ، إذ ان الاسلام يقرر أن كل معرفة اخلاقية تتعلق بوجهة النظر في الحياة لا بد وأن يكون مصدرها الوحي ، وان اية معرفة من هذا القبيل لا يكون مصدرها الوحي فهي بالتعريف نقيض الاسلام ، أي كفر . هنا نرى ان الاسلام لا يمكن أن يكون حياديا تجاه أية مشكلة انسانية : المشكلة الفكرية ، والمشكلة الاقتصادية ، والمشكلة الاجتماعية ، بل وحتى المشكلة المعرفية قال الاسلام فيها قوله النهائي ، ووضع الخطوط العريضة لنظرية المعرفة في الاسلام . أما فيما يتعلق بالمعرفة التاملية الصرفة ، والتي يندرج تحتها اكتشاف الكون والانسان و الحياة ، وتفسيرها وصفيا - لا وجوديا - ، و استيلاد الاشكال المادية التي يسخر بها الطبيعة ؛ فإن الاسلام يطلق العقل التاملي على آخره في مجالها ، ولكنه لا يطلق المعرفة ، بل يحدد لها معياره الخاص ، وهو - مرة اخرى - ما اتي به الوحي .
و لاول وهلة يلحظ البعض ان ثمة مصادرة للعقل التاملي ايضا حين يضع الاسلام له معيارا للمعرفة ، و الاجابة تكمن في توضيح نظرية المعرفة في الاسلام بشكل كبسولي سريع . فالاسلام يرى بأن المعرفة من حيث هي لا بد ان تنتهي في مصادرها الاولى إلى تفاعل بين العقل و الوحي ، او بين العقل و الحس . وكل ما دون ذلك اعتبره الاسلام خرصا ، و في احسن الاحوال ظنا حيث لا يقبل الظن في مجال الحقائق ، لا سيما الحقائق الكبرى . فإن كان موضوع المعرفة يقع عليه الحس المباشر ، فإن المعرفة التي ينتجها العقل عندها - بحسب الاسلام - معرفة محايدة ، فلا معنى لقولنا علم الفيزياء الاسلامي ، او فن الملاحة الشيوعي .... في حين ان المعارف التي لا يقع موضوعها تحت الحس مباشرة يقدم الاسلام فيها الخطوط العريضة التي يباشر العقل على اساسها تكوين مفهومه الخاص - واشدد على الخاص - عنها . ومثال ذلك التاريخ ، فإن موضوع التاريخ من حيث تفسيره لا يقع عليه الحس مباشرة ، وإن كان يقع على جزء مهم منه . هنا يقدم لنا الاسلام اسس التفسير الاسلامي للتاريخ ، ويترك للعقل بعدها أن ينطلق . وهكذا في كل مجالات المعرفة الخاصة - الثقافة - بدرجات متفاوتة من التدخل و التاسيس .
ولعله من المفيد ان نستعير بعض الاصطلاحات لبلورة هذه المقاربة . فكل معرفة اخلاقية - عملية تتعلق بوجهة النظر في الحياة وبانظمة التشريع لا بد أن تنبثق انبثاقا عن العقيدة الاسلامية ، بحيث لا توجد ابتداء الا بالتاسيس على العقيدة الاسلامية . اما المعارف التاملية المحضة فإنها تبنى بناء على العقيدة الاسلامية ، أي تقاس عليها ، فما وافقها - وإن لم تات به - اعتبر معرفة اسلامية ، أو فكرا اسلاميا، وما خالفها يعتبر معرفة غير اسلامية - هكذا ببساطة - وما لم تدلي به العقيدة الاسلامية براي يعتبر معرفة محايدة . فمصدر المعرفة في الاسلام - إذن - هو الوحي و الحس . و معيار اسلامية المعرفة هو الانبثاق أو البناء .
ولا بد هنا من التشديد على انبثاق المعرفة عن العقيدة الاسلامية ، فلاجل أن تعتبر المعرفة الاخلاقية - العملية معرفة اسلامية لا بد أن تؤخذ بوصفها قد اتت بها العقيدة الاسلامية . فلا يكتفى بمجرد التشابه العرضي ، او حتى التشابه المطلق بين معرفة اخلاقية ما واخرى اسلامية لكي تدخل الاولى في نطاق الاسلام ، بل لا بد أن ياتي بها الوحي ، وأن تؤخذ على اساس انه قد اتى بها الوحي ، والا فإن الممارسة لا تخضع لفلسفة الاسلام عن الحياة ، التي نختزلها بمزج المادة بالروح عند القيام بالافعال . اي القيام بها مع التقيد بالحكم التي اتت به العقيدة الاسلامية ، اي انبثق عنها .
هكذا نكون قد تزودنا بما يؤهلنا للاجابة عن السؤال الاول : هل تنبثق الديموقراطية معرفيا ، وبشكل تلقائي من الاسلام ؟
متسلحين بالتنظير الذي أجريناه حول المعرفة في الاسلام نقول بكل ثقة أن الاجابة عن هذا التساؤل هي بالنفي قطعا . وبقطع النظر عن اية مقارنات قد يجريها البعض بين الديموقراطية من حيث قيمة ، ومن حيث هي جزء من الاديولوجية الغربية ، ومن حيث الشكل السياسي للفكرة العلمانية ، ومن حيث هي ممارسة سياسية ، وبين ما يقابل تلك الحيثيات في الاسلام ؛ بقطع النظر عن تلك المقارنات فإن الديموقراطية لا تقع تلقائيا ضمن منظومة الاسلام المعرفية ، لانها - ببساطة - لم تنبثق عن العقيدة الاسلامية بشكلها المعرفي المنظم ، ولا حتى في تفاصيلها التي يحلو للبعض أن يجمع ما "يشابهها" في الاسلام رغما عنها ليسمها بالديموقراطية ، او حتى بالنسخة الاسلامية عن الديموقراطية . في هذه المقاربة لم نكن مضطرين حتى للخوض في التفاصيل : هل الاسلام يعطي الحقوق السياسية للناس بناء على مواطنتهم ؟ هل الاسلام يجعل السيادة للناس ؟ هل الاسلام يقر بالمساواة السياسية ؟ ... بل مجرد كون الديموقراطية لم تأت بها العقيدة الاسلامية جعلها بالتعريف خارج منظومة الاسلام المعرفية .
قد يعترض البعض قائلين أن في المقاربة السابقة تبسيطا للامور ، ومحاولة لانهاء النقاش مبكرا ، حتى قبل أن نصل إلى التفاصيل ، متذرعين بأننا اسسنا البحث على استخدام المفهوم - مفهوم الديموقراطية كحزمة منظمّة من الافكار - أو عدم استخدامه في الاسلام ، وأنا قد تجاهلنا أن تفاصيل الديموقراطية ، بل وحتى اسسها المعرفية قد أتى بها الاسلام ، اي انها انبثقت عن العقيدة الاسلامية ، وإن كانت بحاجة للتنسيق و الاخراج لكي تاتي على صورة الديموقراطية في الاستخدام المعاصر . ولكي نرد على هؤلاء دعونا نطور النقاش قليلا بعد . ولكن قبل ذلك علينا أن نسقط أي ثقل ثقافي علق بالديموقراطية ، يحول دون النظر إليها معرفيا . فمثلا : بمجرد ورود لفظة الديموقراطية للاسماع فإن الاذهان تذهب إلى الانتخاب الحر للحكام ، او التعبير الحر عن الراي السياسي ، او احترام رأي الاكثرية . واخطر من ذلك وصف الديموقراطية على انها قيمة انسانية محايدة - كالصدق مثلا !! - ودون أن نتخلص من هذا الثقل الثقافي فإننا سنجنح على الدوام إلى اختراع صلات مفترضة بين الديموقراطية و الاسلام كي ندفع عن الاسلام شذوذا قيميا عن العالم الذي قبل بالديموقراطية ، وجعلها بمثابة بديهية اخلاقية - سياسية . ولا شك أن ذلك سيعطل أي عملية تفكير جدية لفهم الديموقراطية معرفيا ، وبالتالي تفكيك ثنائية الاسلام - الديموقراطية .
لابد لنا اذن أن نبحث عن المفاهيم الاساسية التي تتركب منها الديموقراطية ، إذ من السذاجة اعتبار الديموقراطية فكرة بسيطة غير قابلة للتحليل إلى عناصر أكثر اساسية . ومهما بحثنا عن تعريف أكثر دقة للديموقراطية فإننا لن نقع على ما هو اكثر بلاغة من تعريف الرئيش الامريكي ابراهام لنكولن للديموقراطية عندما قال أنها حكم الشعب للشعب و بالشعب . إن ما تنطوي عليه هذه الكلمات القليلة أمور عظيمة ، غيرت بحق مسار التاريخ ، ونهضت باوروبا وأمريكا ، وجعلت الحضارة الغربية سيدة العالم بلا منازع في القرنين الفائتين . ولكن ما الذي قصده لنكولن ؟ تقوم الديموقراطية معرفيا على أكثر خواص الحضارة الغربية التصاقا بها ، وهو مركزية الانسان الوجودية و الاخلاقية ، فكل شيء نسبي عدا الانسان ، كل شيء يقاس بالنسبة إلى الانسان : المعرفة ، الاخلاق وحتى الله !!! لاجل ذلك الزعم لا بد أن يكون الانسان هو المتصرف المطلق بمصيره . والانسان في العقل الغربي ليس مفهوما ينتظر التخلق او التعين، ليس جنسا ، الانسان هو الفرد الذي يعبر بفرديته الخاصة عن طبيعة الانسان ، الذي قدسها الغرب ، واعتبرها امرا مطلقا تتحدد الاشياء نسبة اليه . إذن فأكثر الاشياء اساسية في الديموقراطية هو مركزية الانسان الفرد ، وطبيعته التي حلت دراستها في العقل الغربي مكان اللاهوت الكنسي ، كما حل الخير البنيوي في طبيعة الانسان مكان الشر البنيوي الذي اسست له الكنيسة ، باعتبار الانسان وارث للخطيئة الاولى .
ثم تضع الديموقراطية الانسان في بيئة الجماعة ، وتتسائل ، كيف نعامل الانسان في هذه البيئة ؟ وتقدم الاجابة بحتمية حفظ كيان الانسان الفردي من تاثير الجماعة ، واتاحة المجال التام لكي يمارس فرديته الخيرة - بالفرض - وبالتالي سيادته المطلقة على ذاته وما يتعلق بها حصريا . ثم تتسائل : وماذا عن القانون ، ماذا عن الدولة ؟ وتقدم الاجابة بحتمية التنازل الجزءي - الطوعي من كل فرد عن شيء من فرديته وحريته حتى يتاح للدولة حماية حرية الافراد وفرديتهم و الحؤول دون السقوط في الفوضى الكلية ، في مقابل أن يتمتع الافراد ، كل الافراد بحق ممارسة السيادة الجماعية اي سيادة الشعب عبر الممارسة السياسية غير المباشرة ، اي التي لا تتعلق بادارة شؤون المجتمع مباشرة . ولكن كيف ؟ وتقدم الاجابة عبر الية الانتخاب المباشر و الحر لمن يتولى الشان العام سواء في تمثيل ارادة المجموع أو تنفيذ تلك الارادة، وعبر تاسيس التشكيلات السياسية ، حزبية و نقابية ... تقوم بمراقبة الدولة و محاسبتها .
ثم تتسائل الديموقراطية عن الحقوق ، كيف يحصل الفرد على حقوقه ، هل تكفل له انسانيته حقوقه ، ام أن انتساب الفرد للمجتمع وولائه للدولة هو الكفيل ؟ وتقدم لنا الاجابة في مذهبين ، احدهما طبيعي ، يرى ان حقوق الانسان هي حقوق طبيعية ، لا يتحصل عليها من طرف اخر ، وانما هي اتية في تركيبه ، اي ان حقوق الانسان تعرف بدرجة قدرته على ممارسة ارادته . والمذهب الاخر اقل ليبرالية يرى بان مواطنة الانسان هي التي تجعله اهلا لنيل حقوقه التي يعرفها المجتمع و تحميها الدولة . ويتفق الفريقان على اعتبار المساواة - سواء في الانسانية او في المواطنة - هي المعيار الوحيد لتوزيع الحقوق ، وان ليس ثمة معيار اخر يكفل للانسان ان يمارس ارادته دون ضغط من المجتمع و الدولة .
هكذا باختصار شديد ، بل شديد جدا نضع اسس الديموقراطية معرفيا . و يكتشف البعض لشدة دهشتهم ان لاشي مما ذكر قد اتى به الاسلام !!! هل يتناقض مع ما اتى به الاسلام ؟ نترك الاجابة عن هذا السؤال عند الحديث عن تساؤلنا التحليلي الثاني في هذه الاطروحة : هل يمكن أن نضع الديموقراطية مع ملحقات منظومة الاسلام المعرفية دون ان تقتضيها ذاتيا ؟ ولكن المقطوع به أن الاسس المعرفية للديموقراطية حسب التوصيف الاخير لم يات بها الاسلام ، اي لم تنبثق عن العقيدة الاسلامية ، ولا عن وجهة نظر الاسلام في الحياة ، ولا عن وجهة نظره عن الانسان . وهكذا نؤكد ما توصلنا إليه سابقا من كون الديموقراطية لا تاتي تلقائيا ضمن منظومة الاسلام المعرفية ، وهي بالتالي فكر كفر حسب الاسلام .
قد لا يشاركنا البعض وجهة نظرنا التحليلية السابقة حول الديموقراطية ، وهؤلاء غالبا ما ينتمون للتيار التوفيقي ، الذي يميل اصحابه بشكل عام للبحث عن "نقاط تقاطع" مع الاخر . ولسنا في صدد تقييم - او تقويم - منهج هؤلاء ، ولكننا نحب أن يشاركونا ما خلصنا إليه . ولغايات تفادي الاختلاف التحليلي ؛ فإننا سنتبنى طريقة اخرى لعرض خلاصتنا حول رفض الديموقراطية لاسباب معرفية . ولا نختلف مع أي كان في أن التناقض الصريح بين أي فكر أو حكم غير اسلامي المنشأ - كما شرحنا سابقا - وبين الاسلام يضطرنا للحكم بكونه فكر كفر أو حكم كفر ، وإن لم يتعلق بالعقيدة ذاتها ، إذ لا يجوز أن نتوهم أن خلع وصف الكفر على فكر ما أو نظام ما لا بد وأن يتعلق موضوعه مباشرة بالعقيدة الاسلامية ، بل كل ما لم تأت به العقيدة في مجال الاحكام - المعارف الاخلاقية كما شرحنا سابقا - هو من قبيل الكفر ، بقطع النظر عن الكيفية التي نحكم بها على كون المعرفة لم يات بها الاسلام : أكانت ما قدمنا له قبلا ، ام بملاحظة التناقض الصريح بينه وبين ما أتت به العقيدة الإسلامية ، ووقع تلقائيا ضمن المنظومة المعرفية للإسلام .
وقد اخترنا اسسا ثلاثة تقوم عليها الديموقراطية معرفيا لبيان تناقضها الصريح مع ما أتت به العقيدة الإسلامية : موضوع السيادة السياسية ، و الحقوق السياسية ، والمساواة السياسية . قد يعترض البعض على استخدام الوصف المعرفي لسمة هذه الاسس ، لكن البحث العميق يري فعلا أنها اسس معرفية ، وليست اسسا سياسية أو تاريخية ..... فالسيادة في الديموقراطية - بوصفها نظاما سياسيا- هي للشعب حصريا ، والمقصود بالسيادة هو انها ممارسة الارادة ، أي القيام بالفعل على الوجه الذي يمليه توجه القصد نحو ميل معين عند صاحب السيادة ، لا على اي وجه اخر . و معنى أن يكون الشعب هو صاحب السيادة المطلقة هو أن يمارس ارادته دون تتدخل أو تقييد من أي سلطة ما ، سواء اكانت سلطة اخلاقية كسلطة الدين ، او سلطة سياسية كسلطة الدولة ، او سلطة مادية كسلطة العسكر . ومعنى هذا أن يمتلك الشعب الصلاحية المطلقة في وضع القوانين ، و ايكال امرها لسلطة الدولة كي تقوم على تنفيذها بغية حماية حرية الافراد . وبقطع النظر عن الظرف التاريخي الذي أنتج فكرا كذا ؛ فإن الاساس المعرفي الذي اشتقت منه فكرة سيادة الشعب هو جعل الانسان الحر مصدرا للاخلاق ، وبالتالي مصدرا لتحديد الارادة و تقييدها ، وبالتالي أن يكون الانسان سيد نفسه عندما يقرر أي وجه يقوم بافعاله عليه ، أي أن يكون الانسان حرا من أي قيد غير ذلك الذي يمليه عليه ضميره الذي يعبر - حسب النظرة الغربية - عن الخير المطلق في الطبيعة الانسانية . فالعقل الغربي كما قدمنا يرى أن الانسان خيّر بطبيعته ، أي ان الخير بنيوي فيه ، فالانسان خيّر لان طبيعته خيّرة ، لا لأمر خارج عن تلك الطبيعة ، وأن الشر هو أمر عرضي طاريء ينتج عن تقييد الانسان ، و محاولة ترويض طبيعته واجبارها على ما ليس فيها . و من الطبيعي و الحال تلك أن يجيب العقل الغربي عن التساؤل الاعلى في المسالة الاجتماعية بجعل الانسان هو مصدر الاخلاق . فالسؤال الاهم في المسالة الاجتماعية هو حول مصدر الاخلاق الصحيح الذي يعين للانسان الخير الأكيد ، وبالتالي السعادة الفردية و الاجتماعية .
دعونا نفحص الكلام اعلاه لنرى تناقضه الصريح مع الاسلام . فأولا : القول بأن الإنسان خيّر بنيويا أي خيّر بطبيعته ، وما علينا لكي نرى الخير في كل تصرفاته إلا أن ندع له المجال كي يمارس ارادته التي يمليها عليه ضميره الخيّر ، يتناقض مع وجهة نظر الاسلام في الاخلاق في جوانب عدة . فالاسلام يرى بأن الطبيعة الانسانية محايدة اخلاقيا ، فليس الانسان خيّرا أو شريرا على نحو بنيوي ، ولا يمكن وصف طبيعته بالخير أو الشر الذاتي ، كما لا يمكن وصف طبيعة الكون مثلا بالخير أو الشر الذاتي ، على أن الانسان لكونه فاعل في الاشياء بخلاف الطبيعة الكونية ، فإن فاعليته تلك هي التي يقع عليها الحكم الاخلاقي ، وليس طبيعته . فإذن موضوع الاخلاق ليس واحدا عند الطرفين ، ففي حين يؤسس الغرب للديموقراطية اخلاقيا بأن يحدد موضوع الاخلاق في الطبيعة الانسانية ؛ يرى الاسلام أن الطبيعة الانسانية محادية اخلاقيا ، وأن موضوع الاخلاق هو افعال الانسان . فالانسان من وجهة نظر الاسلام فيه طاقات حيوية تتطلب الاشباع ، فإن اشبعها وفق نظام صحيح كان اشباعه هذا اشباعا خيرا ، وإلا فلا . قال تعالى :" ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها" . وقال "إنّا هديناه النجدين أما كافرا وأما شكورا" . هذا بالنسبة لموضوع الاخلاق ، اما من حيث مصدرها فإن الاسلام ليرفض بشكل قاطع أن يكون مصدر الاخلاق طبيعيا ، ويؤسس لذلك بطريقين ، اولهما : هو اعتبار الحكم الاخلاقي حكما شرطيا يخضع للظروف و الملابسات التي تكتنف الفعل - موضوع الاخلاق - ولا يخضع بحال لما تمليه الطبيعة الانسانية ، فالقتل مثلا واحد ازاء الطبيعة الانسانية ، اكان قتل المرتد ، او الكافر الحربي ، او الزاني الثيب ... أو قتل المسلم محرم الدم ، او المعاهد او المستامن ... لكن الحكم الاخلاقي ليس واحدا في حق المجموعتين . واختلاف الحكم ، مع اتحاد الواقع يكشف بشكل قطعي عن كون الحكم لا يتأتى بحال أن يكون ذاتيا ، أي من الفعل نفسه او من الطبيعة التي لا تميز بين الافعال حال اختلاف الحكم تجاهها ، بل لا بد أن يكون حكما موضوعيا يحدده أمر خارج عن الفعل نفسه ، وعن الطبيعة الانسانية . أما الطريق الثاني الذي يؤسس به الاسلام لرفض الطبيعة كمصدر للاخلاق ، فهو التحديد النهائي بأن المصدر الوحيد و المطلق للاحكام الاخلاقية هو الله تعالى . قال تعالى " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " والطاغوت هو المطاع لاسباب اخلاقية لغير سبب أمر الله بطاعته . وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " . وواضح أن الباعث على الحكم الاخلاقي في الاسلام لا يخضع للطبيعة الانسانية ، ولا حتى للمفردة العقلانية فيها ، إذ الاسلام يقرر أن الانسان قاصر عن التوصل للحكم الاخلاقي الصحيح ، لما في طبيعته من نقص و عجز واحتياج ، تدل على وجود جهة عليا على الانسان يرجع إليها الانسان لسد ما فيه من نقص و عجز و احتياج ، ومن جهة اخرى تفاوته و اختلافه و تناقضه عند وضع الاحكام الاخلاقية ، مما يدل على وجود جهة عليا مطلقة لا يعتورها تفاوت او اختلاف او تناقض ، تماما كما أن وجود الواحد و الاثنين ... يحكم بوجود اللانهاية ، فإن الاختلاف و التفاوت و التناقض في الأحكام الاخلاقية يحكم بوجود الملطق الاخلاقي . قال تعالى : "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا " وقال : " الا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " . على أن الديموقراطية ترى وفق رؤيتها السابقة بأن الاخلاق نسبية ، لا يمكن أن تحدد فيها نتيجة نهائية ثابتة ، بل هي خاضعة للتفاعل الخاص بين الطبيعة الانسانية ، والظرف الذي يعيشه الانسان ، فما يراه عمرو خيرا ، قد يراه زيد شرا مستطيرا . وهي بذلك تدعو إلى نسبية الاخلاق التامة ، والتي ينتج عنها سياسيا التبدل الدائم في مجال القوانين و الانظمة . في حين أن الاسلام يرى بأن الاخلاق مطلقة ، لا يجوز أن تتغير بتغير الظروف ، او اختلاف الاشخاص أو البيئات .
على أن ارادة الانسان ذاتها مقيدة بقيد الطبيعة الانسانية ذاتها ، فهل ثمة معنى لان يمتلك الانسان ارادة احالة المستحيل إلى ممكن - مثلا - ؟ فلا بد إذن أن القيد الطبيعي ذاته يدفع بالانسان إلى الشر وفق التفسير الغربي للاخلاق ، وهو يتوق بطاقته الفكرية إلى ما وراء حدود طبيعته !! ثم إن قصر الانسان على ما لا تمليه عليه طبيعته إن كان فيه تحويل هذه الطبيعة عن خيريتها المفترضة ، فإذن ليست طبيعة الانسان خيرة ذاتيا ، إذ كيف تمس الطبيعة بالتغيير ؟ لا بد وانه التفكير الطفولي الذي راود مؤسسي الفكر الغربي !!! . ثم إن نسبية الاخلاق تحكم بأن تكون خاضعة للقياس نسبة لأمر اخلاقي مطلق ، فوجود النسبي الاخلاقي يحكم قطعا بوجود المطلق الاخلاقي !!! ، اضافة إلى كون الاخلاق ذاتها مقياس تخضع له الافعال ، ولا يجوز أن تخضع ذاتها للقياس . كل هذا يؤكد - بعجالة - على نقص النظرية الغربية حول الاخلاق .
هكذا إن نكشف عن التناقض المعرفي الاول بين الاسلام والديموقراطية : فالديموقراطية تجعل السيادة للشعب ، في حين يمنع ان تكون السيادة لغير الشرع ، ويعتبر ذلك كفرا صراحا .
أما عن الحقوق السياسية ، فإن الديموقراطية يؤسس لها في هذا الجانب بمذهبين : الاول يرى أن الحقوق طبيعية ، يمتلكها الانسان الفرد لكونه انسانا ، ولا يحوزها باللجوء إلى طرف أخر غير فرديته الخاصة . وهي بهذا المعنى قدرة الانسان على ممارسة ارادته الحرة ، فلسيت الحقوق الانسانية سوى تعبير عن حريات الانسان ، وهي حرية الفكر ، وحرية الراي ، وحرية التملك ، والحرية الشخصية . فلا الدولة ، ولا المجتمع ، وبالتاكيد ليس الدين هو الذي يعرف الحقوق ، بل طبيعة الانسان الفرد هي التي تعينها . و المذهب الاخر يرى بأن الانسان يحوز حقوقه السياسية عن طريق مواطنته ، أي انتسابه للمجتمع وولائه للدولة ، فالمجتمع هو الذي يعرف الحقوق ، ويعطيها لمن ينتسب إليه ، والدولة تحمي هذه الحقوق . على أن المذهب الاخير لا يختلف كثيرا في تعريف هذه الحقوق عن المذهب الاول ، فهو يرى بأن هذه الحقوق هي عين الحريات العامة انفة الذكر ، إلا انه يرى بأن هذه الحقوق ليست طبيعية ، وإنما يختار المجتمع الديموقراطي أن يعطيها لافراده وفق فكرة التعاطف empathy أي تساوي الجميع اخلاقيا قياسا على ما يتوق إليه الانسان لذاته .
وهنا ايضا تتناقض الديموقراطية مع الاسلام ، فالاسلام يرى بأن الحق من حيث هو يعطيه الله للانسان بوصفه خالقه ومالك امره ، فهو الذي يعرفه ابتداء ، وهو الذي يعطيه للانسان ، فلا يمتلك الانسان حقوقه طبيعيا ، ولا يعطيه اياها المجتمع ، بل يعرفها الله ، ويعطيها للعباد ، فحق الحياة مثلا يعطيه الله للعباد بتحريم قتل النفس المحرمة ، و يخلعه عمن يستحق القتل منهم . وحق التملك يعطيه بإباحة الملكية الفردية ، وتحريم السرقة ، والتأميم ... و يخلعه عن السفيه مثلا ... و حق التقدم للمناصب العامة في الدولة يمنحه الله للمسلمين للذكور الاحرار العدول البالغين من اهل الكفاية ، ويخلعه عمن لا يحقق هذه الشروط ..... وهكذا . فالحقوق إذن يعرفها الله ، ويعطيها للعباد أو يحرمهم منها وفق ما جاء به نظام الاسلام .
بقي موضوع المساواة السياسية بين الديموقراطية و الاسلام . و تسعف البعض قدرتهم على المراوغة اللفظية ، فيما يقبع وراءها استلاب ذهني للاخر الغربي ، و يسارع للقول بان الناس سواسية كاسنان المشط في محاولته للتاكيد على المساواة السياسية التي يعطيها الاسلام للرعية . و الحقيقة أن ثمة مغالطة كبيرة في اسقاط التساوي في الانسانية على موضوع اخلاقي كالمساواة السياسية من حيث الحقوق و الواجبات . فصحيح ان الاسلام ينظر إلى الانسان بوصفه الانساني لا باي وصف اخر كالوصف الاثني او الجنسي ... بمعنى انه يعالج الانسان من حيث هو ، و لايحفل للاختلاف الاثني او الجنسي ، وهذا واضح في اعلان الاسلام الاحتفالي بالانسانية المعذبة تحت وطئة التهميش و الاطضهاد الاثني او الجنسي ؛ تحت مفهوم لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى ، وإن اكرمكم عند الله اتقاكم . و لا تطول هذه المساواة في الانسانية موضوع الحقوق و الواجبات ، مرة اخرى لان الطبيعة الانسانية ليست هي موضوع الاخلاق ، وليست مصدرا لها من وجهة نظر الاسلام، كما ان الاخلاق شرطية تخضع للظروف و الملابسات التي تحيط بالفعل ، وليست ذاتية في الفعل حتى تعطى الاحكام الاخلاقية واحدة دون النظر إلى ما يساورها من ملابسات خارجية . و بالتالي في حين تجعل الديموقراطية الحقوق و الواجبات السياسية على السواء لجميع الرعايا ، فإن الاسلام ينوعها وفق فهم خاص للتنظيم السياسي . فليس من حق كائنا من كان في الدولة الاسلامية أن يتولى منصب الخلافة مثلا ، و ليس من واجب اهل الذمة ان يشاركوا الدولة فتوحاتها ، وفي حين يعطي الاسلام حق المحاسبة - مثلا - لاعضاء مجلس الشورى المسلمين ، فإنه يحصره في شان الجؤار او التظلم للاعضاء غير المسلمين . و في حين يوجب الزكاة على الرعايا المسلمين بوصفه عبادة اسلامية ، فإنه لا يوجبها على غير المسلمين ، وانما يوجب عليهم الجزية . و الاهم من ذلك و الاخطر في موضوع تاسيس الاحزاب السياسية ، و مراقبة الدولة و محاسبتها بشكل عام مفتوح ، فإنه يعطي للمسلمين وحدهم هذا الحق ، و يعطيهم اياه مقيدا وفق العقيدة الاسلامية ، فلا يجوز مثلا قيام احزاب غير اسلامية ، اي لا تقوم على اساس العقيدة الاسلامية ، و لا يجوز مثلا محاسبة الدولة على تطبيق حكم شرعي معين يتناقض مع نظرة غير اسلامية ما . كما ان الاسلام يحصر حق الرعاية العامة الدائمية في دائرة الدولة و تشكيلاها ، ويمنع جهات غير حكومية من القيام باعباء الدولة ، في حين تعطي الديموقراطية وفق فكرة المساواة السياسية للنقابات مثلا حق الرعاية العامة . و في حين تعطي الديموقراطية "حق" نقد الدولة و محاسبتها تاسيسا على كون الافراد جميعا متساوون في المسؤولية السياسية ، فإن الاسلام يوجب على المسلمين ايجابا أن يحاسبوا الدولة ، كما يوجب عليهم الثورة على الحاكم إذا حكم بالكفر . هكذا إذن يتناقض الاسلام مع الديموقراطية في موضوع المساواة السياسية .
بهذا نكون قد اجينا عن تساؤلنا الثاني في هذه المقالة : هل يمكن أن نضع الديموقراطية مع ملحقات تلك المنظومة دون ان تقتضيها ذاتيا ؟ بقي السؤال الاخير ، وهو هل يمكن ان تتعايش الديموقراطية و الاسلام دون المس باحدهما معرفيا ؟ و لاشك ان من يشاركنا الاجابة عن السؤالين السابقين سيسارع للاجابة بالنفي عن السؤال الاخير . إذ كيف تتعايش منظوميتن فكريتين مختلفتين معا دون حصول علاقة محرمة ، ينتج عنها هجين مختلف عن الاصلين معا !!؟؟ كان صموئيل هانتغتون قد كتب : إن الاسلام غير ديموقراطي في طبيعته . ورد عليه أحد المشايخ مصرا على ديموقراطية الاسلام !! إنه مشهد محزن بحق ، يسربل بالخزي والعار . و يعيد للذاكرة محاولات مشابهة للمزاوجة بين الاسلام والاشتراكية ، او حتى بين الاسلام والقومية . إن من يفعلون ذلك يصرون على التأكيد بان الاسلام محايد اديولوجيا ، وهو قابل للتعايش مع اية اديولوجيا سياسية ، دون ان يكون له موقف ذاتي خاص ، و ينزعون عن الاسلام بفعلتهم تلك اي وصف مبدئي - سياسي ، و بالتالي يروضون الامة على قبول الاخر ، و التعايش معه مع اعتراف كامل بأحقية ما يحمله من افكار و اديولوجيات ، حتى وإن كان هذا الاخر هو من يسوم امتهم سوء العذاب .
وبعد :
يقولون : سؤال العارف استنكار ، ولا شك أننا حين نطرح التساؤل المعرفي عن العلاقة بين الاسلام والديموقراطية فإننا نستنكر وجود هذه العلاقة ، بل نستنكر فكرة الديموقراطية ذاتها . ولكن يبقى السؤال الاخطر ، والاكثر الحاحا ، الا وهو السؤال السياسي : ما هو دور الديموقراطية في المشهد الاوسع : مشروع الشرق الاوسط الكبير ؟ وكيف لامريكا ان تجعل سبب نهضتها سببا في تبعية شعوب المنطقة ؟ و الاهم من ذلك : كيف للامة الاسلامية أن تقود امريكا للعجز في مشروعها ، و أن نكون نحن اصحاب " المعجزة" !!