المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قيمة الأفكار



shareff
26-06-2008, 09:53 AM
بسم الله الرحمن الرحيم



إن الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير.
أما الثروة المادية، والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار.
فإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها، ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية. أما إذا تداعت الثروة الفكرية، وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وترتدّ الأمّة إلى حالة الفقر. كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أما إذا فقدت طريقة التفكير المنتجة فسرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات. ومن هنا كان لا بد من الحرص على الأفكار أولاً. وعلى أساس هذه الأفكار، وحسب طريقة التفكير المنتِجة تُكسب الثروة المادية، ويُسعى للوصول إلى المكتشفات العلمية والاختراعات الصناعية وما شاكلها.
والمراد بالأفكار هو وجود عملية التفكير عند الأمة في وقائع حياتها ، بأن يَستعمل أفرادها في جملتهم ما لديهم من معلومات عند الإحساس بالوقائع للحكم على هذه الوقائع، أي أن تكون لديهم أفكار يبدعون باستعمالها في الحياة. فينتج عندهم من تكرار استعمالها بنجاح، طريقة تفكير منتجة.
والأمة الإسلامية اليوم تعتبر فاقدة الأفكار، فهي طبيعياً فاقدة لطريقة التفكير المنتجة. فالجيل الحاضر لم يتسلم من سلفه أية أفكار إسلامية، ولا أفكاراً غير إسلامية، وبالطبع لم يتسلم طريقة تفكير منتِجة. ولم يكسب هو أفكاراً، ولا طريقة تفكير منتجة. ولذلك كان طبيعيةً أن يُرى في حالة الفقر رغم توفر الثروات المادية في بلاده، وأن يُرى في حالة فقدان للاكتشافات العلمية والمخترعات الصناعية رغم دراسته نظرياً لهذه الاكتشافات والمخترعات وسماعه بها ومشاهدته لها. لأنه لا يمكن أن يندفع إليها اندفاعاً منتجاً إلا إذا كان يملك طريقة تفكير منتجة، أي إلا إذا كانت لديه أفكار يبدع في استعمالها في الحياة. ومن هنا كان من المحتم على المسلمين أن يوجِدوا لديهم أفكاراً وطريقة تفكير منتجة، ثم على أساسها يمكن أن يسيروا في اكتساب الثروة المادية، وأن يكتشفوا الحقائق العلمية، ويقوموا بالاختراعات الصناعية. وما لم يفعلوا ذلك لا يمكن أن يتقدموا خطوة، وسيظلون يدورون في حلقة مفرغة، يفرغون في دورانهم مخزون جهدهم العقلي والجسمي، ثم ينتهون إلى حيث ابتدءوا.
وهذا الجيل من الأمة الإسلامية ليس معتنقاً أفكاراً مضادة للفكر الذي يراد إيجاده لديه حتى يدرِك هذا الفكر الذي يعطى له، ويجري الاصطدام بين الفكرين فيهتدي من هذا الاصطدام إلى الفكر الصواب، وإنما هو خالٍ من كل فكر من الأفكار ومن أي طريقة من طرق التفكير المنتجة، فهو قد ورث الأفكار الإسلامية باعتبارها فلسفة خيالية، تماماً كما يرث اليوم اليونان فلسفة أرسطو وأفلاطون. وورث الإسلام باعتباره طقوساً وشعائر للتدين، كما يرث النصارى دين النصرانية. وهو في نفس الوقت عشق الأفكار الرأسمالية من مجرد مشاهدته نجاحها لا من إدراكه لواقع هذه الأفكار، ومن خضوعه لتطبيق أحكامها عليه، لا من إدراك انبثاق هذه المعالجات عن وجهة النظر الرأسمالية للحياة. ولذلك بات خالياً من الأفكار الرأسمالية تفكيرياً، وإن كان يخوض غمار الحياة على منهجها، وأضحى خالياً من الأفكار الإسلامية عملياً، وإن كان يتدين بالإسلام ويدرس أفكاره.
أما ميله للأفكار فقد جاوز محاولة التوفيق بين الإسلام وبين الأحكام والمعالجات الرأسمالية، ووصل إلى حد الشعور بعجز الإسلام عن إيجاد معالجات لمشاكل الحياة المتجددة، والشعور بضرورة أخذ الأحكام والمعالجات الرأسمالية كما هي دون حاجة إلى التوفيق، ولا يرى ضيراً في ترك أحكام الإسلام وأخْذ غيرها من الأحكام ليتمكن من السير قدماً في معترك الحياة مع العالم المتمدن ويلحق بقافلة الأمم الرأسمالية أو الشعوب التي تطبق الاشتراكية وتسير نحو الشيوعية باعتبارها في نظره الشعوب الراقية. وأمّا البقية الباقية من المتمسكين بالإسلام فلديهم نفس الميل للأفكار الرأسمالية ولكنهم لا يزالون يأملون بإمكانية التوفيق بينها وبين الإسلام. غير أن هؤلاء المحاولين للتوفيق بين الإسلام وغيره لا أثر لهم في معترك الحياة ولا وجود لهم في المجتمع –أي في العلاقات الدائرة فعلاً بين الناس.
ومن هنا كان إعطاء الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية لمعالجة مشاكل الحياة يصطدم بعقول خالية من الفكر ومن طريقة التفكير، ويصطدم بميول للأفكار الرأسمالية أو الاشتراكية لدى الجميع، كما يصطدم بواقع الحياة العملية وهو يتحكم فيها النظام الرأسمالي، فما لم يكن الفكر قوياً إلى درجة إحداث رجّة في النفوس والعقول فإنه لا يمكن أن يهز الناس، بل لا يمكن أن يصل إلى حالة تَلفت النظر، لأنّ على هذا الفكر أن يَحمل هذه العقول الخاملة الضحلة على التعمق في التفكير وأن يهز الميول المنحرفة والأذواق المريضة حتى يوجِد الميل الصادق للأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية.
ومن هنا كان لزاماً على حامل الدعوة للإسلام أن يتعرض للأسس التي تقوم عليها الأحكام والمعالجات الرأسمالية، فيبين زيفها ويقوضها، وأن يعمد إلى وقائع الحياة المتجددة المتعددة فيبين علاج الإسلام لها باعتباره أحكاماً شرعية تكتسب وجوب الأخذ بها من حيث كونها أحكاماً شرعية مستنبَطة من الكتاب والسنّة أو مما أرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، لا من حيث صلاحيتها للعصر أو عدم صلاحيتها؛ أي يبين وجوب أخذها عقائدياً لا مصلحياً، فيعمد في إعطاء الحكم إلى بيان دليله الشرعي الذي استُنبط منه أو إلى تعليله بالعلة الشرعية التي ورد بها أو يمثلها النص الشرعي.
وإن من أعظم ما فُتِن فيه المسلمون وأشد ما يعانونه من بلاء في واقع حياتهم الأفكار المتعلقة بالحكم والأفكار المتعلقة بالاقتصاد، فهي من أكثر الأفكار التي وَجدت قبول ترحيب لدى المسلمين، ومن أكثر الأفكار التي يحاول الغرب تطبيقها عملياً ويسهر على تطبيقها في دأب متواصل. وإذا كانت الأمّة الإسلامية تُحكم على صورة النظام الديمقراطي شكلياً عن تعمّد من الكافر المستعمر ليتمكن من حماية استعماره ونظامه، فإنها تُحكم بالنظام الاقتصادي الرأسمالي عملياً في جميع نواحي الحياة الاقتصادية، ولذلك كانت أفكار الإسلام عن الاقتصاد من أكثر الأفكار التي توجد التأثير على واقع الحياة الاقتصادية في العالم الإسلامي من حيث أنها ستقلبها رأساً على عقب، وستكون من أكثر الأفكار محاربة من قِبل الكافر المستعمر، ومن قِبل عملائه والمفتونين بالغرب من الظلاميين والمضبوعين والحكام.
(مقدمة كتاب النظام الاقتصادي في الاسلام للعلامة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله)