المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية قراءة في مستجدات الحرب الأوكرانية ومواقف أميركا وروسيا منها



Abu Taqi
04-06-2025, 12:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
قراءة في مستجدات الحرب الأوكرانية ومواقف أميركا وروسيا منها
نفذت أوكرانيا عملية عسكرية استخباراتية نوعية في العمق الروسي تنطوي على رسائل أميركية للرئيس بوتين بأن جبهته مكشوفة، وأن عليه تلبية مطالب ترمب. حيث أعلنت الاستخبارات الأوكرانية قبل يومين عن تسللها إلى الأراضي الروسية، ونجاحها في تنفيذ عملية نوعية ضخمة استهدفت 40 طائرة استراتيجية روسية في أنحاء متفرقة من روسيا (٣٤٪ من القاذفات الاستراتيجية الروسية) بحسب الأنباء الأوكرانية. في حين أقرت موسكو بوقوع الهجوم وتوعدت بالرد، وقالت إن الهجمات استهدفت مطارات في 5 مقاطعات، وأكدت تصديها لبعضها واعتقال عدد من المشاركين.
وجاء الهجوم الأوكراني ردًا على غارة جوية روسية عنيفة هي الأكبر منذ بداية الحرب، حيث استخدمت روسيا ٣٦٧ طائرة مسيّرة وصاروخًا، استهدفت بها أكثر من ٣٠ مدينة أوكرانية، وهو ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لوصف نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه "فقد عقله تمامًا".
كما جاءت هذه التطورات المفاجئة على جبهات القتال، قبل يوم من جولة جديدة من المحادثات بين طرفي النزاع في إسطنبول، وهو ما يضع هذا التصعيد الكبير بين الطرفين في خانة الضغط وإثبات الوجود، عشية انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات في إسطنبول الاثنين الماضي ٢ حزيران/يونيو الجاري. هذا وقد ونشرت وكالة الأنباء الروسية "تاس"، أمس الثلاثاء، المذكرة التي قدمتها بلادها إلى أوكرانيا، حيث عرضت روسيا خيارين لوقف الحرب، الخيار الأول: يقترح انسحاب الجيش الأوكراني من مناطق خيرسون، وزاباروجيا، ودونيتسك، ولوغانسك. بينما يقترح الخيار الثاني بنودًا تتعلق بحظر إعادة انتشار القوات في أوكرانيا، ووقف التعبئة والمساعدات العسكرية الأجنبية، وبدء إجراءات التسريح، واستبعاد الوجود العسكري لدولة ثالثة. كما يشمل القسم المعنون: "المعايير الأساسية للحل النهائي" في المذكرة بنودًا مختلفة، منها حياد أوكرانيا ورفض مشاركتها في التحالفات العسكرية. وتحوي المذكرة الروسية أيضًا منع أوكرانيا من امتلاك الأسلحة النووية والحد من عدد قواتها، إضافة إلى طلب الاعتراف الدولي بالقرم وخيرسون وزاباروجيا ودونيتسك ولوغانسك على أنها مناطق روسية، ورفع العقوبات عن موسكو. وهذه البنود الاستراتيجية هي الأهم بالنسبة لروسيا.
ويمكن قراءة هذه التطورات ومسار المفاوضات ومآلاتها المتوقعة من خلال الموقف الروسي الذي يرى أن هذه الحرب تندرج في إطار الدفاع عن المجال الحيوي والعمق الاستراتيجي والأمني، وعن الهوية الثقافية الروسية ونمط النظام السياسي وتماسك البلاد في وجه المخطط الأميركي الأطلسي التوسعي، الذي يسعى إلى تحويل أوكرانيا إلى قاعدة عسكرية ومنصة استخباراتية وأداة أميركية لتقويض روسيا ومحاصرتها جيو- سياسيًّا، وتحجيمها وتسخيرها لخدمة المشاريع الأميركية المتنوعة، ولجم سياساتها المتعلقة بالشراكة الاستراتيجية مع الصين وعلاقتها السياسية والاقتصادية مع أوروبا، وطموحاتها بعيدة المدى بشأن النظام الدولي. وهذه الأمور هي مما تَعدُّه روسيا وقيادتها القومية بزعامة بوتين خطًا أحمر.
وأما على الجانب الأميركي فيمكن قراءة موقف الإدارة الأميركية للأزمة الأوكرانية ومستجداتها من خلال المسار الدبلوماسي الذي تقوده إدارة ترمب، والذي وصفه مبعوث الرئيس الأميركي لأوكرانيا العميد كيث كيللوج بـ"خطة المئة يوم لإنهاء الحرب"، كما يمكن قراءته من خلال مساعي أميركا وأهدافها من الحرب الأوكرانية الرامية إلى تعميق حالة عدم اليقين بين أوروبا وروسيا ومنعهم من التحالف مستقبلًا، وتغيير البيئة الأمنية الأوروبية وتعميق اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة، وإرغام الدول الأوروبية على رفع ميزانية دفاعها ودفاع حلف الناتو، وتوسيع نطاق عمل الحلف خارج حدود أوروبا لمواجهة التحدي الصيني المستقبلي وتحديات منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في أعقاب تقلص ما يسمونه بخطر "الإرهاب الإسلامي" بعد أن فقد حلف الناتو مبرر عمله في أفغانستان، إثر تفاهم أميركا مع حكومة طالبان بحسب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، وما ترتب عليه من انسحاب أميركي مفاجئ من أفغانستان. كما لا بد من قراءة ما يجري في الملف الأوكراني الروسي والموقف الأميركي في إطار مساعي الولايات المتحدة لتفكيك العلاقة الروسية الصينية عبر تجميد الأزمة الأوكرانية وتوجيه الموارد لمواجهة التحدي الصيني.
وفي هذا السياق جرى تفعيل قنوات اتصال أميركية مباشرة مع الكرملين قادها ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي، مستغلًا علاقته برئيس الصندوق السيادي الروسي كيريل دميتريف الذي يملك استثمارات عقارية في نيويورك، وما أعقب ذلك من مبادرات أميركية لبناء الثقة ودعم مسار التفاوض البراغماتي المرن الذي يتطلبه التوجه الأميركي، وهو الأمر الذي برز في صفقة تبادل أميركي روسي للأسرى، وبرز أيضًا في الرعاية القطرية لإعادة الأطفال الأوكرانيين من روسيا، وفي الرعاية الأميركية السعودية لتفاهمات وقف إطلاق النار في البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا، وفي جولتي مفاوضات إسطنبول اللتين أسفرتا عن اتفاق تبادل 2000 أسير بين البلدين حتى الآن، تمهيدًا لعقد صفقة أوسع بدءًا بالمسائل الهامشية السهلة وصولًا إلى وقف الحرب الذي يتطلب وقتًا لإنضاجه.
وكدأب الولايات المتحدة وسياساتها الرأسمالية النفعية واستهتارها بعملائها ومصالحهم أمثال زيلينسكي، وفي "محاولة لتسجيل نصر سريع" في ظل سياسة ترمب التجارية المتعثرة واستغلالًا لموقف الناخبين الأميركيين الذين يرون دعم أوكرانيا عبئًا ماليًّا كبيرًا وغير مبرر، قام البيت الأبيض بإطلاق حملة واسعة لاستمالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر تقديم تنازلات كبيرة لروسيا، منها الاعتراف الرسمي بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، والاعتراف الفعلي بالسيطرة على أجزاء من مناطق لوهانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، وتقديم ضمانات بعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، ورفع العقوبات المفروضة على روسيا بما فيها تلك التي فرضت عليها بسبب ضم القرم في عام ٢٠١٤. وفي المقابل ضغط البيت الأبيض على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للقبول باتفاق سلام يشمل وقف إطلاق النار وتأجيل الانضمام إلى الناتو، مع الإبقاء على الوضع الراهن في الأراضي التي تحتلها روسيا، وكذلك فرض اتفاقية تحصل أميركا بموجبها على حصة من عائدات الموارد الطبيعية الأوكرانية لقاء الدعم العسكري واللوجستي (وهي من ركائز سياسة العهد الذهبي لأميركا). إذ لا يخفى أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد جعل مسألة إيقاف الحرب في أوكرانيا أحد ركائز سياسته الخارجية، حيث صرَّح خلال حملته الانتخابية أنه سيستغل علاقته الجيدة مع الرئيس الروسي بوتين لإنهاء الحرب خلال ٢٤ ساعة من توليه منصب الرئاسة، مضيفًا أنها ستكون مفاوضات سهلة! غير أن هذه الرغبة الأميركية قد اصطدمت بعدد من المسائل الجيوسياسية المتداخلة، ومنها سياسة عزل الصين وإيقاف تطورها الصناعي والعسكري، وبخاصة في مجالات التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الصناعي وصناعة الرقائق المتطورة والحاسوب الكمي، وذلك عبر تحييد روسيا وفك العلاقة الروسية الصينية الاستراتيجية، أو إضعافها بالقدر الذي يمكن الولايات المتحدة من التفرغ لمواجهة الصين وتحديات القرن الحادي والعشرين. ومن العوائق التي اصطدمت بها إدارة ترمب حيال المسألة الروسية الأوكرانية أيضًا لوازم استراتيجية أميركا لتوسيع حلف الناتو والتحكم بالأمن الأوروبي والذي يتطلب إبقاء روسيا فزاعة لأوروبا من أجل ابتزازها والضغط على حكوماتها لزيادة الإنفاق العسكري، والذي ستجني ثماره شركات الصناعات الحربية الأميركية المهيمنة على سوق السلاح العالمي. ومن ثم فإن رؤية الرئيس ترمب للمفاوضات الجارية تنطلق من كيفية تحقيق أكبر مردود لأميركا من ناحية أمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة، ومن ذلك "أمركة السياسة الأمنية" عالميًّا عوضًا عن "الشراكة الأمنية متعددة الأطراف".

Abu Taqi
04-06-2025, 12:38 PM
وأما بشأن استراتيجية الرئيس بوتين التفاوضية فتشمل مزيجًا من البراغماتية الحذرة والمناورة الاستراتيجية واللعب على تناقضات الخصوم، ومن ذلك اتخاذه سياسة تعطيل مسار التفاوض دون وقفه، من خلال المماطلة المتعمدة وتأجيل الحسم، وعدم تقديم تنازلات، وكذلك من خلال المطالبة بمعالجة "جذور المشكلة"، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال اقترح بوتين استئناف "المفاوضات المباشرة دون أي شروط مسبقة" في إسطنبول في أعقاب تهديد ترمب بفرض عقوبات "ضخمة" على روسيا ومطالبة القادة الأوروبيين بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثين يومًا خلال احتفالهم بعيد النصر في كييف. ومن خلال هذه الاستراتيجية لا يتخذ بوتين أية خطوات عملية نحو وقف إطلاق النار مستفيدًا من الوقت لتعزيز السيطرة الميدانية وبناء دفاعات مستدامة في المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات الروسية لفرض الأمر الواقع وتأسيس المفاوضات مع الولايات المتحدة استنادًا للواقع تمامًا كما يفعل نتنياهو في حرب الإبادة على غزة وفي الشأن الفلسطيني بعامة؛ لهذا تبدو تصريحات بوتين متناقضة مع أفعاله على الأرض. ففي الوقت الذي يتحدث فيه عن السلام يصعد القتال ميدانيًّا.
وأما من حيث اللعب على تناقضات خصومه فإن بوتين يدرك أن ترمب يريد نصرًا سريعًا ولا يحبذ المفاوضات الطويلة، فيستغل ذلك للإمساك بزمام المبادرة ووضع ترمب في موقع اللاحق لا المبادر، كما حدث في الهجوم الأخير والذي اضطر ترمب للتصريح بأنه لم يعد يفهم بوتين! ومن ثم فإن الرئيس الروسي يدرك أسلوب ترمب التسويقي ويدير اللعبة عبر تقديم مقترحات ظاهرها جاذب لكن مضمونها يخدم المصالح الروسية ويكرسها نحو قبوله بمحادثات السلام، مع المطالبة بالشرعية السياسية على المناطق التي يسيطر عليها.
ومن جانب آخر يرفض بوتين أي لقاء مع زيلينسكي لإظهار أن القرار الحقيقي بيد ترمب وأنه الضامن لأي اتفاق سياسي، كما حدث في المفاوضات التي عقدت في إسطنبول، حيث وصف وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، زيلينسكي بأنه "مُثير للشفقة" لمطالبته بوتين بحضور محادثات السلام في إسطنبول. وأما استغلاله لتناقضات خصومه فهو يدرك سياسة أميركا الرامية لفرض زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي ويستغل حاجة بعض الدول الأوروبية الشرقية مثل المجر وبعض الدول الآسيوية مثل الهند للطاقة لتفكيك جبهة الدفاع عن أوكرانيا ورفع حدة الحصار الاقتصادي عن بلاده.
وأما ما يبدو من تناقض في مواقف ترمب حيال الحرب الأوكرانية وحيال الرئيس بوتين نحو ثنائه على هذا الأخير تارة ووصفه تارة أخرى بأنه "مجنون تمامًا" أو أنه "يلعب بالنار"، أو بتهديده بتغيير النهج الأميركي خلال مدة أسبوعين إذا لم يتم احراز تقدم بشأن وقف إطلاق النار، فإنما هي رسائل للأوروبيين بصلابة الموقف الأميركي من بوتين ولإبقاء التوترات عالية مع روسيا وضمان التفاف الأوروبيين حول الموقف الأميركي، وهو الدور الذي يتولى التعبئة والترويج له في أوروبا، رئيسُ الوزراء البريطاني كير ستارمر، ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، والرئيس البولندي كارول ناوروتسكي. ومن ذلك إعلان وزير الدفاع البريطاني أنه لا يمر يوم دون محاولة روسية للهجوم على بريطانيا، وتصريح كايا كالاس " لماذا نحن في حلف شمال الأطلسي؟ لأننا خائفون من روسيا. الأمر الوحيد الفعّال حقًا، والضمانة الأمنية الوحيدة الفعّالة هي مظلّة حلف شمال الأطلسي". وهو الأمر الذي يصب في حالة عدم اليقين الأوروبي بشأن الموقف الروسي، كما يعزز المطلب الأميركي بزيادة الإنفاق العسكري الأوروبي، ويبقي فرنسا بخاصة ضمن مظلة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ذلك أن "تحالف الراغبين" الذي يطالب بالتضامن الأوروبي مع أوكرانيا، والذي تحاول فرنسا وألمانيا التجسير من خلاله بين رؤيتهما وبين الرؤية الأميركية؛ لإنهاء الحرب الأوكرانية التي وصفها القادة الأوروبيون بأنها "كابوس" لأوروبا، سيكون في ظل التصعيد الروسي وعدم القدرة على التنبؤ الأوروبي بمواقف ترمب وعدم اليقين بشأن مواقف بوتين، أقل انفتاحًا على "الاستقلال الاستراتيجي" الذي ينادي به ماكرون.
وفي لجة التصعيد والتوترات والاحتقان السياسي في الملف الأوكراني وباقي الملفات الدولية الساخنة، فإن إدارة ترمب ترى أن هيبة أميركا لا تقتصر على القيم الليبرالية أو القوة العسكرية فحسب، بل بالقدرة على تسخير الوقائع الجارية والوقائع المفروضة والمستعصية لفرض اتفاقات مربحة تمكنها من الحفاظ على موقعها الريادي وتفردها بالموقف الدولي دون الحاجة لخوض الحروب إلا مضطرة. وعليه فمن المرجح أن يحقق ترمب مراده من الحرب الأوكرانية بصياغة اتفاق يكرس تبعية الأمن الأوروبي لأميركا وما يترتب عليه من آثار سياسية واقتصادية وجيوسياسية، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقة الروسية الصينية، والعلاقة الصينية الأوروبية. بالإضافة إلى حصول الولايات المتحدة على بدل مالي لأي دعم لوجستي أو عسكري لأوكرانيا عبر اتفاقية الموارد، وتحميل مسؤولية الدفاع عن أوكرانيا لأوروبا عبر "تحالف الراغبين".
8/ذو الحجة/1446هـ
4/6/2025م