المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية الاشتباكات العسكرية في العاصمة الليبية طرابلس، دوافعها ومآلاتها



Abu Taqi
21-05-2025, 04:45 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
الاشتباكات العسكرية في العاصمة الليبية طرابلس، دوافعها ومآلاتها
شهدت العاصمة الليبية طرابلس انفجارًا جديدًا للصراع المسلح، عقب اغتيال عبد الغني الككلي المعروف بـ”غنيوة”، وهو قائد بارز لإحدى الفصائل المسلحة، مما أشعل اشتباكات دامية استمرت ثلاثة أيام، وأعاد تسليط الضوء على الأزمة الليبية المستمرة منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011. حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بين "اللواء ٤٤٤" التابع لحكومة الدبيبة وبين "جهاز دعم الاستقرار" عقب اغتيال قائده (الككلي) أثناء اجتماع لخفض التوترات بين الفصائل المسلحة، والتي خلفت أعدادًا من القتلى والجرحى بين المتحاربين والمدنيين. وهو ما أدى إلى انطلاق موجة من الاحتجاجات الشعبية المطالِبة بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وإخراج الميليشيات المسلحة، كما أدى إلى استقالات وزارية ومطالبات بتشكيل حكومة جديدة. ولقد اتسعت منطقة القتال لتشمل مناطق واسعة من طرابلس، مما زاد من حالة الفوضى الأمنية والتوتر الذي صعد من الاحتجاجات الشعبية والمطالبة بإسقاط الحكومة حتى بعد إعلانها وقفًا لإطلاق النار في ١٤ أيار/مايو.
لقد جاءت هذه الأحداث الأخيرة لتُلقي الحجارة في المياه الراكدة بعد فترة هدوء نسبي في الساحة الليبية، وبعد حالة الجمود السياسي التي نجمت عن تمركز القوى السياسية المنقسمة بين الشرق الليبي وغربه في مناطق سيطرتهم، واحتفاظهم بمكتسباتهم التي رعاها الغرب عبر مندوبيه ومندوبي الأمم المتحدة، من أجل إدارة النزاع بين الخصوم السياسيين وفق المصالح الغربية وفي مقدمتها المصالح الأميركية المتمثلة بضمان السيطرة على النفط الليبي والتحكم بإمداداته، والمتمثلة أيضًا بملفي الهجرة و"الإرهاب" المؤثرين على أوروبا من خاصرتها الضعيفة في جنوب البحر المتوسط، وتسخير هذين الملفين في تبرير تقوية وتدخل حلف الناتو خارج أوروبا، وتسخيرهما أيضًا في تغذية الميول الشعبوية الأوروبية من أجل التحكم وتوجيه السياسات الداخلية والخارجية الأوروبية وفق الرؤية الأميركية وسياستها الاستعمارية الخارجية. وهذا بالإضافة لما يوفره استمرار حالة الفوضى والانقسام السياسي الليبي من مناخ يسمح بتسلل القوى الدولية والإقليمية المتنافسة كتركيا وروسيا وإيطاليا وفرنسا ومصر والإمارات وقطر إلى الملف الليبي، والتسابق والمزاحمة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وهو ما يبعث على الخلافات فيما بينهم لصالح الولايات المتحدة.
غير أن هذه المواجهات العسكرية الأخيرة إنما جاءت في ظل توجه الإدارة الأميركية الجديدة لتهيئة الأوضاع الإقليمية في المنطقة لاستكمال تنفيذ مشروع الحل الإقليمي، في مرحلته الثانية، بعد القضاء على محور المقاومة وتفكيكه، وإضعاف أذرعها الرئيسية والانتقال إلى تصفيتها سياسيا بعد إضعافها عسكريًّا، وبعد موجة توقيع اتفاقات السلام والتطبيع مع بعض الدول العربية، ومساعي إعادة تأهيل الدول الأخرى للسير في المشروع الإقليمي وتوقيع اتفاقات سلام مع الكيان المحتل، وهذا ما حصل مع النظام السوري، ويحصل الآن مع ليبيا، التي تعاني انقسامًا في الدولة منذ الإطاحة بالقذافي، وتعاني تغولًا للمجموعات المسلحة على حكومة الوفاق في المنطقة الغربية. كما أنها تنسجم مع رياح التهدئة التي اتخذت منها إدارة ترمب شعارًا للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة الاستثمار السياسي لجني الثمار الاقتصادية التي تحقق قاعدة "أميركا أولًا"، ولا سيما وأن الاستثمارات الاقتصادية تتطلب استقرارًا سياسيًا. وبالتالي فإن اغتيال الككلي أثناء اجتماع يهدف إلى تهدئة التوتر إنما يُعد تصعيدًا مدبرًا ومبرمجًا لهز الاستقرار السياسي وتحريك المياه الراكدة تمهيدًا لإعادة هيكلة النظام وفق مقتضيات المصالح الأميركية، والتي تستوجب إعادة تأهيل النظام بدمج الفصائل الليبية المسلحة تحت جناح الدولة، تمامًا كما يجري العمل له في سوريا لأغراض اقتصادية وسياسية، وكما يجري العمل له في لبنان لأغراض سياسية تؤول إلى دمج حزب الله في النظام العام والسيطرة على سلاحه، وإلحاق سوريا ولبنان بقطار التطبيع مع الكيان الصهيوني. ولذلك لم تكن مطالب المظاهرات والاحتجاجات الليبية بإخراج الفصائل المسلحة، ودعوة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الفصائل للاندماج في أجهزة الدولة في معزل عن هذا الإطار المفروض من الخارج، وإن كانت الأحداث الليبية لا تخلو من الصراع السياسي الداخلي. وبخاصة وأن النزاع قد وقع بين طرفين يمثل كل طرف منهما قوى سياسية متنافسة مع غيرها، حيث وقع النزاع بين "اللواء ٤٤٤" التابع لحكومة الدبيبة، وبين "جهاز دعم الاستقرار" بقيادة الككلي الداعم للمجلس الرئاسي، ووقع أيضًا في سياق تصاعد هجوم مسلحين تابعين لعبد الغني الككلي على شركة الاتصالات في طرابلس، وهو الهجوم الذي اعتبرته فصائل من مصراتة "تعديًّا على نفوذها وتهديدًا مباشرًا لرئيس الحكومة الدبيبة". وبهذا المعنى فإن لهذا النزاع الأخير في هذه الظروف بعدين أساسيين، وهما البعد الخارجي الذي يرمي إلى تحريك الملف الليبي بمقتضى التوجه الأميركي في المنطقة برمتها، والبعد الداخلي الذي يقتضي نزع الأسلحة من الفصائل ودمجها في الأطر الرسمية لضبطها ومنعها من التحرك ضد الأجندات الأميركية المفروضة على الحكومات.
وفي هذا السياق ثمة تناغم بين موقف حكومة الوحدة الوطنية وبين التوجه الأميركي لإقرار الوضع الليبي وإعادة هيكلة الدولة، والذي تدعمه نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا للشؤون السياسية ستيفاني خوري، ويقوم على الانتخابات السياسية والانتقال لدمج المناطق الجنوبية وحماية الحدود ثم توحيد مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية ونقل صلاحياتها إلى المستوى السياسي الرسمي، ثم بناء مناخ مالي واقتصادي مستدام، كما يزعمون! واتساقًا مع هذه الرؤية قال عبد الحميد الدبيبة يوم السبت الماضي إن "المرحلة الحالية تتطلب موقفًا موحدًا لدعم مسار الدولة، ورفض أي عودة لحكم المجموعات المسلحة". والبعد الثاني؛ أي الداخلي والمتمثل بتنافس القوى الداخلية فإنه يتحرك وتتجه بوصلته على إيقاع البعد الخارجي وأوتاره، ويجري الاستثمار فيه في إطار التنافس على المصالح والنفوذ. ومن ذلك قيام عبد الحميد الدبيبة بإصدار قرارات بحل عدد من الأجهزة الأمنية الموازية التي يقودها خصومه، في محاولة للسيطرة الكاملة على العاصمة. وفي هذا البعد يمكننا القول إن مع إعادة توجيه ترمب للسياسة الأميركية في المنطقة نحو الاستقرار الذي تقتضيه المصالح الأميركية راهنًا، باتت سياسة عرقلة المسار السياسي في ليبيا، وتأجيل هيكلتها مجمدة على الأقل، وذلك تمهيدًا لمرحلة جديدة كان ترمب قد بشر بها منذ حملته الانتخابية الأولى وهي التدخل لمعالجة مشكلة ليبيا وامتصاص ثروتها والإفادة من موقعها الجيوساسي.
وأما التفاصيل فإن التصريحات والزيارات واللقاءات الليبية الأميركية الجارية في الفترة الأخيرة ترسم ملامح المرحلة القادمة وتشي بهذا المسار؛ حيث صرح مسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، والمقرب عائليًّا للرئيس ترمب، لقناة العربية في ١٨/٤/٢٠٢٥ إن "الولايات المتحدة تعمل على مبادرة سياسية شاملة جديدة تهدف إلى حل الأزمة الليبية المستمرة ... بما في ذلك النظر في نموذج حكم موحد". كما أضاف بأن الإدارة الأميركية تهدف إلى تحقيق توازن في السلطة وتوحيد المؤسسات التنفيذية والأمنية والاقتصادية عبر تحقيق شراكة سياسية حقيقية بين مختلف الفاعلين الليبيين". وقد تزامن هذا التصريح مع قيام قائد الأسطول الأميركي السادس جيفري أندرسون والسفير ريتشارد نورلاند المبعوث الخاص لليبيا والقائم بالأعمال الأميركي جيريمي بيرندت بزيارة لكل من بنغازي وطرابلس في ٢٠ نيسان/أبريل. فيما قال المبعوث الرئاسي الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف في مقابلة مع موقع "ذا أتلانتيك" (The Atlantic) بعد إعلان وقف إطلاق النار في طرابلس "سنحقق النجاح في ليبيا، وستسمعون ذلك قريبًا". كما وتخلل هذه الفترة المحيطة بالأحداث الليبية الأخيرة عدد من اللقاءات التي جمعت الدبلوماسيين الأميركيين مع المسؤولين الليبيين في الشرق الليبي وغربه، حيث اجتمع الدبيبة مع ريتشارد نولاند في ١٩ نيسان/أبريل، وبعد عشرة أيام؛ أي في ٢٩ نيسان/إبريل، التقى صدام حفتر في الخارجية الأميركية بواشنطن مع تيم ليندركينج ومسعد بولس، وحضر بلقاسم حفتر الذي يرأس صندوق التنمية والاعمار الليبي منتدى التنمية والإعمار الليبي-الأميركي الذي عقد في واشنطن في ٢٨ نيسان/أبريل. ويُستشف من ذلك كله ومن المظاهرات الموجهة التي تنطوي على مساعٍ لتعجيل الانتخابات، أن الأحداث الأخيرة التي وقعت إنما تندرج في أعمال التمهيد لإعادة انتاج نظام وظيفي يخدم المصالح الأميركية، ويخضع لمعاييرها التي تعتبر تلبيتها معيارًا لحيازة السلطة وتوزيع الأدوار وتقاسمها بين الفاسدين في الوسط السياسي الليبي، على حساب الدم والثروة الليبية، والذين لن تسلم ليبيا وأهلها إلا بنبذهم والتخلص منهم، باعتبارهم ركائز للقوى الاستعمارية التي كرست التجزئة وتسعى لتأبيدها، ولذلك ما لم ترفع الحدود السياسية الوهمية التي خطها الاستعمار في وعي المسلمين عبر القومية والوطنية والمذهبية وعبر ترسيخها في جغرافيا البلاد العربية، وما لم تتوحد النظرة إلى الحكم على أساس الإسلام؛ باعتباره الضامن الوحيد للتعبير عن إرادة الشعب وتوحيد السلطة واستقرار المجتمع، فإن المنطقة مقبلة على عقود من التبعية المغموسة بالذل للغرب الكافر وربيبته إسرائيل.
لذلك فإننا مدعوون إلى تصحيح الأوضاع القائمة في بلاد المسلمين لمواجهة التحديات الكبرى التي يفرضها الغرب الكافر على الأمة بعد أن صار الصراع بيننا وبينه مكشوفًا، وبلا أقنعة، وأن تكون المواجهة على أساس أن منطقتنا واحدة لا تفصل بينها حدود، وعلى أساس أن مواجهة أمريكا والكيان الصهيوني والغرب الاستعماري هي مسؤولية عامة لا بد لها من موارد الأمة وطاقاتها البشرية والمادية.
وقد وعد الله تعالى المؤمنين المخلصين العاملين لنصرة دينه بالنصر والتمكين، فلننصر الله لينصرنا في الدنيا، ويمكن لنا في الأرض ونعود أمة رسالة تحمل الهدى إلى العالم أجمع ونخلصه من شرور الرأسمالية المتوحشة.
23/ذو القعدة/1446هـ
21/5/2025م