المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية أزمة التعريفات الضريبية التي أشعلها الرئيس الأميركي



Abu Taqi
11-04-2025, 11:28 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
أزمة التعريفات الضريبية التي أشعلها الرئيس الأميركي
أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الأربعاء ٢/٤/٢٠٢٥ تطبيق عقوبات تجارية على ١٨٠ دولة، ووصف هذه الخطوة عبر منصته "تروث سوشيال" أنها ستكون "أم المعارك التجارية"، وأنها "ستفتح عصرًا ذهبيًا للولايات المتحدة" من خلال إعادة التصنيع إلى أميركا واستعادة ثرواتها المنهوبة.
إن هجوم ترمب على العولمة ونظام التجارة العالمي وتداعيات قوة الدولار والعجز التجاري والدعم العسكري للحلفاء، وتأثير كل ذلك على الصناعة والاقتصاد وعلى الشعب الأميركي ليس جديدًا، حيث سبق وأن أوضح قديمًا وفي خطاب مفتوح نشره في عدد من الصحف الأميركية سنة ١٩٨٧ أن الحل هو إنهاء العجز التجاري وعجز الميزانية الفدرالية وتخفيض الضرائب لدعم النمو الاقتصادي، وهي نظرية "التحررية Libertarian" التي يتبناها جناح ترمب في الدولة العميقة. وتأتي هذه الخطوة في ظل العجز التجاري الأميركي الذي سجل ارتفاعًا بحسب إحصائيات التجارة الأميركية لعام 2024، يصل إلى 17%؛ ليصل إلى 918 مليار دولار. علمًا أن الميزان التجاري في السلع والخدمات قد سجل عجزًا يفوق التريليون دولار للعام الرابع على التوالي. وتحوز الصين الحصة الأكبر في ميزان العجز التجاري الأميركي رغم تطبيق عقوبات جمركية بدأها ترمب في فترة رئاسته الأولى، ومددها ووسعها الرئيس بايدن. حيث بلغ حجم التبادل التجاري في السلع بين الولايات المتحدة والصين عام 2024 نحو 582.4 مليار دولار بواقع 295.4 مليار دولار لصالح الصين.
ومن استقراء سياسات ترمب التجارية في فترة رئاسته الأولى، التي ارتكزت على استخدام العقوبات كأساس لإعادة صياغة العلاقات التجارية، ومنها إعادة إطلاق اتفاقية التجارة الأميركية الكندية المكسيكية، وإيقاع العقوبات على الصين، يتضح أنها لم تحقق "التوازن التجاري" والنتائج المرجوة، حيث تضاعف العجز التجاري مع تلك الدول، إذ ارتفع العجز التجاري مع كندا من ١١ مليارَ دولارٍ في عام ٢٠١٦ ليصل إلى ٦٤ مليارَ دولار في عام ٢٠٢٤. بينما تضاعف مع فيتنام والمكسيك بعدما وجهت الصين جزءًا من طاقتها التصديرية إليهما للاستفادة من اتفاقيات التجارة بينهما وبين أميركا.
وقد انعكست إجراءات ترمب على أسواق الأسهم والبورصات وألحقت بها خسائر تناهز 10 تريليون دولار. كما تفاوتت ردود الفعل في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ولدى كثير من المحللين الماليين والاقتصاديين حول إعلان ترمب للتعريفات الجمركية بين التغطية الساخرة (الخطأ الرياضي في صيغة التعريفة الجمركية)، وبين التحليل النقدي والتحذيرات المفزعة من زيادة التضخم والركود الاقتصادي واحتمال نشوب حرب تجارية مع شركاء أميركا الرئيسيين.
وإزاء هذه الخطوة التي أحدثت ضجة كبيرة وأشغلت العالم تجدر الإشارة إلى بعض جوانبها لمعرفة ما الذي يطمح إليه ترمب حقًا؟ وهل سيستمر في إجراءاته الحمائية أم أنه سيتراجع؟ ومن الذي سيدفع ثمن التعريفات الجمركية؛ هل هي الدول المصدرة أم الشعوب؟ وكيف سيتمكن ترمب من تخفيض قيمة الدولار التي يرى أنها سبب رئيسي في فقدان قدرة أميركا التنافسية تجاه من أسماهم بـ "المتلاعبين بأسعار الصرف"؟
لقد أوضح الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطابه للكونجرس في الـخامس من شهر آذار/مارس ٢٠٢٥ أن نظام التبادل التجاري الساري "ليس عادلًا للولايات المتحدة، ولم يكن كذلك أبدًا"، مضيفًا عزمه إيقاع تعريفات جمركية مماثلة لتلك المفروضة على بلاده. وأن سياسته "ستجعل أميركا غنية وعظيمة مرة أخرى". مشيرًا إلى عزمه المضي في الأمر قائلًا "هذا الأمر سيحدث، وسيحدث بسرعة كبيرة". كما خاطب الشعب الأميركي لطمأنته "ستكون هناك بعض الاضطرابات، لكننا راضون عن ذلك، وتأثيرها لن يكون كبيرًا". ولم يترك ترمب فرصة إلا وأكد على نهجه ونقده اللاذع الذي لم يطل الدول الصديقة والحلفاء والخصوم فحسب، بل وطال الرئيس بايدن ووصفه بالغبي الذي تسبب بالإضرار بالاقتصاد الأميركي بحسب وصفه.
إنه من السهل إلقاء اللوم على "جنون" ترمب أو "جهله الصادم حول كيفية عمل الاقتصاد العالمي"، أو أنه "سيهدم النظام العالمي" ولكن من الضروري قراءة الإجراء الذي اتخذه ترمب في ظل التحدي الاقتصادي الصيني ومخاطر اعتماد أميركا والعالم على سلاسل التوريد العالمية التي تتحكم بها الصين، ونموها الاقتصادي الذي تستغله في تعزيز قوتها العسكرية ونفوذها السياسي. حيث تُعتبر الصين التحدي الأكبر للولايات المتحدة في هذا القرن، وهو الأمر الذي يمكن قراءته في تصريح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو: "إذا بقينا على نفس النهج الذي نسير عليه الآن، ففي أقل من عشر سنوات، سيعتمد كل ما يهمنا في الحياة تقريبًا على ما إذا كانت الصين ستسمح لنا بذلك أم لا؟ ... لقد أصبحوا يسيطرون على إمدادات صناعة المعادن الحيوية في جميع أنحاء العالم". كما لا بد من قراءة إجراءات ترمب في ظل التنافس الجيوسياسي الشديد بين الدول الكبرى، وفي ظل التحوط الأميركي للمنافسين المحتملين كالصين والاتحاد الأوروبي، وفي ضوء خطاب ترمب في الكونجرس وتركيزه على "استعادة العصر الذهبي لمكانة الولايات المتحدة"، والتي اتخذ ترمب لتحقيقها سياسة الإرباك "disruption" وأسلوب الصدمة؛ لكي يتمكن من كسر القيود التي تملي على أميركا التزامات مطلقة، تجعلها تتصرف "كمحسن عالمي دون عائدات مباشرة"، واستبدال قاعدة "أميركا أولًا" بها.
ففيما يخص النظام العالمي، والذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، ووضعت أميركا قواعده، ومنها طرق تنظيم التجارة الدولية، فإن إدارة ترمب ترى أنه يتم استغلال هذا النظام من قبل الدول المنافسة مثل أوروبا وكندا واليابان والصين لـ"ربط أميركا في أطر تجارية غير عادلة في حين أنها ملتزمة بدفع ثمن الحروب الخارجية". ولمعالجة هذا الخلل دون المس بجوهر النظام العالمي فإن ترمب يسعى لتحقيق المصلحة القومية الأميركية عبر الصفقات الثنائية باستخدام سلاح التعريفات الجمركية، وكسر القيود والمعايير المعرقلة لغزو الأسواق العالمية مقابل ضمانات أمنية وحماية عسكرية. ولا ينفك كل ذلك عن الابتزاز وعن "كيفية إدارة ترمب للمفاوضات"، والتي تفهم من منظور استراتيجية المفاوضات المعروفة بـ "المساومة عالية المخاطر High-stakes Bargaining"؛ لإرغام منافسيه على تقديم تنازلات لتجنب أسوأ السيناريوهات. ومن أمثلة ذلك مقايضة وقف الحرب الأوكرانية باتفاق المعادن، وتفاوض إدارة ترمب على إنهاء التمرد في الكونغو مقابل اتفاقية تسمح لأميركا بالاستثمار والاستيلاء على مقدرات الكونغو، وإبرام صفقات السلاح مع كوريا الجنوبية مقابل الحماية، وفرض الإملاءات على السعودية وباقي دول الخليج للاستثمار في الولايات المتحدة، حيث تقدمت السعودية والإمارات بعرض ما يربو على ترليوني دولار للاستثمار في أميركا مؤخرًا. كما تُعد "الرسوم الجمركية" جزءًا من الخطط الأميركية الشاملة لإعادة صياغة النظام العالمي بمقتضى المصالح الأميركية والتحديات الجديدة، وبما يعكس تفردها في الموقف الدولي وتفوقها الاقتصادي، نظرًا لأن النظام الدولي الراهن وبفعل العولمة التي فرضتها أميركا لم يعد يُعتبر داعمًا بدرجة كافية لتحقيق النتائج الإيجابية للحفاظ على التفوق الأميركي. ذلك أن الصين وأوروبا استعملوا نفس النظام العالمي لتوليد الثروة والنفوذ والقوة بمعزل عن الوصاية الأميركية. ولذلك تسعى أميركا من خلال مبادرة ترمب الجمركية إلى تحميل أوروبا أعباءً إضافية لإدارة شؤون العالم، وإجهاضِ نمو الصين الذي يهدد القيادة العالمية لأميركا. ولهذا علق رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، بأن نظام التعريفات الجمركية الذي فرضه دونالد ترامب "سيُغير النظام التجاري العالمي جذريًا"، وقال: "إذا لم تعد الولايات المتحدة راغبة في القيادة.. فستقوم كندا بذلك"، بينما صرّح دارين جونز، كبير أمناء الخزانة البريطانية، بأن "العولمة كما عرفناها خلال العقدين الماضيين قد انتهت".
>>

Abu Taqi
11-04-2025, 11:29 AM
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن استخدام الولايات المتحدة لسياسة التعريفات الجمركية كأسلوب لاستعادة الصناعات التي تم نقلها إلى مناطق التكلفة المنخفضة صعبة المنال، وهو ما لا يخفى على ترمب وإدارته، لكنهم يسعون من خلالها إلى تحفيز الصناعات المتقدمة، وبخاصة تلك المرتبطة بصناعات الرقائق ومعدات ومكونات الطاقة البديلة والذكاء الصناعي والحاسبات الكمية والروبوتات الآلية والصناعات الدفاعية والأدوية تحوطًا للصراع التجاري في المستقبل، إذ تصنف الولايات المتحدة القطاعات آنفة الذكر ضمن مسائل الأمن القومي الأميركي. ولأجل ذلك تسعى أميركا لإبرام صفقات ثنائية تقوم على تقسيم دول العالم الى ثلاثة أقسام؛ الحلفاء والدول المتعاونة وهي الدول التي تتوافق مع السياسات والمصالح الأميركية، والدول المنافسة او المعادية وهي الدول التي تصنف بدول أو تكتلات منافسة اقتصاديًّا أو استراتيجيًّا مثل الصين والاتحاد الأوروبي، ودول الطغيان. ويمكن ملاحظة هذه السياسة من خلال حركة رجال الأعمال المقربين من ترمب، مثل ستيف ويتكوف، وتحركاته بين العواصم لاستكشاف الصفقات الثنائية والتي نتج عنها استقطاب وعود استثمارية تناهز 100 مليار دولار من سوفت بانك، وقرابة 2.5 تريليون دولار من الإمارات والسعودية و100 مليار دولار من شركة tsmc التايوانية، وعرض من الكونغو للاستثمار في ثرواتها الطبيعية مقابل الحماية الأميركية، وعرض من الصومال للاستثمار في عدد من موانئها الاستراتيجية ومعادنها، وإعلان شركة بلاك روك الأميركية شراء حصة الشركة الصينية للموانئ على طرفي قناة بنما بقيمة ٢٣ مليار دولار (التفاوض لشراء ٤٣ ميناء منتشرة في العالم). وهو الأمر الذي منعته الحكومة الصينية وأوقفت تنفيذه.
ولا يخفى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض لا تمثل طموحات الشعب الأميركي، وإنما تستغل الشقوق الاجتماعية والمخاوف لتمرير أجندتها التي تمثل أهداف جناح أو أجنحة معينة في الدولة العميقة، ولا يهمها تداعيات التكاليف الباهظة للرسوم الجمركية التي سيتكبدها الشعب الأميركي وشعوب العالم طالما أنها تحقق أكبر قدر ممكن من الإيرادات، والتي يُتوقع أن تصل إلى ٦٠٠ مليار دولار سنويًا. وهو ما يمنحها فرصة تمويل مشروع تقليص الضرائب لصالح الشركات والأثرياء "الأوليجارش" الأميركان. وبهذا المعنى فإنَّ ثمة هدفًا نفعيًّا يخص الطبقة الرأسمالية المسيطرة في الولايات المتحدة، وهي التي فرضت على ترمب اتخاذ هذه التدابير الضريبية للإفادة منها بصرف النظر عن تداعياتها على الشعب الأميركي.
وفي هذا السياق أشار مختبر الميزانية بجامعة "ييل" الأميركية أنه "إذا اتخذت الدول الأخرى الإجراءات الانتقامية، فسيرتفع الإنفاق الاستهلاكي الفردي في الولايات المتحدة بنسبة 2.1%، وسينخفض معدل نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 1%". كما صرح نيل برادلي، كبير مسؤولي السياسات في غرفة التجارة الأميركية، وهي جماعة ضغط للشركات، بأن "ما سمعناه من شركات من جميع الأحجام والقطاعات ومن جميع أنحاء البلاد هو أن هذه التعريفات الجمركية الشاملة تُمثل زيادة ضريبية سترفع الأسعار على المستهلكين الأميركيين وتضر بالاقتصاد".
ومن ناحية أخرى فإن ترمب يأمل من إجراءاته الجمركية في حال نجاحها أن تعزز ثقة الدولة العميقة به وتمنحه نفوذًا أوسع لمتابعة أجندته لتخفيض التضخم وتنمية الاقتصاد وتوفير فرص العمل للطبقة الكادحة التي صوتت بقوة لصالحه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وذلك قبل الانتخابات النصفية والتي ستعقد في شهر تشرين أول/أكتوبر من عام 2026. ولذلك خاطب ترمب الشعب الأميركي عبر منصته "تروث سوشيال" بقوله: "لا تكن ضعيفًا، لا تكن غبيًّا، لا تكن مذعورًا. كن قويًّا وشجاعًا وصبورًا، وستكون العظمة هي النتيجة"، وطالبهم بالتحلي بالقوة والشجاعة ونبذ الذعر.
وفي الحقيقة رغم أن لهذه المعركة التجارية التي يخوضها ترمب والتيار الداعم له تداعيات سلبية على الشعب الأميركي، وعلى قطاع كبير من الشركات الأميركية، إلا أن المؤشرات والخبراء يرجحون بأنها صممت لعرقلة نمو الصين، وإضعاف أوروبا أكثر، وإجبار الدول على الاستثمار في أميركا، وإعادة هندسة العلاقات التجارية العالمية باستحداث قواعد جديدة تُركز على احتياجات أميركا على حساب بقية العالم، وهو ما يُستشف من قرار ترمب الأخير بإرجاء تطبيق التعريفات الجمركية الجديدة لمدة 90 يومًا باستثناء الصين التي رفع الرسوم عليها الى 145%. ومن المحتمل أن تقوّض "الرسوم الجمركية المتبادلة" استقرار سلاسل التوريد العالمية المرتكزة على الصين. ولا سيما وأن الأخيرة هذه تُعد أكبر دولة مصدّرة في العالم، وتُقيم علاقات تجارية نشطة مع أكثر من 150 اقتصادًا. وقد بلغت قيمة صادراتها في عام 2024 نحو 3.58 تريليونات دولار، بزيادة 5.9% عن العام السابق. وهو ما يشكل تحديًا للتفوق الأميركي العالمي في هذا القرن.
وأما بشأن الدولار فإن الولايات المتحدة تعتمد عليه لإحكام سيطرتها السياسية والمالية على العالم، ذلك أن الدولار هو قلب النظام المالي العالمي، والذي يعطيها إمكانية عزل أي دولة وإيقاع عقوبات مالية على الأفراد والشركات والدول كما فعلت مع روسيا، كما يسمح لها الاستفادة من عجز مالي في الميزان التجاري والميزانية الفدرالية، ويوفر لها أكثر من 100 مليار دولار فائدة سنوية. وهذا لا يمنع من محاولة خفض سعر صرف الدولار والذي تراه سببًا رئيسيًّا في "تقويض القدرة التنافسية الأميركية" وذلك من خلال إجبار الحلفاء على التعاون في سياسة العملة كما حصل في اتفاقية "بلازا"، والتي تم التوصل إليها عام 1985 لخفض قيمة الدولار مقابل الين الياباني والمارك الألماني. إلا أنه في ظل الوضع الدولي الراهن تُعدُّ فرصُ التنسيق العالمي لإضعاف الدولار قريبة من الصفر. فأميركا لا تريد تخفيض الدولار عبر بيع الدول احتياطياتها من الدولار وشراء العملة الصينية أو اليورو مثلًا، بل تسعى عبر إيجاد "الاحتياطي الاستراتيجي من البيتكوين"؛ لتحويل التدفقات النقدية للدولار بصفته الملاذ الآمن إلى البيتكوين المدعوم بالدولار الأميركي، أو أذون الخزينة الأميركية لتوفير الغطاء والضمان له ومنحه نوعًا من الاستقرار، ومن ثم تضمن أميركا تخفيض سعر الدولار دون أن يفقد مركزيته العالمية في النظام المالي العالمي.

Abu Taqi
11-04-2025, 11:29 AM
وفي الختام، لا بد أن نعلم أن أميركا وسياساتها الرأسمالية المتوحشة ليست قضاءً وقدرًا لا يمكن رده، بل يجري عليها ما يجري على الأمم والشعوب التي نهضت وعلت ثم انهارت وأصبحت أحاديث، وبخاصة تلك الدول التي تقوم على مبادئ باطلة ظالمة تتصادم مع حقائق الوجود، ولا تحيط بما يعالج شؤون الإنسان والحياة، والتي يسهل هزيمتها قيميًا وإضعاف تأثيرها الدولي وتفكيكها، وتقويض تحالفاتها وإسقاطها من الداخل. وما انهيار الاتحاد السوفييتي القائم على الشيوعية عنا ببعيد. ولا بد أن نعلم ايضًا أن سبب شقاء هذا العالم اليوم هو المبدأ الرأسمالي وعقيدته العلمانية التي عزلت نظام الخالق عن الحياة. والمبدأ الرأسمالي هو المسؤول عن الأزمات الاقتصادية والتجارية والمالية العالمية، وهو أكبر جريمة ترتكب في حق البشرية جمعاء، ولا يوجد بديل عنه رغم ترقيعه سوى الإسلام؛ وذلك لأن المبدأ الرأسمالي فاسد العقيدة وظالم في كيفية جني الثروة وفي كيفية توزيعها؛ إذ يسمح بتمليك مقدرات الدولة والناس للأفراد والشركات، ويجرد الدول والمجتمعات من مواردهم ومصادر دخلهم، ويلجئ الحكومات إلى فرض الضرائب وخصخصة الملكيات العامة ويلجئها للاقتراض من صندوق النقد والبنك الدوليين اللذيْن يمثلان الأداة الاستعمارية الفتاكة في الدول والشعوب، ويوقعهم في الأسر والارتهان لأعدائهم الذين يتحكمون بقوتهم ومصائرهم، ويفرضون عليهم تغيير عقائدهم وثقافاتهم وطرق عيشهم.
ولا بد أن نعلم أن المسلمين لديهم عقيدتهم وأنظمة حياتهم الخاصة بهم. ومن أبرز أنظمة حياتهم أحكام النظام الاقتصادي في الإسلام، ومنه نظام النقد الإسلامي القائم على الذهب، والذي بتطبيقه تجري السيطرة على التضخم ويعالج الاضطراب المالي والتجاري في الدولة؛ حيث لا يمكن للدولة طباعة أوراق مالية من دون غطاء ذهبي، ومن خلاله يمتنع استخدام آلية "التيسير الكمي" التي أهلكت أميركا بواسطتها ثروات الشعوب، حتى بات الدولار اليوم يعادل نصف قيمته في عام ٢٠٠٠. وبالتالي فإن أنظمة الإسلام كفيلة بمعالجة المشاكل التي دخلت كل بيت وملأت جوانب الحياة بؤسًا وشقاءً. وللخروج من هذا الوضع المأساوي الذي أوجدته الرأسمالية المتوحشة فإن على المسلمين باعتبارهم الأكثر مسؤولية عن العالم اليوم، غذ الخطى في العمل لإيجاد الدولة التي تطبق عليهم شريعتهم وتنقذهم وتنقذ العالم من وحوش الرأسمالية المجرمة. فقد وضع الإسلام أحكامًا شرعية تضمن تداول الثروة بين الناس جميعًا، وتعيد توزيعها كلما حصل اختلاف في توازن المجتمع. ومثال ذلك عندما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بأموال الفيء الذي غنمه من بني النضير من أجل إيجاد التوازن الاقتصادي، حين رأى التفاوت في ملكية الأموال بين المهاجرين والأنصار. وهذا بخلاف ما نراه اليوم من امتلاك ١٪ من البشر أكثر مما يمتلكه ٩٥٪ من سكان الأرض. وتسيطر شركتان فقط على ٤٠٪ من سوق البذور العالمي، ويمتلك مديرو الأصول "الثلاثة الكبار" (شركات أميركية) - بلاك روك وستيت ستريت وفانغارد - ٢٠ تريليون دولار من الأصول؛ أي ما يقرب من خُمس جميع الأصول القابلة للاستثمار في العالم.
إن ما تقوم به أميركا اليوم سياسيًّا واقتصاديًّا إنما هي بلطجة لا تنفك عن وحشية الرأسمالية المادية وفساد الديمقراطية القائمة على مركزية الإنسان، وما هذه الخطوة التي اتخذها ترمب إلا إسقاط للقناع الذي يخفي النزعة الاستعمارية القائمة على نهب الشعوب واستغلالها وابتزاز الحكومات وإفشالها، وإجبار الدول على اتباع سياسات اقتصادية تجرفها لمستنقعات الفقر والتبعية وتزيد الطُغَم الغنية ثراءً واستكبارًا. ولذلك فإن الرأسمالية وباء قاتل، وإن أميركا عصابة من كبار رؤوس الأموال، لا هم لهم سوى السيطرة على العالم ومنع الدول من الانعتاق من النظام الدولي الظالم الذي يوفر لهم الزعامة والتفوق. ولا يمكن للمسلمين أن يتحرروا من هذا النظام إلا بالمفاصلة بينه وبين الإسلام، وبالسير في طريق النهضة، بإعادة الإسلام فكرة يقوم عليها الحكم، وتنبثق عنها معالجات الحياة.
12/شوال/1446هـ
10/4/2025م