Abu Taqi
08-10-2023, 12:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
عملية طوفان الأقصى
في عملية غير مسبوقة قصفت كتائب القسام صباح أمس السبت 7 تشرين أول/أكتوبر مستوطنات في محيط غلاف غزة، وتوغلت فيه ودخلت موقع قيادة فرقة غزة وهي القوة العسكرية الإسرائيلية الضاربة، والمسؤولة عن كافة الحدود مع غزة وأسرت قائدها (جنرال)، كما استولت على عدد من المستوطنات. وأظهرت الصور والتسجيلات عديد الأسرى والقتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي بشكل مُذل. وفي المقابل رد جيش الاحتلال الإسرائيلي بشن غارات على مناطق مختلفة من قطاع غزة، أدت إلى استشهاد أكثر من 230 فلسطينيا وجرح أكثر من 1600 آخرين، ولا تزال الغارات مستمرة والاشتباكات قائمة. وقد أسفر هجوم القسام خلال اليوم الأول للقتال عن خسارة الجانب الإسرائيلي مئات القتلى وآلاف المصابين، بعضهم في حالة حرجة، بالإضافة إلى خسائر كبيرة في المعدات والآليات والمواقع المستهدفة بالصواريخ، علاوة على ما غنمه المقاومون من أسلحة وعتاد. ولا تزال الخسائر في ارتفاع في كلا الجانبين لا سيما وأن الكيان المجرم قد توعد بتكبيد حماس وأهل غزة ثمنًا باهظًا، فيما لا تزال كتائب القسام تتكتم على حجم القتلى والأسرى من الضباط والجنود والمستوطنين الذين هم في قبضتها، والذين تُظهر الصور والتسجيلات والأنباء سقوط عدد كبير منهم.
وقبل الحديث عن البعد السياسي للعملية لا بد من التأكيد على ما يلي:
أولا: لقد قدم أبطال القسام في غزة درسًا عظيما في الصلابة والعزيمة والإرادة والتضحية، ورفعوا هامة الأمة الإسلامية عاليًا بشجاعتهم وبطولاتهم التي عجزت عنها الجيوش العربية الرابضة في ثكناتها وقد صدئت أسلحتها. وبدد المجاهدون في بضع ساعات، الصورة الوهمية حول (الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر)، والتي جرى غرسها في وعي الأمة من طرف الأنظمة العربية الانهزامية الخائنة والمهرولة للتطبيع، وأربكوا قيادة العدو السياسية والعسكرية، وهزوا الكيان الصهيوني بأسره، وأدخلوه في صدمة ودهشة وذهول. بحيث وصفت صحيفة هارتس الإسرائيلية حماس بأنها حققت "نجاحًا باهرًا"، وأن الجيش الصهيوني "أمام فشل لا يمكن وصفه".
ثانيًا: بصرف النظر عن تقاطع هذه العملية العسكرية مع التوجهات الأميركية في تقويض توجهات اليمين الأشد تطرفًا في إسرائيل على المستوى الحكومي والشعبي؛ لاعتبارات تخدم المصالح الأميركية والأمن الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى، إلا أنها عملية جهادية وبطولية لكتائب القسام، تُعيد الثقة بالنفس وتشحذ الهمم وتثير البهجة وتبعث الأمل وتُلهم شباب اليوم وأجيال المستقبل. وترسل في ذات الوقت رسالة قوية ومدوية لقطعان المستوطنين وكيان يهود بأن بقاءهم لن يدوم طويلًا مهما تحصنوا بترسانتهم العسكرية المتطورة وأظهروا وحشيتهم وتمادوا في انتقامهم، ومهما مدهم العملاء وحلفاؤهم المطبعون الجبناء من حبال وأطواق نجاة. كما ترسل رسالة إلى الأنظمة المطبعة وحكامها أنهم يمثلون المستعمرين وأعداء الأمة، ولا يمثلون الشعب الأصيل التواق للجهاد وميادين القتال.
إن هذه العملية المزلزلة والمُذلة التي نفذتها كتائب القسام مهما جرى توظيفها في ألاعيب السياسة والأجندات الدولية قد أظهرت هشاشة الردع الإسرائيلي في النزال ومواجهة الرجال، وأحيت في وعي الأمة أن "السيف أصدق إِنباءً من الكتب" وأن التحرير ولجم العدو وردعه لا طريق له سوى الإيمان والصبر والعزيمة والإعداد والجهاد. وأثبتت أن هذا الكيان السرطاني لا يصمد في حرب حقيقية، وأن وجوده وبقاءه مرهون بالسند الدولي والإقليمي وغياب إرادة التحرير والإعداد والقتال من التفكير السياسي للأنظمة العربية العميلة. فها هي كتائب القسام رغم الحصار وقلة العتاد والرجال هشموا قوة الردع الصهيوني في سويعات قليلة، وأوقعوا في صفوف العدو خسائر مروعة أفقدته صوابه، وجعلت نتنياهو يصف ما حدث باليوم الأسود.
وأما البعد السياسي لهذه العملية وصعيدها فقد اختصره قائد كتائب القسام محمد الضيف في كلمته حيث قال: "قررنا أن نضع حدًا للانتهاكات الإسرائيلية والاعتداءات على الأقصى". وفي هذا الجانب فإن الدفاع عن الأقصى من دنس يهود ودفع صيال العدو وتحرير الأرض من الاحتلال واجب شرعي على كل مسلم، ولا رخصة فيه إلا لمن هم في حكم الأسر والعجز. غير أن تحكم الولايات المتحدة بخيوط الصراع وأدواته عبر العملاء الإقليميين، ومقاربات الحكومة الصهيونية وانقسامات المجتمع الإسرائيلي، وسقف التحركات والعمليات التي تمليها الظروف والعوز والتفكير السياسي البراغماتي لقوى (المقاومة)، كل ذلك يفرغ العمليات الجهادية من مضمونها ويسوقها في اتجاه آخر وأجندات مختلفة. ولا يخفى أن الولايات المتحدة وإن كان أمن الكيان الصهيوني جزءًا من أمنها القومي ولا تفرط به مطلقًا، إلا أن سلوك اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يستند إلى مزاعم توراتية تعيق تصفية قضية فلسطين بصورة قابلة للتنفيذ، يهدد استقرار المنطقة وخطط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأسره. ومن ذلك رفض اليمين الإسرائيلي الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية وقيامه باستفزازات ومحاولات لتهويد المقدسات الإسلامية. فمنذ انطلاق صفقة بايدن للتطبيع الإسرائيلي السعودي الذي بات يسير بوتيرة عالية عبر الوفود الإسرائيلية الرسمية المتقاطرة على السعودية، كثف المستوطنون نشاطهم التهويدي في القدس ومناطق الضفة، لفرض وقائع تحول دون أية تنازلات إسرائيلية حتى ولو كانت شكلية في سياق التطبيع مع السعودية، وكثف نتنياهو ضغوطه وتحركاته لإتمام صفقة التطبيع بمعزل عن القضية الفلسطينية. مما يعني نسف عنوان (حل الدولتين) المزعوم. وهو الأمر الذي أثار مخاوف الملك عبد الله الثاني ودعاه إلى التحذير في كلمته في الأمم المتحدة من التطبيع السعودي بمعزل عن متطلبات المسار الفلسطيني، لما في ذلك من تداعيات وتهديد لاستقرار النظام الملكي ومستقبل "الكيان الأردني".
وبهذا المعنى فإن هذه المعركة تصب من الناحية السياسية في ضرب اليمين المتطرف ولجمه عن تصرفاته في الضفة، وردعه عن موقفه بشأن المستوطنات والمقدسات، أو تغيير قواعد الاشتباك (التي منحت حماس حق التدخل لردع المتطرفين الصهاينة وحماية الأقصى)، ومنعه من إملاء شروطه بخصوص الصفقة مع السعودية أو إعاقتها. لا سيما وأن نتنياهو الذي يحتاج إلى إنجاز لتعزيز موقفه السياسي الداخلي يستغل حاجة بايدن الانتخابية لإتمام الصفقة مع السعودية، لإملاء شروطه المتمثلة بعزل المسار الفلسطيني عن التطبيع، والاستعاضة عن التنازلات المزعومة برشوة اقتصادية للسلطة الفلسطينية وسكان الضفة الغربية. وهذا يكشف صعيد الحراك كله والذي يتمحور حول (ربط الولايات المتحدة التطبيع السعودي بتنازلات شكلية لتحريك المسار الفلسطيني)، ولذلك شدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنه "يجب ألا نعطي الفلسطينيين حق النقض على معاهدات السلام الجديدة مع الدول العربية".
ورغم أن الولايات المتحدة تحاول الضغط على الكيان الغاصب وتحاول إغراءه بالتطبيع السعودي لقاء صيغة تمنح الفلسطينيين سلطة إدارية على مناطق في الضفة، ورغم تعنت اليمين الإسرائيلي المتطرف، إلا أن ما يجري على الأرض من تسارع في شق القنوات العلنية بين السعودية وإسرائيل، يدل على احتمالية إبرام التطبيع بمجرد وعود اسرائيلية بتجميد الاستيطان ووقف التصعيد والاستفزازات واستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، لتفادي مضي اليمين الصهيوني المتطرف في مسارات تضع المنطقة على فوهة بركان وتُربك الأولويات الدولية للولايات المتحدة.
وأما ما يتعلق بحيثيات ومآلات هذه المعركة، فلا بد من لفت النظر أولًا إلى أن العملية الضخمة التي نفذتها كتائب القسام شكلت صدمة للكيان الصهيوني، حيث استطاعت المقاومة أن تخفي استعداداتها، وشنت هجومًا كاسحًا اعتمد على كثافة الصواريخ وتسلل المقاومين، في يوم عطلة ليهود، الذين ذُهلوا من حجم الهجوم ودقة التنفيذ. غير أن هذه العملية الصادمة وآثارها المدمرة قد وفرت فرصة لاستثمارها من قِبل نتنياهو بتحميل المسؤولية للجيش والأجهزة الأمنية، لا سيما وأن كثيرًا منهم وقف ضد سياساته الداخلية، كما استغلها في صرف النظر عن مشاكله وترحيل أزمته، ووقف الاحتجاجات ضده، وفك عزلته الدولية، ولذلك استغل الحدث لإعلان حالة الحرب، وحالة الطوارئ التي تمكنه من تقييد حركة سكان الكيان وتجمعاتهم. لكن نجاح العملية ودقتها ونتائجها المذهلة وغير المتوقعة، سيعسّر عملية احتواء تداعياتها على مستقبل اليمين الإسرائيلي المتطرف وحكومته.
وبالتالي فإن هذه العملية ستُرخي بظلالها على الداخل الإسرائيلي بشكل رئيسي. ولا شك أن نتنياهو وفريقه الحكومي المتطرف سيوجه ضربة دامية لغزة وحماس؛ لأنه بات هو والكيان الصهيوني برمته أمام تحدّ غير مسبوق على مستوى الأمن والردع الذي يمثل مركز التنبه للمجتمع الإسرائيلي. وهذا ما يُفهم من الأهداف التي حددها بتطهير غلاف غزة وإعادة الهدوء والطمأنينة للمستوطنات، وتكبيد حماس ثمنًا باهظًا، ومن المؤكد أنه سيركز على ترميم صورة الردع التي انهارت في الساعات الثماني الأولى من هجوم كتائب القسام على غلاف غزة؛ لاستعادة الثقة الداخلية بحكومته ولشخصه. ورغم أنه أعلن بأن دولته في حالة حرب، ولكن ليس من المتوقع أن تمتد المعركة طويلًا أو تتوسع، لاعتبارات دولية، وبسبب قدرة كتائب القسام على إيقاع ضرر بالغ لا يقوى نتنياهو على تحمله، ولذلك منحته الولايات المتحدة الضوء الأخضر لاستعادة الردع لأهمية الكيان الصهيوني للأمن القومي الأميركي. ومن المتوقع أن يكون الرد الصهيوني على عملية طوفان الأقصى همجيًا ودمويًا ومدمرًا. ولكن مهما يكن من أمر فإن الضربة التي تلقاها الكيان المجرم قد حققت منذ بدايتها هدفها الرئيس وهو كسر هيبة الكيان المحتل وردع اليمين المتطرف من التمادي في غطرسته، وبخاصة وأن قادة حماس قد كشفوا أن لديهم معلومات مؤكدة بأن الحكومة المتطرفة كانت تخطط لضرب المقاومة والسيطرة على المقدسات وتهويدها. ومن المتوقع أن تحدَّ هذه العملية من تغول الحكومة اليمينية المتطرفة، وأن تنقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب، وقد تفضي إلى تساقط رؤوس عسكرية وأمنية ووزارية كبيرة إن لم تفضِ إلى سقوط الحكومة، وهو ما تريده أميركا لضبط سلوك الكيان الصهيوني وتوجيهه بما يحقق المصالح العليا له وللولايات المتحدة، وهو ما يريده بايدن أيضًا لتحقيق إنجاز انتخابي. ولهذا تم استغلال الفشل الأمني والعسكري من قِبل المعارضة الإسرائيلية في الهجوم على الحكومة اليمينية وتحميلها المسؤولية، وبخاصة نتنياهو وبن غفير الذي يتولى الحقيبة الأمنية.
وأما الموقف الأميركي فقد صرح البنتاغون بأنه مستعد لتأمين إسرائيل بكل ما يلزمها للدفاع عن نفسها، كما أعلن بايدن أنه يقف إلى جانب إسرائيل. وهذا الموقف هو في صلب العقيدة العسكرية والأمنية الأميركية حيال الكيان الإسرائيلي، تمامًا كالموقف المبدئي للدول الأوروبية التي أعلنت مؤازرتها لإسرائيل. ومن هذا المنطلق لا يملك بايدن، الذي طالما انتقد الحكومة الإسرائيلية اليمينية ورفض اللقاء بنتنياهو لأكثر من ستة أشهر، سوى دعم الأمن الإسرائيلي، لا سيما وأنه بحاجة لكسب الأصوات الإنجيلية الداعمة لإسرائيل في الانتخابات المقبلة. غير أن هذه المواقف المبدئية الغربية لا تتعارض مع (أو تُلغي) مواقفها من سلوك الحكومة الإسرائيلية الاستفزازية والمعيقة للأجندة السياسية الدولية بشأن تسوية النزاع وتصفية قضية فلسطين. فلناحية أن العملية تطال الجانب الأمني الذي يتولى مسؤوليته بن غفير الذي يعتبر إسقاطه مطلبًا أميركيًّا فإن إدارة بايدن تتواطأ عليه. وأما لناحية (أمن الكيان الغاصب) ومقاربات بايدن الانتخابية، فتستلزم الدعم العلني والكامل لإسرائيل، وبخاصة أن ترمب قد انتقد بايدن وحمله مسؤولية تعاظم قوة حماس بسبب الإفراج عن أموال إيران الداعمة لها.
23/ربيع الأول/1445
8/10/2023م
متابعة سياسية
عملية طوفان الأقصى
في عملية غير مسبوقة قصفت كتائب القسام صباح أمس السبت 7 تشرين أول/أكتوبر مستوطنات في محيط غلاف غزة، وتوغلت فيه ودخلت موقع قيادة فرقة غزة وهي القوة العسكرية الإسرائيلية الضاربة، والمسؤولة عن كافة الحدود مع غزة وأسرت قائدها (جنرال)، كما استولت على عدد من المستوطنات. وأظهرت الصور والتسجيلات عديد الأسرى والقتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي بشكل مُذل. وفي المقابل رد جيش الاحتلال الإسرائيلي بشن غارات على مناطق مختلفة من قطاع غزة، أدت إلى استشهاد أكثر من 230 فلسطينيا وجرح أكثر من 1600 آخرين، ولا تزال الغارات مستمرة والاشتباكات قائمة. وقد أسفر هجوم القسام خلال اليوم الأول للقتال عن خسارة الجانب الإسرائيلي مئات القتلى وآلاف المصابين، بعضهم في حالة حرجة، بالإضافة إلى خسائر كبيرة في المعدات والآليات والمواقع المستهدفة بالصواريخ، علاوة على ما غنمه المقاومون من أسلحة وعتاد. ولا تزال الخسائر في ارتفاع في كلا الجانبين لا سيما وأن الكيان المجرم قد توعد بتكبيد حماس وأهل غزة ثمنًا باهظًا، فيما لا تزال كتائب القسام تتكتم على حجم القتلى والأسرى من الضباط والجنود والمستوطنين الذين هم في قبضتها، والذين تُظهر الصور والتسجيلات والأنباء سقوط عدد كبير منهم.
وقبل الحديث عن البعد السياسي للعملية لا بد من التأكيد على ما يلي:
أولا: لقد قدم أبطال القسام في غزة درسًا عظيما في الصلابة والعزيمة والإرادة والتضحية، ورفعوا هامة الأمة الإسلامية عاليًا بشجاعتهم وبطولاتهم التي عجزت عنها الجيوش العربية الرابضة في ثكناتها وقد صدئت أسلحتها. وبدد المجاهدون في بضع ساعات، الصورة الوهمية حول (الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر)، والتي جرى غرسها في وعي الأمة من طرف الأنظمة العربية الانهزامية الخائنة والمهرولة للتطبيع، وأربكوا قيادة العدو السياسية والعسكرية، وهزوا الكيان الصهيوني بأسره، وأدخلوه في صدمة ودهشة وذهول. بحيث وصفت صحيفة هارتس الإسرائيلية حماس بأنها حققت "نجاحًا باهرًا"، وأن الجيش الصهيوني "أمام فشل لا يمكن وصفه".
ثانيًا: بصرف النظر عن تقاطع هذه العملية العسكرية مع التوجهات الأميركية في تقويض توجهات اليمين الأشد تطرفًا في إسرائيل على المستوى الحكومي والشعبي؛ لاعتبارات تخدم المصالح الأميركية والأمن الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى، إلا أنها عملية جهادية وبطولية لكتائب القسام، تُعيد الثقة بالنفس وتشحذ الهمم وتثير البهجة وتبعث الأمل وتُلهم شباب اليوم وأجيال المستقبل. وترسل في ذات الوقت رسالة قوية ومدوية لقطعان المستوطنين وكيان يهود بأن بقاءهم لن يدوم طويلًا مهما تحصنوا بترسانتهم العسكرية المتطورة وأظهروا وحشيتهم وتمادوا في انتقامهم، ومهما مدهم العملاء وحلفاؤهم المطبعون الجبناء من حبال وأطواق نجاة. كما ترسل رسالة إلى الأنظمة المطبعة وحكامها أنهم يمثلون المستعمرين وأعداء الأمة، ولا يمثلون الشعب الأصيل التواق للجهاد وميادين القتال.
إن هذه العملية المزلزلة والمُذلة التي نفذتها كتائب القسام مهما جرى توظيفها في ألاعيب السياسة والأجندات الدولية قد أظهرت هشاشة الردع الإسرائيلي في النزال ومواجهة الرجال، وأحيت في وعي الأمة أن "السيف أصدق إِنباءً من الكتب" وأن التحرير ولجم العدو وردعه لا طريق له سوى الإيمان والصبر والعزيمة والإعداد والجهاد. وأثبتت أن هذا الكيان السرطاني لا يصمد في حرب حقيقية، وأن وجوده وبقاءه مرهون بالسند الدولي والإقليمي وغياب إرادة التحرير والإعداد والقتال من التفكير السياسي للأنظمة العربية العميلة. فها هي كتائب القسام رغم الحصار وقلة العتاد والرجال هشموا قوة الردع الصهيوني في سويعات قليلة، وأوقعوا في صفوف العدو خسائر مروعة أفقدته صوابه، وجعلت نتنياهو يصف ما حدث باليوم الأسود.
وأما البعد السياسي لهذه العملية وصعيدها فقد اختصره قائد كتائب القسام محمد الضيف في كلمته حيث قال: "قررنا أن نضع حدًا للانتهاكات الإسرائيلية والاعتداءات على الأقصى". وفي هذا الجانب فإن الدفاع عن الأقصى من دنس يهود ودفع صيال العدو وتحرير الأرض من الاحتلال واجب شرعي على كل مسلم، ولا رخصة فيه إلا لمن هم في حكم الأسر والعجز. غير أن تحكم الولايات المتحدة بخيوط الصراع وأدواته عبر العملاء الإقليميين، ومقاربات الحكومة الصهيونية وانقسامات المجتمع الإسرائيلي، وسقف التحركات والعمليات التي تمليها الظروف والعوز والتفكير السياسي البراغماتي لقوى (المقاومة)، كل ذلك يفرغ العمليات الجهادية من مضمونها ويسوقها في اتجاه آخر وأجندات مختلفة. ولا يخفى أن الولايات المتحدة وإن كان أمن الكيان الصهيوني جزءًا من أمنها القومي ولا تفرط به مطلقًا، إلا أن سلوك اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يستند إلى مزاعم توراتية تعيق تصفية قضية فلسطين بصورة قابلة للتنفيذ، يهدد استقرار المنطقة وخطط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأسره. ومن ذلك رفض اليمين الإسرائيلي الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية وقيامه باستفزازات ومحاولات لتهويد المقدسات الإسلامية. فمنذ انطلاق صفقة بايدن للتطبيع الإسرائيلي السعودي الذي بات يسير بوتيرة عالية عبر الوفود الإسرائيلية الرسمية المتقاطرة على السعودية، كثف المستوطنون نشاطهم التهويدي في القدس ومناطق الضفة، لفرض وقائع تحول دون أية تنازلات إسرائيلية حتى ولو كانت شكلية في سياق التطبيع مع السعودية، وكثف نتنياهو ضغوطه وتحركاته لإتمام صفقة التطبيع بمعزل عن القضية الفلسطينية. مما يعني نسف عنوان (حل الدولتين) المزعوم. وهو الأمر الذي أثار مخاوف الملك عبد الله الثاني ودعاه إلى التحذير في كلمته في الأمم المتحدة من التطبيع السعودي بمعزل عن متطلبات المسار الفلسطيني، لما في ذلك من تداعيات وتهديد لاستقرار النظام الملكي ومستقبل "الكيان الأردني".
وبهذا المعنى فإن هذه المعركة تصب من الناحية السياسية في ضرب اليمين المتطرف ولجمه عن تصرفاته في الضفة، وردعه عن موقفه بشأن المستوطنات والمقدسات، أو تغيير قواعد الاشتباك (التي منحت حماس حق التدخل لردع المتطرفين الصهاينة وحماية الأقصى)، ومنعه من إملاء شروطه بخصوص الصفقة مع السعودية أو إعاقتها. لا سيما وأن نتنياهو الذي يحتاج إلى إنجاز لتعزيز موقفه السياسي الداخلي يستغل حاجة بايدن الانتخابية لإتمام الصفقة مع السعودية، لإملاء شروطه المتمثلة بعزل المسار الفلسطيني عن التطبيع، والاستعاضة عن التنازلات المزعومة برشوة اقتصادية للسلطة الفلسطينية وسكان الضفة الغربية. وهذا يكشف صعيد الحراك كله والذي يتمحور حول (ربط الولايات المتحدة التطبيع السعودي بتنازلات شكلية لتحريك المسار الفلسطيني)، ولذلك شدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنه "يجب ألا نعطي الفلسطينيين حق النقض على معاهدات السلام الجديدة مع الدول العربية".
ورغم أن الولايات المتحدة تحاول الضغط على الكيان الغاصب وتحاول إغراءه بالتطبيع السعودي لقاء صيغة تمنح الفلسطينيين سلطة إدارية على مناطق في الضفة، ورغم تعنت اليمين الإسرائيلي المتطرف، إلا أن ما يجري على الأرض من تسارع في شق القنوات العلنية بين السعودية وإسرائيل، يدل على احتمالية إبرام التطبيع بمجرد وعود اسرائيلية بتجميد الاستيطان ووقف التصعيد والاستفزازات واستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، لتفادي مضي اليمين الصهيوني المتطرف في مسارات تضع المنطقة على فوهة بركان وتُربك الأولويات الدولية للولايات المتحدة.
وأما ما يتعلق بحيثيات ومآلات هذه المعركة، فلا بد من لفت النظر أولًا إلى أن العملية الضخمة التي نفذتها كتائب القسام شكلت صدمة للكيان الصهيوني، حيث استطاعت المقاومة أن تخفي استعداداتها، وشنت هجومًا كاسحًا اعتمد على كثافة الصواريخ وتسلل المقاومين، في يوم عطلة ليهود، الذين ذُهلوا من حجم الهجوم ودقة التنفيذ. غير أن هذه العملية الصادمة وآثارها المدمرة قد وفرت فرصة لاستثمارها من قِبل نتنياهو بتحميل المسؤولية للجيش والأجهزة الأمنية، لا سيما وأن كثيرًا منهم وقف ضد سياساته الداخلية، كما استغلها في صرف النظر عن مشاكله وترحيل أزمته، ووقف الاحتجاجات ضده، وفك عزلته الدولية، ولذلك استغل الحدث لإعلان حالة الحرب، وحالة الطوارئ التي تمكنه من تقييد حركة سكان الكيان وتجمعاتهم. لكن نجاح العملية ودقتها ونتائجها المذهلة وغير المتوقعة، سيعسّر عملية احتواء تداعياتها على مستقبل اليمين الإسرائيلي المتطرف وحكومته.
وبالتالي فإن هذه العملية ستُرخي بظلالها على الداخل الإسرائيلي بشكل رئيسي. ولا شك أن نتنياهو وفريقه الحكومي المتطرف سيوجه ضربة دامية لغزة وحماس؛ لأنه بات هو والكيان الصهيوني برمته أمام تحدّ غير مسبوق على مستوى الأمن والردع الذي يمثل مركز التنبه للمجتمع الإسرائيلي. وهذا ما يُفهم من الأهداف التي حددها بتطهير غلاف غزة وإعادة الهدوء والطمأنينة للمستوطنات، وتكبيد حماس ثمنًا باهظًا، ومن المؤكد أنه سيركز على ترميم صورة الردع التي انهارت في الساعات الثماني الأولى من هجوم كتائب القسام على غلاف غزة؛ لاستعادة الثقة الداخلية بحكومته ولشخصه. ورغم أنه أعلن بأن دولته في حالة حرب، ولكن ليس من المتوقع أن تمتد المعركة طويلًا أو تتوسع، لاعتبارات دولية، وبسبب قدرة كتائب القسام على إيقاع ضرر بالغ لا يقوى نتنياهو على تحمله، ولذلك منحته الولايات المتحدة الضوء الأخضر لاستعادة الردع لأهمية الكيان الصهيوني للأمن القومي الأميركي. ومن المتوقع أن يكون الرد الصهيوني على عملية طوفان الأقصى همجيًا ودمويًا ومدمرًا. ولكن مهما يكن من أمر فإن الضربة التي تلقاها الكيان المجرم قد حققت منذ بدايتها هدفها الرئيس وهو كسر هيبة الكيان المحتل وردع اليمين المتطرف من التمادي في غطرسته، وبخاصة وأن قادة حماس قد كشفوا أن لديهم معلومات مؤكدة بأن الحكومة المتطرفة كانت تخطط لضرب المقاومة والسيطرة على المقدسات وتهويدها. ومن المتوقع أن تحدَّ هذه العملية من تغول الحكومة اليمينية المتطرفة، وأن تنقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب، وقد تفضي إلى تساقط رؤوس عسكرية وأمنية ووزارية كبيرة إن لم تفضِ إلى سقوط الحكومة، وهو ما تريده أميركا لضبط سلوك الكيان الصهيوني وتوجيهه بما يحقق المصالح العليا له وللولايات المتحدة، وهو ما يريده بايدن أيضًا لتحقيق إنجاز انتخابي. ولهذا تم استغلال الفشل الأمني والعسكري من قِبل المعارضة الإسرائيلية في الهجوم على الحكومة اليمينية وتحميلها المسؤولية، وبخاصة نتنياهو وبن غفير الذي يتولى الحقيبة الأمنية.
وأما الموقف الأميركي فقد صرح البنتاغون بأنه مستعد لتأمين إسرائيل بكل ما يلزمها للدفاع عن نفسها، كما أعلن بايدن أنه يقف إلى جانب إسرائيل. وهذا الموقف هو في صلب العقيدة العسكرية والأمنية الأميركية حيال الكيان الإسرائيلي، تمامًا كالموقف المبدئي للدول الأوروبية التي أعلنت مؤازرتها لإسرائيل. ومن هذا المنطلق لا يملك بايدن، الذي طالما انتقد الحكومة الإسرائيلية اليمينية ورفض اللقاء بنتنياهو لأكثر من ستة أشهر، سوى دعم الأمن الإسرائيلي، لا سيما وأنه بحاجة لكسب الأصوات الإنجيلية الداعمة لإسرائيل في الانتخابات المقبلة. غير أن هذه المواقف المبدئية الغربية لا تتعارض مع (أو تُلغي) مواقفها من سلوك الحكومة الإسرائيلية الاستفزازية والمعيقة للأجندة السياسية الدولية بشأن تسوية النزاع وتصفية قضية فلسطين. فلناحية أن العملية تطال الجانب الأمني الذي يتولى مسؤوليته بن غفير الذي يعتبر إسقاطه مطلبًا أميركيًّا فإن إدارة بايدن تتواطأ عليه. وأما لناحية (أمن الكيان الغاصب) ومقاربات بايدن الانتخابية، فتستلزم الدعم العلني والكامل لإسرائيل، وبخاصة أن ترمب قد انتقد بايدن وحمله مسؤولية تعاظم قوة حماس بسبب الإفراج عن أموال إيران الداعمة لها.
23/ربيع الأول/1445
8/10/2023م