المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية سياق العملية العسكرية الأذربيجانية في إقليم قرة باغ



Abu Taqi
24-09-2023, 10:16 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
سياق العملية العسكرية الأذربيجانية في إقليم قرة باغ
أعلنت أذربيجان، الثلاثاء 19 أيلول/سبتمبر، بدء ما أسمته "إجراءات لمكافحة الإرهاب" في إقليم قره باغ، حيث حددت لتلك "الإجراءات" هدف نزع سلاح القوات الأرمنية وانسحابها، واستعادة "الأراضي المحررة من الاحتلال"، و"استعادة الهيكل الدستوري لأذربيجان".
وبعد يوم واحد من الهجوم العسكري الأذري، ومقتل أكثر من 30 شخصًا وإصابة أكثر من 200 شخصٍ من الجانب الأرمني، توصل الطرفان إلى وقف كامل لـ"الأعمال العدائية"، ضمن اتفاق يقضي بحل ما يسمى "جيش جمهورية قره باغ" ونزع سلاحه وانسحاب الوحدات المتبقية من القوات المسلحة الأرمنية من منطقة انتشار قوات حفظ السلام الروسية.
كما اتفق الطرفان في اجتماع لممثلي السكان الأرمن المحليين والسلطات الأذربيجانية (في يفلاخ يوم 21 أيلول/سبتمبر) على مناقشة قضايا إعادة الاندماج وضمان حقوق وأمن السكان الأرمن في قره باغ.
وقد جاءت هذه العملية العسكرية بالتزامن مع التدريبات العسكرية الأميركية الأرمنية التي انطلقت في 11 أيلول/سبتمبر الجاري وانتهت قبل أيام، والتي عكست مدى حدة الاستقطاب الروسي والأميركي للقيادة الأرمنية، وأظهرت اندفاع رئيس الوزراء الأرمني نحو الغرب وتباعده مع روسيا، وبخاصة بعد أن رفض باشنيان المشاركة في تدريبات عسكرية مماثلة مع روسيا بمقتضى معاهدة الأمن الجماعي الروسي. وبعد أن استفز روسيا بعدم تأييده غزو أوكرانيا، بل وإرساله مساعدة إنسانية لكييف مع زوجته، وهو الأمر الذي دعا الخارجية الروسية إلى توبيخ السفير الأرمني في موسكو. وبالتالي فإن تسخين الأزمة بين أرمينيا وأذربيجان، يندرج في سياق تدهور العلاقات بين روسيا وأرمينيا، وفي ظل تنافس الأطراف الدولية والإقليمية لاجتذاب القيادة الأرمنية؛ لما لمنطقة جنوب القوقاز من أهمية جيواستراتيجية حساسة لخاصرة روسيا التي تملك واحدة من أكبر قواعدها العسكرية في الخارج، ولما لها من أهمية اقتصادية وانعكاسات أمنية وقومية وديمغرافية بالنسبة لتركيا وإيران، ومن ثم لما لذلك كله من أثر في المحافظة على أدوارهما في الملف الأذري الأرمني.
وبهذا المعنى فإن الملف الأذري الأرمني يجسد حالة التقاطعات وصراع الأدوار في إدارة الأزمة، ويبرز ذلك في تواطؤ روسيا على هزيمة أرمينيا أمام أذربيجان في 2020 لإضعاف الموقف الشعبي لباشنيان وإرغامه على الاستناد الكامل إليها، ومحاولتها تهميش دور تركيا بعد انتهاء الحرب، إذ استُبعِدَت تركيا من مهمة حفظ السلام الروسية، وغابت عن مجموعة العمل التي تضم أرمينيا وأذربيجان وروسيا بشأن إعادة فتح طرق النقل الإقليمية، مما حدا بتركيا إلى التقارب مع أرمينيا للتأكيد على دورها، وردًا على تهميشها بتواطؤ من قبل رئيس الوزراء الأرمني باشنيان الذي صرح أحد أعضاء فريقه الحكومي بأنه يسعى إلى إبعاد روسيا عن العلاقة الأرمنية التركية.
وضمن هذه المقاربات يندرج رفض إيران أي تغيير جيوسياسي في المنطقة، وتسخير أذربيجان تدهور العلاقة الروسية مع أرمينيا لفرض سيادتها على إقليم قره باغ، وإفادة روسيا من النزاع الأذري التركي مع أرمينيا على الممرات، وتباطؤ الأرمن في تنفيذ بنود الاتفاق الثلاثي (روسيا وأذربيجان وأرمينيا في 10 تشرين ثاني/نوفمبر2020) لإطالة أمد النزاع ورهن مصالح أرمينيا بيدها، وإخضاع باشنيان لإرادتها، حيث ألقت بمسؤولية الإخفاق عليه بعد اتهامه لها بالفشل في حفظ الأمن، وتنصلت من مسؤولية قواتها لحفظ السلام في قره باغ في التصدي للهجوم الأذري بحجة اختصاصها بتأمين سلامة المدنيين والدفاع عن عناصر قوة حفظ السلام الروسية وهو ما أشار إليه رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما، أندريه كارتابولوف، بقوله "ليس لقوات حفظ السلام الحق في استخدام الأسلحة طالما أن حياتهم ليست في خطر". وهذا بالإضافة إلى تبرير روسيا تنصلها من مسؤوليتها بأن ما يجري إنما هو أمر أذربيجاني داخلي باعتبار أن باشنيان نفسه يقر بتبعية قره باغ لأذربيجان، ولم تُخفِ روسيا إشارتها إلى أن ما تعانيه أرمينيا بشأن الأزمة مع أذربيجان سببه لحاق أرمينيا بالغرب وبسبب تباعدها مع روسيا بحسب وصف رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري مدفيديف. فيما رد باشنيان على التنصل الروسي من المسؤولية بقوله "نعم، نتحمل نصيبنا من المسؤولية، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نغض الطرف عن إخفاقات فرقة حفظ السلام الروسية في قره باغ".
ومن الواضح من جملة المواقف والمعطيات ذات الصلة أن بوصلة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان باتت تتجه بشكل كامل نحو الولايات المتحدة. وقد استغلت تركيا وأذربيجان الاستفزازات الأرمنية وأهمها محاولة فصل إقليم قره باغ عن أذربيجان عبر الاستفتاء مؤخرًا، والهجمات العسكرية التي تنفذها مليشيات الأرمن في قره باغ كالهجوم الذي أدى إلى مقتل 3 جنود أذربيجانيين في بداية هذا الشهر، والمناورات العسكرية الأرمنية الأميركية؛ لحسم الموقف عسكريًا في ظل انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وذلك لنزع فتيل التوتر مع أرمينيا التي لم تعد تمانع من عودة الإقليم إلى أذربيجان وتسوية الخلافات وملف التقارب مع تركيا ونزع ورقة قره باغ من يد روسيا، والتي تستعملها الأخيرة في الضغط على باشنيان وإضعافه لصالح المعارضة، وهو الأمر الذي اضطر روسيا إلى عدم اعتراض العملية العسكرية الأذربيجانية، والالتفاف عليها عبر قيامها برعاية المفاوضات بين الأرمن والأذريين لقطع الطريق على تركيا وأميركا ومجلس الأمن الذي دعت فرنسا إلى انعقاده لبحث الأزمة، ولذلك صرح المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف أن بلاده تواصل أداء مهامها كضامن للأمن الإقليمي. إلا أنه رغم غياب أميركا وأوروبا عن المفاوضات الأخيرة إلا أن نتائج العملية لم تكن في صالح روسيا وإيران على الصعيد الجيوستراتيجي.
ومع هذا النجاح الذي حققته تركيا وأذربيجان والذي لا يتعدى أكثر من تعزيز مواقف الحكومتين داخليًا، وتثبيت أدوارهما الإقليمية، إلا أن المعضلة الأهم تكمن في استرداد تركيا وأذربيجان لممر "زنغزور" الذي يربط إيران بأرمينيا، ويسمح بالتواصل البري بين تركيا وأذربيجان. ذلك أن هذا الممر يمثل لروسيا ورقة ضغط على تركيا وأذربيجان ويهدد من جهة أخرى المجال الحيوي الروسي في جنوب القوقاز والدول الناطقة باللغة التركية في وسط آسيا، في حال تمكنت تركيا من التمدد في المنطقة عبر ذلك الممر. وهو الأمر الذي يتعارض مع مصالح إيران الجيوسياسية والجيواقتصادية والقومية، حيث يعطي لتركيا قوة إضافية على حسابها. ولذلك ترفض إيران أي تغيير جيوسياسي على حدودها وتحرص على علاقتها بأرمينيا، وتبرر موقفها العدائي من أذربيجان أمام الرأي العام الداخلي بتعاون الأخيرة مع إسرائيل، لا سيما وأن الأزمة الأذرية الأرمنية تنعكس على العامل الديمغرافي في إيران وتهدد بتفكيك ولاء المكون الأذري للنظام الإيراني.
وأما الولايات المتحدة فتسعى إلى التحكم بالقرار السياسي الأرمني عن طريق باشنيان بغية توجيه الأزمة للضغط على كافة أطراف المعادلة. وبخاصة وأنها تتخذ من العامل الاقتصادي والقومي الذي يمثل مركز التنبه للرئيس أردوغان جزرة؛ لاجتذابه وضبط سلوكه السياسي واحتوائه من بوابة التمدد القومي والاقتصادي في منطقة وسط آسيا وغيرها، في الوقت الذي تتخذ فيه من أكراد سوريا والعراق عصًا لردعه وتأدبيه.
كما تستثمر الولايات المتحدة في الأزمة الأرمنية الأذرية لضبط إيران وتحجيم علاقتها بروسيا، سيما وأن المشكلة الأذرية الأرمنية تمثل مصدر خطر قومي لإيران، وبالتالي تستعمل أميركا النزاع الأذري الأرمني والتقارب الأرمني التركي لإفزاعها. وهذا بالإضافة إلى أن هذه المنطقة تمثل بؤرة توتر جيوستراتيجية لروسيا، ولذلك تتخذها أميركا مِرجلًا لإشغالها وإثارة مخاوف أوروبا. ولهذا كله يعتبر إخراج النظام الأرمني من قبضة روسيا هو حجر الزاوية في النزاع الدائر في الإقليم، إذ يترتب عليه صياغة التحالفات الإقليمية ومصالح كل من روسيا وأميركا والدول الإقليمية.
ومع أن رئيس الوزراء الأرمني قد حسم خياره بالتوجه الكامل نحو الغرب، لكنه لا يملك القدرة على تنفيذ أجندة الولايات المتحدة من دون عوائق بسبب نفوذ روسيا في أرمينيا وبسبب اعتماد الأخيرة على روسيا في جوانب اقتصادية وأمنية واسعة وبسبب تضارب مصالح الدول ذات العلاقة في الإقليم.
9/ربيع الأول/1444هـ
24/9/2023م