Abu Taqi
26-08-2023, 07:39 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
أهمية انقلاب النيجر وارتداداته
منذ أن انخرطت الولايات المتحدة في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وهي تعمل على وراثة تركة القارة الأوروبية العجوز، وقد نجحت في جعل بريطانيا ذيلًا لها في سياساتها الدولية، ووجد الإنجليز في ذلك وسيلة لتأمين مصالحهم الخارجية وغلفوها بما يسمى بـ"العلاقة الخاصة". وأما فرنسا فقد ربطت مستعمراتها بها ثقافيًّا واقتصاديًّا بحيث منحها ذلك نفوذًا بعيد المدى رغم القضم الأميركي المتتابع له عبر الانقلابات والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية.
وقد نجحت أميركا في كسر سياسة ديغول المتمثلة بالإبقاء على عظمة فرنسا من خلال تجفيف منابع قوتها المستمدة من مستعمراتها في الخارج، ومن خلال حلف الناتو وتوسيع الاتحاد الأوروبي. ولا تزال تعمل على تفكيك النفوذ الفرنسي الثقافي والاقتصادي المتغلغل في بعض الدول الأفريقية. إذ لا تزال عدة دول في غرب أفريقيا، تستعمل الفرنك الأفريقي، المرتبط باليورو بضمان فرنسي، عملة رسمية، وبخاصة وأن المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) تحمل في نشأتها سنة 1975البصمة الأوروبية، كما لا تزال اللغة الفرنسية تهيمن على ثقافات شعوب الدول الفرنكفونية.
وبالرغم من أن أميركا هي التي أوجدت مناخ تمدد (الحركات الجهادية) في أفريقيا لتبرير تواجدها العسكري والتغلغل في الجيوش الأفريقية وصناعة عملاء لها، إلا أن فرنسا استغلت انتشار تلك التنظيمات في منطقة الساحل وبخاصة في مالي خلال عام ٢٠١٢؛ لتطلق عملية سرفال ثم عملية بارخان في عام ٢٠١٤، والتي استمرت حتى عام ٢٠٢٣، وتعين على إثرها تأسيس قواعد في تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو. كما استغلت نشاط التنظيمات الموسومة بـ"الإرهاب" في تمكين عملائها من تكميم أفواه المعارضين. غير أن ذلك لم يعد عليها إلا بالنقمة الشعبية وتذمر ضباط الجيوش الأفريقية بدعوى فشلها في التصدي لـ(الإرهاب). بينما استغلت الولايات المتحدة كل ذلك لإثارة منظمات حقوق الإنسان للدفاع عن رجالها المقموعين من قبل فرنسا مثل عبد الله سيدو زعيم حركة (إم 62) في النيجر، والتي قادت تظاهرات شعبية ضمت العديد من منظمات المجتمع المدني ونادت بمغادرة فرنسا، ونددت بالحرب المزعومة ضدّ "الإرهاب" في الساحل، والتي اعتبرها عبد الله سيدو اختراعًا فرنسيًّا، متّهِمًا الحكومة باتباع إملاءات باريس.
والمتتبع لضخامة ردود الفعل الدولية، وحجم الهزة التي ضربت فرنسا من جرَّاء الانقلاب العسكري في النيجر، وبالنظر إلى أهمية النيجر في مجال الطاقة لفرنسا وأوروبا، ومن خلال المعلومات المتعلقة بقادة الانقلاب وارتباطهم بأميركا، يُدرك بلا أدنى شك أن المسألة تتعلق بسعي الولايات المتحدة إلى تفكيك حصون فرنسا التي تمكنها من معاندة السياسات الأميركية بشأن الأزمة الأوكرانية وحلف الناتو والاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي دعا إليه ماكرون بقوله: "نرفض أن نصاب بالعمى قصير الأمد، والذي يقودنا للرهان بكل شيء على المظلة الأميركية. لا نريد الاستيقاظ متأخرين". وبقوله: "لا توجد سيادة جيدة إذا كان المرء تابعًا. لا توجد أوروبا قوية يمكن توقعها إذا لم يكن هناك المزيد من الحكم الذاتي الاستراتيجي".
ولا يخفى أن فرنسا تكاد تكون الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تتأثر كثيرًا من تداعيات الأزمة الأوكرانية على إمدادات وأسعار (النفط والغاز) لاعتمادها على اليورانيوم المستخرج من النيجر، وهو ما يعطيها هامشًا من المناورة في التعاطي مع المخطط الأميركي في الأزمة الأوكرانية، ويعرقل الترتيبات الأميركية الأمنية والجيوستراتيجية في أوروبا ومحيطها، ويعيق إعادة صياغة العلاقة الأوروبية مع روسيا والصين. ولذلك لم تفتأ أميركا تفجر غضب الشعوب الأفريقية على الأنظمة التابعة لفرنسا، وتسلِّط الضوء على استعمارها، عبر تحريض الدول الأفريقية على مطالبة فرنسا بالاعتذار عن تاريخها الاستعماري كما فعل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي أغلق أجواء الجزائر أمام الطيران الحربي الفرنسي وأعاق عملية (بارخان)، وعبر تحريض منظمات المجتمع المدني للشعوب الأفريقية ضد فرنسا وشركاتها تمامًا كما حصل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهذا بالإضافة إلى تحريض الانقلابيين في تلك الدول على مهاجمة فرنسا ومطالبتها بإخراج قواتها من بلادهم، واستدراجها لعمل عسكري يورطها ويستنزفها ويقتلع نفوذها، وفي هذا السياق كان العقيد، عبد الله مايغا، الذي عينته السلطة العسكرية في مالي، رئيسًا للوزراء، سنة 2022، قد وجه انتقادات قاسية لفرنسا. إذ وصف سياسات فرنسا تجاه بلاده بأنها "استعمارية، ومتعالية، وأبوية وانتقامية"، بينما أنهت السلطة العسكرية في بوركينا فاسو، في شباط/فبراير اتفاقًا قديمًا يسمح للقوات الفرنسية بالعمل في البلاد، وأمهلت فرنسا شهرًا لإجلاء قواتها، وأما النيجر فقد برر زعيم الانقلابيين العميد عبد الرحمن تياني انقلابه بأن الرئيس محمد بازوم أصبح دمية تخدم مصالح فرنسا، وألغى خمس اتفاقيات عسكرية معها.
وأما الموقف العسكري الذي تصاعد كلاميًا من خلال تهديد المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا بالتدخل العسكري في النيجر، ومن خلال اجتماع قادة جيوش المجموعة في 17 و18 آب/أغسطس الجاري، في غانا لبحث التدخل العسكري المحتمل في النيجر، والذي عارضته كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا والجزائر وإيطاليا، فلا يزال ماكرون يتعامل معه بتردد وحذر. حيث بات الحديث عن عملية عسكرية فرنسية في النيجر يُعمق خلاف فرنسا مع الجزائر، وبخاصة بعد أن أعلنت الإذاعة الجزائرية في 22 آب/أغسطس الجاري عن طلب فرنسا فتح الأجواء الجزائرية أمام عملية عسكرية في النيجر، وهو ما نفاه رئيس الأركان الفرنسي في نفس اليوم. ومن جهتها هددت بوركينا فاسو ومالي وغينيا بالتدخل عسكريًا لصالح النيجر، فيما أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنتونيو تاياني، معارضته لأي تدخل عسكري غربي بالوضع في النيجر، معتبرًا مثل هذا التدخل بـ"استعمار جديد". وهو الأمر الذي نفته وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا مؤكدة أنه ليس هناك أية نية للتدخل العسكري في النيجر. وهذا يدل على أن فرنسا في حالة قلق وحيرة وتردد شديد، إذ تدرك أنها أمام ورطة كبيرة، فإن لم تتدخل عسكريًا لإنقاذ نفوذها قبل أن يتآكل نهائيًّا، وإنقاذ مصدرها الرئيس من الطاقة النووية، فسوف تفقد مصداقيتها وتزول هيبتها لدى عملائها الذين يستندون في الحكم إلى حمايتها، وستصبح مصادر طاقتها من اليورانيوم ومصالحها مرتهنة لأميركا بصورة غير مسبوقة، وبخاصة في الوقت الذي يسعى فيه ماكرون للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة.
متابعة سياسية
أهمية انقلاب النيجر وارتداداته
منذ أن انخرطت الولايات المتحدة في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وهي تعمل على وراثة تركة القارة الأوروبية العجوز، وقد نجحت في جعل بريطانيا ذيلًا لها في سياساتها الدولية، ووجد الإنجليز في ذلك وسيلة لتأمين مصالحهم الخارجية وغلفوها بما يسمى بـ"العلاقة الخاصة". وأما فرنسا فقد ربطت مستعمراتها بها ثقافيًّا واقتصاديًّا بحيث منحها ذلك نفوذًا بعيد المدى رغم القضم الأميركي المتتابع له عبر الانقلابات والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية.
وقد نجحت أميركا في كسر سياسة ديغول المتمثلة بالإبقاء على عظمة فرنسا من خلال تجفيف منابع قوتها المستمدة من مستعمراتها في الخارج، ومن خلال حلف الناتو وتوسيع الاتحاد الأوروبي. ولا تزال تعمل على تفكيك النفوذ الفرنسي الثقافي والاقتصادي المتغلغل في بعض الدول الأفريقية. إذ لا تزال عدة دول في غرب أفريقيا، تستعمل الفرنك الأفريقي، المرتبط باليورو بضمان فرنسي، عملة رسمية، وبخاصة وأن المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) تحمل في نشأتها سنة 1975البصمة الأوروبية، كما لا تزال اللغة الفرنسية تهيمن على ثقافات شعوب الدول الفرنكفونية.
وبالرغم من أن أميركا هي التي أوجدت مناخ تمدد (الحركات الجهادية) في أفريقيا لتبرير تواجدها العسكري والتغلغل في الجيوش الأفريقية وصناعة عملاء لها، إلا أن فرنسا استغلت انتشار تلك التنظيمات في منطقة الساحل وبخاصة في مالي خلال عام ٢٠١٢؛ لتطلق عملية سرفال ثم عملية بارخان في عام ٢٠١٤، والتي استمرت حتى عام ٢٠٢٣، وتعين على إثرها تأسيس قواعد في تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو. كما استغلت نشاط التنظيمات الموسومة بـ"الإرهاب" في تمكين عملائها من تكميم أفواه المعارضين. غير أن ذلك لم يعد عليها إلا بالنقمة الشعبية وتذمر ضباط الجيوش الأفريقية بدعوى فشلها في التصدي لـ(الإرهاب). بينما استغلت الولايات المتحدة كل ذلك لإثارة منظمات حقوق الإنسان للدفاع عن رجالها المقموعين من قبل فرنسا مثل عبد الله سيدو زعيم حركة (إم 62) في النيجر، والتي قادت تظاهرات شعبية ضمت العديد من منظمات المجتمع المدني ونادت بمغادرة فرنسا، ونددت بالحرب المزعومة ضدّ "الإرهاب" في الساحل، والتي اعتبرها عبد الله سيدو اختراعًا فرنسيًّا، متّهِمًا الحكومة باتباع إملاءات باريس.
والمتتبع لضخامة ردود الفعل الدولية، وحجم الهزة التي ضربت فرنسا من جرَّاء الانقلاب العسكري في النيجر، وبالنظر إلى أهمية النيجر في مجال الطاقة لفرنسا وأوروبا، ومن خلال المعلومات المتعلقة بقادة الانقلاب وارتباطهم بأميركا، يُدرك بلا أدنى شك أن المسألة تتعلق بسعي الولايات المتحدة إلى تفكيك حصون فرنسا التي تمكنها من معاندة السياسات الأميركية بشأن الأزمة الأوكرانية وحلف الناتو والاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي دعا إليه ماكرون بقوله: "نرفض أن نصاب بالعمى قصير الأمد، والذي يقودنا للرهان بكل شيء على المظلة الأميركية. لا نريد الاستيقاظ متأخرين". وبقوله: "لا توجد سيادة جيدة إذا كان المرء تابعًا. لا توجد أوروبا قوية يمكن توقعها إذا لم يكن هناك المزيد من الحكم الذاتي الاستراتيجي".
ولا يخفى أن فرنسا تكاد تكون الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تتأثر كثيرًا من تداعيات الأزمة الأوكرانية على إمدادات وأسعار (النفط والغاز) لاعتمادها على اليورانيوم المستخرج من النيجر، وهو ما يعطيها هامشًا من المناورة في التعاطي مع المخطط الأميركي في الأزمة الأوكرانية، ويعرقل الترتيبات الأميركية الأمنية والجيوستراتيجية في أوروبا ومحيطها، ويعيق إعادة صياغة العلاقة الأوروبية مع روسيا والصين. ولذلك لم تفتأ أميركا تفجر غضب الشعوب الأفريقية على الأنظمة التابعة لفرنسا، وتسلِّط الضوء على استعمارها، عبر تحريض الدول الأفريقية على مطالبة فرنسا بالاعتذار عن تاريخها الاستعماري كما فعل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي أغلق أجواء الجزائر أمام الطيران الحربي الفرنسي وأعاق عملية (بارخان)، وعبر تحريض منظمات المجتمع المدني للشعوب الأفريقية ضد فرنسا وشركاتها تمامًا كما حصل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهذا بالإضافة إلى تحريض الانقلابيين في تلك الدول على مهاجمة فرنسا ومطالبتها بإخراج قواتها من بلادهم، واستدراجها لعمل عسكري يورطها ويستنزفها ويقتلع نفوذها، وفي هذا السياق كان العقيد، عبد الله مايغا، الذي عينته السلطة العسكرية في مالي، رئيسًا للوزراء، سنة 2022، قد وجه انتقادات قاسية لفرنسا. إذ وصف سياسات فرنسا تجاه بلاده بأنها "استعمارية، ومتعالية، وأبوية وانتقامية"، بينما أنهت السلطة العسكرية في بوركينا فاسو، في شباط/فبراير اتفاقًا قديمًا يسمح للقوات الفرنسية بالعمل في البلاد، وأمهلت فرنسا شهرًا لإجلاء قواتها، وأما النيجر فقد برر زعيم الانقلابيين العميد عبد الرحمن تياني انقلابه بأن الرئيس محمد بازوم أصبح دمية تخدم مصالح فرنسا، وألغى خمس اتفاقيات عسكرية معها.
وأما الموقف العسكري الذي تصاعد كلاميًا من خلال تهديد المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا بالتدخل العسكري في النيجر، ومن خلال اجتماع قادة جيوش المجموعة في 17 و18 آب/أغسطس الجاري، في غانا لبحث التدخل العسكري المحتمل في النيجر، والذي عارضته كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا والجزائر وإيطاليا، فلا يزال ماكرون يتعامل معه بتردد وحذر. حيث بات الحديث عن عملية عسكرية فرنسية في النيجر يُعمق خلاف فرنسا مع الجزائر، وبخاصة بعد أن أعلنت الإذاعة الجزائرية في 22 آب/أغسطس الجاري عن طلب فرنسا فتح الأجواء الجزائرية أمام عملية عسكرية في النيجر، وهو ما نفاه رئيس الأركان الفرنسي في نفس اليوم. ومن جهتها هددت بوركينا فاسو ومالي وغينيا بالتدخل عسكريًا لصالح النيجر، فيما أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنتونيو تاياني، معارضته لأي تدخل عسكري غربي بالوضع في النيجر، معتبرًا مثل هذا التدخل بـ"استعمار جديد". وهو الأمر الذي نفته وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا مؤكدة أنه ليس هناك أية نية للتدخل العسكري في النيجر. وهذا يدل على أن فرنسا في حالة قلق وحيرة وتردد شديد، إذ تدرك أنها أمام ورطة كبيرة، فإن لم تتدخل عسكريًا لإنقاذ نفوذها قبل أن يتآكل نهائيًّا، وإنقاذ مصدرها الرئيس من الطاقة النووية، فسوف تفقد مصداقيتها وتزول هيبتها لدى عملائها الذين يستندون في الحكم إلى حمايتها، وستصبح مصادر طاقتها من اليورانيوم ومصالحها مرتهنة لأميركا بصورة غير مسبوقة، وبخاصة في الوقت الذي يسعى فيه ماكرون للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة.