المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي



Abu Taqi
23-07-2023, 10:05 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي
توصلت رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون ديرلاين، يوم الأحد 16 تموز/يوليو وبحضور رئيس الحكومة الهولندية المستقيل مارك روته، ورئيسة حكومة اليمين المتشدد في إيطاليا جورجيا ميلوني، إلى مذكرة تفاهم حول "الشراكة الاستراتيجية الشاملة" بين الاتحاد الأوروبي وتونس. وقد شملت مذكرة التفاهم عدة مجالات أهمها التجارة والطاقة المتجددة وتدريب الشباب ومكافحة الهجرة غير النظامية. وقد خصص مبلغ 105 مليون يورو لمكافحة الهجرة و150 مليون يورو لدعم الميزانية. وقرض بـ 900 مليون يورو بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقد جاءت هذه المذكرة في ظل احتقان سياسي وتردٍ اقتصادي غير مسبوق، كما جاءت في ظل شعور الرئيس التونسي بعدم اليقين حيال السند الدولي، وبخاصة حيال موقف فرنسا والولايات المتحدة منه، وهي مواقف تتسم بالرضى عن سياساته التي قطعت مع خدعة "الديمقراطية" والمشاركة الشعبية في الحكم، وعن سياساته التعسفية التي أقفلت ملف الربيع العربي ومخرجاته وذيوله بعد أن استنفد أغراضه، مع تظاهرهما بالحرص على استمرار المسار الديمقراطي، وبخاصة بعد تعطيل قيس سعيّد لوظائف الدولة ومؤسساتها وفرضه للدستور الجديد.
وتتسم أيضًا بالمراقبة والحذر من الاحتقان الشعبي جرَّاء التراجع الاقتصادي والسياسي في البلاد، وهو الأمر الذي دعاهما إلى الوقوف على مسافة واحدة منه ومن خصومه السياسيين لا سيما العلمانيين منهم، بحيث تنحاز الولايات المتحدة وأوروبا له عبر مثل هذه الاتفاقيات من جهة، بينما يقومون بتعميق أزماته السياسية والاقتصادية الطاحنة.
ورغم أن مذكرة التفاهم التي أبرمها قيس سعيد مع الاتحاد الأوروبي ليست اتفاقية مُلزمة، وإنما هي "إعلان نوايا"؛ أي بمنزلة أعمال تحضيرية لاتفاق قادم، إلا أنها تنطوي على بعد استعماري لا يخفى على أحد، ولا على الرئيس سعيّد، الذي أظهرت وسائل إعلامه "التفاهم" على أنه فتح مبين. حيث أن هذه المذكرة التي تشكل إطارًا لاتفاق قادم، لا تنفصل عن مفاوضات "اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق سنة 2019"، في عهد رئيس الحكومة يوسف الشاهد، والتي توقفت بسبب التجاذبات الدولية للقوى السياسية التونسية المتباينة في ولاءاتها الخارجية. ولا تنفصل أيضًا عن اتفاقية الشراكة التونسية الأوروبية سنة 1995 التي شلّت القطاع الصناعي التونسي لصالح الصناعات الغربية.
وبالنظر إلى بنود اتفاقية "الشراكة الاستراتيجية والشاملة" نجدها تطال تحرير قطاعات الفِلاحة والخدمات المائية والطاقية والمالية، ورفع الرسوم الجمركية الحمائية، لصالح الشركات الأجنبية العابرة. ومن ثم فإن هذه المذكرات والتفاهمات المُغلَّفة باتفاقيات أمنية أو علمية أو شراكات اقتصادية لا تخرج جميعها عن المساعي الاستعمارية الغربية للسيطرة والتحكم ببلاد المسلمين والدول والشعوب المُستعمَرة. فبعد أن أوصل الغرب تونس إلى هذا التردي الاقتصادي والأمني عبر جواسيسه وعملائه الفاسدين، وعبر إعاقة مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، استغل عجز الشعب عن التغيير الحقيقي وتشرذم القوى السياسية، واستغل عجز الدولة عن وقف حالة التدهور والخروج من الأزمة ليملي عليها مزيدًا من الأغلال التي تكبل إرادتها وتدفعها للسير في شراكات لا تحقق سوى مصالحه الاقتصادية والأمنية. ويبدو ذلك واضحًا من خلال اشتراط مذكرة التفاهم بوفاء الحكومة التونسية بشروط صندوق النقد الدولي لقاء قرض بقيمة 900 مليون يورو. حيث يطالب صندوق النقد، حكومة تونس، بتنفيذ إصلاحات، تشمل رفع الدعم وبيع مؤسسات عامة وخفض كتلة الأجور. ويأتي ذلك في ظل احتياج تونس إلى تمويل بنحو 23.5 مليار دينار (7.7 مليار دولار أميركي) لسد عجز ميزانيتها العامة في عام 2023؛ ومن ثم، يتعين على الحكومة اقتراض أكثر من أربعة مليارات دولار من الخارج، وعلى قروض محليّة بأكثر من ثلاثة مليارات دولار. كما يأتي ذلك في ظل تضخم مالي سجل مستويات قياسية في الأشهر الماضية ووصل إلى 10.3 في المائة في آذار/مارس الماضي بسبب شُح موارد العملة الصعبة من القروض والمساعدات.
ولا يخفى أن وصفة صندوق النقد الدولي المسمومة (رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات) سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار وإلى مزيد من التراجع في القدرة الشرائية لدى الشعب، ومن ثم إلى مزيد من الاحتقان المجتمعي والتدجين والفقر الذي يولد الفردية والطيش ويُشغل الشعب عن السياسة والقضايا الكبرى. صحيح أن قيس سعيد كان قد "رفض" وصفة صندوق النقد الدولي، ولكن ليس حرصًا منه على أمن المجتمع بقدر خوفه من خروج الاحتقان الشعبي عن السيطرة وسقوط نظامه، رغم تحوط أميركا وأوروبا لهذا الأمر من خلال سماحهم للبنك الدولي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير بإقراض تونس لتمويل وارداتها من الحبوب. ولذلك حرص سعيّد على التلويح بورقة (الهجرة غير النظامية) لإلهاء الشعب وصرفه عن التأزّم والظلم السياسي والوضع الاقتصادي شبه المنهار، وإشهارها في وجه الدول الأوروبية لاستجلاب الدعم له وكسر عزلته وتأكيد شرعيته في مذكرة التفاهم الأخيرة.
ومن جهته استغل الاتحاد الأوروبي الموقف التونسي لسد ثغرة (الهجرة غير النظامية) والضغط على قيس سعيد لقبول شروط صندوق النقد الدولي. وهو ما يحقق مصلحة أوروبية أميركية مشتركة. ولا سيما بعد أن باتت محاذير (الهجرة غير النظامية) من جهة تركيا قيد الإغلاق بعد عدول الرئيس أردوغان عن موقفه من انضمام السويد لحلف الناتو لقاء تحريك مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُجمّد ورقة اللاجئين التي يمتلكها أردوغان.
والمفارقة بشأن ملف (الهجرة غير النظامية) والتي اتخذها الاتحاد الأوروبي بوابة لـ"استراتيجية شراكة شاملة" لتحصين مصالحه في تونس وشمال أفريقيا، أن قيس سعيد نفسه والذي قبل بدور الحارس على ثغور أوروبا كان قد وصف هذا الدور بـ"المهمة القذرة" التي أرادت أوروبا أن تتملص منها وتسندها إليه. ومهما يكن من أمر، فإن هذه الضجة الكبرى حول المذكرة تندرج في سياق الترويج والاستهلاك الإعلامي؛ لأنها لا تزال في طور "إعلان النوايا" والخطوط العريضة لاتفاق مستقبلي يمثل "جزرة" لقيس سعيد رغم ما يعود على أهل تونس من مهالك استعمارية. فمن جهة قيس سعيد وعصابته فقد صوروا المذكرة بالنصر العظيم، وأشغلوا الشعب بشأنها وصرفوه عن التفكير في معاناته.
وأما قادة أوروبا الذين كثفوا زياراتهم إلى تونس ووضعوا ملف الهجرة على أجندة اجتماعهم في بروكسل قبل أسبوعين، فيدركون بأن مذكراتهم واتفاقياتهم لا ترى النور إلا إذا التقت مع المصلحة الأميركية، فقد سبق أن وقعوا اتفاقيات مماثلة مع ليبيا وتركيا بشأن الهجرة غير النظامية ومع ذلك لم تُسعف جروحهم النازفة. فمن الملاحظ أن ملف هذه المذكرة قد تولته رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون ديرلاين التي وصفها الإعلام الصيني بدمية الولايات المتحدة، وتولاه أيضًا رئيس الحكومة الهولندية المستقيل مارك روته والذي اضطر للاستقالة بسبب ملف الهجرة في بلاده، وكما تولته رئيسة حكومة اليمين المتشدد في إيطاليا جورجيا ميلوني. ولا يخفى أن هولندا على خلاف قومي وسياسي مع الفرنسيين، وأما إيطاليا فليست على وفاق مع فرنسا وبخاصة في الشأن الأفريقي. ولا شك أن رئيسة وزراء إيطاليا ورئيس وزراء هولندا يسعيان لتعزيز قواعدهما الشعبية في هذا الملف.
وختامًا فإن المصيبة كل المصيبة هي في التربة التي أنتجت السياسيين في تونس، سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة، فإنهم جميعًا، أداروا ظهورهم لهذا الشعب المسلم، وتبنوا نهجًا يصادم دين الأمة وقيمها، وكرسوا أنفسهم لخدمة عدوهم، يتبادلون الأدوار في خدمته.
إننا إزاء هذا الانحطاط السياسي الذي يتمرغ به حكام تونس وقياداتها السياسية الرخيصة لندعو أهلنا في تونس أن ينبذوا الوسط السياسي برمته ويصححوا الأوضاع بسواعدهم كما أمرهم ربهم؛ لأن في شريعته وحدها الهدى والرشاد، وهم أهل لذلك. ولا أقل من أن يُعرضوا عن الأحزاب السياسية المأجورة، وينبذوا الوسط السياسي العلماني المتآمر على الشعب، وأن يحتضنوا كل داع مخلص لدين الله وكرامة الأمة. وليتذكروا قول الله عز وجل:
{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى}.
4/محرم/1445هـ حزب التحرير
22/7/2023م تونس