Abu Taqi
19-07-2023, 02:44 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
إحاطة حول الوضع السياسي والاقتصادي
العالمي حتى بداية الربع الثالث من العام ٢٠٢٣
مع بداية الربع الثالث ٢٠٢٣ دخلت دول عديدة مرحلة الركود الاقتصادي بمعناه التقني "تسجيل تراجع أو توقف في نمو الناتج المحلي الإجمالي لمدة فصلين متعاقبين"، وهو ما حذر منه خبراء اقتصاديون سابقًا بناءً على جملة من المتغيرات من أهمها ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل عالميًّا نتيجة تصاعد السياسات الاقتصادية القومية "الشعبوية"، التي تقوض مصداقية استقلال البنوك المركزية، ونتيجة الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، والتي هزت الثقة في الاقتصاد الصيني القائم على التصدير، وزادت من تنامي مخاطر ضعف النمو الاقتصادي في الصين، وبخاصة مع بروز مشكلات الإمداد الناجمة عن أزمة سلاسل التوريد، وعن قرار الصين بتطبيق سياسة "كوفيد "زيرو". كما شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا سببًا مضافًا بعد جائحة كورونا حيث ارتفعت أسعار الطاقة التي تعتبر عصب الاقتصاد العالمي ليبلغ معدلها لعام ٢٠٢٢ قرابة ١٠٣ دولار للبرميل؛ لتُعمّق مشكلة التضخم الذي لا يزال بعيدًا عن النسبة المئوية المستهدفة وهي ٢٪، لا سيما مع استمرار النمو المطرد لسوق العمالة الأميركي والإنفاق الاستهلاكي، وهو ما يعني بقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول، وعند مستوى أعلى من توقعات الأسواق المالية حسبما أفاد الفدرالي الأميركي يوم ٦ تموز/يوليو ٢٠٢٣.
إن ما يجري اليوم من تنكب معيشي وضباب في الرؤية الاقتصادية وانعدام لليقين لدى السواد الأعظم من سكان العالم، وما ينتظرهم من مصائر كارثية لا يعلم مداها إلا الله، إنما سببه الرئيس هو النظام الرأسمالي الأميركي الاستعماري المتوحش، والسياسات الأميركية الإجرامية، والسياسات الاقتصادية والمالية العالمية (الإمبريالية) منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبخاصة منذ اتفاق كينيدي خرتشوف في فينا، وما أعقبها من أحداث وأزمات نحو قرار إنهاء قابلية تحويل الدولار بالذهب فور الطلب، وأزمة النفط سنة ١٩٧١-١٩٧٤، وأزمة الديون والتضخم سنة ١٩٨٢، وانهيار أسواق الأسهم "الإثنين الأسود" سنة ١٩٨٧، وأزمة "النمور الآسيوية" سنة ١٩٩٧، ثم انهيار الروبل الروسي سنة ١٩٩٨، ثم أزمتي الركود الاقتصادي اللتين أعقبتا الانهيار المالي لعام ٢٠٠٨-٢٠٠٩ والديون السيادية الأوروبية سنة ٢٠١٢، وكادتا توديان بانهيار النظام البنكي العالمي وانهيار اليورو. ولم يكد يتنفس العالم الصعداء حتى جاءت جائحة كورونا لتعرقل عجلة النمو الاقتصادي، وتفرض على الدول اقتراض تريليونات الدولارات وضخها في الاقتصاد العالمي، فضلًا عما نتج عنها من تضخم مالي لا يزال العالم يعاني تبعاته نحو ارتفاع أسعار المواد والخدمات والتي عرّضت الدول والشعوب لتفاقم الديون، إذ ارتفعت ديون الدول الناشئة والفقيرة من (٧١ ترليون دولار) سنة ٢٠١٩ إلى قرابة ٩٠ تريليون دولار بنهاية عام ٢٠٢١. ثم جاءت المعالجة الرأسمالية لتزيد معاناة الشعوب، وتعمق مشكلة الاقتصاد العالمي وتزيده ضِغثًا على إبالة. إذ تقتضي تلك المعالجة رفع أسعار الفائدة، وهي سياسة احتواء رأسمالية اعتادت البنوك المركزية تنفيذها لمعالجة التضخم وإبطاء نسبة النمو الاقتصادي عبر تقليص السيولة، وتخفيض الإنفاق على برامج العلاج والتعليم والبنية التحتية وزيادة الضرائب وتجميد الأجور.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الجامع المشترك لتلك الهزات الكبرى والأزمات المالية هو قيادة أميركا لها وإدارتها بما يحقق مصالحها وعملقة اقتصادها، وبما يوفر التمويل اللازم لتفوقها العسكري وبسط نفوذها على دول وشعوب العالم وتلبية جشع شركاتها، حتى أصبح الاقتصاد الأميركي والدولار هما الملاذ الآمن للمستثمر، وأضحت سياسات الفدرالي الأميركي هي المحرك الرئيس لإدارة النظام المالي العالمي. ولا أدل على ذلك من تقلبات الأسواق المالية وحالة عدم الاستقرار في أسعار الصرف والفائدة التي تزامنت مع معركة سقف الدين الأميركي ٣١.٤ ترليون دولار، والتي كادت أن تطيح بالاقتصاد الأميركي وتتسبب بكارثة مالية تتجاوز الحدود الأميركية، لولا الاتفاق الذي جرى بين الرئيس الأميركي ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي على تعليق سقف الدين لبداية عام ٢٠٢٥.
وفي هذا الصدد يتبادر إلى الذهن سؤالان؛ الأول سياسي والآخر اقتصادي. فأما السؤال الأهم اقتصاديًّا في ظل النظام الرأسمالي الذي تكتوي بناره شعوب العالم والذي يعتمد أساسًا على توفر السيولة المالية لدفع عجلة النمو عبر الإقراض: ما هي تبعات رفع أسعار الفائدة واتباع سياسات التضييق الكمي، والتي من شأنهما امتصاص السيولة النقدية من السوق، وتحويلها نحو الودائع البنكية والسندات وأذون الخزينة؟ وأما جيوسياسيًّا فكيف ستترجم الصين تطلعاتها الاقتصادية في ظل الاحتواء الأميركي لها، وفي ظل التضييق على حليفتها روسيا عبر حرب استنزاف أدت لإنفاق أكثر من ٣٪ من ناتجها المحلي الإجمالي في العام الماضي؟ وكيف ستترجم أميركا رؤيتها الاقتصادية والتي أشارت إليها خطابات جانيت يلين وزيرة الخزينة وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض والداعية "لاندماج السياسة الداخلية والسياسة الخارجية عبر استراتيجية تعزز سلاسل التوريد الآمنة والمرنة والمعتمدة على معايير الحوكمة والبيئة والتقنية الموثوقة والتي تتكيف مع المناخ الجيوسياسي والأمني الذي يشوبه التنافس"؟
وللإجابة على السؤال الأول، فإن سياسات أسعار الفائدة في الدول المتقدمة تعتمد على قوانين "استقلالية البنوك المركزية"، إلا أنه ومع ذلك فقرارات رفع وخفض أسعار الفائدة عرضة للتأثير السياسي. ومن الأمثلة على ذلك ما واجهه الفدرالي الأميركي من انتقاد حاد في شهر أيلول/سبتمبر ٢٠٢١ بسبب تأجيله رفع أسعار الفائدة لمدة ٥ أشهر لتمكين الديمقراطيين من تمرير قوانين الإنفاق التي كانت إحدى ركائز أجندة بايدن الاقتصادية، وكذلك يُفهم تأخر قرار المركزي الأوروبي بزيادة الفائدة تخوفًا من عقبات سقوط أوروبا في ركود اقتصادي. وأما الصين فقامت بتخفيض الفائدة إلى ٢.٦٥% لإنعاش اقتصادها المتأثر بسياسة الاحتواء الأميركية وتبعات سياسة كوفيد زيرو، بعد أن أكدت البيانات الاقتصادية الصينية معاناتها من تهديدات انكماش في سوق العقار المتأثر بانكماش سوق التوظيف.
ففي هذه الحالات التي تتسم باستمرار التضخم وأسعار الفائدة المرتفعة وضيق أسواق الإقراض، تزداد الضغوط على الإنفاق الاستهلاكي وعلى القرارات الاستثمارية (قدرات الإنتاج)، وبخاصة القطاعات التي تعتمد على الإنفاق الرأسمالي مثل البناء والإسكان والإنفاق الصناعي، وهو ما يؤكده مؤشر معهد إدارة سلاسل التوريد الأميركي، والذي يشير إلى تنامي مخاطر ركود اقتصادي في الربع الثالث والرابع للعام ٢٠٢٣. وفي ظل هذه التحركات وتثبيت سعر الفائدة الأميركية تتنامى مخاوف بعض المتابعين من مخاطر تناقص الأسعار (Deflation)، والتي تعني هبوط أسعار الأصول، وتنعكس من ثم على المستهلك لناحية الإنفاق تحسبًا لهبوط أسعار المواد والخدمات، وبخاصة مع هبوط أسعار كافة مكونات مؤشر التضخم الأميركي بما في ذلك الغذاء والطاقة والإسكان والمواصلات. وعليه فإن التثبيت لشهر حزيران/يونيو الماضي قد يمنح الاقتصاد الأميركي فسحة لالتقاط أنفاسه وتحقيق نتائج إيجابية، حيث بينت مؤشرات التضخم الأخيرة تراجع وتيرة ارتفاع الأسعار إلى ٣٪، وقد تُجنب نتائجها دخول الاقتصاد الأميركي في الركود المبكر.
ومن الفوائد الإضافية لتثبيت أسعار الفائدة منح القطاع المصرفي فرصة لإعادة ترتيب قوائمهم المالية، وبخاصة البنوك الإقليمية والمتوسطة، حيث واجهت هذه البنوك أزمة مالية كبرى مطلع هذا العام مع انهيار مصارف سيلكون فالي وسيجنتشر وفيرست ريبابليك، والتي تُعد الأكبر منذ الانهيار المالي ٢٠٠٨-٢٠٠٩، وهو ما فرض على البنك الفدرالي إقراض البنوك ٤٧٥ مليار دولار في الأسبوع الأول من الأزمة، وتدخله المباشر في ترتيب عددٍ من الاندماجات البنكية والاستحواذ على مصرف سيليكون فالي. وترتبط الأزمة مباشرة بارتفاع سعر الفائدة حيث تسببت في انهيار أسعار أذون الخزينة الفدرالية، والتي استثمرت فيها البنوك عشرات المليارات من دولارات التيسير الكمي المتوفرة بيد المودعين بأسعار فائدة متدنية لا تزيد عن ١.٥٪ مقارنة بالوضع الراهن (٥.٥٪) وهو ما عرضها لخسائر كبيرة عندما باعت أصولها للوفاء بمطالبات المودعين الذين سحبوا ودائعهم مع انتشار شائعات مشاكل البنوك الإقليمية والمتخصصة مثل سيلكون فالي وعجزها عن توفير السيولة للمودعين.
لا يخفى أن الانكماش في الاقتصاد الأميركي ينعكس على العالم كله؛ ولذلك تحاول عديد الدول إنعاش الاقتصاد العالمي، وبخاصة المنتديات والتجمعات الاقتصادية مثل تجمع بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون، أو اتحاد دول أوراسيا الذي تقوده روسيا. فعلى سبيل المثال استقطب منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي هذا العام ١٧ ألف مشارك من أكثر من ١٠٠ دولة في العالم، ويعد ذلك مؤشرًا على الرغبة الجامحة لدول العالم لإنعاش اقتصادها في ظل العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا. بينما دعت الصين وروسيا لتوسيع عضوية مجموعة بريكس، إذ من المتوقع أن تنضم ١٩ دولة لهذه المجموعة منها السعودية والجزائر ومصر؛ ليصل الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة إلى ٤٠٪ من الناتج العالمي، وتتفوق بذلك على إجمالي مجموعة دول الـG7. إلا أن توسع التعاون بين الدول الأعضاء المؤسسين روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا يواجه بعض التحديات الداخلية لأسباب مختلفة، أهمها المنافسة الاستراتيجية والعداء بين أكبر اقتصادين في المجموعة وهما الهند والصين، وهو الأمر الذي تغذيه أميركا عبر سماحها بالاستثمارات الصينية في الباكستان، وزرع بؤر التنافس بينهما في أفغانستان وبنغلادش وسيرلانكا.
وأما جيوسياسيًّا، فلقد شهدت أسواق الطاقة تحولات كبيرة خلال العامين الماضيين، منها نجاح أميركا في تغيير خارطة أمن الطاقة الأوروبية من خلال استغلال الحرب الأوكرانية لفطم أوروبا عن الطاقة الروسية، وتحويل مصادرها إلى قطر والجزائر والولايات المتحدة. كما تمكنت من عرقلة أي تعاون مستدام بين دول أوبك بلس، حيث أشعلت المنافسة بين روسيا والسعودية على أكبر أسواق الطاقة عالميًّا (الصين والهند)، إذ تمكنت روسيا من خلال منح تلك الدول تخفيضات لأسعار الخام من الحصول على حصة سوقية على حساب السعودية في كلا البلدين، وهو ما دفع بشركة أرامكو السعودية للاستثمار ببناء طاقة تكريرية في السوق الصيني للحفاظ على مكتسباتها. وفي هذا السياق امتنعت روسيا عن دعم مقترح سعودي لتخفيض حصص الإنتاج لأعضاء أوبك بلس لكبح انخفاض الأسعار بسبب قلة الطلب الصيني متذرعة بحاجتها لتمويل الحرب. ولا شك أن تعميق أميركا للخلاف بين السعودية وروسيا (العضوين الرئيسين في منظمة أوبك بلس) يكشف عن مساعٍ أميركية لعرقلة (أوبك بلس)، تحوطًا من تجاوز الدول البترولية لسياساتها المتعلقة بإمدادات الطاقة وكمياتها وأسعارها تحت ضغط التراجع الاقتصادي العالمي.
متابعة سياسية
إحاطة حول الوضع السياسي والاقتصادي
العالمي حتى بداية الربع الثالث من العام ٢٠٢٣
مع بداية الربع الثالث ٢٠٢٣ دخلت دول عديدة مرحلة الركود الاقتصادي بمعناه التقني "تسجيل تراجع أو توقف في نمو الناتج المحلي الإجمالي لمدة فصلين متعاقبين"، وهو ما حذر منه خبراء اقتصاديون سابقًا بناءً على جملة من المتغيرات من أهمها ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل عالميًّا نتيجة تصاعد السياسات الاقتصادية القومية "الشعبوية"، التي تقوض مصداقية استقلال البنوك المركزية، ونتيجة الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، والتي هزت الثقة في الاقتصاد الصيني القائم على التصدير، وزادت من تنامي مخاطر ضعف النمو الاقتصادي في الصين، وبخاصة مع بروز مشكلات الإمداد الناجمة عن أزمة سلاسل التوريد، وعن قرار الصين بتطبيق سياسة "كوفيد "زيرو". كما شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا سببًا مضافًا بعد جائحة كورونا حيث ارتفعت أسعار الطاقة التي تعتبر عصب الاقتصاد العالمي ليبلغ معدلها لعام ٢٠٢٢ قرابة ١٠٣ دولار للبرميل؛ لتُعمّق مشكلة التضخم الذي لا يزال بعيدًا عن النسبة المئوية المستهدفة وهي ٢٪، لا سيما مع استمرار النمو المطرد لسوق العمالة الأميركي والإنفاق الاستهلاكي، وهو ما يعني بقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول، وعند مستوى أعلى من توقعات الأسواق المالية حسبما أفاد الفدرالي الأميركي يوم ٦ تموز/يوليو ٢٠٢٣.
إن ما يجري اليوم من تنكب معيشي وضباب في الرؤية الاقتصادية وانعدام لليقين لدى السواد الأعظم من سكان العالم، وما ينتظرهم من مصائر كارثية لا يعلم مداها إلا الله، إنما سببه الرئيس هو النظام الرأسمالي الأميركي الاستعماري المتوحش، والسياسات الأميركية الإجرامية، والسياسات الاقتصادية والمالية العالمية (الإمبريالية) منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبخاصة منذ اتفاق كينيدي خرتشوف في فينا، وما أعقبها من أحداث وأزمات نحو قرار إنهاء قابلية تحويل الدولار بالذهب فور الطلب، وأزمة النفط سنة ١٩٧١-١٩٧٤، وأزمة الديون والتضخم سنة ١٩٨٢، وانهيار أسواق الأسهم "الإثنين الأسود" سنة ١٩٨٧، وأزمة "النمور الآسيوية" سنة ١٩٩٧، ثم انهيار الروبل الروسي سنة ١٩٩٨، ثم أزمتي الركود الاقتصادي اللتين أعقبتا الانهيار المالي لعام ٢٠٠٨-٢٠٠٩ والديون السيادية الأوروبية سنة ٢٠١٢، وكادتا توديان بانهيار النظام البنكي العالمي وانهيار اليورو. ولم يكد يتنفس العالم الصعداء حتى جاءت جائحة كورونا لتعرقل عجلة النمو الاقتصادي، وتفرض على الدول اقتراض تريليونات الدولارات وضخها في الاقتصاد العالمي، فضلًا عما نتج عنها من تضخم مالي لا يزال العالم يعاني تبعاته نحو ارتفاع أسعار المواد والخدمات والتي عرّضت الدول والشعوب لتفاقم الديون، إذ ارتفعت ديون الدول الناشئة والفقيرة من (٧١ ترليون دولار) سنة ٢٠١٩ إلى قرابة ٩٠ تريليون دولار بنهاية عام ٢٠٢١. ثم جاءت المعالجة الرأسمالية لتزيد معاناة الشعوب، وتعمق مشكلة الاقتصاد العالمي وتزيده ضِغثًا على إبالة. إذ تقتضي تلك المعالجة رفع أسعار الفائدة، وهي سياسة احتواء رأسمالية اعتادت البنوك المركزية تنفيذها لمعالجة التضخم وإبطاء نسبة النمو الاقتصادي عبر تقليص السيولة، وتخفيض الإنفاق على برامج العلاج والتعليم والبنية التحتية وزيادة الضرائب وتجميد الأجور.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الجامع المشترك لتلك الهزات الكبرى والأزمات المالية هو قيادة أميركا لها وإدارتها بما يحقق مصالحها وعملقة اقتصادها، وبما يوفر التمويل اللازم لتفوقها العسكري وبسط نفوذها على دول وشعوب العالم وتلبية جشع شركاتها، حتى أصبح الاقتصاد الأميركي والدولار هما الملاذ الآمن للمستثمر، وأضحت سياسات الفدرالي الأميركي هي المحرك الرئيس لإدارة النظام المالي العالمي. ولا أدل على ذلك من تقلبات الأسواق المالية وحالة عدم الاستقرار في أسعار الصرف والفائدة التي تزامنت مع معركة سقف الدين الأميركي ٣١.٤ ترليون دولار، والتي كادت أن تطيح بالاقتصاد الأميركي وتتسبب بكارثة مالية تتجاوز الحدود الأميركية، لولا الاتفاق الذي جرى بين الرئيس الأميركي ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي على تعليق سقف الدين لبداية عام ٢٠٢٥.
وفي هذا الصدد يتبادر إلى الذهن سؤالان؛ الأول سياسي والآخر اقتصادي. فأما السؤال الأهم اقتصاديًّا في ظل النظام الرأسمالي الذي تكتوي بناره شعوب العالم والذي يعتمد أساسًا على توفر السيولة المالية لدفع عجلة النمو عبر الإقراض: ما هي تبعات رفع أسعار الفائدة واتباع سياسات التضييق الكمي، والتي من شأنهما امتصاص السيولة النقدية من السوق، وتحويلها نحو الودائع البنكية والسندات وأذون الخزينة؟ وأما جيوسياسيًّا فكيف ستترجم الصين تطلعاتها الاقتصادية في ظل الاحتواء الأميركي لها، وفي ظل التضييق على حليفتها روسيا عبر حرب استنزاف أدت لإنفاق أكثر من ٣٪ من ناتجها المحلي الإجمالي في العام الماضي؟ وكيف ستترجم أميركا رؤيتها الاقتصادية والتي أشارت إليها خطابات جانيت يلين وزيرة الخزينة وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض والداعية "لاندماج السياسة الداخلية والسياسة الخارجية عبر استراتيجية تعزز سلاسل التوريد الآمنة والمرنة والمعتمدة على معايير الحوكمة والبيئة والتقنية الموثوقة والتي تتكيف مع المناخ الجيوسياسي والأمني الذي يشوبه التنافس"؟
وللإجابة على السؤال الأول، فإن سياسات أسعار الفائدة في الدول المتقدمة تعتمد على قوانين "استقلالية البنوك المركزية"، إلا أنه ومع ذلك فقرارات رفع وخفض أسعار الفائدة عرضة للتأثير السياسي. ومن الأمثلة على ذلك ما واجهه الفدرالي الأميركي من انتقاد حاد في شهر أيلول/سبتمبر ٢٠٢١ بسبب تأجيله رفع أسعار الفائدة لمدة ٥ أشهر لتمكين الديمقراطيين من تمرير قوانين الإنفاق التي كانت إحدى ركائز أجندة بايدن الاقتصادية، وكذلك يُفهم تأخر قرار المركزي الأوروبي بزيادة الفائدة تخوفًا من عقبات سقوط أوروبا في ركود اقتصادي. وأما الصين فقامت بتخفيض الفائدة إلى ٢.٦٥% لإنعاش اقتصادها المتأثر بسياسة الاحتواء الأميركية وتبعات سياسة كوفيد زيرو، بعد أن أكدت البيانات الاقتصادية الصينية معاناتها من تهديدات انكماش في سوق العقار المتأثر بانكماش سوق التوظيف.
ففي هذه الحالات التي تتسم باستمرار التضخم وأسعار الفائدة المرتفعة وضيق أسواق الإقراض، تزداد الضغوط على الإنفاق الاستهلاكي وعلى القرارات الاستثمارية (قدرات الإنتاج)، وبخاصة القطاعات التي تعتمد على الإنفاق الرأسمالي مثل البناء والإسكان والإنفاق الصناعي، وهو ما يؤكده مؤشر معهد إدارة سلاسل التوريد الأميركي، والذي يشير إلى تنامي مخاطر ركود اقتصادي في الربع الثالث والرابع للعام ٢٠٢٣. وفي ظل هذه التحركات وتثبيت سعر الفائدة الأميركية تتنامى مخاوف بعض المتابعين من مخاطر تناقص الأسعار (Deflation)، والتي تعني هبوط أسعار الأصول، وتنعكس من ثم على المستهلك لناحية الإنفاق تحسبًا لهبوط أسعار المواد والخدمات، وبخاصة مع هبوط أسعار كافة مكونات مؤشر التضخم الأميركي بما في ذلك الغذاء والطاقة والإسكان والمواصلات. وعليه فإن التثبيت لشهر حزيران/يونيو الماضي قد يمنح الاقتصاد الأميركي فسحة لالتقاط أنفاسه وتحقيق نتائج إيجابية، حيث بينت مؤشرات التضخم الأخيرة تراجع وتيرة ارتفاع الأسعار إلى ٣٪، وقد تُجنب نتائجها دخول الاقتصاد الأميركي في الركود المبكر.
ومن الفوائد الإضافية لتثبيت أسعار الفائدة منح القطاع المصرفي فرصة لإعادة ترتيب قوائمهم المالية، وبخاصة البنوك الإقليمية والمتوسطة، حيث واجهت هذه البنوك أزمة مالية كبرى مطلع هذا العام مع انهيار مصارف سيلكون فالي وسيجنتشر وفيرست ريبابليك، والتي تُعد الأكبر منذ الانهيار المالي ٢٠٠٨-٢٠٠٩، وهو ما فرض على البنك الفدرالي إقراض البنوك ٤٧٥ مليار دولار في الأسبوع الأول من الأزمة، وتدخله المباشر في ترتيب عددٍ من الاندماجات البنكية والاستحواذ على مصرف سيليكون فالي. وترتبط الأزمة مباشرة بارتفاع سعر الفائدة حيث تسببت في انهيار أسعار أذون الخزينة الفدرالية، والتي استثمرت فيها البنوك عشرات المليارات من دولارات التيسير الكمي المتوفرة بيد المودعين بأسعار فائدة متدنية لا تزيد عن ١.٥٪ مقارنة بالوضع الراهن (٥.٥٪) وهو ما عرضها لخسائر كبيرة عندما باعت أصولها للوفاء بمطالبات المودعين الذين سحبوا ودائعهم مع انتشار شائعات مشاكل البنوك الإقليمية والمتخصصة مثل سيلكون فالي وعجزها عن توفير السيولة للمودعين.
لا يخفى أن الانكماش في الاقتصاد الأميركي ينعكس على العالم كله؛ ولذلك تحاول عديد الدول إنعاش الاقتصاد العالمي، وبخاصة المنتديات والتجمعات الاقتصادية مثل تجمع بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون، أو اتحاد دول أوراسيا الذي تقوده روسيا. فعلى سبيل المثال استقطب منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي هذا العام ١٧ ألف مشارك من أكثر من ١٠٠ دولة في العالم، ويعد ذلك مؤشرًا على الرغبة الجامحة لدول العالم لإنعاش اقتصادها في ظل العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا. بينما دعت الصين وروسيا لتوسيع عضوية مجموعة بريكس، إذ من المتوقع أن تنضم ١٩ دولة لهذه المجموعة منها السعودية والجزائر ومصر؛ ليصل الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة إلى ٤٠٪ من الناتج العالمي، وتتفوق بذلك على إجمالي مجموعة دول الـG7. إلا أن توسع التعاون بين الدول الأعضاء المؤسسين روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا يواجه بعض التحديات الداخلية لأسباب مختلفة، أهمها المنافسة الاستراتيجية والعداء بين أكبر اقتصادين في المجموعة وهما الهند والصين، وهو الأمر الذي تغذيه أميركا عبر سماحها بالاستثمارات الصينية في الباكستان، وزرع بؤر التنافس بينهما في أفغانستان وبنغلادش وسيرلانكا.
وأما جيوسياسيًّا، فلقد شهدت أسواق الطاقة تحولات كبيرة خلال العامين الماضيين، منها نجاح أميركا في تغيير خارطة أمن الطاقة الأوروبية من خلال استغلال الحرب الأوكرانية لفطم أوروبا عن الطاقة الروسية، وتحويل مصادرها إلى قطر والجزائر والولايات المتحدة. كما تمكنت من عرقلة أي تعاون مستدام بين دول أوبك بلس، حيث أشعلت المنافسة بين روسيا والسعودية على أكبر أسواق الطاقة عالميًّا (الصين والهند)، إذ تمكنت روسيا من خلال منح تلك الدول تخفيضات لأسعار الخام من الحصول على حصة سوقية على حساب السعودية في كلا البلدين، وهو ما دفع بشركة أرامكو السعودية للاستثمار ببناء طاقة تكريرية في السوق الصيني للحفاظ على مكتسباتها. وفي هذا السياق امتنعت روسيا عن دعم مقترح سعودي لتخفيض حصص الإنتاج لأعضاء أوبك بلس لكبح انخفاض الأسعار بسبب قلة الطلب الصيني متذرعة بحاجتها لتمويل الحرب. ولا شك أن تعميق أميركا للخلاف بين السعودية وروسيا (العضوين الرئيسين في منظمة أوبك بلس) يكشف عن مساعٍ أميركية لعرقلة (أوبك بلس)، تحوطًا من تجاوز الدول البترولية لسياساتها المتعلقة بإمدادات الطاقة وكمياتها وأسعارها تحت ضغط التراجع الاقتصادي العالمي.