المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية قراءة في قمة حلف الناتو في لتوانيا



Abu Taqi
12-07-2023, 08:01 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
قراءة في قمة حلف الناتو في لتوانيا
انطلقت أمس الثلاثاء 11 تموز/يوليو في العاصمة الليتوانية فيلنيوس قمة لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، حضرها قادة دول الحلف وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، والذي يعكس خروجه من الولايات المتحدة وحضوره شخصيًّا أهمية كبيرة في عرف الأمن القومي الأميركي.
وتنعقد هذه القمة لبحث عدد من الملفات وأبرزها: دعم أوكرانيا ووضع آليات دفاع ضد روسيا، وانضمام السويد للحلف، وذلك في ظل ما سماه البيت الأبيض "تنافسًا جيوسياسيًّا وأمنيًّا". وقد برزت أهمية هذه الملفات من خلال بيان القمة الذي أكد على اتفاق قادة الحلف على أن مستقبل أوكرانيا يقع داخل الحلف، وتعهدهم بالعمل بشكل وثيق للتصدي للتهديدات والتحديات الروسية.
وتأتي هذه القمة وسط أجواء التصعيد المتواصل بين أوكرانيا والدول الغربية من جهة، وبين روسيا التي قصفت العاصمة الأوكرانية كييف قبيل اجتماع قادة الحلف بقليل، وذلك في رسالة تنطوي على تحذير بشأن الدعم الغربي العسكري الذي ستحظى به أوكرانيا في هذه القمة، وبشأن مطالبتها بالانضمام للحلف. وتنطوي كذلك على تحذير بشأن تعزيز الحلف دفاعاته في شرق أوروبا على حدود روسيا في منطقة البلطيق، التي تنعقد هذه القمة على أراضيها، وهي المنطقة التي تضم الدول الأكثر انغماسًا في الأجندة الأميركية المتعلقة بروسيا. حيث حذّر الكرملين من أن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ستكون له عواقب وخيمة على هيكلية الأمن في أوروبا.
وفي إطار فضح نوايا الولايات المتحدة وإصرارها على تعميق النزاع العسكري وخلخلة أمن القارة الأوروبية، قال الدبلوماسي الروسي قسطنطين غافريلوف، إن إعلان الولايات المتحدة عن خطط لزيادة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا يظهر عدم اهتمامها بالتوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة. مضيفًا إن أوروبا ستكون أول من يواجه "عواقب كارثية" في حالة تصعيد الحرب. وبهذا المعنى فإن فرض الولايات المتحدة على أجندة القمة مواصلة الدعم لأوكرانيا، وإعلان البيت الأبيض أن حلف شمال الأطلسي سيعرض مسارًا يتيح في نهاية المطاف انضمام أوكرانيا إلى صفوفه، دون تحديد "جدول زمني"، وهو ما دأبت فرنسا وألمانيا على عرقلته سابقًا، وحمل بايدن لأردوغان على الموافقة بشأن ضم السويد للحلف لقاء تحريك مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وموقف الرئيس الأوكراني الداعي إلى أن "أوكرانيا تستحق أن تكون عضوًا في التحالف. ليس الآن لأننا في حالة حرب، لكننا بحاجة إلى إشارة واضحة وهذه الإشارة ضرورية الآن"، كل ذلك يدل على أهمية وأولوية إخضاع أوروبا للأجندة الأمنية الأميركية، واستنزاف روسيا واستفزاز بوتين وعزله وتيئيسه من نهاية قريبة للحرب، وجعل خضوعه لإرادة أميركا خياره الوحيد، وهو ما يعني إطالة أمد الحرب، أو تحويلها إلى أزمة مجمدة عند الضرورة واقتضاء المصلحة، وبخاصة بعد أن تجاوزت أوروبا فصل الشتاء الذي أربك قطاع الطاقة الأوروبية، ووفر للفرنسيين والألمان ذريعة لرفع الصوت في وجه الولايات المتحدة، وانتقادها علنًا بشأن رفعها لأسعار الطاقة.
ويتضح مما سلف أن من أغراض أميركا من هذه القمة هو تأكيد الأمر الواقع بشأن الحرب الأوكرانية وتعميق الأزمة، بعد أن تمكنت من إدارتها على نحو يُرغم الدول والشعوب الأوروبية على التكيف مع تداعياتها، ولا سيما في ظل محاولاتها لاستقطاب الصين واحتوائها، وتحييدها وعرقلة تقاربها مع روسيا وأوروبا، وذلك من خلال زيارة وزيري الخارجية والخزينة الاميركيين لبكين، في الوقت الذي سعت فيه الصين عبر زيارة وزير خارجيتها لبرلين وباريس للتقارب مع أوروبا وحملها على تأييد مبادرتها للسلام في أوكرانيا، وتعميق علاقتها مع الرئيس ماكرون الذي حظي بحفاوة مبالغ فيها أثناء زيارته لبكين قبل نحو شهرين، بهدف تشجيعه على مواصلة عناده للولايات المتحدة بشأن توسيع نطاق عمل حلف الناتو في منطقة الإندوباسيفيك، وهو الأمر الذي ظهر في معارضته لقرار فتح مكتب تنسيقي للناتو في طوكيو قبل نحو أسبوع، وهو المكتب التنسيقي الذي تهدف الولايات المتحدة من ورائه جر أوروبا إلى المواجهة مع الصين وبناء جدر بينهما في المستقبل، وذلك بخلاف الهدف المعلن بشأن مهمة مكتب الحلف والمُغلفة بتعزيز التعاون والتشاور مع كوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا واليابان، وهذا فضلًا عن إدخال هذه الدول من خلال المكتب التنسيقي للناتو في تعريف التحالف الغربي الذي تنادي به الولايات المتحدة. وفي إثر ذلك حذر ماكرون من مغبة توسع حلف الناتو في منطقة الأندوباسيفيك عبر "اتفاقيات التعاون الثنائي" مع دول تلك المنطقة. واصفًا الخطوة بأنها "خطأ كبير" متذرعًا بعدم وجود "مصلحة استراتيجية" للناتو في آسيا.
وأما إعلان ماكرون فور وصوله إلى ليتوانيا عن قراره بتزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى للدفاع عن نفسها، فلا يعبر عن انصياعٍ للولايات المتحدة أو عن رغبة بإطالة أمد الصراع، بقدر ما يوفر ذلك من بدائل لمخاوف أوكرانيا الأمنية التي تبرر مطالبتها بالانضمام إلى الحلف، ومن ثم يعبر عن رغبة بإبعاد حلف الناتو عن النزاع الأوكراني الروسي وإسناد الدفاع عن أوكرانيا للأوكرانيين أنفسهم. وهذا بالإضافة إلى أن قراره إنما جاء لمغازلة دول البلطيق وأوروبا الشرقية المؤيدين بشدة لحلف الناتو وأوكرانيا في مواجهة روسيا، وذلك لكسبهم (باعتبارهم كتلة وازنة) إلى جانب فرنسا في تنافسها مع ألمانيا على قيادة الاتحاد الأوروبي. ولأجل ذلك كان ماكرون قد دعا إلى وضع حد لتقسيم أوروبا بين "قديمة" وجديدة". مستغلًا وضع ألمانيا الأكثر تضررًا من الصدام مع روسيا واضطرارها إلى اتخاذ مواقف منفرة لدول أوروبا الشرقية ودول البلطيق بشأن علاقتها مع روسيا وبشأن الحرب الأوكرانية، وهو الأمر الذي شكل فرصة لماكرون ومساعيه لجذب الدول الشرقية لصالحه.
وأما عدول الرئيس التركي أردوغان عن عرقلة انضمام السويد إلى الحلف، وهو الأمر الذي رحبت به الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فقد حصل بتأثير مباشر من قِبل الرئيس بايدن، بحسب ما صرح به مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، حيث قال: إن "القيادة الشخصية للرئيس جو بايدن كانت أساسية في دفع الرئيس التركي إلى التوقف عن عرقلة محاولة السويد الانضمام إلى الناتو". ولا شك أن عدول أردوغان عن موقفه حيال انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي إنما يندرج في إطار استغلاله للمساحات والهوامش والمقاربات التي تتيحها قواعد اللعبة السياسية في الأزمة الأوكرانية والعلاقات الدولية، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ولا سيما مسألة استئناف المفاوضات بشأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وتخفيف القيود على تأشيرات العبور للمواطنين الأتراك، وهو ما تعهد بدعمه الرئيس السويدي أولف كريسترسون.
غير أن ذلك إنما جاء عقب فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وفشل القوى الغربية في إسقاطه، وبعد أن تعيّنت على إثره المصلحة الأميركية والأوروبية في التقارب مع أردوغان الذي لا يمانع هو الآخر من الإفادة من الغرب على قاعدة المصالح والمنطق البراغماتي، مع احتفاظه بعلاقة جيدة مع بوتين. سيما وأن هذا الأخير لا يمكنه الاستغناء عن أردوغان الذي بات يمثل قناته مع الغرب في ظل عزلته، وضعف موقفه السياسي الدولي وموقفه العسكري المرتبك ميدانيًّا، وفي ظل حاجته لتركيا التي باتت تمثل رئة روسيا وسط حصار غربي خانق. ولذلك جاءت ردة فعل القيادة الروسية حيال موقف أردوغان من ضم السويد للحلف لتؤكد تفهمها لموقفه وتؤكد استمرار علاقتها معه، وتُقلل من قيمة هذا الإنجاز الذي احتفى به الغرب.
وفي هذا السياق قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: "إن أنقرة عليها التزامات بصفتها عضوًا في الحلف، وإن موسكو ليس لديها أوهام بشأن هذا الأمر". مضيفًا إن "هناك اختلافات بين روسيا وتركيا، لكن بينهما أيضًا مصالح مشتركة، وإن موسكو تعتزم تطوير علاقاتها مع أنقرة".
وبهذا المعنى فإن أردوغان إنما يمارس سياسة التوازن بين روسيا والغرب، ومن ذلك محاولته أثناء القمة أن يعرقل اتفاق الدول الأعضاء حول خطط توضح بالتفصيل كيف سيرد الحلف على هجوم روسي، وذلك لامتصاص أثر موقفه من ضم السويد إلى الحلف على علاقته مع روسيا، والتي لم تخفِ انزعاجها منه رغم تفهمها له، حيث صرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأنه لا أحد من الأوروبيين يرغب برؤية تركيا في اتحادهم، وأنه "لا ينبغي أن تكون لتركيا أي أوهام في هذا الصدد".
أما نتائج هذه القمة فلا شك أنها تعكس غطرسة الولايات المتحدة وتغولها على العالم بما فيه الدول الكبرى مثل روسيا وفرنسا وكذلك الصين، وتعكس استهتارها واستخفافها بدول أوروبا الوازنة مثل ألمانيا، بحيث تمكنت من إرغامهم على السير في استراتيجيتها تجاه روسيا رغم ما فيها من تقويض لمصالحهم ومصادرة لإرادتهم. فقد حملتهم على التأكيد على أن قوة الحلف النووية الاستراتيجية ولا سيما الأميركية هي الضمان لأمنهم، رغم ما ينطوي عليه تأكيدهم هذا من اعتراف بعجزهم وبأحقية الولايات المتحدة بقيادتهم. وهو الأمر الذي سعت إليه أميركا من خلال الحرب الأوكرانية إلى جانب سعيها لإجبارهم على رفع إنفاقهم العسكري والتزاماتهم لمستوى 2%، والمقررة في قمة الناتو في ويلز سنة 2014 على إثر ضم روسيا للقرم، والتي لم تف بها عديد الدول الأوروبية ومن بينها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا. وهذا بالإضافة إلى سعي أميركا لمنع أوروبا من الخروج عن طاعتها وإرادتها مثلما تحاول فرنسا وألمانيا من حين لآخر في الملف الأوكراني وفي العلاقة مع روسيا والصين على وجه الخصوص.
24/ذي الحجة/1444هـ
12/7/2023م