المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية سياق الاحتجاجات في فرنسا وصراع الهوية



Abu Taqi
09-07-2023, 10:26 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
سياق الاحتجاجات في فرنسا وصراع الهوية
واجهت فرنسا على امتداد عدة أيام مظاهرات وأعمال عنف فيما وصفه بعض المراقبين "لحظة جورج فلويد"؛ وذلك بعد مقتل الشاب الجزائري نائل المرزوقي، البالغ من العمر سبعة عشرة عامًا في ضاحية نانتير بباريس على يد شرطي، حيث اتسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل ليون ومارسيليا وتولوز وستراسبورج وليل وبوردو وبريست، وهو ما اضطر الحكومة لنشر قرابة ٤٥.٠٠٠ شرطي ومدهم بالسيارات المدرعة وقوات مكافحة الإرهاب ومسيرات المراقبة الجوية، بالإضافة إلى تنفيذ قرار حظر التجول في نحو ٢٠ مدينة، وتقليص حركة المواصلات العامة واعتقال ٢٤٠٠ متظاهر.
وقد نجم عن ذلك إلغاء ماكرون لزياراته الخارجية ومنها "القمة التاريخية" المرتقبة مع المستشار الألماني شولتز. كما واجه مطالبات بإقرار قانون طوارئ لمعالجة توسع رقعة الاحتجاجات وعنف الاشتباكات مع الشرطة، والخسائر المالية والاقتصادية للبلاد، والتي انتشرت لتشمل مدن وقرى ريفية لم تمسها مظاهرات ٢٠٠٥.
ورغم أن الحكومة الفرنسية قد نجحت في تخفيف أحداث العنف والشغب والحد منها، وتمكنت من امتصاص الاحتجاجات الناتجة عن قرار الحكومة بفرض قانون التقاعد والمتضمن رفع سن التقاعد إلى سن 64 عام لمواجهة تدهور الميزانية، وهي المعضلة التي تعانيها الدول الرأسمالية الليبرالية في مواجهة منظومة الضمان الاجتماعي التي شُرعت لتنفيس غضب الشعوب من قسوة النظام الرأسمالي وجشع الرأسماليين، وبرغم أن بواعث الأحداث وسياقها طبيعيٌّ، إلا أن مسار الأحداث والعناوين التي هبطت عليها، والسجال السياسي الذي لا يزال يدور حولها، موجّه ومرتبط بسياق أوسع يستهدف الرئيس ماكرون وسياساته والنخبة السياسية وسمعة فرنسا ومكانتها في العلاقات الدولية، ومن ذلك مسألة بحث الهوية لقرابة ٢٠٪ من الشعب الفرنسي المنحدر من أصول مهاجرين، وهي المسألة التي تجتاح عددًا من الدول الأوروبية على إثر موجات الهجرة، وما يصفونه بـ"الإرهاب" الوافد من الشرق الأوسط وأفريقيا، والذي أسهم في دعم حضور الأحزاب اليمينية المتطرفة في برلمانات بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا وهولندا.
فبالإضافة إلى بروز الاستثمار السياسي في عناوين وشعارات المحتجين، فقد برز بشكل لافت أيضًا في السجال الحزبي بين اليسار واليمين والاتجاه الإعلامي، إذ بات يدور حول عنصرية الشرطة والتشريعات التي تمنحهم الحق بالإفراط في قمع الاحتجاجات، والسياسات المحابية للشركات والبنوك على حساب الفقراء وعزلة الضواحي عن النسيج المجتمعي الفرنسي، وفي هذا السياق قال ماكرون إن "هناك استغلالًا غير مقبول لوفاة فتى قاصر"، وهو ما يضع تأجيج الاحتجاجات في خانة الضغوط على ماكرون، في ظل مواقفه من حلف الناتو والاستقلال الاستراتيجي والحرب الأوكرانية، ومنافسة ألمانيا على قيادة الاتحاد الأوروبي، وفي هذا الخصوص نشرت صحيفة التلغراف الإنجليزية المعادية لماكرون وكل ما هو فرنسي مقالًا بتاريخ ١٧ حزيران/يونيو أن ماكرون عرقل ترشيح وزير الدفاع البريطاني لمنصب السكرتير العام لحلف الناتو، والذي كان من المحتمل في حال تعيينه أن يكون شخصية قيادية قوية مرتبطة بالولايات المتحدة، ويرسل رسالة قوية لروسيا والصين. ولذلك لم يكن وصف مقتل الشاب نائل المرزوقي بـ"لحظة جورج فلويد" من قبل الإعلام الأميركي، واعتذار ملك هولندا فيليم ألكسندر رسميًّا عن ممارسة بلاده العبودية خلال الحقبة الاستعمارية بريئًا أو منفصلًا عن لجة الأحداث الفرنسية، بل جاء لإحراج فرنسا الاستعمارية المتعجرفة ولقرص إذن ماكرون المطالب بالاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، والساعي لوقف الحرب الأوكرانية، وسد ذريعة أميركا بشأن الأمن الأوروبي ودور حلف الناتو وتوسيعه. حيث كان قد صرح لصحيفة "لو باريزيان"، في نيسان/أبريل الفائت بأنه سيفعل كلّ شيء حتى لا تتسع هذه الحرب، وذلك بخلاف أجندة أميركا التي ما فتئت تُمد أوكرانيا بالسلاح وتستفز بوتين بغية إطالة أمد النزاع.
وفي ظل الضغوط الخارجية والداخلية حاول ماكرون، والذي وصف عملية الشرطة بأنها "غير مبررة" وأن "المتظاهرين يستغلون الحادثة"، امتصاص غضب الشارع الفرنسي واتخاذ موقفٍ محايد بين اليمين الفرنسي الحاقد على المهاجرين وبين اليسار المنادي بالإصلاح لجهاز الأمن وتشريعاته منذ إقرار قانون عام ٢٠١٧، الذي يُسهل استخدام الشرطة لأسلحتهم النارية، إلا أن ماري لوبين اليمينية المتطرفة وصفت تصريح ماكرون بأنه "غير مسؤول"، فيما صرحت أورلين برادي، وهي من أبرز نواب الحزب الجمهوري المعارض بأن "انهيار البلاد أصبح مرئيًا للجميع. . . أين السلطة السياسية؟".
ولا يخفى أن الولايات المتحدة التي تُغذي اليمين الأوروبي عمومًا، واليمين الفرنسي بوجه خاص، من خلال "الهجرة" والمنظمات الأطلسية المُروجة للـ"إسلاموفوبيا"، ومن خلال عمليات غلاديو "الإرهابية"، والتحديات القيمية وحرب النماذج الأيديولوجية، إنما تُسخّر حضور اليمين والمحافظين لاستفزاز اليسار والليبراليين وإحيائهم ضمن أجندة ليبرالية دولية لم تعد تُخطؤها العين. ولذلك جعل الإعلام الفرنسي المعروف ارتباطه بالدوائر الأميركية مقتل الشاب نائل المرزوقي عنوانًا رئيسًا للاحتجاجات وأعمال الشغب، بهدف إبراز التشريعات والقوانين المتعلقة بصلاحيات الشرطة وعنصرية النظام الفرنسي وتحريك الصدام بين اليمين واليسار والليبراليين، وتعميق الانقسام الداخلي وإبقاء حالة الرفض لفرنسا خارجيًا من قٍبل المسلمين والشعوب الأفريقية، وإضعاف حضورها في العلاقات والقضايا القارية والدولية، وتسليط الضوء على عجز الدولة والنخب عن إيجاد حلول ناجعة لمعضلة الهوية، حيث "ترفض الدولة الفرنسية التعدّديةَ الثقافيةَ وتصر على معاملة الأفراد كمواطنين أولًا وأخيرًا، دون أن تأخذ بالاعتبار انتماءاتهم العرقية والدينية والثقافية". ولذلك انتقد ماكرون التحريض الذي تقوم به منصات التواصل الاجتماعي مثل TikTok وSnapchat، والتقى دارمانين بمسؤولي تلك المنصات لحثها على إزالة المواد التحريضية التي ينشرها مثيرو الشغب.
وعلى إثر الأحداث الجارية ألغيت زيارة الملك تشارلز الثالث في الربيع إلى باريس بسبب الأزمة الاجتماعية المرتبطة بإصلاح نظام التقاعد. وأرجأ ماكرون لقاءه بالمستشار الألماني، ما شكل ضربة للفصل الجديد المزمع تشييده بين الدولتين.
وبهذا المعنى فقد نجحت أميركا في هزِّ صورة فرنسا بعامة وماكرون بخاصة أوروبيًّا ودوليًّا، في الوقت الذي يسعى فيه ماكرون لقيادة أوروبا نحو رؤيته للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وتعزيز دعمه للمقترح الصيني للسلام في أوكرانيا.
ومن جهة أخرى ولأجل استغلال الأحداث الفرنسية وتحطيم صورة فرنسا قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بتحذير رعاياهما من التواجد في مناطق الشغب في ذروة الإجازات الصيفية، حيث يتوقع سفر ٢.٥ مليون سائح إلى فرنسا من كلا البلدين، وهو ما قد ينعكس سلبًا على أمن نهائيات كأس العالم لكرة الرجبي والأولمبياد اللتيْن تستضيفهما فرنسا في خريف هذا العام وصيف العام المقبل، وينعكس أيضًا على الإيرادات المالية لهذه الفعاليات وعلى الموسم السياحي وعوائده؛ والذي تعول الحكومة الفرنسية عليه لدفع عجلة الاقتصاد بعد الركود الناجم عن جائحة كورونا.
كما جاءت هذه المظاهرات بعد صدور عدة تقارير تتهم فيه الداخلية الفرنسية وقوات الأمن بسوء التخطيط واستخدام القوة المفرطة وتفشي العنصرية في مؤسساتها وأفرادها، مثل التقرير السادس للجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب والذي تحدث عن التباطؤ في الحد من التنميط العرقي في فرنسا. وفي وسط هذه الفوضى أصدرت نقابتان للشرطة بيانًا تهددان فيه بالتمرد، قالتا فيه "اليوم الشرطة تقاتل لأننا في حالة حرب مع جحافل متوحشة... غدًا سندخل المقاومة وعلى الحكومة أن تدرك ذلك".
ولا بد من الإشارة أيضًا إلى أن ماكرون قد واجه خلال فترتي حكمه احتجاجات "السترات الصفراء" عام ٢٠١٨، ثم مظاهرات "سن التقاعد" مطلع العام الحالي. ومن نتائج هذه الاحتجاجات هزُّ "العقد الاجتماعي بين الدولة والشعب وضرب ثقة الشعب بالدولة وأنظمتها، وبخاصة أن فرنسا تقيد جمع أو إصدار أو نشر أية إحصائيات إثنية حفاظًا على الطابع العرقي والثقافي الفرنسي، والذي يعتبر من أهم ركائز السياسة الفرنسية الخارجية الاستعمارية. ويتضح من هذه الأحداث التي واجهها ماكرون خلال فترة حكمه، وإن كانت ذات طابع داخلي وتخص الشأن الفرنسي إلا أن الأيادي الخارجية حاضرة فيها عبر التوجيه الإعلامي والاختراق الأمريكي للنقابات العمالية منذ عهد ديغول.
وختامًا، لقد كشفت الأحداث الأخيرة في فرنسا حقيقة أفكار الحرية والمساواة والنسوية الجندرية التي تتشدق بها فرنسا، بينما جرى الاعتداء بوحشية على النساء والأطفال، وقد تجلت الوحشية بقتل نائل المرزوقي لأنه من أصول جزائرية، وتقاطر الفرنسيين للتبرع بالملايين للقاتل.
وبالرغم من احتواء ماكرون لأزمة الاحتجاجات ودورة العنف، إلا أن ثقة الشارع الفرنسي بحكومته قد تصدعت بشكل غير مسبوق. ومن المتوقع أن يقوم ماكرون باستغلال جريمة قتل الشاب الجزائري وتقديم الشرطي كبش فداء ومحاكمته وتنفيس غضب الشارع، وتأسيس لجنة وطنية لبحث الأوضاع الاقتصادية (الفقر والبطالة والتعليم) تحت عنوان "رئيس لكافة الشعب"، ووضع لجنة لدراسة مشروع إصلاحات قوات الأمن، والذي من شأنه أن يعيق حظوظ ماري لوبين في الانتخابات المقبلة. ومن شأن ذلك أيضًا أن يسمح لكل من وزير الداخلية الحالي دارمانيان الاستفادة من هذا الوضع، وبناء صورته لدى الحزب كخليفة لماكرون، ويُمكن قائد اليسار الفرنسي ميلانشون من بناء صورته لدى الشعب الفرنسي في حال مد جسور التعاون مع ماكرون. إلا أن هذه الأحداث ستعمق معضلة الهوية الفرنسية وتبقيها بؤرة توتر داخلية، باعتبار أن فرنسا دولة علمانية ترفض أية هويات أخرى تؤثر في ثقافة المجتمع، وسيبقى قرابة ٢٠٪ من الشعب يشعرون أنهم منبوذين وغير فرنسيين.
20/ذي الحجة/1444هـ
8/7/2023م