المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة فكرية مناقشة لخطأ الاستدلال الخاطئ بالقواعد الشرعية وتنزيلها على غير واقعها



Abu Taqi
26-06-2023, 11:36 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة فكرية
مناقشة لخطأ الاستدلال الخاطئ بالقواعد الشرعية
وتنزيلها على غير واقعها في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
أولًا: إن مقياس الأعمال في الإسلام هو الحلال والحرام، ويجب أن تمضي أفعال المسلم وتصرفاته ومواقفه وفق أوامر الله ونواهيه. وإن كان قد يقع من المسلم مخالفة لأحكام الشرع في أفعاله وتصرفاته، بوسوسة من شيطان أو غلبة شهوة أو شقوة، إلا أن الانحراف عن طريقة الفهم التشريعي تهدم شخصيته الإسلامية على المستوى الفردي، وتقوض النظام الإسلامي وتوطن أنظمة الكفر وتبرر لها على المستوى السياسي والمجتمعي. فمثلًا قد يقع المسلم في الزنا أو مقدماته، فيكون آثمًا، ولكنه لا يصح أبدًا أن يقع في إباحة الزنا مهما كانت الذرائع، فإن فعل فقد خرج من الملة؛ ذلك أن الانحراف عن الإسلام فكرًا يورد الكفر والهلاك، والانحراف عن الإسلام سلوكًا يورث الإثم والعقاب. فالإقرار بألوهية الله يُحتم الامتثال لأوامره ونواهيه، وهو دأب الأنبياء والمؤمنين. فلا يصح لمسلم أن يترك الواجب أو يرتكب الحرام أو يسكت عنه. فإن كليم الله موسى عليه السلام عندما قابل العبد الصالح، وقد صاحبه ليتعلم منه، لم يطق صبرًا، وأنكر عليه ما بدا له معصية في أفعاله كقتل الغلام وخرق السفينة. ففي كل مرة كان يرى فيها فعلًا إجراميًّا أو فعلًا مخالفًا للفطرة السليمة، لم يتردد في إنكاره، رغم العهد الذي قطعه للعبد الصالح.
إن أخلاق موسى عليه السلام والتزامَه بالعهد الذي قطعه للرجل الصالح، أبت عليه أن يسترسل مع حب الفضول في رؤية العجائب التي تصدر عن العبد الصالح! وهذا امتحان شديد على النفس أن تصبر على منهجها أمام هذه الغرائب وأمام الرغبة بالتعلم!
كما لم تمنع مكانة الرجل الصالح الذي علمه الله، من أن ينكر عليه موسى عليه السلام ما رآه من أفعال ظاهرها منكر. ولو لم يفعل موسى ذلك، لما كان منسجمًا مع عقيدته ودينه الذي يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإن من أخطر مظاهر الانحراف عن الشرع أن يُقَدِّمَ المسلمُ التبرير تلو التبرير لفعل لا يختلف اثنان على حرمته. والأشد خطرًا أن يطوّع المسلم النصوص والقواعد الشرعية لتخدم رأيه ومقصوده؛ لأنه بهذا النهج لا يُضفي شرعية على الباطل فحسب بل يجعل من شريعة ربه ظهيرًا للباطل والفاسدين.
وفي هذا المقام لا بد أن نعلم أن ثمة فرقًا كبيرًا بين فهم الحكم الشرعي، بفهم واقعه، وتنزيل الحكم الشرعي عليه، باجتهاد صحيح، ووفقًا لأحكامه، وبين وجود واقع مقبول عند الناس، يُراد تسويغه بنصوص شرعية لا تنطبق عليه، كتبرير بعضهم للحكم بغير ما أنزل الله بعدم القدرة على تطبيق شريعة الله لدواعي محلية أو دولية مختلفة. كما أن تطبيق الشريعة منوط بالاستطاعة مع الجدية في التلبس بالعمل لتغيير أنظمة الكفر وقوانينه، وأما الحكم بغير ما أنزل الله وتطبيق أنظمة الكفر فلا رخصة فيه؛ لأنه لم يرد نص يجعل للحاكم رخصة في الحكم بغير ما أنزل الله، أو في تطبيق أنظمة الكفر. على أن قبول المسلم تولي الحكم بغير الإسلام لا يجوز مطلقًا إلا إذا دُعي إلى الحكم لتغييره وتلبس فعليًا بتحويله إلى حكم إسلامي. وهذا لا يحصل واقعيًا إلا إذا أصبح الإسلام عرفًا عامًّا في المجتمع وكان سندُ النظام داخليًا وسلطان الأمة بيدها.
ثانيًا: وعند استنباط الحكم الشرعي للواقع أو للمسألة المعينة، يجب على المجتهد التخلي عن ميله وهواه، وجعل الدليل هو منارته ونبراسه، يسير معه حيثما سار، لا يحيد عنه قيد شعرة. ورحم الله المفكر والأديب محمد محمد حسين حينما قال: "فالاجتهاد الذي يَحترم النصوص الشرعية ويبحثها في حيْدة ونزاهة، شيء، والتطوير الذي يهدف إلى تسويغ الحضارة الغربية، شيء آخر. الاجتهاد الذي يتمسك بمبادئ الإسلام يُقوّم به عِوَجَ الحياة شيء، والتطوير الذي ينزل على الأمر الواقع، ويُسوّغُ عِوَجَ الحياة بنصوص الشريعة، شيء آخر".
والمعلوم من الدين بالضرورة أن الحكم بما أنزل الله واجب على كل من يتولى حكم المسلمين. ولا يجوز لمسلم يرعى شؤون المسلمين أن يحكم بغير الشريعة، وهذا الحكم القطعي لا يبطله أي شيء، بل هو حكم ثابت لا يتغير ولا يتبدل.
ثالثًا: وُجد أن ترشح للحكم في بعض بلاد المسلمين رجالٌ يؤمنون بفكرة التدرج في تطبيق الشريعة، وفازوا في تلك الانتخابات، والحكم الشرعي يوجب عليهم السعي لتغيير الأنظمة والقوانين وتطبيق أحكام الشرع. فإن شرعوا في ذلك ووجدوا عقبات وظروفًا صعبة، زال عنهم الإثم ما داموا متلبسين بالعمل على إزالة هذه العقبات والتخلص من هذه الظروف الصعبة فعلًا وليس قولًا، وإن لم يتلبسوا بذلك، كانوا آثمين بعدم العمل لتحويل النظام من كفر إلى إسلام، وآثمين بإسباغ شرعية مزيفة على أنظمة لا تحكم بالإسلام، وهو لا يخلو من خداع المسلمين وإقعادهم عن واجب استئناف الحياة الإسلامية.
أما زوال الإثم عمن يتلبس بالعمل لتغيير النظام؛ فلأن القيام بأحكام الشرع يكون بحسب الاستطاعة، فإن لم تتوفر الاستطاعة، وكان متلبسًا بالعمل، مهما كانت الظروف والعقبات، زال عنه الإثم، وإلا يبقى آثمًا.
رابعًا: أما الاستدلال بالقواعد الأصولية والفقهية، فإنه لا بد أن نعلم أولًا وقبل كل شيء أنها ليست نصوصًا شرعية، بل هي أحكام شرعية مستنبطة من أدلتها، وهي من صياغة الفقهاء والأصوليين؛ أي هي صياغة بشرية، وليست نصًا موحىً به من الله، ومن ثمَّ فإنها مدلول الخطاب الذي يتمثل بوحي الكتاب والسنة وما أرشدا إليه. كما أن المعنى الذي يستنبطه المجتهد من النصوص الشرعية، إنما يصوغه ليدل على المعنى الذي في ذهنه، فقد يصوغه للدلالة على معنىً واحدٍ، إلا أنه قد يحتمل معنىً آخر أو معانٍ عديدة، وهذه المعاني المحتملة لا يمكن اعتبارها معانٍ شرعية؛ بل هي قصور غير مقصود في الصياغة الجامعة المانعة. في حين أن نصوص القرآن والسنة وحي، فإذا احتملت أكثر من معنى فإن جميعها معانٍ شرعية يحتملها النص.
ولعل فكرة الاضطرار وفكرة الإكراه هما أبرز الحجج التي يُساء استعمالها والاستدلال بها، أو يجري توظيفها لتبرير واقع معين أو إبراء نظام أو حاكم معين. وقد صاغ الفقهاء من هاتين الفكرتين قاعدتين تفرعت عنهما قواعد كثيرة كقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (العفو عن الإكراه).
أما القاعدة الأولى، (الضرورات تبيح المحظورات) فإن قصور صياغتها واضح في أمرين؛ الأول: أن النصوص الشرعية التي أرشدت إلى القاعدة تحصر الأمر الذي يُرخّص الفعل المحظور بـ"الاضطرار" لا بالضرورة؛ إذ الاضطرار هو ما توقف عليه حياة أو موت، بينما الضرورة لا يتوقف عليها حياة أو موت، بل يتوقف عليها المشقة فقط. ومن ثم فإن تعبير "الضرورات" لا يمنع من دخول غير أفراد المعرّف في حكم "الاضطرار" الذي يسوّغ الفعل المحظور ويرفع إثم اقترافه. فتصبح القاعدة بذلك معطلة للأحكام التي فيها مشقة رغم وجوب القيام بها.
وأما الثاني: فإن الاضطرار يرفع الإثم، ولا يجعل الحرام مباحًا، بل يبقى حرامًا، ويُعدُّ فاعله مقترفًا للحرام، لكنه لا إثم عليه؛ لذلك، جاء في النصوص التي أخذت منها هذه القاعدة قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، وقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم}. فقد نصت الآيات على أن الذي يرفع الإثم هو الاضطرار وليس الضرورة، والاضطرار هو الذي يشرف فيه الإنسان على الهلاك، فلحفظ النفس رفع الله الإثم عن أكل الطعام أو الشراب الحرام. ولما كان موضوع الآيات واحدًا، وهو الطعام والشراب، فإن الاضطرار محصورٌ فيهما، وأي نقل لغيرها يحتاج إلى دليل. ولأن الأمر متعلق برفع الإثم، فقد قال نصًّا: {فلا إثم عليه}، وشدد على ذلك بقوله غير باغ ولا عاد، وكرر ذلك في النصوص كلها، صيانة للأحكام الشرعية وبخاصة الحرام من أن يرتكب.
والصياغة الصحيحة للقاعدة هي: (الاضطراريات المُعرَّفة شرعًا ترفع الإثم عن ارتكاب المحظورات).
وأما قاعدة الإكراه، (العفو في الإكراه) فإن الفقهاء قيدوا الإكراه، بالإكراه الملجئ. وهو الخوف على الحياة. فليس كل إكراه معفوًّا عنه، بل الإكراه الملجئ فقط هو المعفوُّ عنه.
إذن هناك الاضطرار وهناك الإكراه، والفرق بينهما أن الإكراه عام في كل شيء، فكلمة "وما استكرهوا عليه" تشمل كل شيء، فكل ما استكره عليه لا يؤاخذ المكره به، شرط أن يكون إكراهًا ملجئًا؛ أي أن يقع المكرَه في وضع من التعذيب أو التهديد يتوقع فيه أن يهلك أو يصاب بأذى بليغ كشلل دائم أو فقدان يد أو رِجل أو إطفاء البصر أو إذهاب السمع. وأمّا المضطر في قوله تعالى: {إلاّ من اضطر} فإنه خاص في الموضوع الذي جاء به وهو الطعام؛ لأنه جاء في الطعام، وفسر المضطر بأنه من يخشى على حياته، أمّا من لا يخشى على حياته فلا يعتبر مضطرًا. وهذا كله غير الضرورة، إذ الضرورة هي ما لا يُستغنى عنه وهذه لم يرد في النصوص الشرعية ما يرفع الإثم عن مقترفها. فالاضطرار في الطعام هو الذي يرفع الإثم عن حرمة تناوله مع بقاء حكمه وليست الضرورة.
خامسًا: وأما الاستدلال بالاضطرار على التدرج بدعوى صعوبة الظروف وضغوط الواقع وما شابه ذلك، فعلى المستدلين بذلك أن يدركوا بأن ثمة فرقًا بين الاضطرار وبين الظروف الصعبة، إذ قد وردت رخصة شرعية في حالة الاضطرار وفي حالة الإكراه، ولم تَرِد أية رخصة في حالة الظروف الصعبة؛ ولذلك كان الاستدلال بقاعدة (الاضطرار) لا ينطبق على من يترشح للحكم بالكفر في بلاد المسلمين، إذ القاعدة محصورة في المطعومات كما قلنا، والترشح للحكم ليس من المطعومات، فالقاعدة لا تنطبق عليه أبدًا.
وأما الاستدلال بقاعدة (العفو في الإكراه) على تولي الحكم بغير ما أنزل الله، فلا يوجد مثل هذا الواقع، بل المشاهد بالحس المباشر أن هناك تنافسًا يصل حد الاقتتال على السلطة في بلاد المسلمين، بل ونجدهم يحتفلون بفوزهم ويفاخرون، فالمرشحون عادة يترشحون بمحض اختيارهم، ويعدون لذلك العدة، ويحشدون الأنصار، ويستميلون الناخبين لاختيارهم، وهذا كله محض اختيار لا إكراه فيه أبدًا. وعلى ذلك لا تنطبق هذه القاعدة عليه أيضًا.
يتبع>>

Abu Taqi
26-06-2023, 11:37 AM
وأما قاعدة (ارتكاب أهون الشرين) فالمعلوم بلا خلاف أن فعل أيٍّ من الشرَّيْن حرام، وأن الواجب هو تجنب الضرريْن كليهما، ورفعهما وإزالتهما إن كان ذلك مقدورًا؛ للقاعدة الفقهية (الضرر يزال)، وهي من أعمِّ القواعد الفقهية، وفيها جِماعُ علمٍ كما يقول أهل العلم، وللحديث: "لا ضرر ولا ضرار...".
نعم، هناك موضع لإعمال قاعدة أخف الضررين أو أقلّ الحرامين، ولكنه استثناء من الأصل وله شروطه، وبغير تلك الشروط لا محل للقاعدة. وإن من شروط إعمال هذه القاعدة أن يتزاحم الحرامان على المكلف في وقتٍ واحدٍ، بحيث إذا تُرك أحدُهما وقع الآخر، ولا يستطيع تركهما معًا. هذه هي حالة إعمال القاعدة، وهي وضع خارج عن وسع المكلف؛ لذلك يصبح عليه أن يجتنب الأشد حرمةً. وقد ضرب الفقهاء والأصوليون لذلك أمثلة كثيرة، منها مثال التترس المشهور، ومثال السفينة التي تغرق كلها إذا لم يتخففوا بإلقاء بعض ما أو من عليها. ومن أمثلتها اليوم أن يُصاب عضو من الجسد بمرض، فإما أن يُبتر العضو وإما أن يهلك المرء. أو أن تتعسر ولادة امرأة، ولا يمكن إنقاذ الأم والجنين معًا، فإما أن تنقذ الأم وإما جنينها، فهنا لا خيار للمرء إلا أحد الحراميْن أو الضرريْن؛ لأن أحدهما واقع لا محالة.
وعند تطبيق هذه القاعدة على الترشح للحكم بالعلمانية، فهل وقع المرشح بين شرَّيْن، هما الترشُّح وعدم الترشُّحِ، والأمران حاصلان معًا، ولا يمكن تفاديهما معًا، وعليه أن يختار أيهما أهون فيرتكبه، للخلاص من أعظمهما؟!
والجواب على ذلك، أن الامتناع عن الترشح في أصله ليس شرًا، بل هو خير، بحسب مقاييس الإسلام، فالمسلم الحق لا يرتكب الحرام، ويمتنع عن ارتكابه. وهذا خير وليس شرًا. والترشح للحكم بالعلمانية حرام، وليس خيرًا. لأن الحكم بالعلمانية حرامٌ. وارتكاب الحرام شرٌّ وليس خيرًا. وعلى هذا فإنه لا يوجد شران واقعان حتمًا، ويطلب من المرشح أن يختار أهونهما، بل يوجد فعل خيرٍ وآخر شرٍّ، وهو ليس مخيرًا في ارتكاب أحدهما، بل عليه التزام الواجب وتجنب الحرام بلا تردد. على أن عدم الترشح للحكم بغير ما أنزل الله أدعى لانبعاث الصراع بين الشعب والسلطة عوض أن تطبقَ أنظمة الكفر ويدومَ بقاؤها على المسلمين، وتخدر الأمة وتُقعد عن واجب العمل لاستئناف الحياة الإسلامية بتولي هذا المرشح الحكم أو المشاركة فيه.
قد يقول قائل: إن من يريد الترشح للحكم أمام شرَّيْن؛ الأول: بقاء الكفر جاثمًا على المسلمين يمنعهم من إقامة شعائر الدين، كما كان حاصلًا في تركيا مثلا، من تجريم التدين ومنع الأذان وحظر الحجاب وحظر الأحزاب التي تقوم على العقيدة الإسلامية، والتضييق على المسلمين.. الخ. الثاني: أن يترشح ويحكم بغير ما أنزل الله ويبدأ بالتخفيف من القيود التي على المسلمين وصولًا إلى تطبيق الإسلام كاملًا. ولا شك أن الناظر في الشرين يرى الثاني أهون من الأول.
والجواب على ذلك هو أن الوقائع هي مناط لأحكام شرعية، ولا بد من معالجتها بالأحكام الشرعية المتعلقة بها، والتخفيف عن المسلمين أو رفع ظلم الحكام عنهم طريقه معالجة أسباب الظلم والقهر وليس المفاضلة بين نظام كفر وظلم وقهر وسلب للإرادة بنظام كفر أخف ظلمًا وقهرًا وبطشًا، ولا شك أن سبب الظلم والقهر والبطش هو الحكم بغير ما أنزل الله ولا يرجع سببه إلى الحاكم الجائر فقط، وقد عالج الرسول صلى الله عليه وسلم وكتلته البطش والظلم والمقاطعة في شعب بني هاشم بالصبر والثبات، ثم بطلب النصرة للحماية، ولم يعالجها بالتنازلات و"أهون الشريْن" و"أخف الضرريْن"، قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرينْ}. إن لمثل هذا الواقع (شر غاشم وشر ناعم) معالجة شرعية ثالثة وهي الصبر والثبات وطلب النصرة للحماية وإقامة الدولة وإزالة الشريْن واستئناف الحياة الإسلامية وتطبيق شريعة الله؛ ذلك أن المقام هو مقام "ولاء وبراء" {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون} {لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلًا، إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} {ودوا لو تدهن فيدهنون} وهو مقام تغيير واجب يحتم الصبر والثبات، وليس مقام تغيير مباح أو مستحب أو مقام لا يتسع لغير الشريْن حلًا. إذ إن تغيير أنظمة الكفر ليس ممتنعًا بالمطلق، وإن كان فيه مشقة بالغة، وهذه المشقة لا رخصة لاختيار أقل الشريْن فيها، لا من قاعدة (الاضطرار) ولا من قاعدة (الإكراه) ولا من قاعدة (أخف الشريْن) أو (أهون الضرريْن) أو (جلب المصالح ودفع المفاسد). على أن النزوع إلى (أخف الشريْن) والحالة هذه يفضي إلى تعطيل العمل الواجب لاستئناف الحياة الإسلامية؛ لأن التغيير لا ينزل من السماء بل يقع ضمن نواميس عالم الشهادة؛ أي يُتوصل إليه بأيدي المؤمنين الصابرين. قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ}. وإنما النصر مع الصبر، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى أن النصر والتمكين إنما يتنزل على الفئة القليلة المستضعفة نحو قوله تعالى: ﴿وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَ ٰ⁠رِثِینَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِیَ فِرۡعَوۡنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَحۡذَرُون﴾.
أما أن قاعدة (أخف الضرريْن، أو أهون الشريْن) لا تنطبق على هذه الحالة، فذلك أنه وإن كان الواقع الذي يعيشه المسلمون من ظلم وقهر وتعطيل لأحكام الشرع، وهو واقع حتمًا، ولم يتمكن المسلمون حتى اليوم من الخلاص منه، ولكن الترشح والحكم بغير ما أنزل الله والقسم على المحافظة على الدساتير الوضعية وتطبيق العلمانية الخ ليس شرًا واقعًا حتمًا؛ ليجري اختيار الأهون منهما، فلا شرَّ أو ضررًّ واقعًا حتمًا بالترشح، فيكون هناك شرَّان متزاحمين، ولا بد من اختيار أهونهما. بل إن عدم الترشح ليس شرًا ابتداءً. وبالتالي فإن القاعدة لا تنطبق على هذه الحالة مطلقًا. فهي ليست كإصابة أحد أعضاء الجسم بالغرغرينا مثلًا، فإما أن يبتر الجزء المصاب، أو ينتقل المرض إلى الجسد كله فيهلكه. وليست كتعسر الولادة، فإما أن تموت الأم وجنينها أو ننقذ أحدهما. ليس الأمر كذلك، وبالتالي لا تنطبق على هذا الواقع قاعدة (أهون الشريْن).
وختامًا، فإن الذين يتذرعون أو يبررون الباطل ويسوغونه بذريعة الضعف والانكسار إنما يسيئون الظن بالله، ويرسخون الوهن والانهزام في نفوس المسلمين، في الوقت الذي يقول فيه عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. فعلى المسلم الحق أن يبتعد كل البعد، عن التبرير، وألا يجعل من الشرع وقواعد الفقه بوابة لحكم الطاغوت وقنطرة للباطل، وعلى المسلمين جميعًا أن يعودوا لرشدهم ويتصالحوا مع قيم الإسلام الرفيعة وينبذوا كل ما يدعو للسكوت عن المنكر أو الخضوع للكفر وأعداء الدين.
8/ذي الحجة/1444هـ
26/6/2023م