المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية التخلي عن الدولار الأميركي في التجارة العالمية



Abu Taqi
30-04-2023, 04:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
التخلي عن الدولار الأميركي في التجارة العالمية
ورد في وكالات الأنباء أن دولًا مثل الصين وروسيا وفرنسا وتركيا والبرازيل والسعودية ومصر والإمارات وغيرها من الدول، تريد التخلي عن الدولار كعملة تجارية واقتصادية، فضلًا عن دعوة بابا الفاتيكان دول العالم للتخلي عن الدولار. فهل يجري ذلك وفق إرادة أميركا أم بخلاف إرادتها، وبخاصة وأن بعض تلك الدول تدور في فلك الولايات المتحدة أو تابعة لها؟ وللجواب على ذلك نقول:
أولًا: إن سياسة التخلي عن الدولار ليست سياسة أميركية، بل هي مقتل لأميركا، وهي تدرك ذلك، وتعمل على منعها بشتى السبل. ذلك أن مركزية الدولار في التعاملات الدولية منحت أميركا تفوقًا سياسيًّا واقتصاديًا وهيمنة على العلاقات الدولية تُمكّنها من تنفيذ قراراتها السياسية والسيطرة على التبادلات التجارية من سلع وخدمات وتدفقات نقدية عالمية، كما حدث بمنع روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية من التعامل مع النظام المالي العالمي. فالدولار يسيطر على 90٪ من كافة عمليات صرف العملات العالمية، والتي يتوجب قانونيًا تمريرها عبر النظام المالي الأميركي وعلى الأراضي الأميركية، إما عن طريق نظام شيبس (CHIPS) أو نظام فيدواير (Fedwire)، واللذيْن يمنحان أميركا القدرة على إيقاف أية عملية تجارية وإقصاء أية دولة من النظام المالي الدولاري، وإيقاع العقوبات على البنوك والمؤسسات والشركات التي تساهم في تسهيل التهرب من العقوبات، أو قضايا الاحتيال، وتضليل المستثمرين، وخرق قوانين تنظيم سوق الأوراق المالية، أو نشر معلومات سرية، كما فعلت مع بنك دويتشه الألماني الذي غرمته حوالي 18.6 مليار دولار، لجملة من المخالفات، منها عمليات غسيل أموال تقدر بعشرة مليارات دولار من روسيا إلى قبرص ولاتفيا وإستونيا عام 2017.
وعليه فإن أي محاولة لتقويض قدرة أميركا على استغلال وتفعيل النظام المالي لخدمة أهدافها الدولية واحتواء روسيا والصين قد يؤدي إلى تغييرات جذرية على الموقف الدولي وهيمنة الولايات المتحدة وتفوقها على العالم. ولقد كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب واضحًا عندما حذر من تخلي الصين عن الدولار، معتبرًا أن ذلك سيكون بمنزلة خسارة الولايات المتحدة لحرب عالمية.
ثانيًا: إن القول: (إن مثل هذه الدول لا تجرؤ على التخلي عن الدولار إلا إذا كانت أميركا تقف خلف ذلك لأهداف سياسية تريد أن تحققها) هو استنتاج منطقي لا يستقيم مع الفهم السياسي السليم حتى لو صادف الصواب. ذلك أن الدول التابعة أو التي تدور في الفلك يمكنها أن تتفلت أو تتحول أو تستقل، وبخاصة إذا بلغ التغول الأميركي حدًا يهدد بقاء حكامها ويُلجئهم إلى تحصين أنفسهم. كما أن الفهم السياسي المنضبط يقتضي بأن تبحث القضايا على صعيدها الأصلي، وفي هذا الشأن لا بد من معرفة إن كانت القضية سياسية أم اقتصادية، والمتتبع لحيثيات المسألة يجد أنها وإن كان مظهرها اقتصاديًّا، إلا أن طابعها سياسي بامتياز يتعلق بالموقف الدولي والعلاقات الدولية.
ثالثًا: إن الأزمات الاقتصادية الأميركية باتت تهدد الاقتصاد العالمي، وأصبحت دول العالم رهينة إملاءات البنك المركزي الفدرالي الذي يتحكم بسعر الفائدة (أي السياسة المالية)، والمقررات السياسية الخاصة بالاقتصاد الأميركي (أي عجز الموازنة والحساب الجاري الأميركييْن) دون أي اعتبار لاحتياجات هذه الدول التنموية أو علاقاتها الدولية والتجارية. وهيمنة الدولار هذه وإمكانية فرض العقوبات الأحادية "لعبت دورًا في تحول الاحتياطيات عن الدولار"، حيث اتجهت بعض الدول إلى فكرة التخلي عن الدولار، والتعامل فيما بينها بالعملات المحلية، كالاتفاق الأخير الذي شهدته الصين والبرازيل والذي من الممكن أن يسيطر على حجم تبادل تجاري يفوق 180 مليار دولار سنويًّا. حيث أعلنت الحكومة البرازيلية، نهاية شهر آذار/مارس الماضي، أنها توصلت إلى اتفاق مع الصين للتخلي عن الدولار واستخدام عملتيهما المحليتين في تعاملاتهما التجارية الثنائية، وهذا من شأنه أن يتيح للصين _أكبر منافس للهيمنة الاقتصادية الأميركية_، وللبرازيل _أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية_ إجراء صفقاتهما التجارية الضخمة مباشرة، واستبدال الريال باليوان والعكس بالعكس، بدلًا من الاعتماد على الدولار.
رابعًا: إن الحديث عن انهيار الدولار وسقوطه واندثاره ليس بالجديد، فقد سبق ذلك الحديث عن استبدال المارك الألماني به، ثم الين الياباني ثم اليورو ثم العملات الرقمية واليوان مؤخرًا. وعلى إثر ذلك عكفت أميركا على إشغال المنافسين بالإصلاحات، وتعطيلها بالأزمات السياسية، وإفقادها ثقة المستثمرين وإبعادهم عن ميدان التنافس. فاليورو رغم رسوخه في التداول التجاري العالمي، وبعد عدة أزمات سياسية ومالية لم يتمكن من فرض نفسه كعملة احتياطيٍّ دوليٍّ منافسة للدولار، فبعد قرابة ربع قرن من إطلاقه، لم تتمكن العملة الأوروبية من زيادة حصتها في الاحتياطيات عن 20.5٪ (18٪ عام 1999) وهو انخفاضٌ ملموسٌ عن ذروته 26٪ عام 2007م. وأما اليوان الصيني فإنه وبعد أكثر من عقد من تصريح محافظ البنك المركزي الصيني زهو زواي شيان (Zhou Xiaochuan) عام 2009 الداعي لإيجاد "عملة احتياط منفصلة عن أي دولة وقادرة على البقاء والاستقرار على المدى الطويل، وبالتالي إزالة أوجه القصور المتأصلة والناجمة عن استخدام العملات الوطنية القائمة على الائتمان"، رغم ذلك لم تتمكن الصين من ترجمته في الواقع، ولا يزال الدولار مسيطرًا على الاحتياطيات العالمية دون منازع. ثم إن الصين ومنذ عام 2016 وهي تشتري النفط باليوان؛ أي ما يعادل 12٪؜ من مشتريات النفط العالمي، ولكنها وبسبب افتقادها لعنصر "الخيار الموثوق" اضطرت لإنشاء آلية دعم الذهب لكل عقود النفط عبر بوابة شنغهاي المالية لتنشئ الثقة اللازمة.
خامسًا: إن الجديد في الاتفاق الصيني – البرازيلي، هو أنه اتفاق بين دولتين كبيرتين اقتصاديًّا، وهو ما يعني خطوة إضافية نحو إحداث تغيير في "آليات التعامل الاقتصادي". كما أن البرازيل والصين تمثلان ضلعين هامين في تكتل بريكس، الذي يضم أيضًا روسيا والهند وجنوب إفريقيا، وهم يمثلون مجتمعين أكثر من ثلث حجم الاقتصاد العالمي تقريبًا، ودعوتهم الجماعية لإيجاد حل لمسألة الاعتماد على الدولار جسَّدها تصريح الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا خلال زيارته للصين (مطلع الشهر الحالي) حيث قال "لماذا لا يمكننا التجارة بعملاتنا الوطنية"؟ وتساءل "من الذي قرر بأن الدولار هو العملة بعد اختفاء نظام الذهب؟". وإذا أضيف إلى ذلك دعوة روسيا والصين لتوسيع البريكس بإضافة السعودية وإيران ومصر للمنظمة، ودعوة الرئيسين الصيني والروسي إلى التحرر من قيود استخدام الدولار، وتفعيل عمليات التبادل التجاري بين البلدين باستخدام العملات الوطنية، وسماح الصين لروسيا استخدام اليوان لتجنب العقوبات المالية الغربية بعد غزوها لأوكرانيا، وتفعيل الصين والبرازيل لآليات التبادل الثنائي لعملاتهما في المبادلات التجارية، وتقليص روسيا احتياطياتها من الدولار بنسبة 26٪ في عام 2018 واستثمارها في الذهب، فإن ذلك كله يعدُّ تحديًّا حقيقيًا وصريحًا للدولار، وهو بداية فعلية لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي؛ لأنه مقترن بخطوات حقيقية لتقليص اعتماد هذه الدول على الدولار.
سادسًا: إن هذه التحركات في مجملها هي نتيجة طبيعية لتداعيات الضغوط التي تمارسها أميركا على ما تسميه بالدول "الاستبدادية" والتي تتوخى منها تقويض تحركات تلك الدول وسياساتها عبر استخدام العقوبات المالية، فكل من الصين وروسيا لهما أهداف معلنة طويلة الأجل للحد من الهيمنة الأميركية على مناطق نفوذهما ومجالهما الحيوي، إلا أنهما في هذه المرحلة يهدفان لإبطال مفعول ووطأة العقوبات الأميركية، وتمكين الصين من إرساء تأثيرها الاقتصادي الخارجي عبر بناء منظومة دفعات وتسويات مالية عالمية منافسة لمنظومة سويفت (SWIFT) وشيبس (CHIPS)، ودعم مساعي التحول نحو العملات المحلية والتعاون المباشر لتقليص احتياطيات الدولار.
ولقد قامت روسيا ابتداءً ثم الصين بخطوات فعلية وحثيثة في هذا الصدد، فقامت روسيا مثلًا بتأسيس نظام بطاقات الدفع "مير (MIR)"، وكذلك تأسيس نظام محلي للتحويل المالي كمنافس لنظام سويفت تحت رعاية بنك روسيا باسم "SPFS"، وقامت الصين منذ عام 2008 بخطوات حثيثة لتدويل عملتها الوطنية بإصدار أذونات خزينة وتأسيس مراكز مقاصة دولية مخصصة لعملتها، وأكبرها هونج كونج، وقامت أيضًا بتوقيع عدد من اتفاقيات تبادل العملات، وتأسيس نظام محلي للدفعات باسم "سيبس (CIPS)"، والذي تم ربطه بمبادرة الحزام والطريق، ويستخدم حاليًا من قبل 980 مصرف دولي.
سابعًا : إلا أن كل هذه الخطوات لم تثمر سوى تحولات ضئيلة تجاه اليوان، حيث أن إجمالي الحركة المالية اليومية لنظام سيبس تقدر بحوالي 19 مليار دولار مقارنة بـ 6 تريليونات دولار لنظام سويفت و1.8 تريليون دولار لنظام شيبس، ولم تستحوذ العملة الصينية على أكثر من 3٪ من قيمة الاحتياطيات العالمية. كما أن تجمع دول بريكس يواجه معضلات داخلية سببها الرئيسي المنافسة الاستراتيجية والعداء بين أكبر اقتصادين هما الهند والصين، وهو الأمر الذي تغذيه أميركا عبر سماحها بالاستثمارات الصينية في الباكستان، وزرع بؤر التنافس بينهما في أفغانستان وبنجلادش وسيرلانكا. وهذا فضلًا عن حاجة هذه الدول لمرجع أو اتفاق يحدد سعر الصرف لأي معاهدة ثنائية (الذهب أو الدولار او اليورو أو سلة عملات)، وهو الأمر الذي يقلص من احتمال إيجاد وتنفيذ رؤية موحدة لنظام مالي دولي منافس للدولار.
ثامنًا: ومن أجل أن نعرف ما إذا كانت الاتفاقيات أو الدعوات إلى نظام مالي جديد تؤثر على هيمنة الدولار عالميًا لا بد أن ندرك أن قوة الدولار اليوم لا تكمن فقط في قوة وهيمنة الولايات المتحدة سياسيًّا وعسكريًّا، أو في مركزية الدولار في التعاملات والمساعدات، بل تكمن أيضًا في تواجد المؤسسات المالية الأميركية وعمق وسيولة أسواقها المالية والمنظومة القانونية الحامية لـ "حقوق المستثمر"؛ أي فيما يُعرف بـ "الخيار الموثوق". وهو ما يؤكده الرد الصارم الذي وجهه البيت الأبيض، وأكدته أيضًا جانيت يلين وزيرة الخزينة في مقابلة مع سي أن أن بتاريخ (14/4) والذي رفض مطالبة بعض السياسيين بمصادرة أموال روسيا لإعادة بناء أوكرانيا باعتبار أن ذلك "مخالف للنظام القانوني". ولا أدل على ذلك أيضًا من نزوح المستثمر العالمي نحو الدولار كـ "ملاذ آمن" نتيجة الهزات والأزمات المالية التي واجهها العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة ابتداءً من النمور الآسيوية (1997) والانهيار المالي (2008) وغزو القرم (2014) وجائحة كورونا (2020) واستثمار دول أجنبية بنسبة 25٪ من إجمالي الدين العام الفدرالي الأميركي. وهذه جميعها وفي ظل المطالبات المتكررة بتقليص دولرة النظام المالي العالمي خلال ربع قرن لم تنتج سوى هبوط 8٪ من احتياطيات النقد الدولي.
يتبع>>

Abu Taqi
30-04-2023, 04:53 PM
تاسعًا: برغم أن مؤشر الاحتياطيات العالمية يُبدي انحدارًا في مكانة الدولار وتفرده وسيطرته من 71٪ (1999) من احتياطيات النقد العالمي إلى 58٪ (2022) إلا أن هذه القراءة غير مكتملة؛ إذ إنها لا تأخذ بعين الاعتبار عوامل مهمة، منها إطلاق اليورو آخر عام 1999م والذي يستحوذ اليوم على حصة 20.5٪. ومنها تجاهل إجمالي قيمة الاحتياطيات من الدولار والتي تضاعفت خلال هذه الفترة 6.6 أضعاف (من 1 تريليون دولار إلى 6.7 تريليون دولار) مدعومًة باستحواذ الدول المصدرة للمواد الخام (نفط وذهب ونحاس وغيرها)، بالإضافة إلى فائض حسابات الصين الجارية بالدولار. ومن تلك العوامل أيضًا أن العملات التي استحوذت على حصص الدولار هي عملات لدول تدور في فلك أميركا أو تابعة لها، ولا تشكل تهديدًا على النظام المالي العالمي مثل كندا واليابان وأستراليا وبريطانيا (14.8٪) وهذه في مجملها قد ظهرت بشكل واضح بعد إقرار وتنفيذ إدارة ترمب للعقوبات المالية ضد روسيا (غزو القرم) والصين (اقتصاديًّا). علمًا بأن هذه الدول التي استحوذت على حصص كبيرة من الدولار تعتمد على معاهدات ثنائية مع البنك الفدرالي تمنحها إمكانية مبادلة عملاتها بالدولار في حالة احتياجها للسيولة. وهذا إنما يُظهر أن الدولار لا يزال يمثل احتياطي العملات العالمية ويُعمق مركزيته، بمعنى أن اليورو والاسترليني وحتى اليوان الصيني إنما يعتمدون على ما لديهم من دولار لكي تُقبل عملاتهم "كبديل موثوق".
وبناءً على متقدم فمن المرجح أن يبقى الدولار هو العملة العالمية المتداولة في المعاملات التجارية لدى غالبية دول العالم على المدى المنظور. وفي اللحظة التي تنزل الولايات المتحدة عن مستواها، سينهار اقتصادها وعملتها تباعًا، وستسقط من الاعتبار بالتوالي كسقوط أحجار الدومينو تمامًا.
عاشرًا: أما موقف الولايات المتحدة من هذه السياسة، سياسة التخلي عن الدولار والتي دفعت بعض الدول للجوء إليها تحت ضغط الأزمات التي خلفت حالة عدم يقين حيال المستقبل، وباتت تهدد الأنظمة التابعة والتي تدور في الفلك، فمن الملاحظ أن أميركا تتحوط لها من خلال إشعال الحروب الساخنة والباردة وتشجع سباق التسلح وتوجد أوضاعًا شبيهة بالحرب في جميع أنحاء العالم، لإجبار البلدان على شراء المزيد من الأسلحة والوقود والمواد الأخرى من السوق العالمية، وبالتالي تعزيز التجارة بالدولار الأميركي. وأما من ناحية السياسة المالية فإن البنك الفدرالي الأميركي أدرك أنه لا يمكن للدولار أن يغطي كافة متطلبات تمويل التجارة العالمية بذاته؛ لأن ذلك يحتاج إلى زيادة كمية الدولار المعروض وهو الأمر المرتبط بنظرية "معضلة تريفين (Triffin dilemma)"، الاقتصادية والتي تقول بأن دولة عملة الاحتياط يلزمها عجزًا تجاريًّا حتى تعرض العملة الاحتياط المطلوبة عالميًّا، وهذا إن استمر فإنه يُعرِّض الدولة لمشاكل التضخم من جرَّاء زيادة معروض العملة الاحتياط، وهو الأمر الذي حدث بداية عام 2021 بسبب ضخ السيولة النقدية غير المسبوق من قبل إدارتي ترمب وبايدن. وفي حالة تراجع دولة عملة الاحتياط عن تغطية الطلب (السيولة اللازمة) فإن ذلك سيؤدي لتراجع التبادل التجاري العالمي، وسيتطلب عملة أو عملات أخرى تحل مكانها أو تعوض النقص، وهي إحدى العوامل التي من أجلها وقع البنك الفدرالي على عدد من اتفاقات "تبادل العملة (Currency SWAP)" مع عدد من البنوك المركزية العالمية. فالبنك الفدرالي الأميركي أصبح منذ الانهيار الاقتصادي العالمي ليس فقط جهة الإقراض النهائية للنظام المالي العالمي، بل أيضًا جهة التنسيق وضخ السيولة عبر معاهداتها الثنائية وعمليات التدخل اليومي لضبط أو توفير السيولة كما حدث خلال الجائحة، وخلال انهيار مصرف سيلكون فالي مطلع العام الحالي، حيث أقرض البنك الفدرالي النظام البنكي قرابة ٥٠٠ مليار دولار للحيلولة دون انهيار مالي مماثل لعام ٢٠٠٨.
إن الإجراءات التي تتخذها أميركا في العالم، نحو تأجيج النزاع الروسي الأوكراني وتأزيم أوروبا، ونحو استفزاز الصين وكوريا الشمالية، وعسكرة الدول المحيطة بهما، وتصوير بعض الدول الإقليمية القوية خطرًا داهمًا على الإقليم مثل إيران وكوريا الشمالية، وتشجيع الدول على التسلح، إنما هو للتحكم بالدول واحتوائها وإخضاعها وإبقائها في حظيرتها، باعتبارها الدولة الضامنة لأمن هذه الدول، وهذا من شأنه تعزيز الهيمنة الأميركية، والإبقاء على فكرة "الملاذ الآمن" للدولار.
وأما سياسة الصين الرامية لمنافسة الدولار فهي الأكثر عدوانية وصراحة ومنسجمة مع توجهاتها وسياستها الخارجية المرتكزة على التجارة، وتهدف إلى إحداث تغييرات في النظام الاقتصادي العالمي. إلا أنها تواجه في مسألة سعيها لفرض اليوان كعملة احتياط وتجارة واستثمار دولية منافسة للدولار عددًا من المعوقات والعراقيل التي زرعتها أميركا. وتعود هذه المعوقات إلى الفكر الرأسمالي الليبرالي الذي فرضته أميركا لضمان تفوقها ونفوذها، وهذه المعوقات من شأنها أن تُفقد الصين القدرة على السيطرة المالية والاقتصادية، عبر رفض آليات ضبط التدفق النقدي وتحديد سعر الفائدة وسعر الصرف وتحويلها لآلية السوق. فالصين تدير حسابها الجاري وتفرض قيودًا على تدفقات رأس المال الأجنبي، وتتدخل بشكل مباشر لإدارة سعر صرف اليوان، وتفتقر أسواقها لآليات السوق لتحديد أسعار الفائدة والصرف، وهو ما يحد من سيولة السوق المالي لليوان، وإذا أضيف إلى ذلك افتقار الصين للأنظمة القانونية الواضحة فهذه تسهم في تردد المستثمرين في تداول اليوان، وتحد من قدرته على أن يصبح عملة دولية وتبقيه محصورًا في التعاملات الثنائية ومع دول العالم الثالث. وما إثارة الإضرابات والمظاهرات في هونج كونج إلا مثالٌ لأعمال أميركا لتقويض الصين، فهونج كونج تُعد أكبر مركز مقاصة لليوان في العالم، وبوابة مالية تسيطر على ثلثي حركة التدفق الاستثماري إلى الصين، وهو ما يُفسر اضطرارها للعمل على إحكام السيطرة الداخلية عبر تطبيق قانون الأمن الوطني في حزيران/يونيو 2020، والذي واجهته أميركا بإثارة بؤرة النزاع التي تهدد مستقبل هونج كونج كمركز مالي دولي حتى تحد من قدرة الصين على تدويل عملتها.
وأما الدول التي تعتبر دولًا تابعة تقليديّا للولايات المتحدة، كالسعودية والإمارات ومصر، فإن التبادل التجاري بينها وبين دول كالصين وروسيا والهند، هو تبادلٌ بينيٌّ، والتجارة البينية لا تؤثر على هيمنة الدولار، علمًا بأن هذه ليست المرة الأولى التي تتوجه فيها دول للتبادل التجاري بعملاتها المحلية، غير أنه لم يكتب لهذه المحاولات النجاح حتى الآن، إلا في حدود ما يشبه عمليات المقايضة السلعية بين دولتين على نطاق ضيّق. وهو ما يعني أنَّ لهذه الدول أهدافًا معينة من التبادل التجاري مع الدول الاقتصادية الكبيرة، بعيدة عن سياسة التخلي عن الدولار. وهذه الأهداف من الممكن أن تكون موجهة من قبل الولايات المتحدة من أجل الالتفاف على العملات الناشئة وإفقاد بعض الدول مثل روسيا والصين السيطرة على تحديد سعر صرف عملتها بعد اندماجها في تكتلات مالية واقتصادية مخترقة من قبل الولايات المتحدة كتكتل بريكس.
ولما كان الدولار الأميركي هو العملة المعتمدة في أغلب الحركات التجارية العالمية، منذ الحرب العالمية الثانية، ويمثل الرمز الأبرز للهيمنة الأميركية ويعطي الاقتصاد الأميركي ميزة هائلة؛ فإنه يعطي واشنطن ورقة ضغط لا تتوفر لأية دولة أخرى. وبخاصة وأن الولايات المتحدة الأميركية تمتلك الاقتصاد الأكبر، وأن الدولار هو أكثر العملات تداولًا حول العالم. وفي ظل التنافس الاقتصادي الشرس بين الولايات المتحدة والصين والقوى الاقتصادية العظمى، ونتيجة للمواقف العدائية التي تقوم بها أميركا تجاه الصين وإعلانها الحرب التجارية عليها، فإن من البدهي أن تدافع الصين عن نفسها، وأن تسعى للتحرر من سطوة الدولار على اقتصادها عبر تكتل مالي واقتصادي مواز، وذلك من خلال سلسلة من الاتفاقيات التي تهدف إلى التعامل بالعملات المحلية بدلًا من العملة الأميركية، ولكن هل ستنجح الصين ومعها الدول الأخرى من الإطاحة بالنظام المالي العالمي، الذي يقوم على الدولرة؟ وللجواب على ذلك نقول إنها من الممكن أن تنجح في ذلك إذا ما أعادت الصين وبالتعاون مع الدول الأخرى العمل بالنظام النقدي الذي يقوم على قاعدة الذهب كأساس للتبادل التجاري الدولي، وبعيدًا عن هيمنة الدولار، أو أي عملة محتملة أخرى. إذ إن العلاج الحقيقي الذي يحُول دون تمكين دولة من الدول من التحكم بالنقد والتجارة الدولية في العالم هو العلاج الذي وضعه الإسلام وهو جعل النقد مستندًا إلى قاعدة الذهب والفضة؛ أي جعل الذهب والفضة هما العملة المتداولة أو الأساس الكامل للعملة المتداولة، بحيث تكون العملة الثابتة مغطاة تغطية كاملة بالذهب والفضة وبذلك لا تستطيع دولة أن تتحكم في نقد العالم لأن الذهب والفضة في جميع الدنيا سلعة واحدة وما دامت هي عملة التبادل فقيمتها ثابتة في جميع أنحاء الدنيا ولا تحتاج إلاّ إلى أجرة نقلها من البلد المستورِد إلى البلد المصدّر.
10/شوال/1444هـ
30/4/2023م