Abu Taqi
30-04-2023, 04:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
التخلي عن الدولار الأميركي في التجارة العالمية
ورد في وكالات الأنباء أن دولًا مثل الصين وروسيا وفرنسا وتركيا والبرازيل والسعودية ومصر والإمارات وغيرها من الدول، تريد التخلي عن الدولار كعملة تجارية واقتصادية، فضلًا عن دعوة بابا الفاتيكان دول العالم للتخلي عن الدولار. فهل يجري ذلك وفق إرادة أميركا أم بخلاف إرادتها، وبخاصة وأن بعض تلك الدول تدور في فلك الولايات المتحدة أو تابعة لها؟ وللجواب على ذلك نقول:
أولًا: إن سياسة التخلي عن الدولار ليست سياسة أميركية، بل هي مقتل لأميركا، وهي تدرك ذلك، وتعمل على منعها بشتى السبل. ذلك أن مركزية الدولار في التعاملات الدولية منحت أميركا تفوقًا سياسيًّا واقتصاديًا وهيمنة على العلاقات الدولية تُمكّنها من تنفيذ قراراتها السياسية والسيطرة على التبادلات التجارية من سلع وخدمات وتدفقات نقدية عالمية، كما حدث بمنع روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية من التعامل مع النظام المالي العالمي. فالدولار يسيطر على 90٪ من كافة عمليات صرف العملات العالمية، والتي يتوجب قانونيًا تمريرها عبر النظام المالي الأميركي وعلى الأراضي الأميركية، إما عن طريق نظام شيبس (CHIPS) أو نظام فيدواير (Fedwire)، واللذيْن يمنحان أميركا القدرة على إيقاف أية عملية تجارية وإقصاء أية دولة من النظام المالي الدولاري، وإيقاع العقوبات على البنوك والمؤسسات والشركات التي تساهم في تسهيل التهرب من العقوبات، أو قضايا الاحتيال، وتضليل المستثمرين، وخرق قوانين تنظيم سوق الأوراق المالية، أو نشر معلومات سرية، كما فعلت مع بنك دويتشه الألماني الذي غرمته حوالي 18.6 مليار دولار، لجملة من المخالفات، منها عمليات غسيل أموال تقدر بعشرة مليارات دولار من روسيا إلى قبرص ولاتفيا وإستونيا عام 2017.
وعليه فإن أي محاولة لتقويض قدرة أميركا على استغلال وتفعيل النظام المالي لخدمة أهدافها الدولية واحتواء روسيا والصين قد يؤدي إلى تغييرات جذرية على الموقف الدولي وهيمنة الولايات المتحدة وتفوقها على العالم. ولقد كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب واضحًا عندما حذر من تخلي الصين عن الدولار، معتبرًا أن ذلك سيكون بمنزلة خسارة الولايات المتحدة لحرب عالمية.
ثانيًا: إن القول: (إن مثل هذه الدول لا تجرؤ على التخلي عن الدولار إلا إذا كانت أميركا تقف خلف ذلك لأهداف سياسية تريد أن تحققها) هو استنتاج منطقي لا يستقيم مع الفهم السياسي السليم حتى لو صادف الصواب. ذلك أن الدول التابعة أو التي تدور في الفلك يمكنها أن تتفلت أو تتحول أو تستقل، وبخاصة إذا بلغ التغول الأميركي حدًا يهدد بقاء حكامها ويُلجئهم إلى تحصين أنفسهم. كما أن الفهم السياسي المنضبط يقتضي بأن تبحث القضايا على صعيدها الأصلي، وفي هذا الشأن لا بد من معرفة إن كانت القضية سياسية أم اقتصادية، والمتتبع لحيثيات المسألة يجد أنها وإن كان مظهرها اقتصاديًّا، إلا أن طابعها سياسي بامتياز يتعلق بالموقف الدولي والعلاقات الدولية.
ثالثًا: إن الأزمات الاقتصادية الأميركية باتت تهدد الاقتصاد العالمي، وأصبحت دول العالم رهينة إملاءات البنك المركزي الفدرالي الذي يتحكم بسعر الفائدة (أي السياسة المالية)، والمقررات السياسية الخاصة بالاقتصاد الأميركي (أي عجز الموازنة والحساب الجاري الأميركييْن) دون أي اعتبار لاحتياجات هذه الدول التنموية أو علاقاتها الدولية والتجارية. وهيمنة الدولار هذه وإمكانية فرض العقوبات الأحادية "لعبت دورًا في تحول الاحتياطيات عن الدولار"، حيث اتجهت بعض الدول إلى فكرة التخلي عن الدولار، والتعامل فيما بينها بالعملات المحلية، كالاتفاق الأخير الذي شهدته الصين والبرازيل والذي من الممكن أن يسيطر على حجم تبادل تجاري يفوق 180 مليار دولار سنويًّا. حيث أعلنت الحكومة البرازيلية، نهاية شهر آذار/مارس الماضي، أنها توصلت إلى اتفاق مع الصين للتخلي عن الدولار واستخدام عملتيهما المحليتين في تعاملاتهما التجارية الثنائية، وهذا من شأنه أن يتيح للصين _أكبر منافس للهيمنة الاقتصادية الأميركية_، وللبرازيل _أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية_ إجراء صفقاتهما التجارية الضخمة مباشرة، واستبدال الريال باليوان والعكس بالعكس، بدلًا من الاعتماد على الدولار.
رابعًا: إن الحديث عن انهيار الدولار وسقوطه واندثاره ليس بالجديد، فقد سبق ذلك الحديث عن استبدال المارك الألماني به، ثم الين الياباني ثم اليورو ثم العملات الرقمية واليوان مؤخرًا. وعلى إثر ذلك عكفت أميركا على إشغال المنافسين بالإصلاحات، وتعطيلها بالأزمات السياسية، وإفقادها ثقة المستثمرين وإبعادهم عن ميدان التنافس. فاليورو رغم رسوخه في التداول التجاري العالمي، وبعد عدة أزمات سياسية ومالية لم يتمكن من فرض نفسه كعملة احتياطيٍّ دوليٍّ منافسة للدولار، فبعد قرابة ربع قرن من إطلاقه، لم تتمكن العملة الأوروبية من زيادة حصتها في الاحتياطيات عن 20.5٪ (18٪ عام 1999) وهو انخفاضٌ ملموسٌ عن ذروته 26٪ عام 2007م. وأما اليوان الصيني فإنه وبعد أكثر من عقد من تصريح محافظ البنك المركزي الصيني زهو زواي شيان (Zhou Xiaochuan) عام 2009 الداعي لإيجاد "عملة احتياط منفصلة عن أي دولة وقادرة على البقاء والاستقرار على المدى الطويل، وبالتالي إزالة أوجه القصور المتأصلة والناجمة عن استخدام العملات الوطنية القائمة على الائتمان"، رغم ذلك لم تتمكن الصين من ترجمته في الواقع، ولا يزال الدولار مسيطرًا على الاحتياطيات العالمية دون منازع. ثم إن الصين ومنذ عام 2016 وهي تشتري النفط باليوان؛ أي ما يعادل 12٪ من مشتريات النفط العالمي، ولكنها وبسبب افتقادها لعنصر "الخيار الموثوق" اضطرت لإنشاء آلية دعم الذهب لكل عقود النفط عبر بوابة شنغهاي المالية لتنشئ الثقة اللازمة.
خامسًا: إن الجديد في الاتفاق الصيني – البرازيلي، هو أنه اتفاق بين دولتين كبيرتين اقتصاديًّا، وهو ما يعني خطوة إضافية نحو إحداث تغيير في "آليات التعامل الاقتصادي". كما أن البرازيل والصين تمثلان ضلعين هامين في تكتل بريكس، الذي يضم أيضًا روسيا والهند وجنوب إفريقيا، وهم يمثلون مجتمعين أكثر من ثلث حجم الاقتصاد العالمي تقريبًا، ودعوتهم الجماعية لإيجاد حل لمسألة الاعتماد على الدولار جسَّدها تصريح الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا خلال زيارته للصين (مطلع الشهر الحالي) حيث قال "لماذا لا يمكننا التجارة بعملاتنا الوطنية"؟ وتساءل "من الذي قرر بأن الدولار هو العملة بعد اختفاء نظام الذهب؟". وإذا أضيف إلى ذلك دعوة روسيا والصين لتوسيع البريكس بإضافة السعودية وإيران ومصر للمنظمة، ودعوة الرئيسين الصيني والروسي إلى التحرر من قيود استخدام الدولار، وتفعيل عمليات التبادل التجاري بين البلدين باستخدام العملات الوطنية، وسماح الصين لروسيا استخدام اليوان لتجنب العقوبات المالية الغربية بعد غزوها لأوكرانيا، وتفعيل الصين والبرازيل لآليات التبادل الثنائي لعملاتهما في المبادلات التجارية، وتقليص روسيا احتياطياتها من الدولار بنسبة 26٪ في عام 2018 واستثمارها في الذهب، فإن ذلك كله يعدُّ تحديًّا حقيقيًا وصريحًا للدولار، وهو بداية فعلية لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي؛ لأنه مقترن بخطوات حقيقية لتقليص اعتماد هذه الدول على الدولار.
سادسًا: إن هذه التحركات في مجملها هي نتيجة طبيعية لتداعيات الضغوط التي تمارسها أميركا على ما تسميه بالدول "الاستبدادية" والتي تتوخى منها تقويض تحركات تلك الدول وسياساتها عبر استخدام العقوبات المالية، فكل من الصين وروسيا لهما أهداف معلنة طويلة الأجل للحد من الهيمنة الأميركية على مناطق نفوذهما ومجالهما الحيوي، إلا أنهما في هذه المرحلة يهدفان لإبطال مفعول ووطأة العقوبات الأميركية، وتمكين الصين من إرساء تأثيرها الاقتصادي الخارجي عبر بناء منظومة دفعات وتسويات مالية عالمية منافسة لمنظومة سويفت (SWIFT) وشيبس (CHIPS)، ودعم مساعي التحول نحو العملات المحلية والتعاون المباشر لتقليص احتياطيات الدولار.
ولقد قامت روسيا ابتداءً ثم الصين بخطوات فعلية وحثيثة في هذا الصدد، فقامت روسيا مثلًا بتأسيس نظام بطاقات الدفع "مير (MIR)"، وكذلك تأسيس نظام محلي للتحويل المالي كمنافس لنظام سويفت تحت رعاية بنك روسيا باسم "SPFS"، وقامت الصين منذ عام 2008 بخطوات حثيثة لتدويل عملتها الوطنية بإصدار أذونات خزينة وتأسيس مراكز مقاصة دولية مخصصة لعملتها، وأكبرها هونج كونج، وقامت أيضًا بتوقيع عدد من اتفاقيات تبادل العملات، وتأسيس نظام محلي للدفعات باسم "سيبس (CIPS)"، والذي تم ربطه بمبادرة الحزام والطريق، ويستخدم حاليًا من قبل 980 مصرف دولي.
سابعًا : إلا أن كل هذه الخطوات لم تثمر سوى تحولات ضئيلة تجاه اليوان، حيث أن إجمالي الحركة المالية اليومية لنظام سيبس تقدر بحوالي 19 مليار دولار مقارنة بـ 6 تريليونات دولار لنظام سويفت و1.8 تريليون دولار لنظام شيبس، ولم تستحوذ العملة الصينية على أكثر من 3٪ من قيمة الاحتياطيات العالمية. كما أن تجمع دول بريكس يواجه معضلات داخلية سببها الرئيسي المنافسة الاستراتيجية والعداء بين أكبر اقتصادين هما الهند والصين، وهو الأمر الذي تغذيه أميركا عبر سماحها بالاستثمارات الصينية في الباكستان، وزرع بؤر التنافس بينهما في أفغانستان وبنجلادش وسيرلانكا. وهذا فضلًا عن حاجة هذه الدول لمرجع أو اتفاق يحدد سعر الصرف لأي معاهدة ثنائية (الذهب أو الدولار او اليورو أو سلة عملات)، وهو الأمر الذي يقلص من احتمال إيجاد وتنفيذ رؤية موحدة لنظام مالي دولي منافس للدولار.
ثامنًا: ومن أجل أن نعرف ما إذا كانت الاتفاقيات أو الدعوات إلى نظام مالي جديد تؤثر على هيمنة الدولار عالميًا لا بد أن ندرك أن قوة الدولار اليوم لا تكمن فقط في قوة وهيمنة الولايات المتحدة سياسيًّا وعسكريًّا، أو في مركزية الدولار في التعاملات والمساعدات، بل تكمن أيضًا في تواجد المؤسسات المالية الأميركية وعمق وسيولة أسواقها المالية والمنظومة القانونية الحامية لـ "حقوق المستثمر"؛ أي فيما يُعرف بـ "الخيار الموثوق". وهو ما يؤكده الرد الصارم الذي وجهه البيت الأبيض، وأكدته أيضًا جانيت يلين وزيرة الخزينة في مقابلة مع سي أن أن بتاريخ (14/4) والذي رفض مطالبة بعض السياسيين بمصادرة أموال روسيا لإعادة بناء أوكرانيا باعتبار أن ذلك "مخالف للنظام القانوني". ولا أدل على ذلك أيضًا من نزوح المستثمر العالمي نحو الدولار كـ "ملاذ آمن" نتيجة الهزات والأزمات المالية التي واجهها العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة ابتداءً من النمور الآسيوية (1997) والانهيار المالي (2008) وغزو القرم (2014) وجائحة كورونا (2020) واستثمار دول أجنبية بنسبة 25٪ من إجمالي الدين العام الفدرالي الأميركي. وهذه جميعها وفي ظل المطالبات المتكررة بتقليص دولرة النظام المالي العالمي خلال ربع قرن لم تنتج سوى هبوط 8٪ من احتياطيات النقد الدولي.
يتبع>>
متابعة سياسية
التخلي عن الدولار الأميركي في التجارة العالمية
ورد في وكالات الأنباء أن دولًا مثل الصين وروسيا وفرنسا وتركيا والبرازيل والسعودية ومصر والإمارات وغيرها من الدول، تريد التخلي عن الدولار كعملة تجارية واقتصادية، فضلًا عن دعوة بابا الفاتيكان دول العالم للتخلي عن الدولار. فهل يجري ذلك وفق إرادة أميركا أم بخلاف إرادتها، وبخاصة وأن بعض تلك الدول تدور في فلك الولايات المتحدة أو تابعة لها؟ وللجواب على ذلك نقول:
أولًا: إن سياسة التخلي عن الدولار ليست سياسة أميركية، بل هي مقتل لأميركا، وهي تدرك ذلك، وتعمل على منعها بشتى السبل. ذلك أن مركزية الدولار في التعاملات الدولية منحت أميركا تفوقًا سياسيًّا واقتصاديًا وهيمنة على العلاقات الدولية تُمكّنها من تنفيذ قراراتها السياسية والسيطرة على التبادلات التجارية من سلع وخدمات وتدفقات نقدية عالمية، كما حدث بمنع روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية من التعامل مع النظام المالي العالمي. فالدولار يسيطر على 90٪ من كافة عمليات صرف العملات العالمية، والتي يتوجب قانونيًا تمريرها عبر النظام المالي الأميركي وعلى الأراضي الأميركية، إما عن طريق نظام شيبس (CHIPS) أو نظام فيدواير (Fedwire)، واللذيْن يمنحان أميركا القدرة على إيقاف أية عملية تجارية وإقصاء أية دولة من النظام المالي الدولاري، وإيقاع العقوبات على البنوك والمؤسسات والشركات التي تساهم في تسهيل التهرب من العقوبات، أو قضايا الاحتيال، وتضليل المستثمرين، وخرق قوانين تنظيم سوق الأوراق المالية، أو نشر معلومات سرية، كما فعلت مع بنك دويتشه الألماني الذي غرمته حوالي 18.6 مليار دولار، لجملة من المخالفات، منها عمليات غسيل أموال تقدر بعشرة مليارات دولار من روسيا إلى قبرص ولاتفيا وإستونيا عام 2017.
وعليه فإن أي محاولة لتقويض قدرة أميركا على استغلال وتفعيل النظام المالي لخدمة أهدافها الدولية واحتواء روسيا والصين قد يؤدي إلى تغييرات جذرية على الموقف الدولي وهيمنة الولايات المتحدة وتفوقها على العالم. ولقد كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب واضحًا عندما حذر من تخلي الصين عن الدولار، معتبرًا أن ذلك سيكون بمنزلة خسارة الولايات المتحدة لحرب عالمية.
ثانيًا: إن القول: (إن مثل هذه الدول لا تجرؤ على التخلي عن الدولار إلا إذا كانت أميركا تقف خلف ذلك لأهداف سياسية تريد أن تحققها) هو استنتاج منطقي لا يستقيم مع الفهم السياسي السليم حتى لو صادف الصواب. ذلك أن الدول التابعة أو التي تدور في الفلك يمكنها أن تتفلت أو تتحول أو تستقل، وبخاصة إذا بلغ التغول الأميركي حدًا يهدد بقاء حكامها ويُلجئهم إلى تحصين أنفسهم. كما أن الفهم السياسي المنضبط يقتضي بأن تبحث القضايا على صعيدها الأصلي، وفي هذا الشأن لا بد من معرفة إن كانت القضية سياسية أم اقتصادية، والمتتبع لحيثيات المسألة يجد أنها وإن كان مظهرها اقتصاديًّا، إلا أن طابعها سياسي بامتياز يتعلق بالموقف الدولي والعلاقات الدولية.
ثالثًا: إن الأزمات الاقتصادية الأميركية باتت تهدد الاقتصاد العالمي، وأصبحت دول العالم رهينة إملاءات البنك المركزي الفدرالي الذي يتحكم بسعر الفائدة (أي السياسة المالية)، والمقررات السياسية الخاصة بالاقتصاد الأميركي (أي عجز الموازنة والحساب الجاري الأميركييْن) دون أي اعتبار لاحتياجات هذه الدول التنموية أو علاقاتها الدولية والتجارية. وهيمنة الدولار هذه وإمكانية فرض العقوبات الأحادية "لعبت دورًا في تحول الاحتياطيات عن الدولار"، حيث اتجهت بعض الدول إلى فكرة التخلي عن الدولار، والتعامل فيما بينها بالعملات المحلية، كالاتفاق الأخير الذي شهدته الصين والبرازيل والذي من الممكن أن يسيطر على حجم تبادل تجاري يفوق 180 مليار دولار سنويًّا. حيث أعلنت الحكومة البرازيلية، نهاية شهر آذار/مارس الماضي، أنها توصلت إلى اتفاق مع الصين للتخلي عن الدولار واستخدام عملتيهما المحليتين في تعاملاتهما التجارية الثنائية، وهذا من شأنه أن يتيح للصين _أكبر منافس للهيمنة الاقتصادية الأميركية_، وللبرازيل _أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية_ إجراء صفقاتهما التجارية الضخمة مباشرة، واستبدال الريال باليوان والعكس بالعكس، بدلًا من الاعتماد على الدولار.
رابعًا: إن الحديث عن انهيار الدولار وسقوطه واندثاره ليس بالجديد، فقد سبق ذلك الحديث عن استبدال المارك الألماني به، ثم الين الياباني ثم اليورو ثم العملات الرقمية واليوان مؤخرًا. وعلى إثر ذلك عكفت أميركا على إشغال المنافسين بالإصلاحات، وتعطيلها بالأزمات السياسية، وإفقادها ثقة المستثمرين وإبعادهم عن ميدان التنافس. فاليورو رغم رسوخه في التداول التجاري العالمي، وبعد عدة أزمات سياسية ومالية لم يتمكن من فرض نفسه كعملة احتياطيٍّ دوليٍّ منافسة للدولار، فبعد قرابة ربع قرن من إطلاقه، لم تتمكن العملة الأوروبية من زيادة حصتها في الاحتياطيات عن 20.5٪ (18٪ عام 1999) وهو انخفاضٌ ملموسٌ عن ذروته 26٪ عام 2007م. وأما اليوان الصيني فإنه وبعد أكثر من عقد من تصريح محافظ البنك المركزي الصيني زهو زواي شيان (Zhou Xiaochuan) عام 2009 الداعي لإيجاد "عملة احتياط منفصلة عن أي دولة وقادرة على البقاء والاستقرار على المدى الطويل، وبالتالي إزالة أوجه القصور المتأصلة والناجمة عن استخدام العملات الوطنية القائمة على الائتمان"، رغم ذلك لم تتمكن الصين من ترجمته في الواقع، ولا يزال الدولار مسيطرًا على الاحتياطيات العالمية دون منازع. ثم إن الصين ومنذ عام 2016 وهي تشتري النفط باليوان؛ أي ما يعادل 12٪ من مشتريات النفط العالمي، ولكنها وبسبب افتقادها لعنصر "الخيار الموثوق" اضطرت لإنشاء آلية دعم الذهب لكل عقود النفط عبر بوابة شنغهاي المالية لتنشئ الثقة اللازمة.
خامسًا: إن الجديد في الاتفاق الصيني – البرازيلي، هو أنه اتفاق بين دولتين كبيرتين اقتصاديًّا، وهو ما يعني خطوة إضافية نحو إحداث تغيير في "آليات التعامل الاقتصادي". كما أن البرازيل والصين تمثلان ضلعين هامين في تكتل بريكس، الذي يضم أيضًا روسيا والهند وجنوب إفريقيا، وهم يمثلون مجتمعين أكثر من ثلث حجم الاقتصاد العالمي تقريبًا، ودعوتهم الجماعية لإيجاد حل لمسألة الاعتماد على الدولار جسَّدها تصريح الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا خلال زيارته للصين (مطلع الشهر الحالي) حيث قال "لماذا لا يمكننا التجارة بعملاتنا الوطنية"؟ وتساءل "من الذي قرر بأن الدولار هو العملة بعد اختفاء نظام الذهب؟". وإذا أضيف إلى ذلك دعوة روسيا والصين لتوسيع البريكس بإضافة السعودية وإيران ومصر للمنظمة، ودعوة الرئيسين الصيني والروسي إلى التحرر من قيود استخدام الدولار، وتفعيل عمليات التبادل التجاري بين البلدين باستخدام العملات الوطنية، وسماح الصين لروسيا استخدام اليوان لتجنب العقوبات المالية الغربية بعد غزوها لأوكرانيا، وتفعيل الصين والبرازيل لآليات التبادل الثنائي لعملاتهما في المبادلات التجارية، وتقليص روسيا احتياطياتها من الدولار بنسبة 26٪ في عام 2018 واستثمارها في الذهب، فإن ذلك كله يعدُّ تحديًّا حقيقيًا وصريحًا للدولار، وهو بداية فعلية لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي؛ لأنه مقترن بخطوات حقيقية لتقليص اعتماد هذه الدول على الدولار.
سادسًا: إن هذه التحركات في مجملها هي نتيجة طبيعية لتداعيات الضغوط التي تمارسها أميركا على ما تسميه بالدول "الاستبدادية" والتي تتوخى منها تقويض تحركات تلك الدول وسياساتها عبر استخدام العقوبات المالية، فكل من الصين وروسيا لهما أهداف معلنة طويلة الأجل للحد من الهيمنة الأميركية على مناطق نفوذهما ومجالهما الحيوي، إلا أنهما في هذه المرحلة يهدفان لإبطال مفعول ووطأة العقوبات الأميركية، وتمكين الصين من إرساء تأثيرها الاقتصادي الخارجي عبر بناء منظومة دفعات وتسويات مالية عالمية منافسة لمنظومة سويفت (SWIFT) وشيبس (CHIPS)، ودعم مساعي التحول نحو العملات المحلية والتعاون المباشر لتقليص احتياطيات الدولار.
ولقد قامت روسيا ابتداءً ثم الصين بخطوات فعلية وحثيثة في هذا الصدد، فقامت روسيا مثلًا بتأسيس نظام بطاقات الدفع "مير (MIR)"، وكذلك تأسيس نظام محلي للتحويل المالي كمنافس لنظام سويفت تحت رعاية بنك روسيا باسم "SPFS"، وقامت الصين منذ عام 2008 بخطوات حثيثة لتدويل عملتها الوطنية بإصدار أذونات خزينة وتأسيس مراكز مقاصة دولية مخصصة لعملتها، وأكبرها هونج كونج، وقامت أيضًا بتوقيع عدد من اتفاقيات تبادل العملات، وتأسيس نظام محلي للدفعات باسم "سيبس (CIPS)"، والذي تم ربطه بمبادرة الحزام والطريق، ويستخدم حاليًا من قبل 980 مصرف دولي.
سابعًا : إلا أن كل هذه الخطوات لم تثمر سوى تحولات ضئيلة تجاه اليوان، حيث أن إجمالي الحركة المالية اليومية لنظام سيبس تقدر بحوالي 19 مليار دولار مقارنة بـ 6 تريليونات دولار لنظام سويفت و1.8 تريليون دولار لنظام شيبس، ولم تستحوذ العملة الصينية على أكثر من 3٪ من قيمة الاحتياطيات العالمية. كما أن تجمع دول بريكس يواجه معضلات داخلية سببها الرئيسي المنافسة الاستراتيجية والعداء بين أكبر اقتصادين هما الهند والصين، وهو الأمر الذي تغذيه أميركا عبر سماحها بالاستثمارات الصينية في الباكستان، وزرع بؤر التنافس بينهما في أفغانستان وبنجلادش وسيرلانكا. وهذا فضلًا عن حاجة هذه الدول لمرجع أو اتفاق يحدد سعر الصرف لأي معاهدة ثنائية (الذهب أو الدولار او اليورو أو سلة عملات)، وهو الأمر الذي يقلص من احتمال إيجاد وتنفيذ رؤية موحدة لنظام مالي دولي منافس للدولار.
ثامنًا: ومن أجل أن نعرف ما إذا كانت الاتفاقيات أو الدعوات إلى نظام مالي جديد تؤثر على هيمنة الدولار عالميًا لا بد أن ندرك أن قوة الدولار اليوم لا تكمن فقط في قوة وهيمنة الولايات المتحدة سياسيًّا وعسكريًّا، أو في مركزية الدولار في التعاملات والمساعدات، بل تكمن أيضًا في تواجد المؤسسات المالية الأميركية وعمق وسيولة أسواقها المالية والمنظومة القانونية الحامية لـ "حقوق المستثمر"؛ أي فيما يُعرف بـ "الخيار الموثوق". وهو ما يؤكده الرد الصارم الذي وجهه البيت الأبيض، وأكدته أيضًا جانيت يلين وزيرة الخزينة في مقابلة مع سي أن أن بتاريخ (14/4) والذي رفض مطالبة بعض السياسيين بمصادرة أموال روسيا لإعادة بناء أوكرانيا باعتبار أن ذلك "مخالف للنظام القانوني". ولا أدل على ذلك أيضًا من نزوح المستثمر العالمي نحو الدولار كـ "ملاذ آمن" نتيجة الهزات والأزمات المالية التي واجهها العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة ابتداءً من النمور الآسيوية (1997) والانهيار المالي (2008) وغزو القرم (2014) وجائحة كورونا (2020) واستثمار دول أجنبية بنسبة 25٪ من إجمالي الدين العام الفدرالي الأميركي. وهذه جميعها وفي ظل المطالبات المتكررة بتقليص دولرة النظام المالي العالمي خلال ربع قرن لم تنتج سوى هبوط 8٪ من احتياطيات النقد الدولي.
يتبع>>