المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية أبعاد التحرش اليوناني بتركيا



Abu Taqi
16-09-2022, 02:30 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
أبعاد التحرش اليوناني بتركيا
في 23 أغسطس/آب الماضي وعقب استفزازات يونانية لتركيا أعلن مصدر في وزارة الدفاع التركية أن اليونان تتبعت طائرات(f-16) تركية عبر رادار منظومة (s-300) المتمركزة في جزيرة كريت اليونانية، مضيفًا أن تتبع المقاتلات عبر رادار تعقب الأهداف وتوجيه الصواريخ، يعد دليلًا على تفعيل اليونان لبطاريات "إس-300". وهو ما وصفته تركيا بالتصرف العدواني استنادًا لقواعد الاشتباك المحددة من حلف شمال الأطلسي (ناتو).
وعلى خلفية الاستفزاز اليوناني المستمر هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليونان، بقوله: "احتلالكم لجزر (بحر إيجه القريبة من تركيا) لا يلزمنا. حين تأتي اللحظة، سنفعل ما يلزم. قد نصل فجأة خلال الليل"، وقال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن اليونان "الجارة السيئة" تقوم بالتحرش في بحر إيجة بالقوات التركية بطرق مختلفة، وتقوم بتسليح جزر إيجة بشكل يتناقض مع معاهدات لوزان وباريس. وأكد في تعليقه على ما حدث أن قوات بلاده البرية والبحرية والجوية لن تتهاون في الرد على أي تحرّش يطالها.
ولإدراك أبعاد الاستفزاز اليوناني والتهديدات التي أطلقها أردوغان، لا بد من العودة إلى ظروفها، إذ اللافت فيها أنها جاءت عقب استئناف أميركا ملف بيع طائرت إف 16 لتركيا، ووجود وفد تركي في أميركا لهذا الغرض، والعرض الأميركي لبيع الطائرات لتركيا لقاء تخليها عن منظومة دفاع (أس 400)، وبالتزامن مع تعديل اليونان اتفاقًا دفاعيًّا مع الولايات المتحدة، يسمح للقوات الأميركية بالوصول إلى القواعد العسكرية اليونانية، وتوسيع حشودها العسكرية فيها. مما يضع الحادثة في صعيد الضغط على أردوغان بشأن علاقته بروسيا وتذكيره بعضويته في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وما يترتب عليها من التزامات ومواقف نحو روسيا، وبخاصة أنها جاءت بعد شهر من قمة طهران الثلاثية التي جمعت أردوغان ورئيسي مع بوتين، واتهام أردوغان لأميركا والتحالف بأنهم أول من دعم "الإرهاب" في سوريا، ومطالبته للولايات المتحدة بالخروج من شرق الفرات. كما جاءت مع سعي أردوغان للعودة إلى سياسة "صفر مشاكل" مع دول المنطقة، وإعادة صياغة التحالفات الإقليمية ومشاريع الطاقة في شرق المتوسط وتأمين الغاز الإسرائيلي لأوروبا.
أما البعد الثاني والمتعلق بتصريحات أردوغان بخاصة، فهو لتخويف اليونان والتأكيد على موقفه من النزاع معها بشأن الجزر والحدود، والذي كاد أن يُشعل حربًا بين الدولتين بتحريض فرنسي لليونان، لولا التدخل الأميركي عن طريق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في يوليو/تموز 2020، والذي انتهكته اليونان لاحقًا. ويندرج في هذا البعد أيضًا استغلال أردوغان الحادثة للاستهلاك الإعلامي في إطار مواجهة الانتخابات المقبلة، والعزف على الوتر القومي الذي دأب عليه في كل انتخابات، بالإضافة إلى أن تحرش اليونان يخدم رئيس الوزراء اليوناني ميتسوتاكيس في انتخاباته المقبلة أيضًا، سيما وأنه يستمد شعبيته من العداء لتركيا، فهو يستغل العامل القومي أيضًا، فقد تحدث عن خسارة إزمير وغرب الأناضول منذ ١٠٠ عام، ووصفها بأنها "خسارة جسيمة". فكلا الرجلين يواجهان انتخابات قريبة في منتصف العام القادم، فضلًا عما يواجهانه من مصاعب اقتصادية ومالية وأزمة طاقة. وهذا بالإضافة إلى أن الحدث قد تزامن مع ضغوطات أميركية على تركيا بشأن الخروقات التجارية التي يقوم به نادي رجال الأعمال التركي (توصياد)، والذي تلقى رسالة زجر من الولايات المتحدة، بل وخضع بعض رجاله لتحقيقات من قبل المخابرات الأميركية على الأراضي التركية. وقد استغل ماكرون هذه النقطة ليثير مسألة تميز تركيا عن باقي الدول بالسماح لها في التعامل مع روسيا، وجعْلِها القناة والوسيط الوحيد مع بوتين، وذلك خلال لقائه بسفراء فرنسا في العالم.
وكما يبدو فإن أميركا اضطرت إلى ممارسة بعض الضغوط على رجالها في نادي رجال الأعمال الأتراك (توصياد) لسد ذرائع فرنسا عن فتح قنوات اتصال مع بوتين، أو تبرير رفض العقوبات المتعلقة بالطاقة على روسيا. وذلك رغم غض الطرف عنهم من قِبل أميركا طيلة الفترة السابقة باعتبار أنهم من رجالها وقواها في الدولة العميقة الذين تستعملهم للتشغيب على أردوغان. حيث أن هذه المنظمة (توصياد)، والتي يرأسها سيمون كولفسكي، هي الأكثر شهرة وثقلًا اقتصاديًّا وسياسيًّا في تركيا، ويبلغ عدد أعضائها ٤٥٠٠ شركة تدفع أكثر من ٨٠٪ من الدخل الضريبي للدولة، إلى جانب سيطرتها على ٥٠% من الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي ٨٥% من تجارة تركيا الخارجية، وتوظف حوالي ٥٠% من الأيدي العاملة في تركيا، ويقودها كبار الشركات الصناعية في تركيا ومنها كوتش القابضة، والتي تعد إحدى أكبر ٥٠٠ شركة في العالم حسب تصنيف مجلة فوربس للأعمال الأميركية.
وللـ(توصياد) سجل تاريخي في التأثير السياسي بداية من حملتها ضد حكومة بولنت أجاويد (١٩٧٩) لرفضه نشر أميركا طائرات تجسُّسها على الأراضي التركية أثناء الحرب الباردة، ثم دعمها حكومة الأقلية برئاسة سليمان ديميريل، ثم دعمها ماليًّا وإعلاميًّا لتشكيل ائتلاف حزب الوطن الأم، وحل حزب الرفاه (نجم الدين أربكان)، وبخاصة وأنه كان له دور فعال في تأسيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية "موصياد" المنافسة للـ(توصياد).
وعليه فإن الاستفزازات اليونانية لتركيا لا تخرج عن وسائل الضغط الأميركي وتحذير أردوغان من تهديد المصالح الأميركية، ولا سيما أن الحدث جاء وسط تلويح تركيا بشن عملية عسكرية جديدة ضد "قسد" في الشمال السوري. كما تستغل أميركا الفزع اليوناني من الأتراك في احتواء اليونان والحد من اعتمادها على فرنسا في المواجهة مع تركيا، وبخاصة وأن اليونان على علاقة سيئة بألمانيا منذ اندلاع أزمتها المالية في بداية العقد الماضي.
على أن هناك هدفًا يونانيًّا مهمًّا من التحرش بالمقاتلات التركية ينطوي على تأكيد سيادتها على الجزر التركية في بحر إيجه التي سُلبت من الدولة العثمانية عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وأعطيت لإيطاليا ثم إلى ألمانيا ومنها إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ورثتها اليونان من بريطانيا على أن تبقى منزوعة السلاح وفق المعاهدات التي أبرمت بشأنها مع تركيا، وغرض اليونان هو تغيير الوضع القانوني هذا؛ أي إلغاء شرط عدم تسليح الجزر وتثبيت سيادة اليونان عليها وتسليحها جبرًا عن تركيا. وهناك تواطؤ أوروبي أميركي على ذلك لمحاصرة تركيا تحوطًا من خروج تركيا من الناتو لأي سبب من الأسباب.
20/صفر/1444هـ
16/9/2022م