المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية التغيير الوزاري في بريطانيا ومقدماته وحجم بريطانيا في السياسة الدولية



Abu Taqi
08-09-2022, 02:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
التغيير الوزاري في بريطانيا ومقدماته
وحجم بريطانيا في السياسة الدولية
واجهت بريطانيا بشكل عام وحزب المحافظين الحاكم منذ خريف عام ٢٠٢١ موجة من الفضائح السياسية والمساءلات الأخلاقية وقضايا فساد، والتي طالت الحكومة وعددًا من أعضاء الحزب الحاكم، حتى وصلت لتحقيقات جنائية في خروقات رئيس الوزراء بوريس جونسون، ووزير الخزينة ريشي سوناك، وكبار موظفي الدولة العاملين في مقر الحكومة البريطانية (١٠ داوننج ستريت)؛ لسياسات الحظر والتجمع خلال الجائحة، وإصدار الشرطة مخالفات جنح شخصية بحقهم.
ولم يُفاجأ المتابع للموقف الداخلي في بريطانيا بمصير بوريس جونسون واستقالته بعد قيام ٣٥ وزيرًا بالاستقالة من وزارته، فهو لم يكن أكثر من رجل مرحلة لإنجاز الخروج التام من الاتحاد الأوروبي، وتقديم الخدمات فيما يتعلق باستراتيجية أميركا حيال روسيا في الحرب الأوكرانية، ودفع الدول الأوروبية للسير في أجندة العقوبات الأميركية الصارمة على روسيا.
فجونسون ورغم كونه وصوليًا انتهازيًا في تعاطيه مع الأحداث والقضايا، وبارعًا في الاصطياد والاستثمار في القضايا الخارجية، وركوب أمواج السياسة الداخلية وتوجيهها لصالحه، إلا أن العزف على وتر بروتوكول إيرلندا الشمالية؛ لاستمالة مؤيديه كمحاولة لتعزيز موقعه كان رهانًا خاطئًا لخرقه الأولويات الأميركية بتحويل الأنظار بعيدًا عن الحرب الأوكرانية، وفتح جبهة سياسية معاكسة لمقتضيات التحالف الأميركي، ومنها تصادمه مع الأوروبيين بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية. وهو الأمر الذي أغضب أميركا، وتبين ذلك من برود الرد الأميركي بخصوص استقالته، ومن خلال تجاهل بايدن له في اجتماع قمة حلف الناتو في مدريد، وهو ما مهد الطريق لرحيله.
والواضح أنه رغم نفوذ أميركا في الداخل البريطاني ونفوذها على أوروبا الذي برز جليًا في خضوعها لإملاءات أميركا بشأن الحرب في أوكرانيا رغم تداعياتها الثقيلة على الأوروبيين، وبالرغم من قدرتها على التأثير في الانتخابات السياسية الأوروبية، إلا أن رحيل جونسون ومجيء ليز ترس يرجع لأسباب موضوعية داخلية وليس لتدخل أميركي مباشر، حيث لم تسهم الولايات المتحدة فيها إلا بامتناعها عن مساندة جونسون، سيما وأن ليز ترس التي خلفته هي أيضًا شخصية براغماتية يسهل تحويل مواقفها وتصميمها بفعل النفوذ الأميركي في السياسة البريطانية والدولية، كما أنها تتبنى موقفًا صلبًا من روسيا والصين، وهو المطلوب أميركيًّا في هذه المرحلة.
إن نفوذ أميركا في بريطانيا يتجلى في احتوائها عبر العلاقة الخاصة، واختراق الوسط السياسي، واقتلاع النزوع للعظمة والنفوذ الدولي بمعزل عن الولايات المتحدة من عقليته، ثم أوجدت لها نفوذًا اقتصاديًا هائلًا، ووجهت النظام السياسي والاستخباراتي والتنظيم العمالي منذ أواخر الستينات في القرن الماضي. ولا أدل على ذلك من انضمام رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر في عام ١٩٧٤ لبرنامج تطوير قياديي المستقبل تحت رعاية وزارة الخارجية الأميركية؛ لتخريج قادة سياسيين يحملون التوجهات السياسية والاقتصادية الأميركية، والذي أفضى إلى توافق السياسة الاقتصادية الأميركية والبريطانية (الريغانوميكس والتاتشريزم) ونشرها عالميًّا لتحرير الأسواق تمهيدًا للاستيلاء عليها والتحكم بمصائر شعوبها وحكوماتها.
ورغم اعتبار بريطانيا من الدول التقليدية الكبرى لحيازتها سلاحًا نوويًّا وقدرات عسكرية صناعية وتنفيذية متقدمة ومصالح دولية وبقايا نفوذ في بعض البلاد، لكنها أصبحت ذراعًا لأميركا في حروبها منذ "عاصفة الصحراء"، وما تلاها من حرب على الإسلام في العراق وأفغانستان. كما باتت خادمًا للسياسات الأميركية الدولية في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا بما تملكه من خبرة وإرث استعماري وعلاقات مع بقايا صنائعها الذين ورثتهم الولايات المتحدة. إلا أن وتيرة ابتعاد غالبية قادة الحزب السابقين من رؤساء وزارة ووزراء عن جونسون، وخروقاته المتكررة وتعاطيه الشعبوي (الأنجلوسكسوني) مع المسائل الملحة كالملف الإيرلندي، وفشل مساعيه لإعادة اطلاق سياساته خلال ستة أشهر، والتذمر الشعبي من خروقاته، ومنها تسريب روسيا أن جونسون منح لقب لورد لعميل مخابرات روسي سابق، والذي اتضح تكرار لقائه بجونسون، ومنها لقاؤه به مخمورًا بعد قمة مجموعة الدول السبع سنة ٢٠١٨، كل ذلك كان له تأثير كبير في مصداقية الحكومة، ورافدٌ لخلخلة الاتحاد البريطاني، وعودة مطالبة اسكتلندا للاستقلال، وإثارة ويلز لمعضلة القرار السياسي الصادر من لندن وعدم مراعاة مطالبها.
وأما اختيار ليز ترس فلم يكن مسنودًا من قبل أعضاء الحزب البرلمانيين، حيث جاءت في المركز الثاني بعد ريشي سوناك، إلا أن اختيار قائد الحزب من صلاحيات أعضاء الحزب وعددهم 160.000 حسب التقديرات المنقولة. ولقد حصلت ترس على قرابة ٥٨٪ من قرابة ١٤١ ألف صوت، مما يعنى أن حزب المحافظين بات منقسمًا، وهو الأمر الذي اتضح منذ أول مواجهة بين المرشحين، وهدد بأن يتحول إلى نزاع شرس وشرخ عميق بين أعضاء الحزب لولا قيام كلا المرشحين بتخفيف حدة الهجوم على بعضهما. كما اتضح في الخلاف في وجهات النظر بين ترس وجونسون سياسيًّا واقتصاديًّا، فهي وإن كانت تشاركه تخرجها من جامعة أوكسفورد، والتي يهيمن خريجوها على منصب رئاسة الوزراء البريطانية، إلا أنها ليبرالية التوجه الاقتصادي، وتعتقد بضرورة زيادة رفع القيود الإجرائية ("Deregulation") على الاقتصاد لمساندة رؤوس الأموال، واعتقادها بقوة آليات السوق وضرورة تخفيض العبء الضريبي على الشركات والأفراد كمسوغ للإنتاج والاستثمار. وذلك بعكس توجه جونسون نحو سياسة "التسوية الاقتصادية"(Levelling up) للشمال بإعادة الاستثمار فيه، وفرض ضرائب خاصة لتمويل مصاريف قطاع العلاج الطبي والضمان الاجتماعي للعجزة، والتي لم تحظ بقبول القوى السياسية والرأي العام، حيث تستهلك سياسات الضمان الاجتماعي والمعونات أكثر من ٢٠٧ مليار جنيه سنويًّا؛ أي قرابة ٦٠٪ من إجمالي مصروفات الدولة. ولقد كانت أولى مكالمات التهنئة التي تلقتها ترّس من البيت الأبيض، حيث أوضح موقعه الرسمي في تقرير له مجريات المكالمة، وذكر فيها أن الرئيس بايدن ورئيسة الوزراء ناقشا ضرورة التعاون في مواجهة جملة من التحديات، والتي يمكن قراءتها بأنها أجندة أولويات أميركا، وهي: مساندة أوكرانيا، ومواجهة التحدي الصيني، ومنع اقتناء إيران لسلاح نووي، وتأمين موارد طاقة مستدامة وآمنة. ولعل أهم ما ذكره الموقع أنهما "ناقشا التزامهما المشترك لحماية النتائج الإيجابية لمعاهدة الجمعة المباركة وأهمية التوصل لحل تفاوضي مع الاتحاد الأوروبي بخصوص بروتوكول إيرلندا الشمالية"، وأهمية ذلك تنبع من تشدد ترس حيال القضية الإيرلندية أثناء توليها وزارة الخارجية، مما اضطر البيت الأبيض أن يبعث حينها برسالة دبلوماسية واضحة على لسان كبير مستشاري وزير الخارجية الأميركي، قال فيها: "يجب أن لا تؤدي المسألة الإيرلندية الشمالية لأي انقسام داخل الحلف الأطلسي حتى لا نسمح لبوتين بإيجاد ذريعة لخلخلة التحالف الذي قضينا أشهر في بنائه"، مضيفًا أن "لا يتم استخدام أي تصريحات سلبية أو اتخاذ أية قرارات أحادية".
ومن المؤشرات التي تشي برضى الولايات المتحدة عن تولي ترس لرئاسة الوزراء هو تعريضها بماكرون ورد فعله نحوها، والذي يُشير إلى سيرها في الأجندة الأميركية في أوروبا، وهو الأمر المهم لأميركا في ظل المعطيات الدولية، حيث كانت قد صرحت بأنه "لا يمكن الجزم بأن ماكرون صديق أو خصم"، فكان رده أن ترس "تعزف للجمهور"؛ أي تعزف على الوتر الأنجلوساكسوني، ولذلك حظيت بالرضى الأميركي.
ومن المؤكد أن تمضي ترس قدمًا في السياسة الخارجية المساندة للمشاريع الأميركية وبخاصة في الحرب الأوكرانية، إلا أنه من المحتمل أن تفشل في معالجة الوضع الداخلي، ما قد يضطر حزب المحافظين إلى التحوط من سخط الرأي العام من خلال الابتعاد عن واجهة الحكم في الانتخابات المقبلة أو من خلال استهلاك ليز ترس واستبدالها تمامًا كما فعلوا مع جونسون.
12/صفر/1444هـ
8/9/2022م