المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية بواعث ارتفاع أسعار السلع والخدمات على مستوى العالم



Abu Taqi
31-07-2022, 12:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
بواعث ارتفاع أسعار السلع والخدمات على مستوى العالم
شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا سببًا مضافًا بعد جائحة كورونا، فألقت بتداعياتها على الاقتصاد العالمي فزادته ضِغثًا على إبالة، حيث ارتفعت الأسعار، وأصيبت الاقتصادات العالمية بالتضخم، إذ أن التضخم أو الارتفاع الحاد لمؤشر أسعار المستهلك، من أكثر المؤشرات الاقتصادية تأثيرًا على كافة الدول ودون فرق بين ما يسمى بالدول النامية وبين الدول الغربية الصناعية، والتي يتوقع انعكاسه على نمو الاقتصاد العالمي.
وقد ارتفع التضخم لدى كثير من الاقتصاديات العالمية عقب تنفيذ البنك الفدرالي الأميركي وبنك إنجلترا قرارات رفع أسعار الفائدة، وهي سياسة الاحتواء الرأسمالية التي اعتادت البنوك المركزية تنفيذها حيال التضخم لإبطاء نسبة النمو الاقتصادي، والتي وصفها الخبير المالي ستيف فوربز بأنها "أمر أقسى من المحال" أن يقوم البنك الفدرالي بمحاولة السيطرة على التضخم عبر تقليص نمو الاقتصاد الأميركي، مضيفًا أن "عمليات إصدار النقد والتي ضعضعت قيمة الدولار هي السبب الحقيقي" للتضخم. وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس بوتين في حديث لقناة روسيا -1 أنه "لم تجد السلطات المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة شيئًا أفضل من ضخ مبالغ طائلة من المال لدعم السكان والشركات الفردية وقطاعات الاقتصاد... بواقع 5.9 تريليون دولار".
إذ لم يعد خافيًا أن السياسات التي اتبعتها الإدارة الأميركية؛ ومنها "عمليات إصدار النقد"، هي التي أدت إلى التصاعد المضطرد في أسعار المواد الغذائية كالقمح والزيت النباتي، والمواد الأولية كالأسمدة والنفط والغاز، والتي حاولت أميركا و"حلفاؤها" عزوه إلى تداعيات الحرب والعقوبات الغربية على روسيا؛ حيث برر السياسيون تضاعف أسعار الطاقة للمستهلك بسبب حالة عدم اليقين فيما يتعلق بكل من إمدادات الطاقة وأسعارها، والتي يؤثر ارتفاعها على أغلب السلع. إلا أنه من المعلوم أن أسعار المستهلك لا تتأثر بشكل فوري بالأزمات الجيوسياسية لارتباط هذه الأسعار بعقود توريد طويلة الأجل.
والمتابع للسياسة الأميركية والوقائع الاقتصادية يدرك أن إلجاء الولايات المتحدة لروسيا للحرب على أوكرانيا إنما يخدم جملة من الأهداف، وإن كان على رأسها إضعاف روسيا، وتوحيد أوروبا تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية سياسيًّا، وتحت قيادة حلف الناتو عسكريًّا، وإنهاء فكرة القوة الأوروبية المستقلة التي تطرحها فرنسا، فإنه من أهدافه أيضًا استغلال الحرب الروسية الأوكرانية لتبرير بعض سياساتها مثل فرض إعادة تشكيل سلاسل التوريد، وتعويم (اليوان)، وإضعاف الدول مثل تركيا، ولتضليل الرأي العام الأميركي عن الأسباب الحقيقية للتضخم الذي يعاني منه العالم.
والحقيقة أن سياسة التيسير الكمي ("إصدار النقد") التي نفذتها الإدارتين الأميركيتين، إدارة ترمب وإدارة بايدن؛ لضخ رأس المال لإنعاش الاقتصاد، وإنقاذ النظام الرأسمالي الأميركي، والخروج من الركود الذي تسببت به سياسات الإغلاق لاحتواء الجائحة، هي السبب الرئيسي للتضخم في أميركا. ومما عقد الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الأميركي بعد رفع القيود الاحترازية لمواجهة الفايروس، هو زيادة الطلب الاستهلاكي للشعب في أميركا، مع بروز مشكلات الإمداد الناجمة عن أزمة سلاسل التوريد، وقرار الصين بتطبيق سياسة "كوفيد "زيرو". ويتجلى هذا التضليل في التصريحات التي سبقت الحرب، والتي كانت أطلقتها إدارة بايدن مبررة التضخم كنتيجة لـ"التعافي المذهل" في سوق العمل، و"الارتفاع الملحوظ في الأجور"، وعزو الارتفاع الحاد للأسعار "بآلية السوق" بالعرض والطلب، وأن "أي ارتفاع في الأسعار "سوف ينتهي قريبًا بمجرد توازن العرض والطلب". وهو الأمر الذي يؤكد محاولاتهم لإخفاء السبب الرئيسي ألا وهو التيسير الكمي.
وأما سياسة التيسير الكمي التي اتبعتها الإدارة الأميركية خلال الجائحة فتتمثل بقيام البنك الفدرالي بإصدار نقد ورقي جديد، مما عزز من وجود الدولار في السوق، ونتج عن ذلك زيادة كمية النقد المتداول حقيقة، حيث أصدرت الخزينة الأميركية سندات حكومية تم تحويلها لنقد من قبل البنك الفدرالي، وهو ما يعد صك مال جديد إلكترونيا، وليس عبر بيعه للمستثمرين، ونتيجته عمليًا "انخفاض القيمة الإسمية أو الرمزية للعملة المتداولة"؛ أي الدولار، والذي بدوره يؤدي عادة إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة حيث ترتفع قيمة الأصول والمواد والسلع.
والحقيقة أن السياسة المالية الأميركية والتي من أدواتها "التيسير الكمي" سعت منذ بداية جائحة كورونا، وحسب تصريح جيروم باول رئيس البنك الفدرالي، إلى "دعم التعافي وزيادة الطلب وخلق فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي دون خوف من مستويات الأسعار"؛ لأنه حسب قوله إن "التضخم مؤقت". إلا أن مؤشر التضخم الأميركي ارتفع مسجلًا نسبة 8.5٪ في شهر نيسان/إبريل، وهي الأعلى منذ عام ١٩٨١، بعد أن كان 0.7٪ قبل تنفيذ سياسات "التيسير الكمي" خلال الجائحة في شهر تموز/يوليو 2020.
ومما يؤكد علم البنك الفدرالي بالمأزق والذي نجم عن سياسة "التيسير الكمي" هو قرار اللجنة المالية للفدرالي في شهر تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢١ "تقليص عمليات شراء الأصول"، وهو القرار الذي وصفه عدد من المحللين أنه تسليط للضوء على حقيقة معضلة ارتفاع الأسعار.
وهذه السياسة المالية الأميركية والتي تتمثل في مركزية الدولار في المعاملات التجارية العالمية، واحتياطيات النقد العالمية، وتقييم الثروات للدول وبخاصة النفط والمعادن، نقلت ثروات العالم من تحت الأرض إلى خزائن مصارفها، فمكنها "تدفق رأس المال إلى الدولار" من عملقة اقتصادها على المستوى العالمي، وتمويل تفوقها العسكري من خلال ميزانية عسكرية سنوية فاقت ٨٠٠ مليار دولار في ٢٠٢١، وتكريس تفردها في الموقف الدولي.
ومن خلال مركزية الدولار في النظام المالي العالمي، رهنت مصائر الشعوب والدول لسياساتها المالية، وأدارت النظام المالي العالمي من خلال البنك الفدرالي بما يتفق مع مصالحها، وبسط نفوذها على دول وشعوب العالم، والذين باتوا يحققون رفاه الولايات المتحدة من قوتهم ومقدراتهم كضريبة؛ لاعتمادهم على الدولار وسياسات الولايات المتحدة المالية وبنوكها. ولا أدل على ذلك من مؤشر صافي وضع الاستثمار الدولي الأميركي (Net International Investment Position) لعام ٢٠٢١، والذي يبين التزام أميركا للعالم بـ ١٨ تريليون دولار.
إن ما يجري اليوم من تنكب معيشي للسواد الأعظم من سكان العالم وما ينتظرهم من مصائر كارثية لا يعلم مداها إلا الله، إنما سببه الرئيس هو النظام الرأسمالي الأميركي المتوحش، والسياسات الأميركية الإجرامية. وإن الوقائع والأزمات المتتابعة منذ الأزمة الاقتصادية سنة ٢٠٠٨ على الأقل، والسياسات الاقتصادية والمالية وفي مقدمتها سياسة "التيسير الكمي"، تعيدنا بالذاكرة إلى ما حصل في الفترة ١٩٦٨-١٩٧١، والتي ألقت فيها الولايات المتحدة بتبعات التضخم وعجز الموازنة على دول العالم بعامة، وعلى الدول الأوروبية بخاصة كـ"ضريبة تدفعها الدول لاستخدام الدولار"، حيث رفضت الدول الأوروبية من جانبها القبول بالتضخم في الولايات المتحدة والناجم عن عجزها الثنائي، حيث حاولت الدول الأوروبية تحويل ما لديها من دولار إلى ذهب كملاذ آمن، إلا أن الرئيس نيكسون عاجلهم بقراره الشهير "إيقاف تحويل الدولار الى ذهب عند الطلب".
وعليه فإن التردي الاقتصادي الذي تَعِد الأنظمة شعوبها به كالشيطان يعدهم الفقر، والذي تجسد في ارتفاع أسعار السلع والخدمات على مستوى العالم، لم يكن نتيجة الحرب الروسية، وإن كانت الحرب قد شكلت رافدًا له، حيث أكد محللون أنّ "أسعار الغذاء العالمية بدأت في الارتفاع منذ مطلع العام ٢٠٢١، وذلك نتيجة السياسة غير المسؤولة التي اتبعتها البنوك المركزية الغربية خلال السنوات الماضية"، وأي ذريعة آخرى إنما هي لتغطية الأسباب الحقيقية والمتعلقة بالنظام المالي والاقتصادي الرأسمالي، وسياسات "التيسير الكمي" للبنك الفدرالي الذي يدير سياسة الدولار في العالم، والتي وصفها المحللون بـ "عملية كيمياء مالية" لتحويل أمر ليس له قيمة إلى نقد.
إن حالة عدم اليقين بشأن المستقبل الاقتصادي والمالي العالمي لا مخرج منها إلا بنظام الإسلام، الذي لا يسمح بالاستثمار في معاناة الشعوب لتحقيق قيم مادية، وإنما جاء رحمة للعالمين، فلا يقبل نقودًا لا تستمد قيمتها من ذاتها كالذهب والفضة، ولا يرعى مصالح رجال المال والأعمال والدولة على حساب بقية الناس. ولا يسمح بتمليك ما هو من ملكيات عامة للدولة أو الأفراد. فالحاكم في الدولة الإسلامية ليس خادمًا مطيعًا للأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، بل هو "جنة يقاتل من ورائه ويتقى به"، فقد جسد الفاروق عمر رضي الله عنه شخصية رجل الدولة في أبهى صور الرعاية المسؤولة في عام الرمادة إثر انحباس المطر تسعة أشهر، حيث جاع الناس وهلك الزرع والحرث والأنعام، فاستضاف ٦٠ ألفًا من الرجال والعيال الوافدين من البادية إلى المدينة، وأمر رجالًا يقومون بمصالحهم. حتى أرسل الله السماء فلما أمطرت وكَلَ بهم الفاروق من يخرجونهم إلى البادية ويعطونهم قوتًا وحملانًا.
فالدولة في الإسلام هي دولة الأمة لا دولة أفراد وأحزاب وعائلات، وسلطانها مستمد من الأمة لا من فئات وطبقات، ونظامها مستمد من السماء لا تقرره المصالح النفعية والحزبية والنزوات، ذلك أنه النظام الأوحد الذي لا يرجو مصدر تشريعه المنفعة لنفسه؛ لأن مصدره هو الخالق الغني عن عباده.
غرة محرم/1444هـ
30/7/2022م