Abu Taqi
23-07-2022, 06:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
هبوط سعر اليورو
صدرت الصحف المالية العالمية أنباء تراجع سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" لتصل إلى أقل من دولار، منخفضة عن مستوى 1.20 دولار لكل يورو قبل عام، ويعد هذا أدنى مستوى لها منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما وصل سعر صرف اليورو مقابل الدولار إلى 0.82 سنتًا في خريف عام ٢٠٠٠، بينما ارتفع سعر صرف الدولار مقابل العملات لأعلى مستوى له منذ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٠٢ ليسجل 108.6 على مؤشر (US Dollar Index) مستفيدًا من رفع سعر الفائدة من قبل البنك الفدرالي الأميركي، وكونه الملاذ الآمن بين العملات وتدفقات رأس المال الناتجة عن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام والمنتجات الزراعية.
ولإدراك حقيقة وواقع هذا الانخفاض وجب فهم الواقع السياسي الذي تعيشه منطقة اليورو بسبب الحرب في أوكرانيا، ونتائج العقوبات التي فرضتها على روسيا، وآليات صرف العملات وتحديد سعر صرف العملات وتقلباتها. فمن المعلوم لمتابعي السياسات المالية والنقدية أن سعر الصرف للعملة يتأثر بعدة عوامل منها الوضع السياسي للدولة صاحبة العملة، ومن ذلك قراراتها السياسية، وسرعة تعاملها مع الأحداث، وتأثرها بالأوضاع الأمنية، ومؤشرات التجارة الخارجية، وما يترتب عليه من تحويلات نقدية خارجية، وكذلك سقف سعر الفائدة في الدولة صاحبة العملة مقارنة بنظيراتها، واجتذاب الدولار للاستثمارات الدولية كملاذ آمن في ظل المتغيرات الأمنية والعسكرية، ومخاوف تدهور الاقتصاد والانحدار نحو ركود اقتصادي بسبب أزمة الطاقة واضطراب أسواقها، وبخاصة بعد الإجراء الروسي بإيقاف توريد الغاز لألمانيا عبر خط نوردستريم ١ بحجة الصيانة، وهو أكبر خط نقل للغاز من روسيا إذ ينقل قرابة ٥٥ مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا إلى ألمانيا، وهو الأمر الذي عقب عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه استخدام للطاقة "سلاحًا في الحرب" من طرف روسيا. إذ إن إيقاف روسيا تشغيل نورد ستريم 1 يهدد استعدادات ألمانيا للشتاء في ظل مخاوف الإيقاف الدائم للغاز.
ولقد أوضح بنك بي إن بي لوكالة رويترز أن سقوط سعر صرف اليورو مقابل الدولار بنسبة 4.5٪ في ٢٧ نيسان/إبريل ٢٠٢٢ قد نجم عن إعلان موسكو إيقافها نقل الغاز لكل من بولندا وبلغاريا. وللعلم فإن البنك الفدرالي الأميركي قام برفع سعر الفائدة للدولار تحوطًا من انفجار التضخم، وأشار إلى ارتفاع ثالث مرتقب في أيلول/سبتمبر القادم، بينما يواجه البنك المركزي الأوروبي مخاوف انحدار اقتصاد الدول الأعضاء نحو الركود في ظل المعطيات الاقتصادية والسياسية التي نتجت عن غزو روسيا لأوكرانيا مما أدى لقراره بعدم رفع سقف سعر الفائدة، وهو الأمر الذي حفز تحول عددٍ من محافظ المضاربة النقدية من اليورو إلى الدولار عقب رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة بحثًا عن مردود أعلى.
والحقيقة أن العملات الورقية المختلفة المتداولة اليوم هي سلع مختلفة يتم تداولها في أسواق النقد العالمي والتي "تزيد تعاملاتها عن 6.6 تريليون دولار يوميًا"، لا لذاتها، وإنما لقدرتها على شراء سلع أخرى، أو كملاذ آمن في حالات الاضطرابات المالية والسياسية. وتقدَّر قيمة النقود بمقدار ما فيها من القوة الشرائية؛ أي بمقدار ما يستطيع الإنسان الحصول بواسطتها على سلع أو خدمات، أو بمقدار ما فيها من قوة معنوية وارتباط تقييمها بقوة اقتصاد الدولة التي يحمل اسمها، كالدولار الأميركي. ولذا فإن سعر الصرف هو نتيجة لعمليات الاستبدال لحاجة أحد المصطرفين إلى العملة التي بيد المصطرف الآخر (العرض والطلب)، وهذا في الأغلب توجده العلاقة النقدية والمترتبة على التجارة الخارجية أو اختلال الموازين الحسابية للدول؛ لأنه لا بد من أن تدفع الدولة ثمن البضائع بعملة البلد التي تستورد منها أو بالعملة التي تقبلها. ولقد بلغت قيمة التبادلات التجارية والخدمية بين أميركا ومنطقة اليورو تريليون دولار في عام ٢٠٢٠ ويعد سوق تبادل العملتين الأكثر سيولة وتبادلًا بين العملات العالمية.
ومن جهة أخرى فإن سعر الصرف هو نتيجة لتغير أسعار السلع في البلد التي أصدرت العملة، ولو ارتفع مستوى الأسعار في بلد ما عنه في بلد آخر بسبب زيادة النقود مثلًا فإن سعر الصرف لا بد أن يتغير بينهما فتنخفض القيمة الخارجية لعملة الدولة التي ارتفعت الأسعار فيها. وحيث أن الدول السبعة المتقدمة تعاني من أزمة ارتفاع الأسعار فعملاتها جميعها معرضة للانخفاض، إلا أن سياسة أميركا النقدية والتي جعلت من الدولار العملة الاحتياط الأولى في العالم ويمثل أكثر من ٦١٪ من إجمالي احتياطيات الدول من العملة الصعبة، وارتبط به سعر صرف كافة العملات، وأداة التغطية للعملات التي يتحدد سعرها على ضوء نسبة هذه التغطية، وارتباط سعر الموارد الطبيعية، وبخاصة النفط والذهب بالدولار، هو الذي أوجد حاجة دول العالم إلى الدولار واستخدامه لتسديد المشتريات النفطية هائلة الكلفة كسلعة لا يمكن الاستغناء عنها، فضلًا عن أثمان التجارة الخارجية والقروض الممنوحة بالدولار، وهذا بالإضافة إلى أن تغذية احتياطيات البنوك المركزية من العملة الأولى في العالم، وقيام البنك الفدرالي بزيادة سقف الفائدة، مكَّن الدولار من تفادي سقوط سعر صرفه.
ولقد تكهن بعض المراقبين عند انطلاق اليورو باحتمال تمكنه من منافسة الدولار وخلخلة مركزيته في النظام المالي العالمي، بعدما أصبح (اليورو) عملة الفوترة والتبادل التجاري بين الدول الأعضاء لاقتصاد جماعي يعادل ١٦ تريليون دولار، وحجم معاملات تجارية دولية يعادل ١٥٪ من الإجمالي العالمي، كما استحوذ على ٢٣٪ من الاحتياطيات العالمية، إلا أن منطقة اليورو عانت من عدد من النكسات ولم تُشف منها باستثناء ألمانيا، حيث كادت أزمة الدين العام في اليونان أن تؤدي إلى الانهيار المالي في منطقة اليورو، وتمخض عنها مضاربات محافظ التحوط الأميركي في أزمة الدين لكل من إسبانيا والبرتغال وقبرص وإيرلندا، وارتفاع مستويات الدين الحكومي ومعدلات البطالة. إلا أن الأوضاع السياسية والأزمات التي افتعلتها أميركا خلال العقد الماضي لم تُسعف اليورو عن تحقيق مقدار وازن من التنافس مع الدولار، وبخاصة الحرب الروسية الأوكرانية، واستغلال أزمة كوفيد وتداعياتها الاقتصادية والتضخم، وهو الأمر الذي قد يفضي إلى ركود اقتصادي في منطقة اليورو في ظل خيارات اقتصادية ضيقة أمام دول الاتحاد، وبخاصة وأن معالجة هذه المسائل لا يأتي بحلول اقتصادية صرفة بل يتطلب قرارات سياسية. وتمثل الأزمة الأوكرانية التي تسببت بغضب بوتين واستهدافه للاقتصاد الأوروبي بغية تعميق الخلاف بين دول الاتحاد وتوهين تحالفهم مع الولايات المتحدة، أكبرَ مثال على ذلك.
ولقد أشار استراتيجي العملات في بنك بي إن بي في لقاء مع وكالة رويترز "أظهر تحليلنا أن التدفقات بدلًا من الأساسيات ربما كانت المحرك الرئيسي وراء انخفاض اليورو"، ويقصد أن هبوط سعر اليورو مقابل الدولار لا يعكس حقيقة الواقع، إذ أن المؤشرات الأساسية الاقتصادية تفيد بأن سعر الصرف الحالي لا يمثل القيمة الحقيقية لليورو، والتي يقدرونها بين 1.1 و11.1 دولار لليورو، حسب إفادة المحللين. والحقيقة أن تحوط مدراء المحافظ الاستثمارية من تبعات الأزمات السياسية، وفشل القرار السياسي الأوروبي، من أبرز العوامل التي أفضت إلى نزوح رأس المال من اليورو إلى الدولار، وذلك عبر تلك العمليات التي نفذها مدراء المحافظ لتثبيت سعر الصرف لحفظ قيمة الاستثمارات، مما نجم عنه انخفاض قيمة اليورو.
وعليه فإن الخروج من أزمة هبوط اليورو يتوقف على عودة ثقة السوق باستئناف ضخ الغاز عبر نوردستريم-١ واستمراره وعدم انقطاعه، ذلك أن البديل عنه هو استمرار شراء الغاز من أميركا ومناطق النفوذ الأميركي بالدولار، بدل شرائه باليورو من روسيا، والذي يترتب عليه نمو التدفقات من اليورو إلى الدولار ويُضعف قيمة اليورو، فقد بلغت شحنات الغاز الأميركي لأوروبا رقمًا قياسيًّا بزيادة ٣٠٪ في شهر شباط/فبراير فقط. ومن المتوقع أن تستحوذ أميركا على ٢٢٪ من إجمالي شحنات الغاز المسال العالمي. وستبقى أزمة أوروبا الاقتصادية قائمة ما دام الأوروبيون يعتمدون على أميركا في مواجهة تحديات الأمن القومي الأوروبي، وغير قادرين على حسم الموقف من القضايا المتعلقة بمصالح أوروبا، وبخاصة في مجال الطاقة، وأهمها العقوبات على روسيا، والتي أملتها أميركا على الاتحاد الأوروبي، وانعكست سلبًا على منطقة اليورو، إذ أصبحت تهدد بانقلاب الرأي العام الشعبي في أوروبا ضد مواقف الحكومات الأوروبية من الأزمة الأوكرانية نتيجة للتضخم وارتفاع الأسعار. وأما إجراءات البنك المركزي الأوروبي برفع سعر الفائدة لمواجهة تحديات التضخم وارتفاع الأسعار واحتواء التذمر الشعبي، بعد أن ظل مترددًا بشأن مقدار الفائدة بسبب الخوف من عواقبها الاقتصادية السلبية، نحو تقليص المال/النقود في السوق وضمور العملية الاقتصادية في النظام الرأسمالي؛ لأنها تعتمد على الإقراض لتحفيز عمليات الاستثمار في الآلات والمعدات والتوظيف، فإن هذه الإجراءات وإن كان لا بد منها، ولكنها لا تعالج الموقف الاقتصادي الأوروبي معالجة جذرية، ما لم تستقل أوروبا تمامًا عن أميركا، وتتخلص من تأثيرها على قرارات الاتحاد الأوروبي، على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.
نخلص من ذلك كله إلى أن أسباب هبوط اليورو وإن كان طابعها اقتصاديًّا إلا أن صعيدها وأسبابها سياسية صرفة. مما يدل على مستوى خضوع القادة الأوروبيين للإرادة الأميركية. وليس من المتوقع أن تخرج أوروبا سالمة اقتصاديًّا وأمنيًّا ما لم تتحرر إرادتها المرتهنة لإملاءات واشنطن. ولن يستقيم الاقتصاد العالمي وتطمئن شعوب العالم بشأن الاقتصاد والنظام المالي العالمي إلا بالرجوع إلى قاعدة الذهب في النظام المالي العالمي، وعودة الإسلام لواقع الحياة والدولة التي تطرح أنموذجها الحضاري وأنظمتها العادلة وحمل الدول على تبني مبدئها وقيمها وقيادتهم لوضع حد للهيمنة الأميركية على القرار الدولي.
24/ذي الحجة/1443هـ
23/7/2022م
متابعة سياسية
هبوط سعر اليورو
صدرت الصحف المالية العالمية أنباء تراجع سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" لتصل إلى أقل من دولار، منخفضة عن مستوى 1.20 دولار لكل يورو قبل عام، ويعد هذا أدنى مستوى لها منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما وصل سعر صرف اليورو مقابل الدولار إلى 0.82 سنتًا في خريف عام ٢٠٠٠، بينما ارتفع سعر صرف الدولار مقابل العملات لأعلى مستوى له منذ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٠٢ ليسجل 108.6 على مؤشر (US Dollar Index) مستفيدًا من رفع سعر الفائدة من قبل البنك الفدرالي الأميركي، وكونه الملاذ الآمن بين العملات وتدفقات رأس المال الناتجة عن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام والمنتجات الزراعية.
ولإدراك حقيقة وواقع هذا الانخفاض وجب فهم الواقع السياسي الذي تعيشه منطقة اليورو بسبب الحرب في أوكرانيا، ونتائج العقوبات التي فرضتها على روسيا، وآليات صرف العملات وتحديد سعر صرف العملات وتقلباتها. فمن المعلوم لمتابعي السياسات المالية والنقدية أن سعر الصرف للعملة يتأثر بعدة عوامل منها الوضع السياسي للدولة صاحبة العملة، ومن ذلك قراراتها السياسية، وسرعة تعاملها مع الأحداث، وتأثرها بالأوضاع الأمنية، ومؤشرات التجارة الخارجية، وما يترتب عليه من تحويلات نقدية خارجية، وكذلك سقف سعر الفائدة في الدولة صاحبة العملة مقارنة بنظيراتها، واجتذاب الدولار للاستثمارات الدولية كملاذ آمن في ظل المتغيرات الأمنية والعسكرية، ومخاوف تدهور الاقتصاد والانحدار نحو ركود اقتصادي بسبب أزمة الطاقة واضطراب أسواقها، وبخاصة بعد الإجراء الروسي بإيقاف توريد الغاز لألمانيا عبر خط نوردستريم ١ بحجة الصيانة، وهو أكبر خط نقل للغاز من روسيا إذ ينقل قرابة ٥٥ مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا إلى ألمانيا، وهو الأمر الذي عقب عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه استخدام للطاقة "سلاحًا في الحرب" من طرف روسيا. إذ إن إيقاف روسيا تشغيل نورد ستريم 1 يهدد استعدادات ألمانيا للشتاء في ظل مخاوف الإيقاف الدائم للغاز.
ولقد أوضح بنك بي إن بي لوكالة رويترز أن سقوط سعر صرف اليورو مقابل الدولار بنسبة 4.5٪ في ٢٧ نيسان/إبريل ٢٠٢٢ قد نجم عن إعلان موسكو إيقافها نقل الغاز لكل من بولندا وبلغاريا. وللعلم فإن البنك الفدرالي الأميركي قام برفع سعر الفائدة للدولار تحوطًا من انفجار التضخم، وأشار إلى ارتفاع ثالث مرتقب في أيلول/سبتمبر القادم، بينما يواجه البنك المركزي الأوروبي مخاوف انحدار اقتصاد الدول الأعضاء نحو الركود في ظل المعطيات الاقتصادية والسياسية التي نتجت عن غزو روسيا لأوكرانيا مما أدى لقراره بعدم رفع سقف سعر الفائدة، وهو الأمر الذي حفز تحول عددٍ من محافظ المضاربة النقدية من اليورو إلى الدولار عقب رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة بحثًا عن مردود أعلى.
والحقيقة أن العملات الورقية المختلفة المتداولة اليوم هي سلع مختلفة يتم تداولها في أسواق النقد العالمي والتي "تزيد تعاملاتها عن 6.6 تريليون دولار يوميًا"، لا لذاتها، وإنما لقدرتها على شراء سلع أخرى، أو كملاذ آمن في حالات الاضطرابات المالية والسياسية. وتقدَّر قيمة النقود بمقدار ما فيها من القوة الشرائية؛ أي بمقدار ما يستطيع الإنسان الحصول بواسطتها على سلع أو خدمات، أو بمقدار ما فيها من قوة معنوية وارتباط تقييمها بقوة اقتصاد الدولة التي يحمل اسمها، كالدولار الأميركي. ولذا فإن سعر الصرف هو نتيجة لعمليات الاستبدال لحاجة أحد المصطرفين إلى العملة التي بيد المصطرف الآخر (العرض والطلب)، وهذا في الأغلب توجده العلاقة النقدية والمترتبة على التجارة الخارجية أو اختلال الموازين الحسابية للدول؛ لأنه لا بد من أن تدفع الدولة ثمن البضائع بعملة البلد التي تستورد منها أو بالعملة التي تقبلها. ولقد بلغت قيمة التبادلات التجارية والخدمية بين أميركا ومنطقة اليورو تريليون دولار في عام ٢٠٢٠ ويعد سوق تبادل العملتين الأكثر سيولة وتبادلًا بين العملات العالمية.
ومن جهة أخرى فإن سعر الصرف هو نتيجة لتغير أسعار السلع في البلد التي أصدرت العملة، ولو ارتفع مستوى الأسعار في بلد ما عنه في بلد آخر بسبب زيادة النقود مثلًا فإن سعر الصرف لا بد أن يتغير بينهما فتنخفض القيمة الخارجية لعملة الدولة التي ارتفعت الأسعار فيها. وحيث أن الدول السبعة المتقدمة تعاني من أزمة ارتفاع الأسعار فعملاتها جميعها معرضة للانخفاض، إلا أن سياسة أميركا النقدية والتي جعلت من الدولار العملة الاحتياط الأولى في العالم ويمثل أكثر من ٦١٪ من إجمالي احتياطيات الدول من العملة الصعبة، وارتبط به سعر صرف كافة العملات، وأداة التغطية للعملات التي يتحدد سعرها على ضوء نسبة هذه التغطية، وارتباط سعر الموارد الطبيعية، وبخاصة النفط والذهب بالدولار، هو الذي أوجد حاجة دول العالم إلى الدولار واستخدامه لتسديد المشتريات النفطية هائلة الكلفة كسلعة لا يمكن الاستغناء عنها، فضلًا عن أثمان التجارة الخارجية والقروض الممنوحة بالدولار، وهذا بالإضافة إلى أن تغذية احتياطيات البنوك المركزية من العملة الأولى في العالم، وقيام البنك الفدرالي بزيادة سقف الفائدة، مكَّن الدولار من تفادي سقوط سعر صرفه.
ولقد تكهن بعض المراقبين عند انطلاق اليورو باحتمال تمكنه من منافسة الدولار وخلخلة مركزيته في النظام المالي العالمي، بعدما أصبح (اليورو) عملة الفوترة والتبادل التجاري بين الدول الأعضاء لاقتصاد جماعي يعادل ١٦ تريليون دولار، وحجم معاملات تجارية دولية يعادل ١٥٪ من الإجمالي العالمي، كما استحوذ على ٢٣٪ من الاحتياطيات العالمية، إلا أن منطقة اليورو عانت من عدد من النكسات ولم تُشف منها باستثناء ألمانيا، حيث كادت أزمة الدين العام في اليونان أن تؤدي إلى الانهيار المالي في منطقة اليورو، وتمخض عنها مضاربات محافظ التحوط الأميركي في أزمة الدين لكل من إسبانيا والبرتغال وقبرص وإيرلندا، وارتفاع مستويات الدين الحكومي ومعدلات البطالة. إلا أن الأوضاع السياسية والأزمات التي افتعلتها أميركا خلال العقد الماضي لم تُسعف اليورو عن تحقيق مقدار وازن من التنافس مع الدولار، وبخاصة الحرب الروسية الأوكرانية، واستغلال أزمة كوفيد وتداعياتها الاقتصادية والتضخم، وهو الأمر الذي قد يفضي إلى ركود اقتصادي في منطقة اليورو في ظل خيارات اقتصادية ضيقة أمام دول الاتحاد، وبخاصة وأن معالجة هذه المسائل لا يأتي بحلول اقتصادية صرفة بل يتطلب قرارات سياسية. وتمثل الأزمة الأوكرانية التي تسببت بغضب بوتين واستهدافه للاقتصاد الأوروبي بغية تعميق الخلاف بين دول الاتحاد وتوهين تحالفهم مع الولايات المتحدة، أكبرَ مثال على ذلك.
ولقد أشار استراتيجي العملات في بنك بي إن بي في لقاء مع وكالة رويترز "أظهر تحليلنا أن التدفقات بدلًا من الأساسيات ربما كانت المحرك الرئيسي وراء انخفاض اليورو"، ويقصد أن هبوط سعر اليورو مقابل الدولار لا يعكس حقيقة الواقع، إذ أن المؤشرات الأساسية الاقتصادية تفيد بأن سعر الصرف الحالي لا يمثل القيمة الحقيقية لليورو، والتي يقدرونها بين 1.1 و11.1 دولار لليورو، حسب إفادة المحللين. والحقيقة أن تحوط مدراء المحافظ الاستثمارية من تبعات الأزمات السياسية، وفشل القرار السياسي الأوروبي، من أبرز العوامل التي أفضت إلى نزوح رأس المال من اليورو إلى الدولار، وذلك عبر تلك العمليات التي نفذها مدراء المحافظ لتثبيت سعر الصرف لحفظ قيمة الاستثمارات، مما نجم عنه انخفاض قيمة اليورو.
وعليه فإن الخروج من أزمة هبوط اليورو يتوقف على عودة ثقة السوق باستئناف ضخ الغاز عبر نوردستريم-١ واستمراره وعدم انقطاعه، ذلك أن البديل عنه هو استمرار شراء الغاز من أميركا ومناطق النفوذ الأميركي بالدولار، بدل شرائه باليورو من روسيا، والذي يترتب عليه نمو التدفقات من اليورو إلى الدولار ويُضعف قيمة اليورو، فقد بلغت شحنات الغاز الأميركي لأوروبا رقمًا قياسيًّا بزيادة ٣٠٪ في شهر شباط/فبراير فقط. ومن المتوقع أن تستحوذ أميركا على ٢٢٪ من إجمالي شحنات الغاز المسال العالمي. وستبقى أزمة أوروبا الاقتصادية قائمة ما دام الأوروبيون يعتمدون على أميركا في مواجهة تحديات الأمن القومي الأوروبي، وغير قادرين على حسم الموقف من القضايا المتعلقة بمصالح أوروبا، وبخاصة في مجال الطاقة، وأهمها العقوبات على روسيا، والتي أملتها أميركا على الاتحاد الأوروبي، وانعكست سلبًا على منطقة اليورو، إذ أصبحت تهدد بانقلاب الرأي العام الشعبي في أوروبا ضد مواقف الحكومات الأوروبية من الأزمة الأوكرانية نتيجة للتضخم وارتفاع الأسعار. وأما إجراءات البنك المركزي الأوروبي برفع سعر الفائدة لمواجهة تحديات التضخم وارتفاع الأسعار واحتواء التذمر الشعبي، بعد أن ظل مترددًا بشأن مقدار الفائدة بسبب الخوف من عواقبها الاقتصادية السلبية، نحو تقليص المال/النقود في السوق وضمور العملية الاقتصادية في النظام الرأسمالي؛ لأنها تعتمد على الإقراض لتحفيز عمليات الاستثمار في الآلات والمعدات والتوظيف، فإن هذه الإجراءات وإن كان لا بد منها، ولكنها لا تعالج الموقف الاقتصادي الأوروبي معالجة جذرية، ما لم تستقل أوروبا تمامًا عن أميركا، وتتخلص من تأثيرها على قرارات الاتحاد الأوروبي، على الصعيدين الاقتصادي والعسكري.
نخلص من ذلك كله إلى أن أسباب هبوط اليورو وإن كان طابعها اقتصاديًّا إلا أن صعيدها وأسبابها سياسية صرفة. مما يدل على مستوى خضوع القادة الأوروبيين للإرادة الأميركية. وليس من المتوقع أن تخرج أوروبا سالمة اقتصاديًّا وأمنيًّا ما لم تتحرر إرادتها المرتهنة لإملاءات واشنطن. ولن يستقيم الاقتصاد العالمي وتطمئن شعوب العالم بشأن الاقتصاد والنظام المالي العالمي إلا بالرجوع إلى قاعدة الذهب في النظام المالي العالمي، وعودة الإسلام لواقع الحياة والدولة التي تطرح أنموذجها الحضاري وأنظمتها العادلة وحمل الدول على تبني مبدئها وقيمها وقيادتهم لوضع حد للهيمنة الأميركية على القرار الدولي.
24/ذي الحجة/1443هـ
23/7/2022م