المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية مستجدات الوضع في تونس



Abu Taqi
05-06-2022, 10:16 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
مستجدات الوضع في تونس
تشهد تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021، أزمة سياسية حادة بدأت باتخاذ الرئيس قيس سعيد إجراءات بحل البرلمان ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية استثنائية. وهو الأمر الذي اعتبرته "أحزاب المعارضة" انقلابًا على الدستور، فيما اعتبرته قوى (الموالاة) تصحيحًا لمسار "ثورة" 2011 التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي.
وزاد الطين بلة ما أقدم عليه سعيد في الأول من الشهر الجاري من إصدار مرسوم رئاسي يقضي بإقالة 57 قاضيًا واتهامهم بالفساد، بعدما دفع المعارضة رسميًّا إلى تأسيس "جبهة الخلاص الوطني"، من 10 قوى سياسية تونسية معارضة للرئيس قيس سعيّد.
أما الرئيس سعيد، فقد برر تصرفاته بالقول إن إجراءاته هي "تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة التونسية من خطر داهم." وكل ذلك إنما هو مظاهر للأسباب الخفية التي تكمن في التدخلات الخارجية وتنافس القوى الداخلية في الوصاية على المصالح الدولية، وبخاصة مصالح كل من الولايات المتحدة وفرنسا التي تمكنت من استقطاب قيس سعيد بعد أن وصل إلى الحكم بدعم أميركي كُشفت تفاصيله لاحقًا.
ولكن مع فوز إيمانويل ماكرون بالانتخابات الفرنسية يوم 25 نيسان/أبريل 2022 أمام مارين لوبان بدأ يتأكد خيار فرنسا في رفع الغطاء عن الرئيس سعيد، والذي يبدو أنه يستبطن الرغبة بالتخلص منه، بعد أن أوصل البلاد إلى مأزق سياسي واقتصادي ينذر بانفجار شعبي قد لا يؤثر على مصالح فرنسا في تونس ودول الجوار فحسب، بل يهدد النفوذ الاستعماري الغربي ومشاريعه في تونس وبقية دول المغرب العربي. فمع انقسام القوى السياسية التونسية، واستعمال الشعب في معادلة التنافس، باتت أولوية فرنسا والولايات المتحدة تتركز في عزل الشعب عن النزاع وتطويق ذيوله ومحاذيره وأبعاده، عبر جمع القوى السياسية في حاضنة (جبهة الخلاص الوطني) والشروع بإدارة الأزمة بمعزل عن القواعد الشعبية والحزبية، من أجل الحفاظ على بقاء تونس تحت الوصاية الغربية.
ولعل أول المؤشرات الدالة على رفع فرنسا الغطاء عن قيس سعيد هو انقلاب موقف المديرة السابقة للديوان الرئاسي نادية عكاشة، والتي كانت بمنزلة ضابط اتصال بين الرئيس سعيد والسفارة الفرنسية أثناء عملها، حيث أصدرت تدوينة في نفس اليوم الذي فاز فيه ماكرون بالرئاسة الفرنسية، ذكرت فيها أن "25 جويلية لحظة حاسمة وقرار تاريخي ومسار وطني كان من المفروض أن يقوم على منهجية واضحة وعلى تمشي ديمقراطي جامع وعلى أسس ثابتة لبناء دولة القانون التي تحترم فيها الحريات والمؤسسات". وأضافت: "ولكن للأسف تم الاستيلاء على هذه اللحظة وعلى هذا المسار من قبل من لا شرف ولا دين ولا وطنية له ومن قبل زمرة من الفاشلين الذين لا يفقهون شيئًا غير احتراف الابتذال والتشويه والتضليل". وختمت بالقول: "أين تونس اليوم من أزمة سياسية خانقة أصبحت تمثل خطرًا داهمًا وجاثمًا لم تشهد له مثيلًا في تاريخها الحديث!". وهذا بالإضافة إلى التسريبات الصوتية لنادية عكاشة، والتي كشفت فيها عن الحالة المرضية الخطيرة لقيس سعيد، وكشفت بأنه مجرد دمية تحركها زوجته إشراف شبيل وأختها عاتكة. وبغرض شيطنة سعيد وتقويض شعبيته لصالح خصومه كشفت عكاشة عن تحكم عائلة الرئيس في صنع القرار، بشكل يوحي بعودة "حكم الطرابلسية" أي زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين، وهو الأمر الذي يستفز الشعب وينفره من الرئيس وحاشيته.
كما أن سياسة فرنسا في الابتعاد عن قيس سعيد قد ظهرت ملامحها منذ اللقاء الذي جمع السفير الفرنسي أندريه باران برئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي. فقد ذكرت صفحة الغنوشي على "فيسبوك" وقتها، في بيان مقتضب، إن اللقاء "تناول التطورات والمستجدات على الساحة الوطنية، وتم التأكيد على دعم العلاقة بين تونس وفرنسا بما يخدم مصلحة البلدين".
ويلاحظ أنه منذ اللقاء الذي جرى يوم 8 كانون أول/ديسمبر 2021 بين الغنوشي والسفير الفرنسي بطلب من هذا الأخير، بدأ السفير الفرنسي في التواصل مع عدد من قوى المعارضة لقيس سعيد يدعوها للتقارب مع حركة النهضة ومساندة مبادرة أحمد نجيب الشابي فيما أطلق عليه اسم "جبهة الخلاص الوطني"، والتي بدأ التحضير لها يوم 26 نيسان/أبريل 2022. وتأتي تحركات السفير الفرنسي في ظل الانتقادات الحادة التي أطلقتها أميركا بسبب تفرد قيس سعيد بالسلطة وإجراءاته الاستثنائية، التي يدير من خلالها البلاد بقبضة حديدية بعد أن حل كل المؤسسات المنتخبة، وانقلب على "الدستور والمسار الديمقراطي".
وقد جاءت هذه الجبهة بعد مشاورات قام بها الشابي مع عدد من الأحزاب والجمعيات على قاعدة الإيمان بالديمقراطية، وضرورة عودة "الشرعية الدستورية"، ومن أجل إنقاذ تونس من أزمتها السياسية والاقتصادية. وقد أكد الشابي في تصريحاته أن من أهم شروط الالتحاق بهذا التحالف الجديد هو رفض الإقصاء أو الاستئصال لأي طرف سياسي أو جمعياتي.
وتضم "جبهة الخلاص الوطني" عشر مجموعات أهمها خمسة أحزاب هي: حركة النهضة، وائتلاف الكرامة، وحزب قلب تونس (نبيل القروي)، وحراك تونس الإرادة (منصف المرزوقي)، وحزب أمل وهو حزب أحمد نجيب الشابي نفسه. بالإضافة إلى مجموعات من الحراك ومنها: "مواطنون ضد الانقلاب"، و"توانسة من أجل الديمقراطية"، واللقاء الوطني للإنقاذ (نجيب الشابي).
ومن الواضح أن لقاء الغنوشي بالسفير الفرنسي يهدف إلى ضمان الاستقرار السياسي للدولة، وضمان مصالح فرنسا، وهي رسالة فرنسية لثني قيس سعيد عن تصفية الأحزاب، وبخاصة في ظل ما يتردد من إمكانية إقدام سعيِّد على إصدار مرسوم بحل الأحزاب، وبخاصة حركة النهضة ووضع قادتها في السجن أو في الإقامة الجبرية.
وقد تم تأكيد هذه الرسالة إلى قيس سعيد من خلال سلسلة من اللقاءات عقدت بعد ذلك بين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وبين عدد من السفراء، منها اللقاء مع القائمة بأعمال السفارة الأميركية في تونس نتاشا فرانشسكي، والسفيرة البريطانية هيلين ونترتن، والسفير الإيطالي لورانزو فانارا. وهذا يدل على أن هناك حرصًا غربيًّا وإجماعًا حول الاستقرار السياسي في تونس، التي مثلت شرارة "الثورات العربية" والتي استنفدت مبررات وجودها واستمرارها. وبالتالي فإن فرنسا التي دعمت انقلاب سعيد وأميركا التي لم تعارضه أصبحتا اليوم تتخوفان على مصالحهما من الإجراءات التي يسير فيها سعيد، والتي عطلت الحياة الدستورية والسياسية في ظل حصار دولي مضروب على كل خطوط التمويل للاقتصاد التونسي. وفي هذا السياق، ومن منطلق إسقاط "خيار الإسلاميين" في الحكم، وتحوطًا من تغول حركة النهضة على الحكم وباقي الأحزاب، دفعت فرنسا مدعومة بأميركا وبريطانيا وبقية الدول الغربية ذات العلاقة بتونس بأحمد نجيب الشابي لتحقيق التوازن "العلماني المعتدل" مع حركة النهضة، ومعالجة انسداد الأفق السياسي، وتفريغ احتقان الشعب.
وبهذا المعنى فإن "جبهة الخلاص الوطني" التي أعلن عن تأسيسها رسميا قبل أيام، والتي يقودها أحمد نجيب الشابي، إنما تمثل بديلًا سياسيًا غربي المنشأ لتهميش أي دور قيادي لحركة النهضة داخل صفوف المعارضة. حيث طرحت "جبهة الخلاص" برنامج إنقاذ وطني يؤسس لمخرجات "منتدى الحوار الوطني" الذي أُسند إنشاؤه لصلاح الدين الجورشي، والذي يُعرف بأنه محسوب على ما يسمى بتيار "اليسار الإسلامي". وعلى مقتضى برنامج الإنقاذ الوطني سوف يتم إنشاء حكومة إنقاذ مؤقتة تتولى إدارة المرحلة وتمهد لانتخابات عامة "تشريعية ورئاسية".
وكما يبدو فإن رفع الغرب غطاءه السياسي عن قيس سعيد، قد مثل فرصة لروسيا لمد الجسور معه، لتحقيق ما وصلت إليه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومع الرئيس السوري بشار الأسد، سيما وأن أميركا لا تمانع من الوجود الروسي في مناطق نفوذها والنفوذ الفرنسي متى اقتضت المصلحة، نحو تفكيك العلاقة الفرنسية الروسية من بوابة التصادم الروسي مع فرنسا ومزاحمتها في إفريقيا التي تمثل مركز التنبه السياسي والرافد الاقتصادي للفرنسيين. وفي هذا السياق اعتزم وزير الخارجية لافروف زيارة تونس ثم عدل عنها تلافيًا لإغضاب فرنسا في ظل الصراع الروسي الأميركي في أوكرانيا. فيما اعلنت السفارة الأميركية في اليوم الذي أجل فيه لافروف زيارته إلى تونس عن زيارة "مساعدة وزير الخارجية بالإنابة المكلفة بشؤون الشرق الأدنى يائيل لمبرت، إلى تونس والتي استغرقت يومين للتأكيد على "التزام الولايات المتحدة بدعم الشعب التونسي والحاجة إلى عملية إصلاح سياسي واقتصادي شفافة تشمل الجميع وتمثل مختلف الأطياف التونسية"، وذلك وفق بيان السفارة الأميركية والذي يتطابق مع تحركات السفير الفرنسي، ومساعي "جبهة الخلاص الوطني التونسية". وقد جاء ذلك كله في ظل أنباء عن اعتزام الرئيس قيس سعيد زيارة روسيا وفي ظل انتقادات أميركية لأدائه السياسي. وهو ما يؤكد تخبطه وأزمته بعد أن فقد الغطاء السياسي الخارجي وجنح إلى رهانات خاسرة، بما في ذلك ما أشيع عن علاقته بأعمال التخريب المفتعلة وفزاعة "الإرهاب" في الجنوب.
ونخلص من ذلك ألى أن هناك مساعٍ غربيةً متناغمة لإعادة ضبط البوصلة السياسية في الداخل التونسي وتهميش قيس سعيد الذي عطلت إجراءاته العمل المؤسسي، والاستعاضة عنه بجبهة الخلاص الوطني لإدارة الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة وذلك بمقتضى الواقع الذي لم يعد معه الخروج من الانسداد وتفريغ الاحتقان الشعبي والحفاظ على المصالح الغربية إلا من خارج القصر الرئاسي.
وهكذا يجلب العملاء تدخلات الدول الأجنبية إلى بلادهم؛ لضبط النظام وتسييره وفقًا لمصالحها، وعلى خلاف مصلحة أهل البلاد، المبتلين بهؤلاء الحكام والسياسيين.
ولم يكن للدول الأجنبية أن تحقق غاياتها في بلادنا، لو كانت الأمة تتمتع بالوعي السياسي، وتدرك من هم أعداؤها الطامعون في بلادها الناهبون لمقدراتها، وما هي مخططاتهم التي ينفذونها في بلادهم، وما هي القوى التي تستند في وجودها للأجنبي، ويتخذ منها أدوات لتنفيذ مخططاته، لكشفها وحرقها. ولا يكفي وجود أفراد يتمتعون بالوعي السياسي لتجنيب الأمة الكوارث، أو ليحفظها من الانزلاق، مهما كثر عدد الأفراد الواعين في الأمّة، ما داموا أفرادًا. بل يجب أن يوجد الوعي في الأمّة بمجموعها وإن كان لا ضرورة لأن يوجد فيها جميعها؛ لأن هذا وحده هو الذي يعصم الأمة والبلاد من كيد وخطر الدول الأجنبية الطامعة في بلادهم ومقدراتهم.
5/ذو القعدة/1443هـ
5/6/2022م