Abu Taqi
11-05-2022, 01:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
قراءة في خطاب بوتين ومسار الأزمة الروسية الأوكرانية
في خطابه السنوي لذكرى انتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية أول أمس 9 أيار/مايو، وهو احتفال سنوي مهم، لطالما استغله بوتين خلال فترة حكمه لتأكيد تواجد روسيا كقوة عسكرية عالمية وازنة ومتقدمة، ربط الرئيس الروسي بوتين "روح النصر" والتضحيات "للحرب الوطنية الكبرى" السابقة بوطنية روسيا اليوم وصراعها من أجل بقائها عنصرًا سياسيًّا وعسكريًّا على المستوى الدولي. مؤكدًا على صوابية قرار روسيا في خوض الحرب في أوكرانيا، وأنه قرار دولة سيادية وقوية ومستقلة.
حيث أكد الرئيس بوتين مركزية أوكرانيا في الفكر القومي الأرثوذكسي الذي بنى عليه سياسته الداخلية والخارجية، وحمل خطابه عدة رسائل تنطوي على مضامين للداخل والخارج. فقد مجَّدَ عددًا من المعارك المهمة في المدن الأوكرانية خلال "الحرب الوطنية الكبرى"، مؤكداً أن المعركة الحالية هي تواصل تاريخي، وقال: "كمثل تلك الأيام فأنتم تقاتلون من أجل قومنا في الدونباس ومن أجل أمن وطننا؛ روسيا الأم". كما قام بإلقاء اللوم على أميركا وأوكرانيا والناتو معللاً إقدامه على الحرب بالمؤشرات الأمنية التي وصلته ومنها "الاستعدادات الأوكرانية لهجوم على الدونباس...وتطلعات كييف للحصول على أسلحة نووية... وبدء الناتو بعمليات إدماج الدول المتاخمة لحدودنا في منظومتها العسكرية"، مضيفًا أن ذلك "أضحى تهديدًا غير مقبول... فقامت روسيا بضربة استباقية ضد هذا الاعتداء... وهو قرار دولة سيادية وقوية ومستقلة".
وقد جاءت هذه التصريحات للرئيس الروسي في ظل تصعيد واشنطن للأزمة من خلال مواصلة العقوبات ودعمها المتواصل لأوكرانيا، والذي يتضح من تقدم البيت الأبيض للكونغرس بطلب دعم عسكري وتمويل لأوكرانيا بـ ظ£ظ£ مليار دولار إضافية، وتفعيل بايدن في نفس اليوم الذي ألقى فيه بوتين خطابه لقانون يعود تاريخه إلى الحرب العالمية الثانية كان قد صمم لدعم أوكرانيا ضد هتلر يسمح بتسريع إرسال المعدات العسكرية لأوكرانيا.
ويتضح التصعيد الأميركي أيضًا بدعم جهود زيلينسكي الرامية لتأليب الرأي العام الأوروبي ضد كل دولة وجهة وشركة تتعامل مع روسيا باستخدام أشد الألفاظ مثل "أيديكم ملطخة بدمائنا"، ووضعه عراقيلَ تمنع الوصول إلى حل يمنح بوتين طوق نجاة، أو يجنب أوروبا التهديد الأمني الروسي، نحو تمسك زيلينسكي بكامل التراب الأوكراني بما في ذلك شبه جزيرة القرم. كما يتضح ذلك في استنباح أميركا لرئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجيته للتحريض على روسيا واستفزازها، والضغط على أوروبا لتقبل العقوبات على روسيا في مجال الطاقة، وفضح صحيفة التلغراف البريطانية تعاون فرنسا وألمانيا مع روسيا ودعمها لوجستيًّا مثل المناظير الحرارية للدبابات وأنظمة الملاحة للطائرات الحربية، ويتضح أيضًا من تصريح السكرتير العام للناتو عقب خطاب بوتين أن الناتو "يقف بثبات بجانب أوكرانيا وسنستمر في مساندة حقها في الدفاع عن نفسها"، وهي نفس كلمات وزير الخارجية الأميركي توني بلنكين، والتي أفادت بإعطاء الضوء الأخضر لزيلينسكي بالتصعيد وتوسيع رقعة الحرب خارج أوكرانيا، ويؤكد ذلك استمرار تزويد الجيش الأوكراني بأدوات الصمود والأسلحة الهجومية النوعية، والمعلومات الاستخبارية التي مكنت الجيش الأوكراني من إغراق السفينة الروسية (موسكفا)، ويؤكد ذلك أيضًا تحريك الولايات المتحدة ملف المنطقة الانفصالية في جمهورية ملدوفا (ترانسنستريا) المتاخمة لأوكرانيا والمحتلة من قبل الروس، وذلك عبر التوترات الأمنية في المنطقة الانفصالية، والحشود العسكرية على طرفي الحدود، والسلوك الاستفزازي من طرف الحكومة الملدوفية لروسيا، من خلال تحول ملدوفا إلى جسر إمداد عسكري لأوكرانيا، ومن خلال إعلان الغرب عن حزمة مساعدات عسكرية لملدوفا، ومنع الحكومة الملدوفية من الاحتفال بيوم النصر الروسي الذي اعتادت عليه كل عام.
وقد مكنت الأزمة الأوكرانية أميركا حتى الآن من تنفيذ جملة من الإجراءات لعزل روسيا وضرب إسفين في علاقتها مع أوروبا، وتفعيل الدول الأعضاء في الناتو وتطوير منظوماتهم العسكرية بزيادة حجم الإنفاق العسكري، والذي ركزت على تحقيقه عدة إدارات أميركية، ولا أدل على ذلك من عزم ألمانيا ضخ قرابة ظ،ظ*ظ* مليار يورو بشكل طارئ في ميزانية الدفاع، وإقرار قانون زيادة الإنفاق السنوي الى ظ¢ظھ من الدخل الوطني، وهو الأمر الذي شرعت فيه إيطاليا على حد سواء. بالإضافة إلى استصدار قرارٍ أوروبيٍّ بخصوص أمن الطاقة الأوروبي عبر سياسة تقليص اعتمادها على الطاقة الروسية، وفتح السوق الأوروبي أمام إمدادات الغاز المسال من أميركا، والذي غطى ارتفاع أسعار الغاز خلال الأزمة كلفة نقله. كما أعطت أميركا لأوكرانيا منصة تسليح بأحدث المعدات العسكرية الأميركية لاختبار قدرات أسلحتها في مواجهة الأسلحة الروسية ومنها صواريخ جافلين وستينجر. واختبار قدراتها الاستخباراتية، ومنها منح أوكرانيا إحداثيات السفن البحرية الروسية والتي نتج عنها إغراق الطراد موسكوفا، وأنباء عن استهداف وتعطيل الفرقاطة ماراكوف، واستهداف القادة العسكريين الروس. كما اختبرت قدرة "المتعاونين"، أو ما يسموْن بـ"المخربين" البيلاروسيين، في تنفيذ أعمال مساندة نحو تعطيل سلاسل التوريد وخطوط الإمداد للقوات الروسية على جبهة كييف.
من جهة أخرى فإن جملة العقوبات على روسيا قد بدأت في التأثير على سير عملياتها العسكرية، حيث علقت وزارة الدفاع البريطانية على استهلاك الجيش الروسي لكميات كبيرة من الذخيرة المتقدمة، والتي يعتمد كثير منها على قطع غيار ومكونات أوروبية والتي مُنع تصديرها، ويتلخص ذلك كله في تصريح لوزير الدفاع البريطاني "بين واليس" والذي أكد سياسة الغرب تجاه الأزمة بقوله: "إن إخفاق بوتين في أوكرانيا هي ركيزة سياستنا، إلا أنه يجب علينا ألا نفقد رؤيتنا للمكون الأساس، وهو أن يكون الخيار لأوكرانيا كيف تنهي الحرب أو تفرض على روسيا إنهاء الحرب وبأي طريقة"، وهو ما يعبر عن إصرار بريطاني أميركي على إرغام روسيا وأوروبا معًا على قواعد اللعبة السياسية والأمنية الجديدة. وذلك عن طريق منح أوكرانيا كافة الوسائل التي تمكنها من استنزاف روسيا وإرغامها على الإخفاق عبر تسليح وتدريب القوات الأوكرانية؛ لتفرض واقعًا على أرض المعركة حتى تصبح "هذه الحرب لا يمكن لروسيا أن تكسبها بأي صورة ذات مغزى"، وبحيث تضطر معها إلى اختيار أقل الأضرار من بين ألوان الخسارة، والتي من شأنها أن تقود روسيا إلى طريق مسدود والانتقال للخطة (ج)، والتي تستوجب تركيز عملياتها العسكرية في منطقة دونباس وجنوب أوكرانيا، وحتى ميناء أوديسا في الجنوب الغربي، وخلق منطقة عازلة وقطع الإمداد الغربي، وهو الهدف الأميركي الذي يُقزّم الأهداف الروسية.
كما أن دفع الولايات المتحدة لبوتين إلى الخطة (ج) يحقق الهدف الذي تتوسل منه أميركا تشكيل البيئة الأمنية المناسبة لبقاء حلف الناتو وتحكمه في القرار السيادي الأوروبي، وهو بقاء روسيا فزاعة للدول الأوروبية. لا سيما وأن ما تريد الولايات المتحدة أن تنتهي إليه الحرب في ظل معاندة بوتين للإرادة الأميركية، هو إرغامه على التمسك بمنطقة دونباس والقرم؛ وجعل ذلك منتهى أمانيه لتبقى معه أوكرانيا بؤرة توتر على حدود أوروبا الشرقية، وتبقى روسيا مصدر قلق وتوتر وإفزاع لأوروبا بواسطة حرب الاستنزاف، أو من خلال إخضاع بوتين وتسخيره لهذا الغرض.
وفي هذا السياق تمكنت أميركا من شراء الوقت وهو عامل ثمين في معطيات الحرب، وأجبرت الدول الغربية على تمويل أوكرانيا وتسليحها بما يلزم لحرب الاستنزاف في الشرق الأوكراني، وهيأتهم للبيئة الأمنية الجديدة والتي ستضمن بقاءهم تحت العباءة الأميركية ومظلتها النووية. ولعل استفزازات أميركا لبوتين ودفعه للتلويح بالسلاح النووي عبر تسريب خبر تزويد المخابرات الأميركية للجيش الأوكراني بإحداثيات السفن الروسية ومواقع الجنرالات الروس في الميدان، واستفزازات جونسون لروسيا عبر زيارته لأوكرانيا تندرج في هذا السياق. وهو ما يعني أن التخطيط الأميركي للمعركة سيُلجئ بوتين للبقاء عسكريًّا واقتياده إلى حرب استنزاف مدمرة، كما سيبقي أوكرانيا بؤرة توتر تفرض على الدول الأوروبية السير خلف الولايات المتحدة ولو على حساب مصالحها. وهذا ما يفسر مخاوف ماكرون وتقديمه مقترحًا بإنشاء تكتل أوروبي موازٍ للاتحاد، يهدف إلى تحصين الموقف الأوروبي بشأن أية نزاعات روسية مع الدول الأوروبية المجاورة مثل جورجيا وأوكرانيا وملدوفا، ويحول دون التصادم المباشر بين أوروبا وروسيا والذي ينعكس على المصالح الأوروبية وبخاصة في مجال الطاقة، ويهدف أيضًا إلى الالتفاف على مشروع ضم الدول المثير لقلق روسيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ويصبح الاتحاد الموازي بديلًا عن ذلك كله، ويسد ذرائع الولايات المتحدة في اقتياد أوروبا لما تريده، رغم حرصه على أن يعطي أميركا ما تريد بشأن (حرب النماذج) عبر تحديد (الديمقراطية والحريات والقانون) كالتزامات للاتحاد الأوروبي الموازي. ذلك أن أميركا تقوم برسم الحدود الجيوسياسية والقيمية التي تعيد تعريف "الغرب"، وتجعله أداة سياسية دولية في حرب النماذج السياسية والاقتصادية والقيمية، والبدء في إدماج أوروبا في المعركة المحتملة مع الصين.
ويتضح من خطاب بوتين وإن أظهر ثقة بالنفس، ثقل العقوبات الغربية غير المسبوقة على روسيا، وحجم الضغط الدولي والحرج الداخلي على القيادة الروسية، وبخاصة بعد توتر العلاقة بين روسيا و"إسرائيل" بسبب تصريحات لافروف اللاذعة والخارجة عن الدبلوماسية التقليدية. ويتضح أيضًا أن القيادة الروسية مأزومة، وأن هامش المناورة لديها ضيق ومحدود. وفي الجانب المقابل فإنه بدا واضحًا أن أوروبا مقيدة ومضطربة وفاقدة للإرادة؛ حيث خضعت لأميركا رغم أن مصالحها الاستراتيجية والجيوسياسية مع روسيا وليس مع أميركا، ورغم عدم قدرتها على التخلي عن الطاقة الروسية في الوقت الراهن على الأقل، حيث تعتمد على واردات غاز تزيد عن ظ،ظ¥ظ* مليار متر مكعب سنويًّا، بينما تستطيع أميركا تزويدها بـ10 مليارات متر مكعب فقط.
وعليه فإن مسار الأزمة الأوكرانية الروسية في ظل التفوق الأميركي وتنوع عناصر قوته، وفي ظل اعتماد بوتين على القوة العسكرية الغاشمة وقدرته على لجم المعارضة الداخلية، يتجه نحو الاستمرار وإرغام بوتين على إحدى هذه الخيارات: إما الهزيمة الكاملة والعزلة الدولية، أو الاستنزاف أو الخضوع، وهو الأمر الذي من شأنه إن خضع له بوتين أن يُعطّل مفاعيل القوة العسكرية الروسية وركنها الشديد، ويكسر صمت الشعب الروسي ويقوض أركان النظام وإرادته، ويفكك الكتلة الصلبة المؤيدة لبوتين تمهيدًا لإسقاطه والإمساك بلجام روسيا وتحجيمها ونهب مواردها وإدارة علاقتها مع أوروبا، وتحييدها في أي نزاع محتمل مع الصين.
10/شوال/1443هـ
11/5/2022م
متابعة سياسية
قراءة في خطاب بوتين ومسار الأزمة الروسية الأوكرانية
في خطابه السنوي لذكرى انتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية أول أمس 9 أيار/مايو، وهو احتفال سنوي مهم، لطالما استغله بوتين خلال فترة حكمه لتأكيد تواجد روسيا كقوة عسكرية عالمية وازنة ومتقدمة، ربط الرئيس الروسي بوتين "روح النصر" والتضحيات "للحرب الوطنية الكبرى" السابقة بوطنية روسيا اليوم وصراعها من أجل بقائها عنصرًا سياسيًّا وعسكريًّا على المستوى الدولي. مؤكدًا على صوابية قرار روسيا في خوض الحرب في أوكرانيا، وأنه قرار دولة سيادية وقوية ومستقلة.
حيث أكد الرئيس بوتين مركزية أوكرانيا في الفكر القومي الأرثوذكسي الذي بنى عليه سياسته الداخلية والخارجية، وحمل خطابه عدة رسائل تنطوي على مضامين للداخل والخارج. فقد مجَّدَ عددًا من المعارك المهمة في المدن الأوكرانية خلال "الحرب الوطنية الكبرى"، مؤكداً أن المعركة الحالية هي تواصل تاريخي، وقال: "كمثل تلك الأيام فأنتم تقاتلون من أجل قومنا في الدونباس ومن أجل أمن وطننا؛ روسيا الأم". كما قام بإلقاء اللوم على أميركا وأوكرانيا والناتو معللاً إقدامه على الحرب بالمؤشرات الأمنية التي وصلته ومنها "الاستعدادات الأوكرانية لهجوم على الدونباس...وتطلعات كييف للحصول على أسلحة نووية... وبدء الناتو بعمليات إدماج الدول المتاخمة لحدودنا في منظومتها العسكرية"، مضيفًا أن ذلك "أضحى تهديدًا غير مقبول... فقامت روسيا بضربة استباقية ضد هذا الاعتداء... وهو قرار دولة سيادية وقوية ومستقلة".
وقد جاءت هذه التصريحات للرئيس الروسي في ظل تصعيد واشنطن للأزمة من خلال مواصلة العقوبات ودعمها المتواصل لأوكرانيا، والذي يتضح من تقدم البيت الأبيض للكونغرس بطلب دعم عسكري وتمويل لأوكرانيا بـ ظ£ظ£ مليار دولار إضافية، وتفعيل بايدن في نفس اليوم الذي ألقى فيه بوتين خطابه لقانون يعود تاريخه إلى الحرب العالمية الثانية كان قد صمم لدعم أوكرانيا ضد هتلر يسمح بتسريع إرسال المعدات العسكرية لأوكرانيا.
ويتضح التصعيد الأميركي أيضًا بدعم جهود زيلينسكي الرامية لتأليب الرأي العام الأوروبي ضد كل دولة وجهة وشركة تتعامل مع روسيا باستخدام أشد الألفاظ مثل "أيديكم ملطخة بدمائنا"، ووضعه عراقيلَ تمنع الوصول إلى حل يمنح بوتين طوق نجاة، أو يجنب أوروبا التهديد الأمني الروسي، نحو تمسك زيلينسكي بكامل التراب الأوكراني بما في ذلك شبه جزيرة القرم. كما يتضح ذلك في استنباح أميركا لرئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجيته للتحريض على روسيا واستفزازها، والضغط على أوروبا لتقبل العقوبات على روسيا في مجال الطاقة، وفضح صحيفة التلغراف البريطانية تعاون فرنسا وألمانيا مع روسيا ودعمها لوجستيًّا مثل المناظير الحرارية للدبابات وأنظمة الملاحة للطائرات الحربية، ويتضح أيضًا من تصريح السكرتير العام للناتو عقب خطاب بوتين أن الناتو "يقف بثبات بجانب أوكرانيا وسنستمر في مساندة حقها في الدفاع عن نفسها"، وهي نفس كلمات وزير الخارجية الأميركي توني بلنكين، والتي أفادت بإعطاء الضوء الأخضر لزيلينسكي بالتصعيد وتوسيع رقعة الحرب خارج أوكرانيا، ويؤكد ذلك استمرار تزويد الجيش الأوكراني بأدوات الصمود والأسلحة الهجومية النوعية، والمعلومات الاستخبارية التي مكنت الجيش الأوكراني من إغراق السفينة الروسية (موسكفا)، ويؤكد ذلك أيضًا تحريك الولايات المتحدة ملف المنطقة الانفصالية في جمهورية ملدوفا (ترانسنستريا) المتاخمة لأوكرانيا والمحتلة من قبل الروس، وذلك عبر التوترات الأمنية في المنطقة الانفصالية، والحشود العسكرية على طرفي الحدود، والسلوك الاستفزازي من طرف الحكومة الملدوفية لروسيا، من خلال تحول ملدوفا إلى جسر إمداد عسكري لأوكرانيا، ومن خلال إعلان الغرب عن حزمة مساعدات عسكرية لملدوفا، ومنع الحكومة الملدوفية من الاحتفال بيوم النصر الروسي الذي اعتادت عليه كل عام.
وقد مكنت الأزمة الأوكرانية أميركا حتى الآن من تنفيذ جملة من الإجراءات لعزل روسيا وضرب إسفين في علاقتها مع أوروبا، وتفعيل الدول الأعضاء في الناتو وتطوير منظوماتهم العسكرية بزيادة حجم الإنفاق العسكري، والذي ركزت على تحقيقه عدة إدارات أميركية، ولا أدل على ذلك من عزم ألمانيا ضخ قرابة ظ،ظ*ظ* مليار يورو بشكل طارئ في ميزانية الدفاع، وإقرار قانون زيادة الإنفاق السنوي الى ظ¢ظھ من الدخل الوطني، وهو الأمر الذي شرعت فيه إيطاليا على حد سواء. بالإضافة إلى استصدار قرارٍ أوروبيٍّ بخصوص أمن الطاقة الأوروبي عبر سياسة تقليص اعتمادها على الطاقة الروسية، وفتح السوق الأوروبي أمام إمدادات الغاز المسال من أميركا، والذي غطى ارتفاع أسعار الغاز خلال الأزمة كلفة نقله. كما أعطت أميركا لأوكرانيا منصة تسليح بأحدث المعدات العسكرية الأميركية لاختبار قدرات أسلحتها في مواجهة الأسلحة الروسية ومنها صواريخ جافلين وستينجر. واختبار قدراتها الاستخباراتية، ومنها منح أوكرانيا إحداثيات السفن البحرية الروسية والتي نتج عنها إغراق الطراد موسكوفا، وأنباء عن استهداف وتعطيل الفرقاطة ماراكوف، واستهداف القادة العسكريين الروس. كما اختبرت قدرة "المتعاونين"، أو ما يسموْن بـ"المخربين" البيلاروسيين، في تنفيذ أعمال مساندة نحو تعطيل سلاسل التوريد وخطوط الإمداد للقوات الروسية على جبهة كييف.
من جهة أخرى فإن جملة العقوبات على روسيا قد بدأت في التأثير على سير عملياتها العسكرية، حيث علقت وزارة الدفاع البريطانية على استهلاك الجيش الروسي لكميات كبيرة من الذخيرة المتقدمة، والتي يعتمد كثير منها على قطع غيار ومكونات أوروبية والتي مُنع تصديرها، ويتلخص ذلك كله في تصريح لوزير الدفاع البريطاني "بين واليس" والذي أكد سياسة الغرب تجاه الأزمة بقوله: "إن إخفاق بوتين في أوكرانيا هي ركيزة سياستنا، إلا أنه يجب علينا ألا نفقد رؤيتنا للمكون الأساس، وهو أن يكون الخيار لأوكرانيا كيف تنهي الحرب أو تفرض على روسيا إنهاء الحرب وبأي طريقة"، وهو ما يعبر عن إصرار بريطاني أميركي على إرغام روسيا وأوروبا معًا على قواعد اللعبة السياسية والأمنية الجديدة. وذلك عن طريق منح أوكرانيا كافة الوسائل التي تمكنها من استنزاف روسيا وإرغامها على الإخفاق عبر تسليح وتدريب القوات الأوكرانية؛ لتفرض واقعًا على أرض المعركة حتى تصبح "هذه الحرب لا يمكن لروسيا أن تكسبها بأي صورة ذات مغزى"، وبحيث تضطر معها إلى اختيار أقل الأضرار من بين ألوان الخسارة، والتي من شأنها أن تقود روسيا إلى طريق مسدود والانتقال للخطة (ج)، والتي تستوجب تركيز عملياتها العسكرية في منطقة دونباس وجنوب أوكرانيا، وحتى ميناء أوديسا في الجنوب الغربي، وخلق منطقة عازلة وقطع الإمداد الغربي، وهو الهدف الأميركي الذي يُقزّم الأهداف الروسية.
كما أن دفع الولايات المتحدة لبوتين إلى الخطة (ج) يحقق الهدف الذي تتوسل منه أميركا تشكيل البيئة الأمنية المناسبة لبقاء حلف الناتو وتحكمه في القرار السيادي الأوروبي، وهو بقاء روسيا فزاعة للدول الأوروبية. لا سيما وأن ما تريد الولايات المتحدة أن تنتهي إليه الحرب في ظل معاندة بوتين للإرادة الأميركية، هو إرغامه على التمسك بمنطقة دونباس والقرم؛ وجعل ذلك منتهى أمانيه لتبقى معه أوكرانيا بؤرة توتر على حدود أوروبا الشرقية، وتبقى روسيا مصدر قلق وتوتر وإفزاع لأوروبا بواسطة حرب الاستنزاف، أو من خلال إخضاع بوتين وتسخيره لهذا الغرض.
وفي هذا السياق تمكنت أميركا من شراء الوقت وهو عامل ثمين في معطيات الحرب، وأجبرت الدول الغربية على تمويل أوكرانيا وتسليحها بما يلزم لحرب الاستنزاف في الشرق الأوكراني، وهيأتهم للبيئة الأمنية الجديدة والتي ستضمن بقاءهم تحت العباءة الأميركية ومظلتها النووية. ولعل استفزازات أميركا لبوتين ودفعه للتلويح بالسلاح النووي عبر تسريب خبر تزويد المخابرات الأميركية للجيش الأوكراني بإحداثيات السفن الروسية ومواقع الجنرالات الروس في الميدان، واستفزازات جونسون لروسيا عبر زيارته لأوكرانيا تندرج في هذا السياق. وهو ما يعني أن التخطيط الأميركي للمعركة سيُلجئ بوتين للبقاء عسكريًّا واقتياده إلى حرب استنزاف مدمرة، كما سيبقي أوكرانيا بؤرة توتر تفرض على الدول الأوروبية السير خلف الولايات المتحدة ولو على حساب مصالحها. وهذا ما يفسر مخاوف ماكرون وتقديمه مقترحًا بإنشاء تكتل أوروبي موازٍ للاتحاد، يهدف إلى تحصين الموقف الأوروبي بشأن أية نزاعات روسية مع الدول الأوروبية المجاورة مثل جورجيا وأوكرانيا وملدوفا، ويحول دون التصادم المباشر بين أوروبا وروسيا والذي ينعكس على المصالح الأوروبية وبخاصة في مجال الطاقة، ويهدف أيضًا إلى الالتفاف على مشروع ضم الدول المثير لقلق روسيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ويصبح الاتحاد الموازي بديلًا عن ذلك كله، ويسد ذرائع الولايات المتحدة في اقتياد أوروبا لما تريده، رغم حرصه على أن يعطي أميركا ما تريد بشأن (حرب النماذج) عبر تحديد (الديمقراطية والحريات والقانون) كالتزامات للاتحاد الأوروبي الموازي. ذلك أن أميركا تقوم برسم الحدود الجيوسياسية والقيمية التي تعيد تعريف "الغرب"، وتجعله أداة سياسية دولية في حرب النماذج السياسية والاقتصادية والقيمية، والبدء في إدماج أوروبا في المعركة المحتملة مع الصين.
ويتضح من خطاب بوتين وإن أظهر ثقة بالنفس، ثقل العقوبات الغربية غير المسبوقة على روسيا، وحجم الضغط الدولي والحرج الداخلي على القيادة الروسية، وبخاصة بعد توتر العلاقة بين روسيا و"إسرائيل" بسبب تصريحات لافروف اللاذعة والخارجة عن الدبلوماسية التقليدية. ويتضح أيضًا أن القيادة الروسية مأزومة، وأن هامش المناورة لديها ضيق ومحدود. وفي الجانب المقابل فإنه بدا واضحًا أن أوروبا مقيدة ومضطربة وفاقدة للإرادة؛ حيث خضعت لأميركا رغم أن مصالحها الاستراتيجية والجيوسياسية مع روسيا وليس مع أميركا، ورغم عدم قدرتها على التخلي عن الطاقة الروسية في الوقت الراهن على الأقل، حيث تعتمد على واردات غاز تزيد عن ظ،ظ¥ظ* مليار متر مكعب سنويًّا، بينما تستطيع أميركا تزويدها بـ10 مليارات متر مكعب فقط.
وعليه فإن مسار الأزمة الأوكرانية الروسية في ظل التفوق الأميركي وتنوع عناصر قوته، وفي ظل اعتماد بوتين على القوة العسكرية الغاشمة وقدرته على لجم المعارضة الداخلية، يتجه نحو الاستمرار وإرغام بوتين على إحدى هذه الخيارات: إما الهزيمة الكاملة والعزلة الدولية، أو الاستنزاف أو الخضوع، وهو الأمر الذي من شأنه إن خضع له بوتين أن يُعطّل مفاعيل القوة العسكرية الروسية وركنها الشديد، ويكسر صمت الشعب الروسي ويقوض أركان النظام وإرادته، ويفكك الكتلة الصلبة المؤيدة لبوتين تمهيدًا لإسقاطه والإمساك بلجام روسيا وتحجيمها ونهب مواردها وإدارة علاقتها مع أوروبا، وتحييدها في أي نزاع محتمل مع الصين.
10/شوال/1443هـ
11/5/2022م