Abu Taqi
19-03-2022, 05:49 PM
بسم اللهالرحيم
متابعة سياسية
تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا
لم تعد أهداف كل من أميركا وروسيا خافية بشأن الحرب على أوكرانيا، حيث أن بوتين الذي أدرك أن أميركا إنما تجره لعمل عسكري من خلال رفضها تقديم أية ضمانات لروسيا بعدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وعدم تسليح أوكرانيا، أو وضع أية أسلحة أطلسية على أراضيها بشكل يهدد الأمن القومي الروسي، كان يرغب بحرب خاطفة يسقط فيها حكومة زلينسكي، أو يجبرها على اتفاق يحول دون توسع حلف شمال الأطلسي، وينتفع منه أيضًا في تعزيز شعبيته في الداخل وهيبة روسيا إقليميًّا ودوليًّا، ويفرض أمرًا واقعًا لا تملك معه فرنسا وألمانيا الاستجابة للضغوط الأميركية لحاجتهم إلى الطاقة الروسية. غير أن أميركا ومعها بريطانيا، بالإضافة إلى فرنسا التي يواجه فيها ماكرون صعوبات انتخابية في هذه الفترة، وألمانيا بعد رحيل ميركل، كان لهم حسابات وترتيبات مختلفة، ولهذا غمز بوتين بكل من فرنسا وألمانيا في خطابه الأخير وأشار إلى انحنائهما للولايات المتحدة، وهو ما لن يقبله لروسيا بحسب وصفه.
وأمام هذا الواقع الذي لم تسعف فيه الرهانات الروسية بوتين وجد نفسه مضطرًا إلى مواصلة التصعيد العسكري بغرض السيطرة وتقطيع أوصال أوكرانيا ومحاصرة المدن وضرب معاقل القوميين المناوئين لروسيا، وذلك في محاولة منه لتحصيل اتفاق يعرقل المخطط الأميركي بشأن المجال الحيوي الروسي وأمن الطاقة والأمن الأوروبي، ويفرض حياد أوكرانيا في الناحية الجيوستراتيجية على الأقل، لا سيما وأن معركته مع أوكرانيا إنما هي في الحقيقة معركة مع الولايات المتحدة التي سخرت الحكومة الأوكرانية لتحقيق أهدافها، وهو الأمر الذي لم يخفه الرئيس الأوكراني عندما قبل بمناقشة (حياد أوكرانيا)؛ أي أنه يعترف بتبعيته للولايات المتحدة وعدم حياده. فكان على بوتين والحالة هذه أن يتخذ قرار الحرب عاجلًا رغم كل التكاليف؛ لأن القبول بعضوية أوكرانيا في الحلف الأطلسي وتبنيها النموذج الغربي الليبرالي في الحكم والاقتصاد والاجتماع سوف ينقل التآكل من المجال الحيوي الروسي إلى الداخل الروسي نفسه، وهو ما قدمت له أميركا عبر حرب الشيشان، واختراق الوسط السياسي الروسي بصورة أوشكت أن تضع روسيا في مصاف الدول التابعة، وأن تفقد ثرواتها بالكامل عبر نهج الخصخصة التي نفذها رجال أميركا في روسيا أمثال كرينيكو وتشوبايس.
ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده فلاديمير بوتين في الأول من شباط/فبراير الماضي صرَّح قائلًا: "ما زلت أعتقد أن الولايات المتحدة ليست قلقة بشأن أمن أوكرانيا، على الرغم من أنهم ربما يفكرون به على الهامش. إن هدفها الرئيسي هو احتواء تطور روسيا ونموها. هذا كل ما في الأمر. وبهذا المعنى، فإن أوكرانيا هي مجرد أداة للوصول إلى هذا الهدف. يمكن القيام بذلك بطرق مختلفة: من خلال جرنا إلى بعض النزاعات المسلحة، أو إجبار حلفائها في أوروبا على فرض عقوبات صارمة علينا كما تتحدث الولايات المتحدة اليوم".
ورغم إدراك بوتين أن أميركا لم تترك له خيارًا سوى غزو أوكرانيا، لكن ذلك لا يعني أنه سوف يسير في الفخ الأميركي إلى منتهاه؛ وإنما وضع أهدافًا من شأنها استعادة أوكرانيا إلى التبعية الروسية أو تحييدها مهما بلغت التكاليف. مع العلم بأن رهانات روسيا منذ زمن الاتحاد السوفييتي لم تُسعفها أمام النفوذ الأميركي الواسع، والذي لا تكفي القوة العسكرية وحدها في مواجهته. ولا أدل على ذلك من الفخ الأميركي لروسيا في أفغانستان، حيث كشف مستشار الأمن القومي بريجنسكي عام 1998 في مقابلة مع مجلة "المراقب الجديد" الفرنسية، بأن وكالة المخابرات المركزية الأميركية نصبت فخًا لموسكو من خلال تسليح المجاهدين لمحاربة الحكومة المدعومة من السوفييت في كابول قبل ستة أشهر من الغزو الروسي لأفغانستان.
وأما رهان بوتين على الصين فلم يسعفه لأن الصين ترتبط مصلحيًّا مع أميركا وأوروبا أكثر من ارتباطها بروسيا، وهي تحاول أن توازن في العلاقة بين روسيا والغرب في الوقت الذي يحتاج فيه بوتين عدم حيادها، وهذا ما تدركه الولايات المتحدة وجعلها تحذر الصين بأنه "من غير المسموح لها أن تساعد روسيا". وبالتالي لم يبق لبوتين من رهان سوى تحصين الجبهة الداخلية، ولهذا تعرض في خطابه الأخير إلى "الطابور الخامس" ووصفهم بـ"الحشرات" التي علقت بالفم وطالب الشعب بـ"بصقهم"، كما تناول رهانات الغرب على العقوبات وعلى تضخيم الخسائر العسكرية الروسية، وطالب الشعب بإعلاء السيادة القومية الروسية على المنافع الفردية. مما يدل على وجود خيانة واختراق أميركي في الدائرة الضيقة من رجاله، ويدل أيضًا بأنه سيواصل معركته مع أميركا بالاعتماد على التصعيد العسكري وفرض حياد أوكرانيا بالقوة أو بحل وسط يحفظ ماء وجهه. وفي هذا الصدد لا يُستبعد أن تسمح أميركا باتفاق لوقف إطلاق النار وهو ما ألمح إليه الرئيس الأوكراني بقوله أنه "منفتح على الحوار إزاء القرم ودونيتسك ولوهانسك"، وبخاصة وأن أميركا حققت ما تريد، وإن إطالة الحرب يزيد المكاسب الأميركية ويُضعف بوتين ويدفعه إلى الإفراط في استعمال القوة وزيادة هلع الأوروبيين منه. وبالتالي فإن أي اتفاق يوقف الحرب لن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وسيترك أوكرانيا تحت التهديد لإبقاء أوروبا في حالة قلق دائم يُغذي المخاوف الأوروبية، سيما وأن الدمار الروسي للمدن الأوكرانية والتهديد النووي الروسي يعيد أوروبا بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية وأهوالها. وكل ذلك يصب في مصلحة الولايات المتحدة، حيث أدت الحرب الأوكرانية إلى رفع الميزانيات العسكرية لكل من ألمانيا وإيطاليا لتتوافق مع مطالبات أميركا لأعضاء الناتو، وهو الأمر الذي تُرجم في عدد من عقود مشتريات الأسلحة الأميركية لتشمل طائرات إف ٣٥ وأنظمة الدفاع الصاروخي ثاد، الذي استعرضته الولايات المتحدة في الإمارات مؤخرًا؛ لاسقاط صواريخ الحوثي. كما تُرجم في عقود شراء صواريخ جافلين المضادة للدبابات.
وهكذا فإن أميركا تُرغم الأوروبيين أن يدفعوا ثمن المظلة الأمنية الأميركية مما يسمح لأميركا أيضًا أن توجه إنفاقها لأغراض الهيمنة في أماكن أخرى من العالم.
وأما تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا ففي الحقيقة إن كلًا من أميركا وروسيا دول محاربة للمسلمين فعلًا، ورغم اختلافهما في المصالح لكنهما تُجمعان مع بقية دول العالم الرأسمالي على منع المسلمين من التحرر. وهذا الواقع الذي تضاربت فيه المصالح الغربية وإن كان لا يخلو من فائدة للمسلمين، إلا إنه لا يُؤمل منه فكاك الأمة الإسلامية من تسلط القوى الدولية المحاربة والطامعة في بلادهم. ذلك أن تحقيق بوتين لأهدافه لن يحول دون تغول أميركا على العالم وعلى المسلمين بوجه خاص، لا سيما وأن بوتين لا يتطلع إلى منافسة أميركا في العالم، بل أثبت غير مرة أنه إلى جانب الولايات المتحدة في عدوانها على المسلمين ونهب ثرواتهم، إذ سمح لأميركا باستخدام القواعد العسكرية الروسية وأجواء مجال روسيا الحيوي لضرب أفغانستان، كما وتواطأ معها على منع سقوط نظام بشار الأسد وإخماد "الثورة في سوريا"، وهذا علاوة على أن فوز بوتين بالحرب سيردع دول وسط آسيا المسلمة عن التفكير بالتحرر.
وأما الولايات المتحدة فقد حققت ما تريد منذ تحرك روسيا العسكري لغزو أوكرانيا، حيث حشدت الدول الأوروبية خلفها وأجبرت الصين على قدر من الحياد في هذه المعركة على الأقل، وبخاصة وأن للصين مصلحة في العقوبات على روسيا، كما وأعادت أميركا تعريف "الغرب"، وصياغة العلاقات مع أوروبا، على أساس تنحية الخلافات السياسية والمصالح الاقتصادية جانبًا بمقتضى القيم "الديمقراطية الليبرالية المشتركة". بالإضافة إلى تحقيق الولايات المتحدة الهدف الأهم على صعيد التحكم بأوروبا من خلال حلف الناتو وبتمويل أوروبي وأسلحة أميركية، ومن خلال تجسيد الخطر على أمن الطاقة في أوروبا، في الحرب الروسية على أوكرانيا، وتفكيك ثقة أوروبا ببوتين وبخاصة بعد رحيل ميركل عن الحكم، والتي أصرت على مشروع نوردستريم2 وحسن العلاقة مع روسيا.
وذلك أن فطم أوروبا عن الطاقة الروسية يُضعف العلاقة بينهما، ويعمق حالة عدم اليقين والتهديدات الروسية لأوروبا، ويجعل مناطق النفوذ الأميركي في أفريقيا والشرق الأوسط مصدرًا للطاقة الأوروبية، وحينها لا مفر للدول الأوروبية من الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة في مواجهة التهديد الروسي وأمن القارة الأوروبية وموارد الطاقة إليها.
وفي هذا السياق يجري تحريك الاتفاق الأميركي الإيراني في جنيف، ومعالجة الموقف السياسي في ليبيا، وتسليك العلاقات بين الولايات المتحدة وفنزويلا تمهيدًا لإعادتهم إلى سوق الطاقة العالمي، وتحريك منظمة الأوبك نحو رفع الإنتاج لضبط أسعار النفط والغاز، بالإضافة إلى سحب الصين باتجاه السعودية حيث تزامنت دعوة ابن سلمان للرئيس الصيني لزيارة السعودية مع محاولات روسيا الاستناد إلى الصين اقتصاديًّا وماليًّا ودبلوماسيًّا. ولا شك أن تحرك ابن سلمان كان بإيعاز أميركي بغرض تحييد الصين في هذه المرحلة، وإبعادها عن روسيا في مجال الطاقة، وتوجيهها نحو الخليج من أجل التحكم بأمنها الطاقي.
وبرغم أن هذه الحرب قد جددت ذاكرة المسلمين ونبهت للوجه الغربي العنصري البشع، بل ونبهت إلى خذلان الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين لإخوانهم في أفغانستان وبورما وكشمير وفلسطين وسوريا والعراق، وفضحت جبن الحكام الذين لم يجرؤوا على التعاطف مع شعوبهم والانتصار لهم كما انتصر قادة الغرب لأوكرانيا، وبرغم أن تخريب الكفار لديارهم بأيديهم يداعب مشاعر الانتقام لدى المسلمين ممن بطش بهم، لكن نتائج هذه الحرب لن تُغير من طبيعة المواجهة بين المسلمين وأعدائهم في العالم أجمع. إذ إنه لن تتغير أحوالهم ويؤثروا في العلاقات الدولية حتى يُغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى:{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
ولا بد أن يحذر المسلمون في ظل الاستراتيجية الأميركية نحو روسيا والصين من تسخيرهم مجددًا كحطب حرب وحشوة مدافع باسم الجهاد في سبيل الله. إذ من الملاحظ أن الغرب الرأسمالي وصناع القرار في الولايات المتحدة تجتاحهم موجة هستيريا مدفوعة بالجشع والأنانية، ولا يُستبعد أن يُلقوا بكل أسلحتهم في صراعاتهم بما في ذلك إحياء الجهاد وزج المسلمين في محرقة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فتذكير المسلمين بتاريخهم في أوكرانيا ودعوة مفتي أوكرانيا المسلمين للجهاد ضد روسيا، وزعم مفتي روسيا بشرعية الحرب الروسية، وتسليط أميركا الضوء على مظلمة الإيغور المسلمين في الصين كل ذلك ليس بريئًا. ولا يُلدغ المسلم من جحر واحد مرتين.
16/شعبان/1443هـ
19/3/2022م
متابعة سياسية
تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا
لم تعد أهداف كل من أميركا وروسيا خافية بشأن الحرب على أوكرانيا، حيث أن بوتين الذي أدرك أن أميركا إنما تجره لعمل عسكري من خلال رفضها تقديم أية ضمانات لروسيا بعدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وعدم تسليح أوكرانيا، أو وضع أية أسلحة أطلسية على أراضيها بشكل يهدد الأمن القومي الروسي، كان يرغب بحرب خاطفة يسقط فيها حكومة زلينسكي، أو يجبرها على اتفاق يحول دون توسع حلف شمال الأطلسي، وينتفع منه أيضًا في تعزيز شعبيته في الداخل وهيبة روسيا إقليميًّا ودوليًّا، ويفرض أمرًا واقعًا لا تملك معه فرنسا وألمانيا الاستجابة للضغوط الأميركية لحاجتهم إلى الطاقة الروسية. غير أن أميركا ومعها بريطانيا، بالإضافة إلى فرنسا التي يواجه فيها ماكرون صعوبات انتخابية في هذه الفترة، وألمانيا بعد رحيل ميركل، كان لهم حسابات وترتيبات مختلفة، ولهذا غمز بوتين بكل من فرنسا وألمانيا في خطابه الأخير وأشار إلى انحنائهما للولايات المتحدة، وهو ما لن يقبله لروسيا بحسب وصفه.
وأمام هذا الواقع الذي لم تسعف فيه الرهانات الروسية بوتين وجد نفسه مضطرًا إلى مواصلة التصعيد العسكري بغرض السيطرة وتقطيع أوصال أوكرانيا ومحاصرة المدن وضرب معاقل القوميين المناوئين لروسيا، وذلك في محاولة منه لتحصيل اتفاق يعرقل المخطط الأميركي بشأن المجال الحيوي الروسي وأمن الطاقة والأمن الأوروبي، ويفرض حياد أوكرانيا في الناحية الجيوستراتيجية على الأقل، لا سيما وأن معركته مع أوكرانيا إنما هي في الحقيقة معركة مع الولايات المتحدة التي سخرت الحكومة الأوكرانية لتحقيق أهدافها، وهو الأمر الذي لم يخفه الرئيس الأوكراني عندما قبل بمناقشة (حياد أوكرانيا)؛ أي أنه يعترف بتبعيته للولايات المتحدة وعدم حياده. فكان على بوتين والحالة هذه أن يتخذ قرار الحرب عاجلًا رغم كل التكاليف؛ لأن القبول بعضوية أوكرانيا في الحلف الأطلسي وتبنيها النموذج الغربي الليبرالي في الحكم والاقتصاد والاجتماع سوف ينقل التآكل من المجال الحيوي الروسي إلى الداخل الروسي نفسه، وهو ما قدمت له أميركا عبر حرب الشيشان، واختراق الوسط السياسي الروسي بصورة أوشكت أن تضع روسيا في مصاف الدول التابعة، وأن تفقد ثرواتها بالكامل عبر نهج الخصخصة التي نفذها رجال أميركا في روسيا أمثال كرينيكو وتشوبايس.
ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده فلاديمير بوتين في الأول من شباط/فبراير الماضي صرَّح قائلًا: "ما زلت أعتقد أن الولايات المتحدة ليست قلقة بشأن أمن أوكرانيا، على الرغم من أنهم ربما يفكرون به على الهامش. إن هدفها الرئيسي هو احتواء تطور روسيا ونموها. هذا كل ما في الأمر. وبهذا المعنى، فإن أوكرانيا هي مجرد أداة للوصول إلى هذا الهدف. يمكن القيام بذلك بطرق مختلفة: من خلال جرنا إلى بعض النزاعات المسلحة، أو إجبار حلفائها في أوروبا على فرض عقوبات صارمة علينا كما تتحدث الولايات المتحدة اليوم".
ورغم إدراك بوتين أن أميركا لم تترك له خيارًا سوى غزو أوكرانيا، لكن ذلك لا يعني أنه سوف يسير في الفخ الأميركي إلى منتهاه؛ وإنما وضع أهدافًا من شأنها استعادة أوكرانيا إلى التبعية الروسية أو تحييدها مهما بلغت التكاليف. مع العلم بأن رهانات روسيا منذ زمن الاتحاد السوفييتي لم تُسعفها أمام النفوذ الأميركي الواسع، والذي لا تكفي القوة العسكرية وحدها في مواجهته. ولا أدل على ذلك من الفخ الأميركي لروسيا في أفغانستان، حيث كشف مستشار الأمن القومي بريجنسكي عام 1998 في مقابلة مع مجلة "المراقب الجديد" الفرنسية، بأن وكالة المخابرات المركزية الأميركية نصبت فخًا لموسكو من خلال تسليح المجاهدين لمحاربة الحكومة المدعومة من السوفييت في كابول قبل ستة أشهر من الغزو الروسي لأفغانستان.
وأما رهان بوتين على الصين فلم يسعفه لأن الصين ترتبط مصلحيًّا مع أميركا وأوروبا أكثر من ارتباطها بروسيا، وهي تحاول أن توازن في العلاقة بين روسيا والغرب في الوقت الذي يحتاج فيه بوتين عدم حيادها، وهذا ما تدركه الولايات المتحدة وجعلها تحذر الصين بأنه "من غير المسموح لها أن تساعد روسيا". وبالتالي لم يبق لبوتين من رهان سوى تحصين الجبهة الداخلية، ولهذا تعرض في خطابه الأخير إلى "الطابور الخامس" ووصفهم بـ"الحشرات" التي علقت بالفم وطالب الشعب بـ"بصقهم"، كما تناول رهانات الغرب على العقوبات وعلى تضخيم الخسائر العسكرية الروسية، وطالب الشعب بإعلاء السيادة القومية الروسية على المنافع الفردية. مما يدل على وجود خيانة واختراق أميركي في الدائرة الضيقة من رجاله، ويدل أيضًا بأنه سيواصل معركته مع أميركا بالاعتماد على التصعيد العسكري وفرض حياد أوكرانيا بالقوة أو بحل وسط يحفظ ماء وجهه. وفي هذا الصدد لا يُستبعد أن تسمح أميركا باتفاق لوقف إطلاق النار وهو ما ألمح إليه الرئيس الأوكراني بقوله أنه "منفتح على الحوار إزاء القرم ودونيتسك ولوهانسك"، وبخاصة وأن أميركا حققت ما تريد، وإن إطالة الحرب يزيد المكاسب الأميركية ويُضعف بوتين ويدفعه إلى الإفراط في استعمال القوة وزيادة هلع الأوروبيين منه. وبالتالي فإن أي اتفاق يوقف الحرب لن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وسيترك أوكرانيا تحت التهديد لإبقاء أوروبا في حالة قلق دائم يُغذي المخاوف الأوروبية، سيما وأن الدمار الروسي للمدن الأوكرانية والتهديد النووي الروسي يعيد أوروبا بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية وأهوالها. وكل ذلك يصب في مصلحة الولايات المتحدة، حيث أدت الحرب الأوكرانية إلى رفع الميزانيات العسكرية لكل من ألمانيا وإيطاليا لتتوافق مع مطالبات أميركا لأعضاء الناتو، وهو الأمر الذي تُرجم في عدد من عقود مشتريات الأسلحة الأميركية لتشمل طائرات إف ٣٥ وأنظمة الدفاع الصاروخي ثاد، الذي استعرضته الولايات المتحدة في الإمارات مؤخرًا؛ لاسقاط صواريخ الحوثي. كما تُرجم في عقود شراء صواريخ جافلين المضادة للدبابات.
وهكذا فإن أميركا تُرغم الأوروبيين أن يدفعوا ثمن المظلة الأمنية الأميركية مما يسمح لأميركا أيضًا أن توجه إنفاقها لأغراض الهيمنة في أماكن أخرى من العالم.
وأما تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا ففي الحقيقة إن كلًا من أميركا وروسيا دول محاربة للمسلمين فعلًا، ورغم اختلافهما في المصالح لكنهما تُجمعان مع بقية دول العالم الرأسمالي على منع المسلمين من التحرر. وهذا الواقع الذي تضاربت فيه المصالح الغربية وإن كان لا يخلو من فائدة للمسلمين، إلا إنه لا يُؤمل منه فكاك الأمة الإسلامية من تسلط القوى الدولية المحاربة والطامعة في بلادهم. ذلك أن تحقيق بوتين لأهدافه لن يحول دون تغول أميركا على العالم وعلى المسلمين بوجه خاص، لا سيما وأن بوتين لا يتطلع إلى منافسة أميركا في العالم، بل أثبت غير مرة أنه إلى جانب الولايات المتحدة في عدوانها على المسلمين ونهب ثرواتهم، إذ سمح لأميركا باستخدام القواعد العسكرية الروسية وأجواء مجال روسيا الحيوي لضرب أفغانستان، كما وتواطأ معها على منع سقوط نظام بشار الأسد وإخماد "الثورة في سوريا"، وهذا علاوة على أن فوز بوتين بالحرب سيردع دول وسط آسيا المسلمة عن التفكير بالتحرر.
وأما الولايات المتحدة فقد حققت ما تريد منذ تحرك روسيا العسكري لغزو أوكرانيا، حيث حشدت الدول الأوروبية خلفها وأجبرت الصين على قدر من الحياد في هذه المعركة على الأقل، وبخاصة وأن للصين مصلحة في العقوبات على روسيا، كما وأعادت أميركا تعريف "الغرب"، وصياغة العلاقات مع أوروبا، على أساس تنحية الخلافات السياسية والمصالح الاقتصادية جانبًا بمقتضى القيم "الديمقراطية الليبرالية المشتركة". بالإضافة إلى تحقيق الولايات المتحدة الهدف الأهم على صعيد التحكم بأوروبا من خلال حلف الناتو وبتمويل أوروبي وأسلحة أميركية، ومن خلال تجسيد الخطر على أمن الطاقة في أوروبا، في الحرب الروسية على أوكرانيا، وتفكيك ثقة أوروبا ببوتين وبخاصة بعد رحيل ميركل عن الحكم، والتي أصرت على مشروع نوردستريم2 وحسن العلاقة مع روسيا.
وذلك أن فطم أوروبا عن الطاقة الروسية يُضعف العلاقة بينهما، ويعمق حالة عدم اليقين والتهديدات الروسية لأوروبا، ويجعل مناطق النفوذ الأميركي في أفريقيا والشرق الأوسط مصدرًا للطاقة الأوروبية، وحينها لا مفر للدول الأوروبية من الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة في مواجهة التهديد الروسي وأمن القارة الأوروبية وموارد الطاقة إليها.
وفي هذا السياق يجري تحريك الاتفاق الأميركي الإيراني في جنيف، ومعالجة الموقف السياسي في ليبيا، وتسليك العلاقات بين الولايات المتحدة وفنزويلا تمهيدًا لإعادتهم إلى سوق الطاقة العالمي، وتحريك منظمة الأوبك نحو رفع الإنتاج لضبط أسعار النفط والغاز، بالإضافة إلى سحب الصين باتجاه السعودية حيث تزامنت دعوة ابن سلمان للرئيس الصيني لزيارة السعودية مع محاولات روسيا الاستناد إلى الصين اقتصاديًّا وماليًّا ودبلوماسيًّا. ولا شك أن تحرك ابن سلمان كان بإيعاز أميركي بغرض تحييد الصين في هذه المرحلة، وإبعادها عن روسيا في مجال الطاقة، وتوجيهها نحو الخليج من أجل التحكم بأمنها الطاقي.
وبرغم أن هذه الحرب قد جددت ذاكرة المسلمين ونبهت للوجه الغربي العنصري البشع، بل ونبهت إلى خذلان الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين لإخوانهم في أفغانستان وبورما وكشمير وفلسطين وسوريا والعراق، وفضحت جبن الحكام الذين لم يجرؤوا على التعاطف مع شعوبهم والانتصار لهم كما انتصر قادة الغرب لأوكرانيا، وبرغم أن تخريب الكفار لديارهم بأيديهم يداعب مشاعر الانتقام لدى المسلمين ممن بطش بهم، لكن نتائج هذه الحرب لن تُغير من طبيعة المواجهة بين المسلمين وأعدائهم في العالم أجمع. إذ إنه لن تتغير أحوالهم ويؤثروا في العلاقات الدولية حتى يُغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى:{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
ولا بد أن يحذر المسلمون في ظل الاستراتيجية الأميركية نحو روسيا والصين من تسخيرهم مجددًا كحطب حرب وحشوة مدافع باسم الجهاد في سبيل الله. إذ من الملاحظ أن الغرب الرأسمالي وصناع القرار في الولايات المتحدة تجتاحهم موجة هستيريا مدفوعة بالجشع والأنانية، ولا يُستبعد أن يُلقوا بكل أسلحتهم في صراعاتهم بما في ذلك إحياء الجهاد وزج المسلمين في محرقة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فتذكير المسلمين بتاريخهم في أوكرانيا ودعوة مفتي أوكرانيا المسلمين للجهاد ضد روسيا، وزعم مفتي روسيا بشرعية الحرب الروسية، وتسليط أميركا الضوء على مظلمة الإيغور المسلمين في الصين كل ذلك ليس بريئًا. ولا يُلدغ المسلم من جحر واحد مرتين.
16/شعبان/1443هـ
19/3/2022م