Abu Taqi
01-03-2022, 04:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
التحول الاستراتيجي في الموقف الألماني
حيال الأمن الأوروبي والعلاقة مع روسيا
في خطاب وصف بأنه خطاب تاريخي يمثل نقلة نوعية في السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز يوم الأحد ظ¢ظ§ شباط/فبراير في خطاب للبرلمان الألماني في جلسة خاصة، عن زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي وصفه بأنه "نقطة تحول في تاريخ قارتنا" متجاوزًا بذلك نموذج الأمن الأوروبي القائم منذ معاهدة هيلسنكي الختامية قبل نصف قرن، مما يعني أن العالم بعد اليوم "لن يكون مثل ما عهدناه" على حد وصفه. وأضاف أيضًا: "لا شك لدي أن بوتين يرغب في إعادة بناء الامبراطورية الروسية، وذلك بإعادة هيكلة أوروبا بما يتماشى مع رؤيته"، وقال إن ألمانيا من الآن فصاعدًا ستستثمر أكثر من 2ظھ من الناتج الاقتصادي في الدفاع، كما أعلن عن إنشاء صندوق بقيمة 100 مليار يورو (112 مليار دولار) لإعادة تجهيز الجيش، بعدما دفعت العسكرية الألمانية ثمن الوحدة الألمانية بتقليص قواتها، حيث تجردت من ظ£ظ¢ظ¥ظ* دبابة على مدى ثلاثين عامًا. وأن خططًا لتقليل اعتماد ألمانيا على روسيا لنصف احتياجاتها من الغاز ستوضع موضع تنفيذ، وهو الأمر الذي سعت إليه الولايات المتحدة والتي اعترف أحد محرري الصحف الألمانية بأنها تهيمن على كافة وسائل الإعلام الألمانية عبر منظمات أطلسية، ووصف ألمانيا بالمستعمرة الأميركية.
لا يخفى أن دعوة الولايات المتحدة الأميركية إلى الليبرالية إنما ينحصر في جانبين، هما الجانب الاقتصادي (اقتصاد السوق الحر)، والذي يمكّن رأس المال من الهيمنة على اقتصاد الدول وقرارها السياسي، والجانب السياسي الذي يُضفي الشرعية على الأنظمة التابعة لها، ويُمكّن الولايات المتحدة من التدخل بدعوى حماية "الديموقراطية". لكنها في الواقع تثير النزعة القومية الشعبوية من أجل عرقلة الدول الكبرى عن التمدد كروسيا؛ لأن القومية لا تصلح رسالة تحملها الدولة الكبرى للأمم والشعوب الأخرى، باعتبار أنها تهدف إلى بسط السيادة القومية الآدمية على غيرها، وهو ما تقاومه الشعوب، ولهذا فشل هتلر في غزوه لروسيا وأوروبا. كما أن دعم أميركا للشعبوية يُسهم في تفكيك الدول وإضعافها وإثارة المشاكل بينها ويُسهل السيطرة عليها، بالإضافة إلى أنها تبرر التدخل في الدول تحت بند حماية الأقليات. وفي هذا السياق تدعم الولايات المتحدة القوميات في مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، بل وفي داخل الاتحاد الروسي نفسه، على نحو ما جرى في الشيشان. كما تدعم الشعبوية في أوروبا وإحياء العسكرية الألمانية ومفاهيم العظمة، تمامًا كما فعلت بريطانيا في بعث القومية العربية لتفكيك الدولة العثمانية.
واللافت في الأزمة الأوكرانية هو استفزاز أميركا لبوتين من خلال حجم الدعم العسكري لأوكرانيا، وتركيز الإحاطات السياسية والإعلامية الأميركية والبريطانية خصوصًا على خسائر روسيا، وعجزها عن دخول المدن، ومن خلال التصعيد في العقوبات غير المسبوقة لاستدراج بوتين إلى التعويض عن النقص، واستعراض القوة والتلويح بالنووي وإثارة الهلع في أوروبا، ضمن استراتيجية أميركية ذات حدين تحاصر الخصم من كافة الجهات، والوصول من ذلك إلى تغيير الرؤية الألمانية للعلاقة مع روسيا، وجعل المخاوف الأمنية تعلو المصالح الاقتصادية بين البلدين وتُحيي العسكرية الألمانية تبعًا لذلك. وهذا ما يفسر لماذا تخدم بعض ردود فعل روسيا الولايات المتحدة. وفي هذا السياق لا يمكن نفي بعض جوانب التوافق الأميركي الروسي في السياسات الدولية والأمن الأوروبي والاستقرار الاستراتيجي، ولكن لا يمكن تعميم التوافق في بعض المسائل على كل شيء، وبخاصة إعادة إحياء العسكرية الألمانية التي تشكل الهاجس المركزي لروسيا عبر التاريخ. لا سيما وأن روسيا لا تريد علاقة عداوة مع ألمانيا لاعتبارات اقتصادية كبيرة، وألمانيا لا تريد ذلك بالمثل.
وبالتالي ليس هناك توافقٌ روسيٌّ أميركيٌّ بشأن أوكرانيا، بل إن هناك صراعًا حقيقيًّا. فمن خلال قراءة استراتيجية الأمن القومي الروسي سنة 2015 وسنة 2021 بالإضافة إلى رسالة بوتين الشهيرة عندما تسلم السلطة، نجد أن بوتين له تطلعات حقيقية تخص استعادة قوة روسيا وتعزيز نفوذها في مجالها الحيوي، ولديه مخاوف حقيقية من تمدد الناتو نحو الشرق. فقد تقدم بوتين في بداية سنة 2021 بطلب التوقيع على وثيقة ضمانات أمنية مع الولايات المتحدة، لكن بايدن رفضها مباشرة ووصفها بأنها متطرفة للغاية.
فبوتين يقوم بتصرفات أو يجنح إلى خيارات يعرف أنها تخدم أميركا لكنه إنما يقوم بها مجبرًا، وبالتالي لا يحدد خياراته تواطؤًا مع أميركا التي تستهدف روسيا وتهدد مستقبل بوتين نفسه، إذ إنه لا يقبل أن يتآمر على مصلحته الشخصية، أو على الأمن القومي الروسي، ويشارك في تغيير الموقف الألماني بشأن إرسال أسلحة لمناطق النزاع، ورفع حجم الميزانية الدفاعية، ودفْعِ الرئيس الألماني شولتز إلى ترك الحياد بشأن العلاقة مع روسيا، والعدوان الروسي على أوكرانيا. إن بوتين لا يريد ذلك كله ولكن الاستراتيجية الأميركية ذات الرؤوس المدببة هي التي حددت خياراته على قاعدة أقل الضررين، وقادت بوتين إلى مسلك يمهد الطريق لاستدارة أميركية وألمانية جوهرية عن ثوابتهما السياسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، تمهيدًا لتأسيس نظام أمني أوروبي تتموضع فيه ألمانيا في مواجهة روسيا بالوكالة عن أميركا، وتخطف القيادة الأوروبية من فرنسا، وبخاصة وأن ألمانيا لا تنافس أميركا وليس لها نفوذ دولي كفرنسا.
إن مشكلة روسيا التاريخية الأساسية تكمن في خطر العسكرية الألمانية التي حاصرت مدنًا روسية في الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي دعا شولتز إلى التخفيف من وطأته بقوله: "لذلك لن نسمح لهذا الصراع بين بوتين والعالم الحر بأن يؤدي إلى إعادة فتح الجراح القديمة واندلاع العداوات الجديدة". وبالتالي فإن حجم الميزانية التي أعلنها المستشار الألماني وهي 100 مليار دولار لتأهيل القوة العسكرية الألمانية، ورفع ميزانيتها العسكرية لتتوافق مع مطالب ظ¢ظھ من الدخل القومي، وتصريحات الساسة و بعض القادة العسكريين الألمان حول عجز ألمانيا العسكري، يشي بسعي الولايات المتحدة إلى فرض استراتيجية أمنية خطيرة تحيي المشاعر القومية الألمانية، وتهدد روسيا وتعود بالأرباح على شركات الأسلحة الأميركية، وغيرها من الصناعات. ولهذا يعتبر لوبي الصناعات العسكرية أكثر الضاغطين على الإدارة الأميركية في التعاطي مع الملف الروسي وعسكرة النزاعات الدولية. وهذا يدل على أن أميركا تسعى بالفعل إلى إسناد دور ألماني مركزي في الأمن الأوروبي، وفي إطار الناتو، الذي سترتفع ميزانيته، ووضع ألمانيا في مواجهة روسيا لردعها، من أجل تفرغ أميركا للتحدي الصيني.
وفي هذا الصدد تتخذ أميركا من الحرب الروسية وسيلة لضبط النظام العالمي للتعامل مع الصين في المستقبل، ورسالة قوية إلى الصين عبر المجزرة الاقتصادية الواسعة التي ارتكبتها بحق روسيا، فيما إذا فكرت القيادة الصينية بغزو تايوان، أو تغيير النظام الأمني في المحيطين الهندي والهادئ.
كما أنها رسالة واضحة إلى المناطق والدول المهددة من قبل الصين بالتوجه إلى الحماية الأميركية ودفع الهند إلى مزيد من الانخراط في المخطط الأميركي حيال الصين.
ولذلك نجد أميركا تحاول محاصرة الصين في المحيطين الهندي والهادئ، وتحييدها من خلال مطالبتها بإدانة روسيا، ونجدها من جانب آخر تطمئن ألمانيا وأوروبا بشأن الطاقة عبر الشراكة الأميركية الأوروبية في مجال الطاقة، والتي أكدتها المفوضة كادري سيمسون بقولها سنة 2019 بأن "التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن تجارة الغاز الطبيعي المسال كان ناجحًا ويجب أن يستمر". ومن ذلك أيضًا تصريحات الجزائر مؤخرًا بأنها ملتزمة بتأمين الغاز لأوروبا، كما وتشجع أميركا الأوروبيين على الطاقة البديلة، وتسعى أيضًا إلى تأمين متطلبات الطاقة الأوكرانية في حالة قطع الطاقة عنها من روسيا من خلال ربط نظام الطاقة الأوكراني والأوروبي الذي أيدته الدول الأوروبية بالأمس، وتحويل أوكرانيا لمزرعة أوروبية للطاقة البديلة الطبيعية والنووية؛ ذلك أن الشعب الألماني يرفض إنتاج الطاقة النووية على أرضه، وبالتالي فإن فطمه عن الغاز الروسي يتطلب استغلال الطاقة النووية من أوكرانيا.
ومن جهة أخرى نجد أن بريطانيا تشجع مواقف الألمان وتحولهم للعسكرة لإضعاف فرنسا، في محاولة منها للتصيّد الرخيص في الماء القذر، وحجز موقع متقدم في الأمن الأوروبي، وإثبات قصر رؤية فرنسا القاضية بـ(موت الناتو دماغيًّا)، وهي التي تلوذ بالصمت إزاء التحول الألماني بسبب ضغط الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، وعجز ماكرون عن فعل شيء يُذكر بشأنها سوى استجداء بوتين، وعجزه كذلك بشأن التهديد الروسي لأوروبا وتبخُّر فكرته حيال الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن أميركا، وبخاصة وأن عزل روسيا دوليًّا من شأنه أن يخلق فراغًا ترجو بريطانيا ملأه.
من جانبه فإن بوتين وكما يبدو يواجه مقاومة وخطأ حسابات في أوكرانيا، تتطلب رفع مستوى القوة، ويريد أن يحذر دول الناتو من التمادي في دعمهم العسكري لأوكرانيا، إذ إن الغرب قد جس نبض بوتين بالدعم العسكري الذي قدمه لأوكرانيا ليخلق أرضية تؤسس لخطوات أبعد، وتحقق اختراقًا للناتو نحو فرض حظر جوي غرب أوكرانيا، ونحو الحديث عن تسريع ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، وزرع أسلحة وقوات عسكرية على الأراضي الأوكرانية، التي تُعدُ أقرب نقطة للعاصمة الروسية. وفي هذا السياق يمكن قراءة تصريحات بوتين وتهديداته ومخاوفه، ولذلك تتركز العمليات العسكرية الروسية في الشرق والجنوب على طول الساحل الأوكراني على البحر الأسود وصولًا إلى الحدود الأوكرانية الرومانية والحدود الأوكرانية الملدوفية التي تسيطر عليها روسيا منذ استقلال جمهورية ملدوفا عبر إقليم ترانسنستريا؛ وذلك لعزل أوكرانيا عن أوروبا باستثناء الحدود البولندية الأوكرانية، مع مواصلة تقطيع أوصال أوكرانيا والتحضير لإسقاط العاصمة كييف وفرض الاستسلام على حكومتها، تمهيدًا لتغييرها بأخرى موالية لروسيا.
28/رجب/1443هـ
1/3/2022م
متابعة سياسية
التحول الاستراتيجي في الموقف الألماني
حيال الأمن الأوروبي والعلاقة مع روسيا
في خطاب وصف بأنه خطاب تاريخي يمثل نقلة نوعية في السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز يوم الأحد ظ¢ظ§ شباط/فبراير في خطاب للبرلمان الألماني في جلسة خاصة، عن زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي وصفه بأنه "نقطة تحول في تاريخ قارتنا" متجاوزًا بذلك نموذج الأمن الأوروبي القائم منذ معاهدة هيلسنكي الختامية قبل نصف قرن، مما يعني أن العالم بعد اليوم "لن يكون مثل ما عهدناه" على حد وصفه. وأضاف أيضًا: "لا شك لدي أن بوتين يرغب في إعادة بناء الامبراطورية الروسية، وذلك بإعادة هيكلة أوروبا بما يتماشى مع رؤيته"، وقال إن ألمانيا من الآن فصاعدًا ستستثمر أكثر من 2ظھ من الناتج الاقتصادي في الدفاع، كما أعلن عن إنشاء صندوق بقيمة 100 مليار يورو (112 مليار دولار) لإعادة تجهيز الجيش، بعدما دفعت العسكرية الألمانية ثمن الوحدة الألمانية بتقليص قواتها، حيث تجردت من ظ£ظ¢ظ¥ظ* دبابة على مدى ثلاثين عامًا. وأن خططًا لتقليل اعتماد ألمانيا على روسيا لنصف احتياجاتها من الغاز ستوضع موضع تنفيذ، وهو الأمر الذي سعت إليه الولايات المتحدة والتي اعترف أحد محرري الصحف الألمانية بأنها تهيمن على كافة وسائل الإعلام الألمانية عبر منظمات أطلسية، ووصف ألمانيا بالمستعمرة الأميركية.
لا يخفى أن دعوة الولايات المتحدة الأميركية إلى الليبرالية إنما ينحصر في جانبين، هما الجانب الاقتصادي (اقتصاد السوق الحر)، والذي يمكّن رأس المال من الهيمنة على اقتصاد الدول وقرارها السياسي، والجانب السياسي الذي يُضفي الشرعية على الأنظمة التابعة لها، ويُمكّن الولايات المتحدة من التدخل بدعوى حماية "الديموقراطية". لكنها في الواقع تثير النزعة القومية الشعبوية من أجل عرقلة الدول الكبرى عن التمدد كروسيا؛ لأن القومية لا تصلح رسالة تحملها الدولة الكبرى للأمم والشعوب الأخرى، باعتبار أنها تهدف إلى بسط السيادة القومية الآدمية على غيرها، وهو ما تقاومه الشعوب، ولهذا فشل هتلر في غزوه لروسيا وأوروبا. كما أن دعم أميركا للشعبوية يُسهم في تفكيك الدول وإضعافها وإثارة المشاكل بينها ويُسهل السيطرة عليها، بالإضافة إلى أنها تبرر التدخل في الدول تحت بند حماية الأقليات. وفي هذا السياق تدعم الولايات المتحدة القوميات في مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، بل وفي داخل الاتحاد الروسي نفسه، على نحو ما جرى في الشيشان. كما تدعم الشعبوية في أوروبا وإحياء العسكرية الألمانية ومفاهيم العظمة، تمامًا كما فعلت بريطانيا في بعث القومية العربية لتفكيك الدولة العثمانية.
واللافت في الأزمة الأوكرانية هو استفزاز أميركا لبوتين من خلال حجم الدعم العسكري لأوكرانيا، وتركيز الإحاطات السياسية والإعلامية الأميركية والبريطانية خصوصًا على خسائر روسيا، وعجزها عن دخول المدن، ومن خلال التصعيد في العقوبات غير المسبوقة لاستدراج بوتين إلى التعويض عن النقص، واستعراض القوة والتلويح بالنووي وإثارة الهلع في أوروبا، ضمن استراتيجية أميركية ذات حدين تحاصر الخصم من كافة الجهات، والوصول من ذلك إلى تغيير الرؤية الألمانية للعلاقة مع روسيا، وجعل المخاوف الأمنية تعلو المصالح الاقتصادية بين البلدين وتُحيي العسكرية الألمانية تبعًا لذلك. وهذا ما يفسر لماذا تخدم بعض ردود فعل روسيا الولايات المتحدة. وفي هذا السياق لا يمكن نفي بعض جوانب التوافق الأميركي الروسي في السياسات الدولية والأمن الأوروبي والاستقرار الاستراتيجي، ولكن لا يمكن تعميم التوافق في بعض المسائل على كل شيء، وبخاصة إعادة إحياء العسكرية الألمانية التي تشكل الهاجس المركزي لروسيا عبر التاريخ. لا سيما وأن روسيا لا تريد علاقة عداوة مع ألمانيا لاعتبارات اقتصادية كبيرة، وألمانيا لا تريد ذلك بالمثل.
وبالتالي ليس هناك توافقٌ روسيٌّ أميركيٌّ بشأن أوكرانيا، بل إن هناك صراعًا حقيقيًّا. فمن خلال قراءة استراتيجية الأمن القومي الروسي سنة 2015 وسنة 2021 بالإضافة إلى رسالة بوتين الشهيرة عندما تسلم السلطة، نجد أن بوتين له تطلعات حقيقية تخص استعادة قوة روسيا وتعزيز نفوذها في مجالها الحيوي، ولديه مخاوف حقيقية من تمدد الناتو نحو الشرق. فقد تقدم بوتين في بداية سنة 2021 بطلب التوقيع على وثيقة ضمانات أمنية مع الولايات المتحدة، لكن بايدن رفضها مباشرة ووصفها بأنها متطرفة للغاية.
فبوتين يقوم بتصرفات أو يجنح إلى خيارات يعرف أنها تخدم أميركا لكنه إنما يقوم بها مجبرًا، وبالتالي لا يحدد خياراته تواطؤًا مع أميركا التي تستهدف روسيا وتهدد مستقبل بوتين نفسه، إذ إنه لا يقبل أن يتآمر على مصلحته الشخصية، أو على الأمن القومي الروسي، ويشارك في تغيير الموقف الألماني بشأن إرسال أسلحة لمناطق النزاع، ورفع حجم الميزانية الدفاعية، ودفْعِ الرئيس الألماني شولتز إلى ترك الحياد بشأن العلاقة مع روسيا، والعدوان الروسي على أوكرانيا. إن بوتين لا يريد ذلك كله ولكن الاستراتيجية الأميركية ذات الرؤوس المدببة هي التي حددت خياراته على قاعدة أقل الضررين، وقادت بوتين إلى مسلك يمهد الطريق لاستدارة أميركية وألمانية جوهرية عن ثوابتهما السياسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، تمهيدًا لتأسيس نظام أمني أوروبي تتموضع فيه ألمانيا في مواجهة روسيا بالوكالة عن أميركا، وتخطف القيادة الأوروبية من فرنسا، وبخاصة وأن ألمانيا لا تنافس أميركا وليس لها نفوذ دولي كفرنسا.
إن مشكلة روسيا التاريخية الأساسية تكمن في خطر العسكرية الألمانية التي حاصرت مدنًا روسية في الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي دعا شولتز إلى التخفيف من وطأته بقوله: "لذلك لن نسمح لهذا الصراع بين بوتين والعالم الحر بأن يؤدي إلى إعادة فتح الجراح القديمة واندلاع العداوات الجديدة". وبالتالي فإن حجم الميزانية التي أعلنها المستشار الألماني وهي 100 مليار دولار لتأهيل القوة العسكرية الألمانية، ورفع ميزانيتها العسكرية لتتوافق مع مطالب ظ¢ظھ من الدخل القومي، وتصريحات الساسة و بعض القادة العسكريين الألمان حول عجز ألمانيا العسكري، يشي بسعي الولايات المتحدة إلى فرض استراتيجية أمنية خطيرة تحيي المشاعر القومية الألمانية، وتهدد روسيا وتعود بالأرباح على شركات الأسلحة الأميركية، وغيرها من الصناعات. ولهذا يعتبر لوبي الصناعات العسكرية أكثر الضاغطين على الإدارة الأميركية في التعاطي مع الملف الروسي وعسكرة النزاعات الدولية. وهذا يدل على أن أميركا تسعى بالفعل إلى إسناد دور ألماني مركزي في الأمن الأوروبي، وفي إطار الناتو، الذي سترتفع ميزانيته، ووضع ألمانيا في مواجهة روسيا لردعها، من أجل تفرغ أميركا للتحدي الصيني.
وفي هذا الصدد تتخذ أميركا من الحرب الروسية وسيلة لضبط النظام العالمي للتعامل مع الصين في المستقبل، ورسالة قوية إلى الصين عبر المجزرة الاقتصادية الواسعة التي ارتكبتها بحق روسيا، فيما إذا فكرت القيادة الصينية بغزو تايوان، أو تغيير النظام الأمني في المحيطين الهندي والهادئ.
كما أنها رسالة واضحة إلى المناطق والدول المهددة من قبل الصين بالتوجه إلى الحماية الأميركية ودفع الهند إلى مزيد من الانخراط في المخطط الأميركي حيال الصين.
ولذلك نجد أميركا تحاول محاصرة الصين في المحيطين الهندي والهادئ، وتحييدها من خلال مطالبتها بإدانة روسيا، ونجدها من جانب آخر تطمئن ألمانيا وأوروبا بشأن الطاقة عبر الشراكة الأميركية الأوروبية في مجال الطاقة، والتي أكدتها المفوضة كادري سيمسون بقولها سنة 2019 بأن "التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن تجارة الغاز الطبيعي المسال كان ناجحًا ويجب أن يستمر". ومن ذلك أيضًا تصريحات الجزائر مؤخرًا بأنها ملتزمة بتأمين الغاز لأوروبا، كما وتشجع أميركا الأوروبيين على الطاقة البديلة، وتسعى أيضًا إلى تأمين متطلبات الطاقة الأوكرانية في حالة قطع الطاقة عنها من روسيا من خلال ربط نظام الطاقة الأوكراني والأوروبي الذي أيدته الدول الأوروبية بالأمس، وتحويل أوكرانيا لمزرعة أوروبية للطاقة البديلة الطبيعية والنووية؛ ذلك أن الشعب الألماني يرفض إنتاج الطاقة النووية على أرضه، وبالتالي فإن فطمه عن الغاز الروسي يتطلب استغلال الطاقة النووية من أوكرانيا.
ومن جهة أخرى نجد أن بريطانيا تشجع مواقف الألمان وتحولهم للعسكرة لإضعاف فرنسا، في محاولة منها للتصيّد الرخيص في الماء القذر، وحجز موقع متقدم في الأمن الأوروبي، وإثبات قصر رؤية فرنسا القاضية بـ(موت الناتو دماغيًّا)، وهي التي تلوذ بالصمت إزاء التحول الألماني بسبب ضغط الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، وعجز ماكرون عن فعل شيء يُذكر بشأنها سوى استجداء بوتين، وعجزه كذلك بشأن التهديد الروسي لأوروبا وتبخُّر فكرته حيال الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن أميركا، وبخاصة وأن عزل روسيا دوليًّا من شأنه أن يخلق فراغًا ترجو بريطانيا ملأه.
من جانبه فإن بوتين وكما يبدو يواجه مقاومة وخطأ حسابات في أوكرانيا، تتطلب رفع مستوى القوة، ويريد أن يحذر دول الناتو من التمادي في دعمهم العسكري لأوكرانيا، إذ إن الغرب قد جس نبض بوتين بالدعم العسكري الذي قدمه لأوكرانيا ليخلق أرضية تؤسس لخطوات أبعد، وتحقق اختراقًا للناتو نحو فرض حظر جوي غرب أوكرانيا، ونحو الحديث عن تسريع ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، وزرع أسلحة وقوات عسكرية على الأراضي الأوكرانية، التي تُعدُ أقرب نقطة للعاصمة الروسية. وفي هذا السياق يمكن قراءة تصريحات بوتين وتهديداته ومخاوفه، ولذلك تتركز العمليات العسكرية الروسية في الشرق والجنوب على طول الساحل الأوكراني على البحر الأسود وصولًا إلى الحدود الأوكرانية الرومانية والحدود الأوكرانية الملدوفية التي تسيطر عليها روسيا منذ استقلال جمهورية ملدوفا عبر إقليم ترانسنستريا؛ وذلك لعزل أوكرانيا عن أوروبا باستثناء الحدود البولندية الأوكرانية، مع مواصلة تقطيع أوصال أوكرانيا والتحضير لإسقاط العاصمة كييف وفرض الاستسلام على حكومتها، تمهيدًا لتغييرها بأخرى موالية لروسيا.
28/رجب/1443هـ
1/3/2022م