Abu Taqi
19-02-2022, 07:43 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
الأزمة بين روسيا وأوكرانيا
أسبابها ومساراتها
تتسارع وتيرة الأحداث بين أوكرانيا وروسيا، والتي أساسها صراعٌ عنوانُه المصالحُ الحيوية الروسية، والسياسات الغربية. إذ تراقب روسيا بحذر وقلق ما يقوم به القادة الأوكرانيون فيما يتعلق بتوجهاتهم الحالية والمستقبلية تجاه العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وكذلك مسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، بينما تنظر أوكرانيا بقلق شديد إلى ما تراه انتهاكًا لسيادتها بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وفقًا لاستفتاء مارس/آذار 2014، والتي كانت جزءًا من أراضيها قبل ذلك. وكذلك الصراع الدائر في دونباس، ولوهانسك، وهما منطقتان من أراضيها أعلنتا انفصالهما عنها بتحريض روسي، واعترف الدوما مؤخرًا باستقلال دونباس.
والجديد في هذه الأزمة، هو الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية للضغط على أوكرانيا، وتهديدها بشأن سعيها للانضمام لحلف الناتو وإرخاء أذنها للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي طرح تساؤلات ملحة، منها احتمالية انفجار الوضع وتحوله إلى حرب كبرى.
ولفهم دوافع أطراف النزاع، لا بد من معرفة بداية الأزمة، واتفاقات مينسك، والخلاف على تطبيقها، والأطراف الفاعلة، ومصالح أطراف الأزمة، وما تثيره من مسائل تتعلق بصراع الهويات والتوجهات الاستراتيجية لكل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وحول احتمالات تطور هذه الأزمة إلى صراعٍ أو حرب كبرى.
أما بداية الأزمة الحالية فتعود إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 عندما أوقف الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا في ذلك الوقت فيكتور يانوكوفيتش الاستعدادات لتنفيذ اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وما تبع ذلك من تظاهرات واحتجاجات واسعة النطاق، وتفاقم للوضع في المناطق الشرقية والجنوبية ذات الكثافة السكانية من أصول روسية داعمة للرئيس يانوكوفيتش.
ومع اشتداد الاحتجاجات المدعومة أميركيًّا، وتحولها إلى ثورة كبيرة أدت إلى عزل الرئيس في 22 شباط/فبراير 2014 من قِبل البرلمان، وفراره، وتعيين رئيس برلمان أوكرانيا ألكساندر تورتشينوف بدلًا عنه، سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم وضمتها للاتحاد الروسي في منتصف آذار/مارس 2014 في واحدة من أكبر عمليات ضم الأراضي التي عاشتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، أعقبها نشوب حرب في أوبلاست دونيتسك ولوهانسك أوبلاست بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية.
وقد ردت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على روسيا نتيجة غزوها للقرم، لكن العقوبات لم تترك أثرًا فعالًا على الاقتصاد الروسي، بل واصلت روسيا العمل على امتلاك أداة ضغط من جهة، ونافذة لبناء الثقة مع دول أوروبا لتبديد مخاوفهم الأمنية وسد ذرائع الولايات المتحدة بخصوص مخاطر العلاقة الأوروبية مع روسيا من جهة أخرى، وذلك من خلال مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي يجعل ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي رغم الصعوبات والعراقيل السياسية كالأزمة الأوكرانية التي هندستها الولايات المتحدة لمنع التفاهم الروسي الأوروبي وإبقاء حالة عدم اليقين سائدة بينهما.
والحقيقة أن روسيا تمكنت من إدارة الأزمة وتلافي التصعيد مع أوكرانيا، طيلة السنوات السابقة، إلا أن التحركات الغربية وتحريض أميركا لأوكرانيا على استفزاز روسيا بالخروقات العسكرية في الشرق والإصرار على إدخالها حلف الناتو، بل والنص عليها في دستور البلاد، كل ذلك أشعل فتيل الغضب لدى روسيا، وجعل بوتين يحشد قواته على حدود أوكرانيا من ثلاث جهات، في الشمال والشرق والجنوب، مما جعل الأزمة قابلة للانفجار متى أرادت أميركا توسيع الفجوة بين روسيا وأوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا. وهو الأمر الذي فسّره مراقبون كثيرون بأنه غزو عسكري روسي وشيك، حيث تحركت القطاعات العسكرية الروسية لآلاف الكيلو مترات، إلى الحدود الأوكرانية وشبه جزيرة القرم وجمهورية بيلاروسيا، وبأعداد تصل إلى حوالي مائتي ألف جندي بحسب واشنطن.
أما اتفاقا مينسك فلم يتم تنفيذهما فعليًّا، وبعد تصويت الدوما على استقلال دونباس، لم يعد لهما أي معنى، رغم إصرار الطرفين على تنفيذٍ كاملٍ لـ "اتفاق مينسك" لعام 2015، والذي يتضمن إضفاء الشرعية الأوكرانية على الأراضي التي مزقتها الحرب في إطار النظام السياسي لأوكرانيا كما تريد ذلك أوكرانيا، بينما تصر روسيا على استقلال دونباس، وصوتت فعليًّا على ذلك.
والدافع لهذا السلوك الروسي هو أن روسيا تستشعر الخطر فيما يتعلق بالسياسات والسلوكيات التي تنتهجها أوكرانيا، حيث تسعى روسيا لإثبات نفسها بوصفها لاعبًا جيوسياسيًّا وجيواستراتيجيًّا في منطقة لطالما اعتبرت ضمن المصالح الحيوية لها؛ من ضمنها أوكرانيا. وبالتالي إذا ما تم تهديد هذه المصالح بشكل فعلي؛ فإن روسيا قد تستخدم القوة في مواجهته، وفرض انفصال شرق وجنوب شرق أوكرانيا حتى جزيرة القرم بالقوة. كما أن روسيا قد غيّرت من رؤيتها لمصالحها في أوكرانيا، لتتعدى رفض عضوية الأخيرة في الناتو إلى رفض التعاون الدفاعي المتزايد بين أوكرانيا والغرب بشكل كلي، والمطالبة بتنفيذ تعهد الغرب بشأن الحضور العسكري في بولندا ودول البلطيق، في الوقت الذي تسعى فيه إلى مراجعة الاتفاقات والتسويات التي أبرمت بعد الحرب الباردة، ومن ضمنها استعادة المنظومة الإقليمية ليكون لها دور في الأمن الأوروبي، وبالتالي تريد روسيا ضمانات غير مشروطة لأمنها اليوم ومستقبلًا، ولن تقبل بتمدد الناتو شرقًا ليشمل أوكرانيا كما قال بوتين. إذ إن التهديد المباشر الذي تخشاه روسيا هو توجه أوكرانيا نحو المؤسسات الأوروبية للموافقة على انضمامها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ومطلب روسيا الرئيس هو منع هذا الانضمام، أو استضافة أوكرانيا بنية تحتية للناتو على أراضيها.
أما الإطار الأبعد للمصالح الروسية فيتمثل في إعادة ربط الدول التي كانت تشكل في السابق الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، حفاظًا على مجالها الحيوي الذي بات يتآكل بفعل الاختراق الأميركي، ويُعدُّ ذلك أمنًا استراتيجيًّا للجانب الروسي، وبخاصة للرئيس فلاديمير بوتين، الذي يهدف إلى إبقاء أوكرانيا في الدائرة الاستراتيجية الروسية، ويعزز ذلك أن لدى روسيا روابط اجتماعية وثقافية واقتصادية مشتركة مع أوكرانيا.
أما من جهة المصالح الأوكرانية فإن أوكرانيا تمثل جسرًا بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهذا الموقع الجغرافي قد يجعل منها أداة وصل بين روسيا وأوروبا أو أداة عزل. وتبرز المصالح الأوكرانية في التخلص من النفوذ الروسي على السلطة ورأس المال في أوكرانيا، بالإضافة إلى التوجه نحو الغرب، والحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وعلى الرغم من أن البرنامج الانتخابي للرئيس الأوكراني زيلنسكي تعهد بالحوار والتفاوض مع روسيا، والسير في النهج الدبلوماسي، وتنفيذ اتفاقات مينسك الخاصة بمنطقة دونباس في جنوب شرق أوكرانيا، إلا أنه غيّر نهجه عام 2020 تحت ضغط الفوضى الداخلية، وزيادة النزعة القومية التي تغذيها الولايات المتحدة في دول شرق أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
كما أن لدى أوكرانيا هواجس متعددة من روسيا، ومنها خشيتها من احتلالها بشكل كامل، ولذلك تثير مخاوف الغرب من توسع روسيا، وتطالبه بفرض العقوبات عليها، وترى أن هذه العقوبات ستسهم في إضعاف روسيا، وبالتالي مواجهتها لصراعات قومية واجتماعية داخلية تُشغلها، وتأمل أن يسهم ذلك باسترجاع القرم والمناطق المتمردة وعلى رأسها دونباس.
ومن جهة أخرى فإن لدى أوكرانيا مطالب تتعلق بحرية الملاحة، بعد واقعة احتجاز روسيا ثلاث سفن تابعة للبحرية الأوكرانية وطواقمها، بحجة دخولها المياه الإقليمية الروسية بشكل غير قانوني؛ وهذا من الأسباب التي دفعت أوكرانيا لطلب عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وترى أن مستقبلها مع الأوروبيين، حيث إن انضمامها للاتحاد سيوفر لها كثيرًا من المزايا الاقتصادية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، كما يوفر لها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي المظلة الأمنية وحماية وجودها، ويعزز موقفها التفاوضي مع روسيا بخصوص النزاع في القرم المحتلة، والمناطق المتمردة وهي نقطة الخلاف الأهم مع روسيا، التي ترى بدورها أن اقتراب الناتو من حدودها يمثل تهديدًا استراتيجيًّا لأمنها القومي.
أما من حيث الدور الأميركي في الأزمة فيندرج في إطار تحجيم روسيا، مع إبقائها مصدر تهديد لأمن أوروبا. وإن كانت أميركا تسعى في الظاهر لإيجاد شكل من أشكال الاستقرار الاستراتيجي بينها وبين روسيا، حيث اجتمع الرئيسان بوتين وبايدن أكثر من مرة، ضمن جهود مستمرة لإقامة علاقة مستقرة.
ويبرز الدور الأميركي في الأزمة الأوكرانية من خلال تعزيز الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية دول الناتو شراكاتها مع أوكرانيا، وتزويدها للجيش الأوكراني بأسلحة أميركية.
ويُعَدُّ الصراع في أوكرانيا من أبرز مظاهر الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة، ولذلك يحاول بايدن بل ويطالب بوتين بأن يضع ملف أوكرانيا على طاولة بحث العلاقة الأميركية الروسية على نطاق أوسع في إطار "الاستقرار الاستراتيجي".
متابعة سياسية
الأزمة بين روسيا وأوكرانيا
أسبابها ومساراتها
تتسارع وتيرة الأحداث بين أوكرانيا وروسيا، والتي أساسها صراعٌ عنوانُه المصالحُ الحيوية الروسية، والسياسات الغربية. إذ تراقب روسيا بحذر وقلق ما يقوم به القادة الأوكرانيون فيما يتعلق بتوجهاتهم الحالية والمستقبلية تجاه العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وكذلك مسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، بينما تنظر أوكرانيا بقلق شديد إلى ما تراه انتهاكًا لسيادتها بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وفقًا لاستفتاء مارس/آذار 2014، والتي كانت جزءًا من أراضيها قبل ذلك. وكذلك الصراع الدائر في دونباس، ولوهانسك، وهما منطقتان من أراضيها أعلنتا انفصالهما عنها بتحريض روسي، واعترف الدوما مؤخرًا باستقلال دونباس.
والجديد في هذه الأزمة، هو الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية للضغط على أوكرانيا، وتهديدها بشأن سعيها للانضمام لحلف الناتو وإرخاء أذنها للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي طرح تساؤلات ملحة، منها احتمالية انفجار الوضع وتحوله إلى حرب كبرى.
ولفهم دوافع أطراف النزاع، لا بد من معرفة بداية الأزمة، واتفاقات مينسك، والخلاف على تطبيقها، والأطراف الفاعلة، ومصالح أطراف الأزمة، وما تثيره من مسائل تتعلق بصراع الهويات والتوجهات الاستراتيجية لكل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وحول احتمالات تطور هذه الأزمة إلى صراعٍ أو حرب كبرى.
أما بداية الأزمة الحالية فتعود إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 عندما أوقف الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا في ذلك الوقت فيكتور يانوكوفيتش الاستعدادات لتنفيذ اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وما تبع ذلك من تظاهرات واحتجاجات واسعة النطاق، وتفاقم للوضع في المناطق الشرقية والجنوبية ذات الكثافة السكانية من أصول روسية داعمة للرئيس يانوكوفيتش.
ومع اشتداد الاحتجاجات المدعومة أميركيًّا، وتحولها إلى ثورة كبيرة أدت إلى عزل الرئيس في 22 شباط/فبراير 2014 من قِبل البرلمان، وفراره، وتعيين رئيس برلمان أوكرانيا ألكساندر تورتشينوف بدلًا عنه، سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم وضمتها للاتحاد الروسي في منتصف آذار/مارس 2014 في واحدة من أكبر عمليات ضم الأراضي التي عاشتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، أعقبها نشوب حرب في أوبلاست دونيتسك ولوهانسك أوبلاست بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية.
وقد ردت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على روسيا نتيجة غزوها للقرم، لكن العقوبات لم تترك أثرًا فعالًا على الاقتصاد الروسي، بل واصلت روسيا العمل على امتلاك أداة ضغط من جهة، ونافذة لبناء الثقة مع دول أوروبا لتبديد مخاوفهم الأمنية وسد ذرائع الولايات المتحدة بخصوص مخاطر العلاقة الأوروبية مع روسيا من جهة أخرى، وذلك من خلال مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي يجعل ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي رغم الصعوبات والعراقيل السياسية كالأزمة الأوكرانية التي هندستها الولايات المتحدة لمنع التفاهم الروسي الأوروبي وإبقاء حالة عدم اليقين سائدة بينهما.
والحقيقة أن روسيا تمكنت من إدارة الأزمة وتلافي التصعيد مع أوكرانيا، طيلة السنوات السابقة، إلا أن التحركات الغربية وتحريض أميركا لأوكرانيا على استفزاز روسيا بالخروقات العسكرية في الشرق والإصرار على إدخالها حلف الناتو، بل والنص عليها في دستور البلاد، كل ذلك أشعل فتيل الغضب لدى روسيا، وجعل بوتين يحشد قواته على حدود أوكرانيا من ثلاث جهات، في الشمال والشرق والجنوب، مما جعل الأزمة قابلة للانفجار متى أرادت أميركا توسيع الفجوة بين روسيا وأوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا. وهو الأمر الذي فسّره مراقبون كثيرون بأنه غزو عسكري روسي وشيك، حيث تحركت القطاعات العسكرية الروسية لآلاف الكيلو مترات، إلى الحدود الأوكرانية وشبه جزيرة القرم وجمهورية بيلاروسيا، وبأعداد تصل إلى حوالي مائتي ألف جندي بحسب واشنطن.
أما اتفاقا مينسك فلم يتم تنفيذهما فعليًّا، وبعد تصويت الدوما على استقلال دونباس، لم يعد لهما أي معنى، رغم إصرار الطرفين على تنفيذٍ كاملٍ لـ "اتفاق مينسك" لعام 2015، والذي يتضمن إضفاء الشرعية الأوكرانية على الأراضي التي مزقتها الحرب في إطار النظام السياسي لأوكرانيا كما تريد ذلك أوكرانيا، بينما تصر روسيا على استقلال دونباس، وصوتت فعليًّا على ذلك.
والدافع لهذا السلوك الروسي هو أن روسيا تستشعر الخطر فيما يتعلق بالسياسات والسلوكيات التي تنتهجها أوكرانيا، حيث تسعى روسيا لإثبات نفسها بوصفها لاعبًا جيوسياسيًّا وجيواستراتيجيًّا في منطقة لطالما اعتبرت ضمن المصالح الحيوية لها؛ من ضمنها أوكرانيا. وبالتالي إذا ما تم تهديد هذه المصالح بشكل فعلي؛ فإن روسيا قد تستخدم القوة في مواجهته، وفرض انفصال شرق وجنوب شرق أوكرانيا حتى جزيرة القرم بالقوة. كما أن روسيا قد غيّرت من رؤيتها لمصالحها في أوكرانيا، لتتعدى رفض عضوية الأخيرة في الناتو إلى رفض التعاون الدفاعي المتزايد بين أوكرانيا والغرب بشكل كلي، والمطالبة بتنفيذ تعهد الغرب بشأن الحضور العسكري في بولندا ودول البلطيق، في الوقت الذي تسعى فيه إلى مراجعة الاتفاقات والتسويات التي أبرمت بعد الحرب الباردة، ومن ضمنها استعادة المنظومة الإقليمية ليكون لها دور في الأمن الأوروبي، وبالتالي تريد روسيا ضمانات غير مشروطة لأمنها اليوم ومستقبلًا، ولن تقبل بتمدد الناتو شرقًا ليشمل أوكرانيا كما قال بوتين. إذ إن التهديد المباشر الذي تخشاه روسيا هو توجه أوكرانيا نحو المؤسسات الأوروبية للموافقة على انضمامها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ومطلب روسيا الرئيس هو منع هذا الانضمام، أو استضافة أوكرانيا بنية تحتية للناتو على أراضيها.
أما الإطار الأبعد للمصالح الروسية فيتمثل في إعادة ربط الدول التي كانت تشكل في السابق الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، حفاظًا على مجالها الحيوي الذي بات يتآكل بفعل الاختراق الأميركي، ويُعدُّ ذلك أمنًا استراتيجيًّا للجانب الروسي، وبخاصة للرئيس فلاديمير بوتين، الذي يهدف إلى إبقاء أوكرانيا في الدائرة الاستراتيجية الروسية، ويعزز ذلك أن لدى روسيا روابط اجتماعية وثقافية واقتصادية مشتركة مع أوكرانيا.
أما من جهة المصالح الأوكرانية فإن أوكرانيا تمثل جسرًا بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهذا الموقع الجغرافي قد يجعل منها أداة وصل بين روسيا وأوروبا أو أداة عزل. وتبرز المصالح الأوكرانية في التخلص من النفوذ الروسي على السلطة ورأس المال في أوكرانيا، بالإضافة إلى التوجه نحو الغرب، والحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وعلى الرغم من أن البرنامج الانتخابي للرئيس الأوكراني زيلنسكي تعهد بالحوار والتفاوض مع روسيا، والسير في النهج الدبلوماسي، وتنفيذ اتفاقات مينسك الخاصة بمنطقة دونباس في جنوب شرق أوكرانيا، إلا أنه غيّر نهجه عام 2020 تحت ضغط الفوضى الداخلية، وزيادة النزعة القومية التي تغذيها الولايات المتحدة في دول شرق أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
كما أن لدى أوكرانيا هواجس متعددة من روسيا، ومنها خشيتها من احتلالها بشكل كامل، ولذلك تثير مخاوف الغرب من توسع روسيا، وتطالبه بفرض العقوبات عليها، وترى أن هذه العقوبات ستسهم في إضعاف روسيا، وبالتالي مواجهتها لصراعات قومية واجتماعية داخلية تُشغلها، وتأمل أن يسهم ذلك باسترجاع القرم والمناطق المتمردة وعلى رأسها دونباس.
ومن جهة أخرى فإن لدى أوكرانيا مطالب تتعلق بحرية الملاحة، بعد واقعة احتجاز روسيا ثلاث سفن تابعة للبحرية الأوكرانية وطواقمها، بحجة دخولها المياه الإقليمية الروسية بشكل غير قانوني؛ وهذا من الأسباب التي دفعت أوكرانيا لطلب عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وترى أن مستقبلها مع الأوروبيين، حيث إن انضمامها للاتحاد سيوفر لها كثيرًا من المزايا الاقتصادية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، كما يوفر لها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي المظلة الأمنية وحماية وجودها، ويعزز موقفها التفاوضي مع روسيا بخصوص النزاع في القرم المحتلة، والمناطق المتمردة وهي نقطة الخلاف الأهم مع روسيا، التي ترى بدورها أن اقتراب الناتو من حدودها يمثل تهديدًا استراتيجيًّا لأمنها القومي.
أما من حيث الدور الأميركي في الأزمة فيندرج في إطار تحجيم روسيا، مع إبقائها مصدر تهديد لأمن أوروبا. وإن كانت أميركا تسعى في الظاهر لإيجاد شكل من أشكال الاستقرار الاستراتيجي بينها وبين روسيا، حيث اجتمع الرئيسان بوتين وبايدن أكثر من مرة، ضمن جهود مستمرة لإقامة علاقة مستقرة.
ويبرز الدور الأميركي في الأزمة الأوكرانية من خلال تعزيز الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية دول الناتو شراكاتها مع أوكرانيا، وتزويدها للجيش الأوكراني بأسلحة أميركية.
ويُعَدُّ الصراع في أوكرانيا من أبرز مظاهر الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة، ولذلك يحاول بايدن بل ويطالب بوتين بأن يضع ملف أوكرانيا على طاولة بحث العلاقة الأميركية الروسية على نطاق أوسع في إطار "الاستقرار الاستراتيجي".