Abu Taqi
16-01-2022, 02:27 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
حول جدل الهوية في الأردن
تندلع من حين لآخر مناكفات سياسية وإعلامية تصل حد التباغض والمكايدة بين من يزعمون تمثيل "التيار الوطني" في "المعارضة الخارجية"، ومعهم حراكيين عشائريين ومتقاعدين عسكريين وبعض الشخصيات البرلمانية، وبين شخصيات سياسية وإعلامية محسوبة على من يوصفون بـ"المكون الفلسطيني"، ومن يزعمون مؤازرته من الليبراليين المرتبطين بالنظام وبالسفارة الأميركية والأجندات الخارجية. ويدور نزاع الفئة "الوطنية" مع القصر وحاشيته حول الفساد والمحسوبية واحتكار السلطة وهيكلة النظام وملف "التجنيس"، متخذين من تردي الأوضاع الاقتصادية والفساد المالي والإداري ذخيرة في مهاجمة القصر؛ لردعه عن تنفيذ الإملاءات الخارجية بشأن مستقبل "القضية الفلسطينية" وتداعياتها على الأردن، وإرغامه على "إصلاحات سياسية"، وهيكلةٍ تُعيد إنتاج النظام على أسس "وطنية"، تمنع تغوّل القصر على الدولة ومقدراتها ومستقبلها، والوصول إلى حكومة "ذات ولاية عامة"، مع تحصين ما يُسمى بـ"المكون الشرق أردني" ضد توسيع "الحقوق السياسية" لـ"المكون الفلسطيني".
وعلى إثر ذلك اشتعل في الأيام الأخيرة السجال السياسي حول فكرة "الهوية الوطنية الجامعة" التي أوصت بها اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، والتي جرى إقرارها في التعديلات الدستورية بداية هذا الشهر.
وإزاء هذا المناخ السياسي المسموم لا بد من تأكيد ما أوضحناه سابقًا بشأن هذه المسألة وآفاقها، والموقف الذي يجب اتخاذه حيالها، من قِبل القوى الحية في المجتمع. فباستقراء الوقائع التي نفذتها الإدارة الأميركية السابقة عبر (صفقة القرن)، واستنطاق الأحداث الجارية في الأردن، منذ بداية عهد الملك عبدالله، وربطها بصعيدها الخارجي، نجد أن مسألة تجنيس "اللاجئين الفلسطينيين" في أماكن إقامتهم، وتوسيع التمثيل السياسي لمن يوصفون بـ"المكون الفلسطيني" في الأردن حجر الزاوية في تصفية "قضية فلسطين"، وتثبيت الاحتلال الصهيوني و"حقه في الوجود"، ذلك أن بقاء ما يُسمى بـ"اللاجئين الفلسطينيين" يُبقي "قضية فلسطين" حية في وجدان المسلمين، وسببًا في تجذير واستنبات "التّطرّف" من منظور أمني، ويجعلها كذلك ندبة في حلول ما يسمى بـ"قضية الشرق الأوسط"، ويبقيها "عائقًا قانونيًّا" على مستوى القوانين والأعراف الدولية، التي تقرر "انتقائيًا" حق الشعوب في تقرير المصير، مما يجعل "القضية الفلسطينية" المثقلة بالمؤامرات عبءًا على الأنظمة العربية، ومعيقًا لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة، وفزاعة للأمن الإسرائيلي وتهديدًا ليهودية الدولة. ولهذا تقوم سياسة الكيان الغاصب على فكرة "إنهاء حق العودة" وقضم الأراضي وتهويد المناطق، وتهجير المزيد من سكان الأرض المحتلة، وبخاصة أهالي مدينة القدس؛ أي تحاول التخلص من "الفائض السكاني" الفلسطيني وإلحاقهم بالأردن وتوطين المهاجرين في بلدان إقامتهم مع الحفاظ على سيادتها على الأرض والمقدسات؛ ولذا تواصل بناء "المستوطنات" في الضفة الغربية وتُضيق على الفلسطينيين عيشهم وتصادر أملاكهم.
ولا يخفى أن "قضية فلسطين" تحظى باهتمام دولي لأنها تقيم على حدود المصالح الغربية في الخليج وطرق المواصلات العالمية، ولا يخفى أيضًا أن "إسرائيل" تمثل قاعدة عسكرية غربية استعمارية متقدمة في قلب العالم الإسلامي، وأي توتر أو صدام بين المسلمين و"الصهاينة" يحيي في أهل المنطقة فكرة التحرر والجهاد، ويُهدد مصالح الغرب، ويُنذر بنسف المشروع الغربي الأميركي الاستعماري في الشرق الأوسط برمته. ولهذا تسعى الولايات المتحدة والغرب إلى إنهاء ذيول "القضية الفلسطينية"، ودمج الكيان الصهيوني في المنطقة عبر التطبيع والتحالف والتشبيك الاقتصادي و"النهج الإبراهيمي". كما تسعى إلى إذابة "الهوية الفلسطينية" بأساليب في غاية المكر، ومنها "تجنيس اللاجئين الفلسطينيين" في أماكن إقامتهم.
وقد ظهر ذلك من خلال تنازل مصر عن التزامها بقرار سنة 1965 للجامعة العربية، والقاضي بـ"عدم تجنيس الفلسطينيين ومنحهم فقط وثائق سفر موحدة حفاظًا على الهوية الفلسطينية"، حيث ارتفعت وتيرة تجنيس الفلسطينيين من قبل السلطات المصرية في عام 2012 ليبلغ عددهم نحو 50 ألف شخص من قطاع غزة. وهي نفس الفترة التي شكل فيها ملك الأردن لجنة مكونة من مدير المخابرات السابق محمد الذهبي وطاهر المصري ورجائي الدجاني لتجنيس الفلسطينيين، إلا أن محمد الذهبي الذي وصفته السفارة الأميركية في أحدى برقياتها استنادًا إلى معلومات من مصادرها في مؤسسات المجتمع المدني بأنه "عائق أمام الإصلاحات" قد عرقل تشكيل اللجنة. وبالتالي فإن توصيات اللجنة الملكية والتعديلات الدستورية بشأن الأحزاب والانتخابات، والتي ستؤول إلى تطويع النشاط الحزبي وتوفير بيئة ملائمة للأحزاب البراغماتية والليبرالية والتضييق على الأحزاب العقدية المحظورة، وتؤول كذلك إلى توسيع تمثيل "الأردنيين من الأصول الفلسطينية" في البرلمان و"الحكومة البرلمانية المقبلة"، على حساب "العشائر" بذريعة "تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، والتمثيل العادل لفئات المجتمع الأردني ومناطقه كافة" ليس بريئًا؛ لأنه يمثل استجابة للتغريب وعلمنة الوعي المجتمعي بإزاء ما يُمثله من تلبية لـ"الحل الإقليمي"، وإنهاء حق العودة وتصفية "قضية فلسطين"، وتحويل الأردن إلى وطن بديل و"حكم هجين"، بصرف النظر عن مصير الصيغة التشاركية مع السلطة الفلسطينية، وفكرة "حل الدولتين" ومدلولها. وهذا هو سبب توتر ما يُسمى بـ"التيار الوطني الشرق أردني" ونقمته على الملك وأسرته، ووقوفه في وجه "التجنيس"، وتوسيع التمثيل السياسي لما يسمى بـ"المكون الفلسطيني"، وهو سبب التشرذم السياسي وانقسام أجهزة الدولة الأمنية، وهجوم الملك المتواصل على دائرة المخابرات لتحجيم وظيفتها وضرب هيبتها، وسبب مطالبته بوقف تسريبات المعلومات إلى "المعارضة الخارجية".
وفي هذا الصدد لا بد أن نعلم بأن تجنيس "الفلسطينيين" وتوطينهم ومساواتهم بإخوانهم في الأردن بالحقوق والواجبات الشرعية دون التنازل عن شبر من فلسطين وحق العودة ليس مشكلة، ولا يجب أن تكون؛ لإن الجنسية في الإسلام هي حق التابعية ل"وطن العقيدة" والعيش فيه سواء بوجود الدولة الإسلامية ونظام الإسلام أو بغياب الدولة الإسلامية ونظامها، وبما أن الجنسية رابطة حقوقية (وليست عقدية) بين الشخص بصفته الإنسانية وبين الدولة، وينتج عنها حقوق والتزامات فلا حرمة فيها ما لم تقم على الولاء لأنظمة الكفر، وبما إن "الجنسية" أي المواطنة في البلاد الإسلامية حق لكل مسلم بصرف النظر عن النظام المطبق، مع الأخذ بعين الاعتبار حرمة الولاء لدار الكفر ونظامها، أو الاعتراف بقطرية البلاد الإسلامية على أسس قومية ووطنية وما يترتب عليها من إفرازات حداثية وتمييز ومخافات لأحكام الشرع، فإن اكتساب الجنسية والتمتع بالحقوق الشرعية هو استحقاق يوجب للمهاجرين من فلسطين حق التوطين في بلاد الإسلام والتمتع بكافة الحقوق والواجبات.
أما كون توطين "اللاجئين الفلسطينيين" يندرج في السياق السياسي المتمثل في "التطبيع والتحالف والنهج الإبراهيمي"، وهو سياق تآمري تصفوي يهدف إلى إنهاء "حق العودة" وتثبيت الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاعتراف بـ"حق إسرائيل في الوجود" فإنه لا يُجابه بحرمان الفلسطينيين من حقوقهم، بل بمواجهة أهل الضفتين لمشروع تصفية القضية بالطريقة والوسائل الشرعية.
وبالتالي لا بد أن يكون ذلك أساسًا للنظرة إلى "التجنيس" والعلاقة بين أبناء الضفتين؛ أي لا بد أن يأخذ الأخوة شرقي النهر بعين الاعتبار في اعتراضهم على "الإصلاحات السياسية" وفكرة "الهوية الوطنية الجامعة" الخبيثة، حق أهل فلسطين الشرعي في الاندماج الكامل في بلاد المسلمين بلا تمييز، وحق نصرتهم بمقتضى الأخوة الإسلامية وعهد الذمة لغير المسلمين منهم؛ أي لا بد أن تُلغى وتُنبذ الهويات الفرعية و"الهوية الوطنية الجامعة" لصالح الهوية العقدية التي لا فرق فيها بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى مع مراعاة عهد الذمة لغير المسلمين منهم. سيما وأن أهل الأردن حينما آووا ونصروا فلسطين وأهلها ضد الحملات الصليبية والاستعمار البريطاني والاحتلال الصهيوني إنما آووا ونصروا باعتبار الأخوة الإسلامية، وأن القضية قضيتهم على قدم المساواة مع أهل فلسطين. وعليهم أن يتذكروا أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفتحوا الأردن لإعلاء الوطنية! بل لتكون كلمة الله هي العليا، وعلى أبناء فلسطين في الأردن أن ينبذوا قادتهم العملاء ويرفضوا تصفية قضيتهم والتنازل عن ديارهم وحق عودتهم. ومن هذا المنطلق فإن الاعتراض على توطين "الفلسطينيين" وحرمانهم من بعض حقوقهم، أو وصفهم باللاجئين والتمييز ضدهم لاعتبارات "وطنية" أو بدعوى الحفاظ على "الهوية الفلسطينية" مذموم شرعًا. والواجب هو إنصافهم بحكم أخوة الدين والعهد، ورص الصفوف معهم في مواجهة النظام والمشروع الأميركي الصهيوني الذي يستهدف الأمة كلها دون تفريق بين أبنائها. كما لا بد أن نعلم بأن الأردن وأهله كلهم مستعمرون عسكريًا وثقافيًا واقتصاديًا ويحتاجون ذاتهم إلى تحرير يستوجب الصراع مع المستعمر الخارجي الأميركي المساند للنظام، وقطع إسناده وطرق إمداده لعملائه، من خلال فضحهم وعزلهم وإقصائهم، وأن ندرك أيضًا بأن الملك ذاته لا يملك الولاية على الأردن أبدًا، وإنما ينفذ ما أنيط به من مهام داخلية وإقليمية من قبل الولايات المتحدة، لقاء استمراره وأسرته في الحكم، وبخاصة وأنه قد ورث الحكم عن أبيه بتوصية من ساندي بيرغر مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي طلب من الملك حسين في أيامه الأخيرة أن يعزل شقيقه الأمير حسن عن ولاية العهد، وهو الأمر الذي كشفته الصحافة الفرنسية في حينه. ولا بد أن نعلم أيضًا أن الوسط السياسي الأردني أغلبه وبمختلف توجهاته إنما هو وسط فاسد وامتداد لقطيع العملاء والمنتفعين، الذين يعرفون قواعد اللعبة السياسية الأميركية في المنطقة ويتنافسون في تنفيذها، ومن الوهم أن نتصور "حكومة برلمانية" لها ولاية عامة في دولة مكبلة باتفاقيات سياسية وعسكرية واقتصادية، ووسط سياسي عميل ومأجور وشعب مسلوب الإرادة. ولهذا كله فإن طريق استعادة السلطان و"السيادة" لا يكون بـ"الإصلاح السياسي" لنفس القماشة، أو على أسس "وطنية" جاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وإنما يكون من وعاء الشرع الحنيف وطريقته في معالجة الحكم الفاسد، وهي التغيير الجذري الذي يستأصل أنظمة التبعية والكفر والطاغوت ويقيم شريعة الله والحكم الرشيد.
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
13/جمادى الآخرة/1443هـ
16/1/2022م
متابعة سياسية
حول جدل الهوية في الأردن
تندلع من حين لآخر مناكفات سياسية وإعلامية تصل حد التباغض والمكايدة بين من يزعمون تمثيل "التيار الوطني" في "المعارضة الخارجية"، ومعهم حراكيين عشائريين ومتقاعدين عسكريين وبعض الشخصيات البرلمانية، وبين شخصيات سياسية وإعلامية محسوبة على من يوصفون بـ"المكون الفلسطيني"، ومن يزعمون مؤازرته من الليبراليين المرتبطين بالنظام وبالسفارة الأميركية والأجندات الخارجية. ويدور نزاع الفئة "الوطنية" مع القصر وحاشيته حول الفساد والمحسوبية واحتكار السلطة وهيكلة النظام وملف "التجنيس"، متخذين من تردي الأوضاع الاقتصادية والفساد المالي والإداري ذخيرة في مهاجمة القصر؛ لردعه عن تنفيذ الإملاءات الخارجية بشأن مستقبل "القضية الفلسطينية" وتداعياتها على الأردن، وإرغامه على "إصلاحات سياسية"، وهيكلةٍ تُعيد إنتاج النظام على أسس "وطنية"، تمنع تغوّل القصر على الدولة ومقدراتها ومستقبلها، والوصول إلى حكومة "ذات ولاية عامة"، مع تحصين ما يُسمى بـ"المكون الشرق أردني" ضد توسيع "الحقوق السياسية" لـ"المكون الفلسطيني".
وعلى إثر ذلك اشتعل في الأيام الأخيرة السجال السياسي حول فكرة "الهوية الوطنية الجامعة" التي أوصت بها اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، والتي جرى إقرارها في التعديلات الدستورية بداية هذا الشهر.
وإزاء هذا المناخ السياسي المسموم لا بد من تأكيد ما أوضحناه سابقًا بشأن هذه المسألة وآفاقها، والموقف الذي يجب اتخاذه حيالها، من قِبل القوى الحية في المجتمع. فباستقراء الوقائع التي نفذتها الإدارة الأميركية السابقة عبر (صفقة القرن)، واستنطاق الأحداث الجارية في الأردن، منذ بداية عهد الملك عبدالله، وربطها بصعيدها الخارجي، نجد أن مسألة تجنيس "اللاجئين الفلسطينيين" في أماكن إقامتهم، وتوسيع التمثيل السياسي لمن يوصفون بـ"المكون الفلسطيني" في الأردن حجر الزاوية في تصفية "قضية فلسطين"، وتثبيت الاحتلال الصهيوني و"حقه في الوجود"، ذلك أن بقاء ما يُسمى بـ"اللاجئين الفلسطينيين" يُبقي "قضية فلسطين" حية في وجدان المسلمين، وسببًا في تجذير واستنبات "التّطرّف" من منظور أمني، ويجعلها كذلك ندبة في حلول ما يسمى بـ"قضية الشرق الأوسط"، ويبقيها "عائقًا قانونيًّا" على مستوى القوانين والأعراف الدولية، التي تقرر "انتقائيًا" حق الشعوب في تقرير المصير، مما يجعل "القضية الفلسطينية" المثقلة بالمؤامرات عبءًا على الأنظمة العربية، ومعيقًا لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة، وفزاعة للأمن الإسرائيلي وتهديدًا ليهودية الدولة. ولهذا تقوم سياسة الكيان الغاصب على فكرة "إنهاء حق العودة" وقضم الأراضي وتهويد المناطق، وتهجير المزيد من سكان الأرض المحتلة، وبخاصة أهالي مدينة القدس؛ أي تحاول التخلص من "الفائض السكاني" الفلسطيني وإلحاقهم بالأردن وتوطين المهاجرين في بلدان إقامتهم مع الحفاظ على سيادتها على الأرض والمقدسات؛ ولذا تواصل بناء "المستوطنات" في الضفة الغربية وتُضيق على الفلسطينيين عيشهم وتصادر أملاكهم.
ولا يخفى أن "قضية فلسطين" تحظى باهتمام دولي لأنها تقيم على حدود المصالح الغربية في الخليج وطرق المواصلات العالمية، ولا يخفى أيضًا أن "إسرائيل" تمثل قاعدة عسكرية غربية استعمارية متقدمة في قلب العالم الإسلامي، وأي توتر أو صدام بين المسلمين و"الصهاينة" يحيي في أهل المنطقة فكرة التحرر والجهاد، ويُهدد مصالح الغرب، ويُنذر بنسف المشروع الغربي الأميركي الاستعماري في الشرق الأوسط برمته. ولهذا تسعى الولايات المتحدة والغرب إلى إنهاء ذيول "القضية الفلسطينية"، ودمج الكيان الصهيوني في المنطقة عبر التطبيع والتحالف والتشبيك الاقتصادي و"النهج الإبراهيمي". كما تسعى إلى إذابة "الهوية الفلسطينية" بأساليب في غاية المكر، ومنها "تجنيس اللاجئين الفلسطينيين" في أماكن إقامتهم.
وقد ظهر ذلك من خلال تنازل مصر عن التزامها بقرار سنة 1965 للجامعة العربية، والقاضي بـ"عدم تجنيس الفلسطينيين ومنحهم فقط وثائق سفر موحدة حفاظًا على الهوية الفلسطينية"، حيث ارتفعت وتيرة تجنيس الفلسطينيين من قبل السلطات المصرية في عام 2012 ليبلغ عددهم نحو 50 ألف شخص من قطاع غزة. وهي نفس الفترة التي شكل فيها ملك الأردن لجنة مكونة من مدير المخابرات السابق محمد الذهبي وطاهر المصري ورجائي الدجاني لتجنيس الفلسطينيين، إلا أن محمد الذهبي الذي وصفته السفارة الأميركية في أحدى برقياتها استنادًا إلى معلومات من مصادرها في مؤسسات المجتمع المدني بأنه "عائق أمام الإصلاحات" قد عرقل تشكيل اللجنة. وبالتالي فإن توصيات اللجنة الملكية والتعديلات الدستورية بشأن الأحزاب والانتخابات، والتي ستؤول إلى تطويع النشاط الحزبي وتوفير بيئة ملائمة للأحزاب البراغماتية والليبرالية والتضييق على الأحزاب العقدية المحظورة، وتؤول كذلك إلى توسيع تمثيل "الأردنيين من الأصول الفلسطينية" في البرلمان و"الحكومة البرلمانية المقبلة"، على حساب "العشائر" بذريعة "تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، والتمثيل العادل لفئات المجتمع الأردني ومناطقه كافة" ليس بريئًا؛ لأنه يمثل استجابة للتغريب وعلمنة الوعي المجتمعي بإزاء ما يُمثله من تلبية لـ"الحل الإقليمي"، وإنهاء حق العودة وتصفية "قضية فلسطين"، وتحويل الأردن إلى وطن بديل و"حكم هجين"، بصرف النظر عن مصير الصيغة التشاركية مع السلطة الفلسطينية، وفكرة "حل الدولتين" ومدلولها. وهذا هو سبب توتر ما يُسمى بـ"التيار الوطني الشرق أردني" ونقمته على الملك وأسرته، ووقوفه في وجه "التجنيس"، وتوسيع التمثيل السياسي لما يسمى بـ"المكون الفلسطيني"، وهو سبب التشرذم السياسي وانقسام أجهزة الدولة الأمنية، وهجوم الملك المتواصل على دائرة المخابرات لتحجيم وظيفتها وضرب هيبتها، وسبب مطالبته بوقف تسريبات المعلومات إلى "المعارضة الخارجية".
وفي هذا الصدد لا بد أن نعلم بأن تجنيس "الفلسطينيين" وتوطينهم ومساواتهم بإخوانهم في الأردن بالحقوق والواجبات الشرعية دون التنازل عن شبر من فلسطين وحق العودة ليس مشكلة، ولا يجب أن تكون؛ لإن الجنسية في الإسلام هي حق التابعية ل"وطن العقيدة" والعيش فيه سواء بوجود الدولة الإسلامية ونظام الإسلام أو بغياب الدولة الإسلامية ونظامها، وبما أن الجنسية رابطة حقوقية (وليست عقدية) بين الشخص بصفته الإنسانية وبين الدولة، وينتج عنها حقوق والتزامات فلا حرمة فيها ما لم تقم على الولاء لأنظمة الكفر، وبما إن "الجنسية" أي المواطنة في البلاد الإسلامية حق لكل مسلم بصرف النظر عن النظام المطبق، مع الأخذ بعين الاعتبار حرمة الولاء لدار الكفر ونظامها، أو الاعتراف بقطرية البلاد الإسلامية على أسس قومية ووطنية وما يترتب عليها من إفرازات حداثية وتمييز ومخافات لأحكام الشرع، فإن اكتساب الجنسية والتمتع بالحقوق الشرعية هو استحقاق يوجب للمهاجرين من فلسطين حق التوطين في بلاد الإسلام والتمتع بكافة الحقوق والواجبات.
أما كون توطين "اللاجئين الفلسطينيين" يندرج في السياق السياسي المتمثل في "التطبيع والتحالف والنهج الإبراهيمي"، وهو سياق تآمري تصفوي يهدف إلى إنهاء "حق العودة" وتثبيت الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاعتراف بـ"حق إسرائيل في الوجود" فإنه لا يُجابه بحرمان الفلسطينيين من حقوقهم، بل بمواجهة أهل الضفتين لمشروع تصفية القضية بالطريقة والوسائل الشرعية.
وبالتالي لا بد أن يكون ذلك أساسًا للنظرة إلى "التجنيس" والعلاقة بين أبناء الضفتين؛ أي لا بد أن يأخذ الأخوة شرقي النهر بعين الاعتبار في اعتراضهم على "الإصلاحات السياسية" وفكرة "الهوية الوطنية الجامعة" الخبيثة، حق أهل فلسطين الشرعي في الاندماج الكامل في بلاد المسلمين بلا تمييز، وحق نصرتهم بمقتضى الأخوة الإسلامية وعهد الذمة لغير المسلمين منهم؛ أي لا بد أن تُلغى وتُنبذ الهويات الفرعية و"الهوية الوطنية الجامعة" لصالح الهوية العقدية التي لا فرق فيها بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى مع مراعاة عهد الذمة لغير المسلمين منهم. سيما وأن أهل الأردن حينما آووا ونصروا فلسطين وأهلها ضد الحملات الصليبية والاستعمار البريطاني والاحتلال الصهيوني إنما آووا ونصروا باعتبار الأخوة الإسلامية، وأن القضية قضيتهم على قدم المساواة مع أهل فلسطين. وعليهم أن يتذكروا أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفتحوا الأردن لإعلاء الوطنية! بل لتكون كلمة الله هي العليا، وعلى أبناء فلسطين في الأردن أن ينبذوا قادتهم العملاء ويرفضوا تصفية قضيتهم والتنازل عن ديارهم وحق عودتهم. ومن هذا المنطلق فإن الاعتراض على توطين "الفلسطينيين" وحرمانهم من بعض حقوقهم، أو وصفهم باللاجئين والتمييز ضدهم لاعتبارات "وطنية" أو بدعوى الحفاظ على "الهوية الفلسطينية" مذموم شرعًا. والواجب هو إنصافهم بحكم أخوة الدين والعهد، ورص الصفوف معهم في مواجهة النظام والمشروع الأميركي الصهيوني الذي يستهدف الأمة كلها دون تفريق بين أبنائها. كما لا بد أن نعلم بأن الأردن وأهله كلهم مستعمرون عسكريًا وثقافيًا واقتصاديًا ويحتاجون ذاتهم إلى تحرير يستوجب الصراع مع المستعمر الخارجي الأميركي المساند للنظام، وقطع إسناده وطرق إمداده لعملائه، من خلال فضحهم وعزلهم وإقصائهم، وأن ندرك أيضًا بأن الملك ذاته لا يملك الولاية على الأردن أبدًا، وإنما ينفذ ما أنيط به من مهام داخلية وإقليمية من قبل الولايات المتحدة، لقاء استمراره وأسرته في الحكم، وبخاصة وأنه قد ورث الحكم عن أبيه بتوصية من ساندي بيرغر مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي طلب من الملك حسين في أيامه الأخيرة أن يعزل شقيقه الأمير حسن عن ولاية العهد، وهو الأمر الذي كشفته الصحافة الفرنسية في حينه. ولا بد أن نعلم أيضًا أن الوسط السياسي الأردني أغلبه وبمختلف توجهاته إنما هو وسط فاسد وامتداد لقطيع العملاء والمنتفعين، الذين يعرفون قواعد اللعبة السياسية الأميركية في المنطقة ويتنافسون في تنفيذها، ومن الوهم أن نتصور "حكومة برلمانية" لها ولاية عامة في دولة مكبلة باتفاقيات سياسية وعسكرية واقتصادية، ووسط سياسي عميل ومأجور وشعب مسلوب الإرادة. ولهذا كله فإن طريق استعادة السلطان و"السيادة" لا يكون بـ"الإصلاح السياسي" لنفس القماشة، أو على أسس "وطنية" جاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وإنما يكون من وعاء الشرع الحنيف وطريقته في معالجة الحكم الفاسد، وهي التغيير الجذري الذي يستأصل أنظمة التبعية والكفر والطاغوت ويقيم شريعة الله والحكم الرشيد.
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
13/جمادى الآخرة/1443هـ
16/1/2022م