المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية المخاوف الأمنية الأوروبية بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان



Abu Taqi
07-09-2021, 05:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
المخاوف الأمنية الأوروبية بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان
لقد فرضت أحداث أفغانستان حضورها على اجتماع وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي نهاية الأسبوع المنصرم، وأثارت تلك الأحداث مسألة قوة التدخل الأوروبي السريع التي رغم التوافق عليها سنة ظ¢ظ*ظ،ظ¨، وإقرارها من قِبل حلف الناتو بصيغة منفصلة عن التعاون الدفاعي الأوروبي التقليدي؛ لاستيعاب بريطانيا المعترضة دائمًا على إنشاء أية قوة موازية لحلف الناتو، لكن تلك القوة تفتقر إلى آليات تفعيلها التي تتطلب إجماع قادة الدول الأعضاء والذين يتلقى أغلبهم التوجيه من الولايات المتحدة، كأولئك الذين اجتمع بهم بايدن في جولته الأوروبية الأخيرة. وهم الذين أوقفوا محاولات ماكرون لبناء علاقات أكثر تقاربًا بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وأعاقوا دعوة بوتين لزيارة قمة أوروبية. وهذا بالإضافة إلى إيطاليا وبولندا والدنمارك والذين يقفون حاجزًا أمام أية محاولات فرنسية لزعزعة أو التأثير على مركزية حلف الناتو في الدفاع والأمن الأوروبي.
وبذلك تكون الولايات المتحدة قد سخّرت حدث أفغانستان وارتكزت مجددًا على فزاعة ما يصفونه بـ"الإرهاب" والهجرة؛ لتكريس عجز أوروبا وتعميق اعتمادها على القوة الأميركية، وهذا ما أفصح عنه صراحة وزير دفاع سلوفينيا الذي قال: "النكسة في أفغانستان قد أظهرت اعتماد الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة". وأكده تصريح وزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب- كارنباور بقولها: "إن الأوروبيين لم يستطيعوا معارضة قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان لأنهم لا يملكون القدرة على فعل ذلك".
ومن جهته قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل للصحافيين بعد الاجتماع في سلوفينيا: "لقد أظهرت أفغانستان أنّ هناك ثمنًا لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي، والسبيل الوحيد للمضي قدمًا هو توحيد قواتنا وتعزيز ليس فقط قدرتنا، ولكن أيضًا إرادتنا للتحرك". وتابع "إذا أردنا أن نكون قادرين على التصرف بشكل مستقل وألا نعتمد على الخيارات التي يتخذها الآخرون، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم أصدقاؤنا وحلفاؤنا، فعلينا إذاً أن نطور قدراتنا الخاصة". وهذا يدل على أن أوروبا تشاطرالصين وروسيا نفس المخاوف التي تركتها لهم الولايات المتحدة عبر انسحابها من أفغانستان وهي مخاطر ما يصفونه بـ"الإرهاب الإسلامي". صحيح أن طالبان لا تشكل قوة تهدد دولًا بحجم الصين وروسيا وأوروبا إلا إنها من الممكن إعادة تشغيلها كحاضنة ومصنعٍ لمن يصفونهم بـ"الإرهابيين" الذين قضّت عملياتهم مضاجع الشعوب الغربية، وجرى إظهارها كتحدٍ أمنيٍّ لمجتمعاتهم وحكوماتهم وخطرًا على مصالحهم، وهذا فضلًا عن خطورة وجود كيان يتبنى شكلًا من أشكال الأنظمة المخالفة للنظم الدولية، وقيمًا مختلفة عن قيمهم، وإنموذجًا سياسيًّا يحث أمة رسالية تتوق للعودة إلى دينها بصورته النقية ودولتها المستقلة وأمجادها وإرثها الحضاري، وما يمثله ذلك من هاجس للعالم الغربي وقيمه وحضارته من جهة، وما يمثله من حافز للشعوب الغربية للتمسك بالأنظمة وطريقة الحياة الرأسمالية التي يوشك بريقها أن يزول، مما يؤرق ساستها ومفكريها. وهو الأمر الذي أشار إليه رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي بقوله: "يجب أن يكون للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه وزن أكبر في العالم للدفاع عن مصالحنا وقيمنا ولحماية مواطنينا"، وأشار إليه أيضًا مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي بقوله: "ما في ذهننا هو أن نكون قادرين على نشر قوة التدخل هذه بسرعة في حال كان لديك على سبيل المثال حكومة شرعية في دولة ما تخشى احتمال سيطرة مجموعة إرهابية عليها".
غير أن المواقف الأوروبية حيال قوة التدخل السريع لا تتجاوز العويل ومحاولة حفظ ماء الوجه بعد الصفعة التي تلقتها أوروبا وبعد ظهورها بمظهر العاجز عن تأمين حماية موظفيها في الخارج، في الوقت الذي فاخر فيه الأميركيون بتنفيذ أكبر وأسرع عملية إجلاء جرى تنفيذها على مستوى العالم. ولهذا عقب جان كلود يونكر الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية على اتفاق التعاون الدفاعي حاثًّا الأعضاء للموافقة عليه بقوله: "ولا يمكن لنا السماح بإهانة شرف فرنسا كما حدث في مالي". ذلك أن فكرة إنشاء قوة التدخل الأوروبي السريع لم تبرح تراوح مكانها منذ مطلع تسعينات القرن الماضي مرورًا بنظام "التجمعات التكتيكية" سنة 2007 ودون جدوى؛ لأن الاتحاد الأوروبي قد صمم للاندماج الاقتصادي دون الاندماج السياسي والعسكري لإبقائه معتمدًا على الولايات المتحدة وتحت نفوذها وهيمنتها.
وهذا ما تدركه ألمانيا ويجعلها تسير في فلك الولايات المتحدة لتأمين مصالحها، حيث قالت وزيرة الدفاع الألمانية _مستدركة على فكرة القوة الأوروبية المزمع تفعيلها، ومتماهية مع التوجه الأميركي: "علينا أن نصبح مستقلين أكثر بصفتنا أوروبيين وأن نكون قادرين على التحرك بشكل مستقل أكثر". "لكن من المهم جدًا ألا نتصرف كبديل عن حلف الأطلسي والأميركيين".
ولم تبتعد فرنسا عن الموقف الألماني كثيرًا لدواعي التنافس مع ألمانيا رغم محاولات ماكرون التفلت من قيود الناتو، إذ تعد مبادرة القوة الأوروبية وبشكل أساسي من محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لجعل باريس مركزًا للسياسة الخارجية والأمنية الأوروبية، مستغلًا قوة الردع النووي الفرنسي الذي لا تملكه دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة بعد انسحاب بريطانيا منه، ومستغلًا افتقار ألمانيا للرادع النووي، والتي تحاول ملْ الفراغ القيادي بما تملكه من قوة اقتصادية وثقل سياسي في دول الاتحاد ومؤسساته. حيث طالب ماكرون بـ "تعزيز التعاون الأوروبي الدفاعي وإقامة تعاون بين جيوش الدول الأوروبية القادرة والراغبة". وهو ما طالبت به أيضًا وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي بقولها: "الأوروبيون ينبغي أن يكونوا أقوياء وأكثر قدرة على حماية أنفسهم وسيادتهم... أوروبا قادرة أكثر على ضمان أمنها الخاص"، ولأجل سد ذرائع الدول الأوروبية المعترضة على إنشاء قوة أوروبية موازية للناتو قالت الوزيرة إن فرنسا تعتبر القوة الأوروبية "تتكامل" مع حلف الأطلسي "ولن تؤثر عليه".
أما بخصوص الموقف الأميركي فقد برز على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس في حديثه إلى الصحفيين "ما زلنا نعتقد أن أوروبا أقوى وأكثر قدرة هي في مصلحتنا المشتركة"، مضيفًا "عندما تتكاتف الديمقراطيات التي يتألف منها الاتحاد الأوروبي فإنها تشكل قوة هائلة من أجل نظام دولي مستقر ومنفتح". وتابع قائلًا: "يتعين على الاتحاد الأوروبي والناتو التنسيق من أجل "تجنب الازدواجية والهدر المحتمل للموارد الشحيحة". وذلك للتأكيد على "الشراكة الاستراتيجية" وهي الاسم الحركي للتبعية، وكذلك للتأكيد على مركزية الناتو في الدفاع والأمن الأوروبي.
ولا بد من التنويه في هذا الصدد إلى أن الولايات المتحدة قد هندست استراتيجياتها في الخارج بصورة تسمح بإعادة تدوير المخرجات والتغذية الراجعة لسياساتها، وتوظيفها في تحقيق أهدافها وخدمة مصالحها، تمامًا كما فعلت في إشراك تركيا وروسيا في الملف السوري، وإشراكهما بمعية فرنسا في الملف الليبي.
ولا شك أن إنشاء قوة أوروبية تفتقر إلى الفاعلية المكافئة للقوة الأميركية لن يعود على أوروبا إلا بتأكيد عجزها وشيخوختها، وفي أحسن الأحوال فإنها تعزز سياسة القيادة من الخلف التي تتبعها إدارة بايدن، وتُحرر المزيد من الموارد الأميركية وتوجيهها إلى ما يُنظر إليه على أنه مخاوف تتعلق بالأمن القومي للولايات المتحدة في مناطق قيد التسخين في العالم كمحور التعامل مع الصين، ومنطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
وهذا العجز الأوروبي قد اعترف به أعضاء الناتو الذين اعتمدوا على القوات الجوية والنقل والخدمات اللوجستية الأميركية خلال عقدين من وجودهم في أفغانستان، وإنهم أجبروا على الانسحاب أيضًا. ومن ذلك ما أكده جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في مقال له في صحيفة نيويورك تايمز بقوله: "لكن في النهاية، تم تحديد توقيت وطبيعة الانسحاب في واشنطن، لقد وجدنا أنفسنا نحن الأوروبيين - ليس فقط في عمليات الإجلاء من مطار كابول، ولكن أيضًا على نطاق أوسع - معتمدين على القرارات الأميركية". والشاهد في ما يجري هو تذكير الولايات المتحدة الأوروبيين من خلال الأحداث التي تصنعها وتقودها بعجزهم، وتحذيرهم من الخروج عن إرادتها أو البحث عن مصالحهم بمعزل عنها، وبخاصة وأن المبادرات الأوروبية تأتي دائمًا في ظل التهديدات وحالة عدم اليقين التي تكرسها الولايات المتحدة بشأن الأمن الأوروبي، ومن ذلك زيادة التدخلات الروسية والطموحات الصينية في شرق أوروبا وإفريقيا، وقيام الولايات المتحدة بتخفيض عدد القوات الأميركية في أوروبا، وانسحابها من اتفاقية الصواريخ القصيرة والمتوسطة، ودعم انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ للوصول من ذلك كله إلى تعزيز دور الناتو وإرغام الدول الأوروبية على الوفاء بالتزاماتها بالحد الأدنى للإنفاق الدفاعي وهو ظ¢ظھ من الناتج المحلي.
إن وعي الأمة الإسلامية على السياسة الدولية ومكر الدول الاستعمارية، وفحصها لقياداتها وقواها الداخلية، وارتكاز المسلمين في مواقفهم من الأحداث إلى شريعتهم، هو الضمان الأكيد لتجنب الفخاخ واتقاء النكبات التي تحل بهم وبديارهم، فإذا كان تسلم طالبان الحكم في أفغانستان قد دق ناقوس الخطر في أوروبا والصين وروسيا، ودعاهم لاتخاذ التدابير لحماية مصالحهم، فمن باب أولى أن تُحصن الأمة الإسلامية جبهتها الداخلية بالوعي والعقائدية وتجنب الانجراف العاطفي الموجه لتسخير أبنائها وقودًا في معارك ليست معاركهم.
فعقب التفجيرات المنسوبة لـ"تنظيم الدولة" في كابل، والتي وفرت مبررًا لأميركا وطالبان للتعاون فيما بينهم، صرَّح رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي الجنرال مارك ميلي يوم الأربعاء "إنه بالنظر إلى العدو المشترك، والتنسيق الذي حدث أثناء الإخلاء، "من الممكن" أن تنسق الولايات المتحدة مع طالبان بشأن تلك الضربات". وهو ما يستوجب من المسلمين الحذر مما يسوقه الإعلام والجهلة والمندسون، حتى لا يبقى شلال الدماء الذي فجره الغرب وعلى رأسه أميركا في بلاد المسلمين منهمرًا.
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}
29/محرم/1443هـ
6/9/2021م