المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول مخرجات قمة بايدن وبوتين "الاستقرار الاستراتيجي"



Abu Taqi
07-07-2021, 01:10 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
مخرجات قمة بايدن وبوتين "الاستقرار الاستراتيجي"

انعقدت القمة الروسية الأميركية التي دعا إليها بايدن بفيلا "لاغرانج" التاريخية في جنيف بتاريخ ١٦ حزيران/يونيو٢٠٢١، وقد سبقها قيام الولايات المتحدة بتطبيق عقوبات إضافية على روسيا؛ بغرض حشد الحلفاء والشركاء من خلال قمة الدول الصناعية السبع وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، في عملية سياسية مبرمجة لتوحيد صف الدول الديمقراطية لخوض معركة تعتبرها الولايات المتحدة "وجودية" مع "الأنظمة الاستبدادية"، والمقصود بهما روسيا والصين بشكل خاص، حيث صرَّح بايدن أمام قوات سلاح الجو الأميركي في قاعدة ميلدينهول في بريطانيا "تقف ديمقراطيات العالم معًا لمعالجة أصعب التحديات والقضايا الأكثر أهمية في مستقبلنا"، مؤكدًا على أهمية هذه الجولة الرئاسية الأولى، بقوله: "نحن في نقطة ارتكاز في تاريخ العالم، وعلينا إثبات أن الديمقراطيات ستتفوق من خلال نهوضنا لاستغلال الفرص الهائلة للعصر الجديد".
كما تأتي أهمية هذا اللقاء في ظل مجموعة من الاتهامات التي وجهتها الإدارة الأميركية لروسيا، ومنها تهديد أمن واستقرار أوروبا عبر تدخلها في شؤون أوكرانيا، ودعمها للمنشقين، والاختراقات السيبرانية، وخروقات حقوق الإنسان في روسيا وروسيا البيضاء، واستخدامها للطاقة كسلاح استراتيجي لتهديد أمن الطاقة الأوروبي، والتدخل في الانتخابات الأميركية والدول الديمقراطية، ونعت بايدن المباشر لبوتين بـ "القاتل من دون روح" واصفًا روسيا بأنها "مذعورة"، وما تبع ذلك من تصعيد نحو استدعاء البلدين سفراءهما، ودفع روسيا بأكثر من ١٣٠ ألف جندي ومئات القطع العسكرية في إطار ما وصفته موسكو بالتدريبات العسكرية، والذي استغلته واشنطن لإثارة فزع أوروبا من اندلاع حرب مع روسيا، ولوأد أية محاولات تقارب بعد اللقاءات الافتراضية التي جمعت بوتين وماكرون وميركل، مما حدا ببوتين إلى التصريح بأن العلاقة بين البلدين في أسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة، ورد بايدن بقوله "إنه مصيب في تقييمه".
ولكن ما لبث أن تغير نهج كلا الدولتين مع اقتراب موعد القمة، فقد صرَّح بايدن عشية انعقاد قمة السبع "نحن لا نسعى لنزاع مع روسيا، فنحن نريد علاقة مستقرة وقابلة للتنبؤ"، مضيفًا "نحن كدولتين لدينا مسؤوليات كبيرة، ومن بينها ضمان "الاستقرار الاستراتيجي"، ومن جهته بالغ بوتين في الإطراء على بايدن واصفًا إياه "برجل ذي خبرة ومتزن ودقيق"، موضحًا في لقاء مع قناة التلفزيون الرسمية أن هناك "قضايا يمكن لنا العمل معًا" ومنها الحد من التسلح النووي والنزاعات الإقليمية والبيئة "وإذا ما تمكنا من إنشاء آلية للعمل على هذه القضايا فعندها يمكن لنا القول أن القمة لم تكن عبثية".
وكما هو معلوم أن روسيا تسعى للحفاظ على قوة حضورها في معادلات السياسة الدولية، وبخاصة في مناطق نفوذها السابق لحماية مجالها الحيوي، والحد من تراجعها مع تمدد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتسعى كذلك للبقاء عنصرًا مهمًّا في معادلة الأمن والسلام الأوروبي، كما تسعى إلى إقناع أميركا بالانتفاع منها بدل معاداتها، وهذا ما يؤكده تصريح بوتين في منتدى أوروبا الاقتصادي المنعقد في مدينة بطرسبرج بقوله إن "الولايات المتحدة تسعى لاحتواء تطور روسيا"، وقوله: "يجب على العالم أن يعيَ حقيقة استعادة روسيا لمكانتها وقوتها"؛ أي الإقرار بأهمية دورها واحترام مكانتها السياسية على المستوى الدولي، ويؤكده أيضًا التصعيد العسكري على الحدود الأوكرانية الذي أرسل بوتين من خلاله رسالة لأميركا بعدم تجاهلها لروسيا وتسخيرها لها بلا مقابل.
إن أهمية القمة بالنسبة لبوتين هو أن تجلس روسيا على الطاولة كندٍّ مع أميركا، وتثبيت دورها وأثرها على الوضع السياسي والأمني الأوروبي. وهذا لا يتعارض مع أهداف أميركا في مجملها، بل سعت اليه أميركا لإعادة تذكير أوروبا بمخاطر "سلوك روسيا المشين"، من خلال عدة أحداث سياسية خلال الأشهر الأولى لإدارة بايدن (اعتقال نافالني والحشد العسكري على حدود أوكرانيا وقمع المظاهرات في روسيا)، حيث سارع البيت الأبيض بدعوة الكرملين لعقد قمة رئاسية خلال أول رحلة خارجية للرئيس الأميركي وفي الشهر الأول من إدارته، مما يُفهم منه دبلوماسيًّا إطراءً لروسيا واستجابة لرغبة بوتين أن يكون "عضوًا في النادي" والحصول على "الاحترام بشروطه"، وبخاصة ما ترمز إليه جنيف التي ضمت اجتماعًا لريجان وجورباتشوف سنة ١٩٨٥، وهو عين ما قصده بايدن في كلمته الافتتاحية واصفًا حالة الدولتين بأنهما "قوتان عظيمتان".
وكما يبدو أن أميركا أرادت من هذه القمة تدشين علاقة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، قوامها التفاهم، وتمكين بايدن من رسم ملامح السياسة الدولية والعلاقة مع أوروبا، وتمكينه من إعادة إنتاج القوة الناعمة والرأسمالية "الخادمة للشعوب" والديمقراطية الليبرالية واحتواء الصين لقاء فتات يُغذي موقف بوتين الداخلي.
ولم تأت هذه النتائج من فراغ، بل هي نتيجة طبيعية لرغبة بوتين في تفادي الصدام مع بايدن ومحاولة الاتفاق معه حول مساحة الخلافات والتفاهمات، بالإضافة إلى أنها نتيجة حتمية لسياسة العقوبات الطائلة التي أوقعتها أميركا وحلفاؤها على روسيا منذ غزوها وضمها لشبه جزيرة القرم سنة ٢٠١٤، وما نجم عنها من تداعيات على شهية بوتين في الحضور والانتصارات الخارجية، حيث تمكنت أميركا من خلال العقوبات من كبح جماح بوتين والحد من تطلعاته الخارجية التي تُغذي سيطرته الداخلية، وجعلت تكلفة عوائد سياسته الخارجية على اقتصاد بلاده وصورته الشعبية أكبر من مكاسبه الشخصية والقومية. ومن الأمثلة على ذلك مظاهرات شهري آذار/مارس ونيسان/إبريل ٢٠٢١، وفي سنة انتخابات ذات أهمية وهي انتخابات مجلس الدوما في شهر أيلول/سبتمبر ٢٠٢١، وهذا إلى جانب مواصلة أميركا سياسة العصا والجزرة مع بوتين، حيث توعدت إدارة بايدن بـ"الرد بالمثل" وبشكل "قوي" ومواصلة تمويل خطة فطم أوروبا عن الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، مما جعل روسيا تدرك عدم إمكانية استمرارها في الإنفاق العسكري، وبخاصة مع طائلة العقوبات المالية والاقتصادية والسياسات الموجهة نحو مصدر دخلها الرئيس من صادرات الطاقة، وكذلك مع تصاعد التذمر الداخلي من الوضع الاقتصادي ومن سياسة توجيه عناية الدولة لتطوير ترسانتها النووية بشكل يمنحها تفوقًا على الولايات المتحدة في مجالات الصواريخ البالستية التي تفوق سرعة الصوت (Hypersonic Systems)؛ لدعم رادعها النووي والذي فقد جزءًا من قدرته بسبب "نشر أميركا لبطاريات منظومة دفاع الصواريخ في دول شرق أوروبا". وهو الأمر الذي استغله بايدن كجزرة مقابل عصا العقوبات حيث صرح "ستنظر الدول الأخرى إلى روسيا بشكل أكثر تفضيلًا للاستثمار والتجارة إذا احترمت موسكو الحقوق السياسية في الداخل وعملت وفقًا للمعايير الدولية".
وبناءً على ذلك يمكن فهم مقصد "الاستقرار الاستراتيجي" الذي أعلنه كلا الرئيسين عقب انتهاء القمة كأداة لإدارة العلاقة بين البلدين، ويتضح ذلك من إدراك المدخلات الجديدة والإيضاحات التي أدرجتها أميركا على التعريف الكلاسيكي لـ "لاستقرار الاستراتيجي" والذي يعود لفترة الحرب الباردة، وبخاصة تلك التي تلت اتفاق القطبين في مؤتمر فينا في عام ١٩٦١، وموافقة الاتحاد السوفيتي بقبول مبدأ التعايش السلمي.
ومن الواضح أن أميركا تحاول إيهام العالم أن الموقف الدولي "متعدد الأقطاب" و"أكثر تعقيدًا"، ويبرز ذلك في تصريح بايدن عقب اللقاء بقوله:"أخبرت الرئيس بوتين أننا بحاجة إلى بعض القواعد الأساسية للطريق التي نلتزم بها جميعًا". وهي سياسة دأبت عليها الولايات المتحدة لإخفاء جرائمها وإيكال المهام القذرة لغيرها، بالإضافة إلى خلق بؤر توتر وفزاعات تُرغم دول العالم على الانقياد لها وتنفيذ سياساتها.
وعليه فإن المغزى من إعادة طرح مسألة "الاستقرار الاستراتيجي" لا يتعلق بضبط قضية التسلح النووي، التي تعتبر حالة طبيعية ودائمة في العلاقة بين أميركا وروسيا كلما حَدّث أحد الطرفين ترسانته النووية، ولا يتعلق بإعادة تعريفه ليشمل القضايا السبرانية والفضاء والذكاء الاصطناعي والطائرات من دون طيار" فقط، بل هو حسب قول السفير الألماني روديجر بونل "دمج وتكييف الترتيبات القائمة مع التحديات الأمنية والتكنولوجية الجديدة والمجالات الأمنية المستحدثة".
ومن قراءة ذلك كله يتضح وجود هدفين لهذه الرؤية الاستراتيجية الأميركية؛ الأول، هو استخدام منظومة الحد من التسلح وإدارة واحتواء مخاطر السلاح النووي، والتي تعد معاهدة دولية تحت إطار القانون الدولي وآلياته مثل "التفتيش والتحقق والإفصاح"؛ لتطبيق ذلك على "مجموعة القضايا الاستراتيجية الحالية والمستقبلية" وذلك لتلافي ما قد يهدد استقرار الموقف الدولي ومركزية أميركا، والثاني، هو إفهام الصين تحديدًا أن العمل السياسي والنشاطات والعلاقات مع الولايات المتحدة والعالم سيكون عبر الالتزام بضوابط وقواعد النظام الدولي، والذي يحقق القيم الأميركية ويخدم المصالح الأميركية وأمنها القومي، وإقحام الصين في مباحثات "الاستقرار الاستراتيجي" وضمها لمعاهدات الحد من التسلح؛ باعتبار أن وضع سياسة التسلح الصينية وتعقيد تحديثها من حيث أنظمة التوصيل والقدرة والمدى "يشوبها" عدم الشفافية بحسب الخبراء.
وهذا التوجه للولايات المتحدة حيال العلاقة مع أوروبا والصين يقتضي إدامة حالة عدم اليقين بشأن السلوك السياسي الروسي، وهو ما ظهر جليًّا في مطالبة بايدن بعلاقة مع روسيا "يمكن التنبؤ بها"، ووصفه لروسيا بدولة عظمى، بخلاف وصفها بدولة إقليمية من قِبل أوباما، ونفيه في مؤتمره الصحفي بأن "بوتين سيغير سلوكه"، ويقتضي التوجه الأميركي أيضًا تفعيل "حرب النماذج" ومأسسة الرأسمالية بنسختها الأميركية الديمقراطية الليبرالية عالميًّا، كما يقتضي مساومة روسيا وإعادتها لـ "عضوية النادي" ومنحها رأيًّا وتأثيرًا مشروطًا ومنضبطًا بأجندة عمل تحددها الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد صرَّح الرئيس بايدن: "قلت أيضًا إن هناك مجالات يوجد فيها اهتمام مشترك بالنسبة لنا للتعاون من أجل شعبنا، الشعبين الروسي والأميركي، ولكن أيضًا لصالح العالم وأمن العالم" وذلك بهدف إدارة المخاطر المؤثرة على "الاستقرار الاستراتيجي" الضامن لمركزية الولايات المتحدة، واحتوائها للدول التقليدية المنافسة عبر المعاهدات الدولية التي تُرسخ "الأعراف والقواعد للسلوك المسؤول" وتجريم "السلوك المُشين"، وتحديد (آليات تقليص المخاطر والإسناد والتحقق) ومنها توسعة استخدام منظومة "السلوك الدولي" المنبثقة عن معاهدة لاهاي والتي من خلالها تم تحديد ضوابط وقواعد منع انتشار الأسلحة النووية والبالستية لتشمل مفهوم "الاستقرار الاستراتيجي"، عبر تطبيق مبدأ بايدن "القوة العالمية المتنامية تتطلب أيضًا نضوج المسؤولية".
26/ذي القعدة/1442هـ
7/7/2021