المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وحدة الأمة والدولة قضية مصيرية



Abu Taqi
06-05-2021, 12:21 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

وحدة الأمة والدولة قضية مصيرية
لقد واجه الإسلام منذ فجره الأول وعبر تاريخه وإلى يومنا هذا تحديات جمـة، وتعرض أهله لشتى صنوف التنكيل والاضطهاد والتشويه، ولم يسلم منها حتى نبيهم الكريم، لكنهم واجهوا تلك التحديات بعزيمة الرجال المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ لإدراكهم أن دينهم ووحدتهم المجتمعية والسياسية هي قضية مصيرية يتحدد معها مصيرهم ومصير رسالتهم التي لا تخاذل ولا تهاون ولا تكاسل بشأنها. والصراع الدموي الذي صَحِب الصراع الفكري منذ وُجدت الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية في المدينة حتى اليوم إنما هو دفاع عن القضايا المصيرية التي حتمها دين الإسلام ورسالته العالمية، ولهذا كان اتخاذهم إجراء الحياة أو الموت إزاءها أمرًا حتميًا وبديهيًا.
ولعِظم أمر الجهاد ودوره في حراسة العقيدة والأمة والدولة وتبليغ الرسالة كان فرضًا من أعظم الفروض، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ». ولأمرعظيم، كان الجهاد ماضيًا إلى قيام الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: «الجهادُ ماضٍ مع البَرِّ والفاجرِ». ولذلك لم يتوانَ المسلمون لحظةً عن الدفاع عن قضاياهم المصيرية، ولم يترددوا مطلقًا في اتخاذ إجراء الحياة أو الموت في كل قضية مصيرية، فحين حصل لهم ما يهدد مصيرهم كأمة وكدولة، في الحروب الصليبية، اتخذوا إزاء ذلك إجراء الحياة أو الموت، فخاضوا ضد الكفار الصليبيين حربًا ضروسًا مدة تزيد عن قرن. واستطاعت الأمة الإسلامية أن ترُد عن نفسها الضربة المميتة. وكذلك فعلوا أثناء غزو المغول لبلاد الإسلام، فقد اعتبرت الأمة الإسلامية غزو المغول أمرًا يهدد مصيرها فاتخذت نحوه إجراء الحياة أو الموت، وخاض المسلمون ضدهم حربًا بذلوا فيها الأرواح رخيصة حتى كان لهم النصر المبين.
فقد كان الإدراك الواضح لخطرالقضايا المصيرية يتجلى بشكل بارز لدى المسلمين، فلم يكن من المحتمل أن يحصل لهم ما يهدد مصيرهم دون أن يَتخذوا إزاءه ما أوجبه الإسلام، ألا وهو إجراء الموت أو الحياة. ولم يحصل للأمة الإسلامية ولا للدولة الإسلامية عدم الإدراك للقضايا المصيرية وعدم الوعي عليها، وبالتالي عدم الإدراك للإجراءات والوعي عليها والقعود عنها. غير أنه لمّا ضَعُف فهم الإسلام إلى حد الانحراف، وضَعُفت التقوى في النفوس إلى حد السكوت عن الكفر البواح، فَقَدَت هذه القضايا المصيرية اعتبار أنها مصيرية، ولم يُتخذ تجاهها إجراء الحياة أو الموت، وحينئذ حصل تهديد المصير، ولم يَبذل المسلمون دماءهم وأرواحهم رخيصة لدفعه، فحصل هدم الخلافة، وإزالة نظام الإسلام، وحصل تهديد الأمة الإسلامية كلها بالفناء.
إن وحدة الأمة، ووحدة الدولة، من أهم القضايا المصيرية في الإسلام، ويتجلى ذلك في مسألتين: إحداهما قضية تعدد الخلفاء، والثانية قضية البغاة. عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فاقْتُلُوا الآخَرَ منهما»، فجَعَل وحدة الدولة قضية مصيرية حين مَنَع تعدّد الخلفاء، وأمَرَ بقتل من يحاول أن يوجِد تعدّدًا في الخلافة، أو يَرجِع عن فعله. وأما بالنسبة للبغاة، فقد قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ ذلك أن مَن ثَبَتَت إمامتُه للمسلمين؛ أي مَن ثَبَتَ كونُه خليفة للمسلمين يحرم الخروج عليه، لِما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم، لقوله عليه السلام: «فمَنْ أراد أنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هذِهِ الأُمَّةِ وهِيَ جميعٌ، فاضرِبُوهُ بالسيْفِ، كائِنًا مَنْ كانَ». فهؤلاء الخارجون على الإمام الشرعي بُغاة يُستتابون، وتُزال شبهاتهم، فإن هم أصرّوا، قوتِلوا.
وبمنْع تعدّد الدولة، ومنْع الخروج عليها، ومنْع شق عصا الأمة، كانت وحدة الدولة ووحدة الأمة من القضايا المصيرية؛ لأن الشارع جعل الإجراء تجاهها إجراء حياة أو موت، فمن يفعلها إما أن يرجع وإما أن يُقتل. وقد نفّذ المسلمون ذلك في عصورهم الأولى: عهد الخلفاء الراشدين، والأمويين، وفي فترة قوة الخلفاء العباسيين-باستثناء الأندلس-، وكانوا يعتبرونه أمرًا من أعظم الأمور وأخطرها، وكانوا لا يتساهلون فيه مع أي مسلم كائنًا من كان. والأخبار الثابتة في ذلك أكثر من أن تحصى. ولكن لمّا ضَعُف الخلفاء، ثم لمّا ضَعُف فهْم الإسلام، سكتوا عن انسلاخ بلاد إسلامية عن جسم الخلافة، فشُقّت عصا المسلمين، فكانوا دولًا، مع أن انسلاخ بلد عن جسم الدولة، قضية مصيرية، تقتضي إما رجوعهم إلى جسم الدولة، وإما حربهم، مهما كلف ذلك من نفوس وأموال.
وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنّة على وجوب وحدة الأمة، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ يَرضَى لَكُم ثَلاثًا وَيَكْرَهُ لَكُم ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُم: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تِشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعًا ولاَ تَفَرَّقُوا...» فهذا أمر للأمة جميعها بالاعتصام بحبل الله. كما حرّم اللهُ ورسولُه الاختلاف والتنازع، فهو من أسباب الفشل، وذهاب القوة والدولة، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: «لاَ تَخْتَلِفُوا، فإنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُم اختَلَفوا فَهَلَكوا».
كما انعقد إجماع الصحابة على ما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، من وجوب وحدة المسلمين، وتحريم اتخاذهم أكثر من أمير، ولم يُنكِر أحدٌ مِن الصحابة على أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، قال رضي الله عنه: "إنه لا يَحِل أن يكون للمسلمين أميرانِ، فإنه مهما يَكُن ذلك يَختَلف أمرُهُم وأحكامُهُم، وتتفرّقُ جَماعتُهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تُترك السنّة، وتَظهر البدعة، وتَعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح".
والتاريخ الإسلامي حافل ببيان قيمة وحدة المسلمين، فها هو خليفة المسلمين هارون الرشيد عندما رأى سَحابة فـي السماء وهي تَسير، خاطبها قائلًا: "اذهبي حيثُ شئتِ، فسيأتيني خَراجُك". وعندمـا كان المسلمون أمة واحدة مُهابة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، جهّـز الخليفة العباسي المعتصم جيشًا لحـرب الروم، استجابـة للصرخة الشهيرة لإحـدى النساء المسلمات: "وامعتصماه". ويكفـي أن نشير إلى ما كان يتمتع به المسلمون من مكانة مرهوبة في المجتمع الدولي _حتى في أشد فترات ضَعْف دولتهم الإسلامية تحت حكم العثمانيين، التي أطلق الغرب عليها اسم "الرجل المريض"_، فحتى في مثل هذه الفترة البائسة من تاريخ المسلمين، كان يُحسب فيها للمسلمين _في المجتمع الدولي_ ألف حساب! وذلك بسبب الوحدة التي كانت تضم معظم المسلمين في ذلك الوقت. يقول أحد المبشرين: "إن أوروبا كانت تَفزَع من الرجل المريض؛ لأن وراءه ثلاثمائة مليون من البشر مستعدين للجهاد، بإشارة من إصبعه".
وقد أدرك أعداء المسلمين مطلع العصر الحديث ذلك، ومن أجل هذا رسموا الخطط، ووضعوا الأساليب لتفتيت وحدة المسلمين، وتفكيك دولتهم، وكان من معاول الهدم التي استخدمها العدو لهذا الغرض: نشر الأفكار الوطنية والأفكار القومية بين الشعوب التي تتألف منها الأمة الإسلامية، فكان من نِتاج ذلك، سقوط الخلافة الإسلامية، واستيلاء المستعمرين على معظم البلاد الإسلامية، ثم عَمِلوا على تجزئتها إلى دويلات هزيلة، ليسلّموها فيما بعد إلى حرّاس من أهل البلاد، صَنَعوهم على أعينهم؛ ليحافظوا على تلك التجزئة، خدمة لمصالح المستعمرين، تَبَعًا لسياسة (فَرِّقْ تَسُدْ)، فقَسّموا الأمّة الإسلامية إلى قوميات عربية وتركية وكردية وفارسية وأمازيغية، بل كانت الفكرة القومية هي الأداة التي استُخدمت لهدم دولتهم، ثم قسّمت البلاد التي تنطق باللغة العربية إلى وطنيات وأوطان، مصر والعراق واليمن والسودان، وغير ذلك من الدويلات، على أساس الوطن والوطنيات، ليصبح أهل البلاد حراسًا على هذا التمزيق بحرصهم على الأسماء وعلى ما يسمى بالوطن والوطنيات. وبذلك تمّت عملية تضليل مجرِمة أوجدت هذا الذي نراه من دول كرتونية هزيلة أضعفت المسلمين ومزقتهم وجعلت بأسهم بينهم، وما نَعْرة فلسطيني ولبناني وسوري وعراقي بأقل خطرًا من نعرة عربي وكردي وتركي وفارسي وأمازيغي وفارسي، فكان نجاح هذه العملية التضليلية منقطع النظير، وكانت هذه التجزئة من أهم أسباب الضعف والهزال، واستمرار استعمار البلاد بشكل مباشر وغير مباشر، وسبب ضياع الأنفس والثروات والأموال، والذل والخنوع الذي نعيشه الآن.
إن مما لا بد من إدراكه اليوم، أنْ لا حَلّ لِما تعانيه الأمة الإسلامية من ضعْف وتشرذم وهزال، ولا طريق للقوة والعزة ولجم الدول المتغولة إلا بالوحدة على أساس الإسلام، فهو الطريق الوحيد للتحرر والتحرير، فلا بد من توحيد الصفوف، ونبذ الخلافات، والقضاء على كل أشكال التجزئة وتجفيف منابعها، التي فرضها الاستعمار علينا، والارتفاع عن الفردية الضيّقة التي وفدت على المسلمين من خارج ثقافتهم، ولا بد من بذل التضحيات الكبيرة حتى نعود، كما كُنّا، أمة واحدة، ودولة واحدة، لنكون أمة مُهابة عدلاً شاهدة على الناس، كما أراد الله لها أن تكون ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، وحتى ترجع خير أمة أخرجت للناس ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
وقد يظن البعض أنّ الحديث عن الوحدة الإسلامية في العصر الحاضر مستحيل، وضرْبٌ من الخيال، وذلك لِما هو مشاهَد من حال المسلمين من الفرقة والاختلاف. والحق أن ما صلح به أمر هذه الأمة في أولها كفيل بأن يصلح حالها اليوم وفي كل وقت إذا عدنا إليه واستمسكنا به، سيما وأن وحدة المسلمين اليوم قد بات مطلبا وضرورة تفرضها التحديات السياسية فوق كونها ضرورة شرعية وقضية مصيرية. فيجب على كل مسلم مخلص أن يدرك أن قضية وحدة الأمة الإسلامية هي من القضايا المصيرية، وهي غاية وهدف يجب أن يُسعى إليه. فتوحيد الأمة في أفكارها ومشاعرها وأنظمتها، وتوحيد أقطارها، في كيان واحد، وصهرها في دولة واحدة، وتحت سلطة واحدة، وحاكم واحد، هذه الوحدة بهذا المفهوم، فرضٌ من الفرائض الإسلامية، كالصلاة والصوم والجهاد، بحيث يأثم المسلمون بإهمال السعي الجاد إلى تحقيق هذا الفرض، كما يأثمون حين يُهمِلون أيّ فرض من الفرائض الإسلامية، وهي من القضايا المصيرية التي يجب أن تُبذل لتحقيقها المُهج والأرواح، والأموال والأولاد.
والقرآنُ والسنّة هما الأساسُ الذي ينبغي أن تقوم عليه الوحدةُ بين المسلمين، وذلك بوضعهما موضع التطبيق أفرادًا وجماعات، وفي الدولة والمجتمع. وليس معنى هذا، أن المسلمين إذا لم يُحكِّموا القرآن وسنّة نبيّهم في حياتهم فليس عليهم أن يُقِيموا الوحدة فيما بينهم! لا، بل إن وحدة المسلمين فرض، وإقامة الوحدة على أساس القرآن والسنّة فرض أيضًا، وليس أحد الفرضيْن شرطًا للآخر، فالواجب هو العمل على إيجاد الوحدة، والعمل على تحكيم شرع الله في هذه الوحدة، فإذا قامت الوحدة قَبْل تحكيم الشرع فقد سَقَط عن الأمة واجبٌ من الواجبات، وبقي عليها أن تعمل لتحقيق الواجب الآخر.

Abu Taqi
06-05-2021, 12:22 AM
والطريق لتحقيق الوحدة يكون بالسعي لها، وذلك بالتقيد بالأحكام الشرعية المتعلقة بها وجعلِها رأيًا عامًا مسيطِرًا بين المسلمين، وضاغطًا على من يقفون حائلًا دون ذلك، وهدْم أي فكرة مناقضة لها، فيجب جعل الأخوّة بين المسلمين على أساس الإسلام هو الرابط بينهم بغضّ النظر عن اختلاف ألوانهم، وأعراقهم، ولغاتهم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وقوله هذا قد جاء في سياق الاقتتال الذي من الممكن أن يحصل بين المؤمنين ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، فلا بد دائمًا من ملاحظة أخوّة الإيمان والقيام بحقها، حتى والدماء تسيل. وحرّم الإسلام إثارة النعرات والنزعات، والتفاخر، واعتبر ذلك لونًا من ألوان الجاهلية، فقد وَرَد أنّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، غضب مرة على خادمه، فقال له: يا ابن السوداء (يعيّره بأمه السـوداء)! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».
كما دعا الإسلام إلى القضاء على كل أشكال العصبية الإقليمية أو الوطنية؛ لأنها من عوامل الفرقة بين المسلمين، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «ومن ادّعَى دعوى الجاهليةِ، فإنه من جُثاءِ جهنمَ، فقال رجلٌ :يا رسولَ اللهِ وإن صلّى وصامَ؟ فقال: وإن صلّى وصامَ. فادْعُوا بدعْوى اللهِ الذي سماكُم المسلمينَ المؤمنينَ عبادَ اللهِ». ومع أن وصْف المهاجرين والأنصار في الأصل هو وصف مدْح، فإن التخاصم والتداعي على أساسها، والتفريق بين المسلمين بناءً عليها، جُعل من دعاوى الجاهلية النتنة، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة، فكَسَع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ». قالوا: يا رسول الله كَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». فالفضل إنما يكون بالتقوى فقط، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، ولاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، ولاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، ولاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إلاّ بِالتَّقْوَى».
والأمّة الإسلاميّة تَجمَعُها جوامعَ كثيرة؛ يَجمَعُها كتاب الله وسنّة رسوله، ويَجمَعُها إيمانها اليقيني الراسخ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويَجمَعُها أخوّة الإيمان رغم وجود كل محاولات القضاء على هذه الأخوّة، ويَجمَعُها نظرتها الواحدة إلى الحياة بأنّها زائلة، وأنها دار مَمَر، وليست دار مُستقَر، ويَجمَعُها أنّ الحلال والحرام هو مقياس أعمالها في الحياة، ويَجمَعُها أنّ سعادتها تكون بالسّعي لنوال رضوان الله عز وجل. فهي تملك كل العناصر اللازمة للوحدة. وهي أمّة شابّة، حيوية الفكر ملتهبة المشاعر مُقبِلة على الحياة، غنيّة بالطاقات في سائر المجالات، وهي طاقات ضخمة وقوية وعماد أية نهضة. أما بلادهم، فعلاوة على موقعها الجغرافي المميز، وعدد سكانها، وطبيعته، فإن مواردها الطبيعية التي تزخر بها من مياه وأراضٍ زراعية ونفط ومعادن، إذا استُغِلت بشكل صحيح، إلى جانب الفكرة العظيمة التي تعتنقها الأمة، كفيلة بنقلهم من الفقر والتخلف إلى النهوض والرفاه والتفوق على سائر الأمم والشعوب.
وختامًا، في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها الأمة الإسلامية مِن تفرّقها دولٍ وأحزابٍ وجماعات، فإنّ السؤال الكبير الذي يواجه كل مسلم هو: كيف يمكن أن تتوحد الأمة؟ وكيف تخرج من التيه وحالة الانقسام إلى حالة الوحدة وجمْع الكلمة والنهوض الذي يتطلع إليه الجميع؟
بدايةً، فإنّه من المعلوم أنّ الخلاف والاختلاف، أمر لا يمكن إنهاؤه أو رفعه، فالخلاف سنّة من سنن الوجود، ومن يسعى وراء إنهائه فإنما يسعى وراء ما لا يمكن أن يتحقق، بل وليس مطلوبا في المقام الأول. والاختلاف الذي نتحدث عنه هنا، هو الذي يكون داخل دائرة الإسلام، في فهم نصوصه حسب ضوابط وأصول الفهم المعتبَرة عند المسلمين؛ أي بما تحتمله دلالات نصوصه حسب المعاني اللغوية والمعاني الشّرعية. فالتفاوت بين الناس _ومنهم العلماء_ في الفهم، سنّة الله سبحانه وتعالى، ووقوع الخلاف أمر لا مفرّ منه؛ لأنّ فهم تفصيلات الإسلام ظنيّة محتملة، ثمّ إنّ تطبيقات هذه الأحكام على الوقائع بعد توصيفها، ممكن أن يُختلف فيها أيضًا، لذلك وُجدت أحكام الشّورى والإمارة والطاعة والقضاء، لعلاج وتنظيم وضبط هذا الخلاف، ولِتَسِير الجماعة كوحدة واحدة.
ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أن هذا الخلاف _حسب الضّوابط المذكورة_ أمر صحيّ وإيجابي، وليس سلبيًّا، فإنّ الخلاف وتعدّد الأفهام يوجِد التفكير، والنظر، والتمحيص والإبداع، ويوجِد خيارات متعددة لحل المشكلات الإنسانيّة، ويثري الثروة التشريعيّة في الأمّة، فالخلاف في الفهم يوجِد الحركة الفكريّة _وهو أمر ضروري ولازم_ داخل الأمّة، والذي هو الضّامن لبقاء نهضتها وسيرها في طريق الكمال.
لذلك لا بد من إدراك أن تَحقُّق نهضة الأمّة الإسلاميّة لا يكون إلّا إذا التزمت مرجعية الوحي ووَضعت الإسلام _وهو ما تُؤمِن به_ موضع تطبيق في الدولة والمجتمع، فسيّرت إرادتها بحَسْبِه كجماعة، ونظّمت حياتها على أساسه، فأوجدت بذلك كيانها الذّاتي المستقل _دولة_ لرعاية مصالحها وتسيّرها حسب ما تُؤمن به، فيوجَد الانسجام في حياتها بين ما تؤمن به وبين ما يُطبَّق عليها، وبذلك يوجَد الدافع الداخلي الطبيعي للتقدم في جميع جوانب الحياة.
وهذه القضية هي ما يجب أن تعي عليه كل الحركات والأحزاب والتوجهات، فالقضية هي وعي الأمة على إسلامها كعقيدة، تُصوِّر الحياة تصويرًا معينًا مغايرًا للحضارة الغربية التي تفصل الدين عن الحياة، وهذا أمر متفق عليه، وبوصفها رابطًا يربط المسلمين وينظم علاقتهم بغيرهم من بني الإنسان، وهذا أمر متفق عليه، وبوصفها عقيدةً مرتبطة بالحياة في جميع جوانبها، فردًا وجماعة ودولة ومجتمع، وهذا أمر متفق عليه أيضًا عند من يؤمن بالكتاب والسنة، وأن مقياس أعمالنا هو الحلال والحرام حتى لو تعدّدت الأفهام واختلفت، وبكوْن الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا من خلال دولة، وهذا أمر بديهي، وأن الجهاد هو الطريقة لحماية كيان الأمة وحمل الدعوة للعالم، وبهذا يمكن أن تُجمَع الأمة. ووعي الحركات والأحزاب على ذلك، هو الذي يوحدها ويوحد نظرتها إلى الحياة والدولة والمجتمع، ويجعل وجودها إيجابيًا، فهو الذي يوجِد الحركة الفكرية المطلوبة؛ ويُسيّر الأمة أفرادًا وجماعات في طريق الوحدة والتحرر والنهوض، ويجعل سيرها منتجًا، وبذلك تكون وحدة الأمة والدولة نِتاجَ مبدأ وُجدِ في الأمة فاندفعت لوَضْعِه موضع التطبيق، والأمة هي صاحبة الحق في اختيار الأقدر والأصلح لخدمتها فتنقاد إليه وتسير معه لوضع الإسلام موضع تطبيق، فتمارِس إرادتها وتوجِد كيانها السياسي الممثِّل لكل الأمة وتوجهاتها وتحافظ عليه.
23/رمضان/1442هـ
5/5/2021م