Abu Taqi
25-04-2021, 02:47 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة فكرية
نسبية الحقيقة فكرة خيالية وباطلة وتناقض يقينيات الدين
لا بد أولا وقبل كل شيء أن ندرك أن القول بنسبية الحقيقة وما انبثق عنها من مفاهيم كمفهوم (الرأي والرأي الآخر) هي أحدى أسس ومنطلقات القراءة المعاصرة للإسلام، والتي تهدف إلى تعويمه وتقويضه وتكييفه مع الواقع، ولا بد أن ندرك أيضًا أن هذه الفلسفة لا تنفك عن السياق السياسي والحملة الأميركية الأطلسية على الإسلام والمسلمين لمسخ هويتهم وتغيير دينهم ومحو الحدود بين الإسلام والكفر، وعلمنة عقلية المسلمين وإبعادهم عن دينهم ومصدر عزتهم، الذي يحثهم على التحرر من الاستعمار الثقافي والعسكري، ويحثهم على المبادرة وقيادة العالم بالهدى وتسويد شريعة الله، بدلًا من السيادة الآدمية النخبوية التي تفرضها العقائد الفاسدة والدول الغاشمة.
إن الرأي والرأي الآخر المُسوّغ شرعًا والذي يحاول استغلاله وتسويقه دعاة التصالح مع أعداء الدين والقيم الهابطة ودعاة التوافق مع العلمانية إنما هو مقيد بما جاء به الوحي، فإذا كان النص محكمًا فلا اجتهاد ولا اختلاف ولا رأي آخر فيه، أما إذا كان النص أو مناطه ظنيًّا جاز تعدد الآراء فيه ضمن ما يحتمله المناط والنص من معاني، وكون الرأي يستند إلى النص فكل ما يدل عليه يعتبر شرعيًّا، وبالتالي فإن أفهام العلماء وإن كانت فهمًا بشريًّا لكن الرأي الذي استنبط بفهمهم من النص هو رأي شرعي، ولا يجوز رفضه من دون حجة، تحت ذريعة أنه فهم بشري.
إذ أن هناك فرقًا بين إنشاء الحكم الشرعي وبين فهم النص واستنباط حكم الله منه، فعندما يقول الله عز وجل {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} النساء (43) فهو إنشاء للحكم، وأما قول الشافعي أن اللمس؛ أي الجس بباطن الكف يُبطل الوضوء، وقول أبي حنيفة لا يبطله، فهو فهم لما يتضمنه الخطاب، وهو استنباط لحكم "الله" من النص وليس إنشاءً لحكم "اللمس".
وفهم الشافعي وأبي حنيفة لا يوصف بحكم الله؛ لأن حكم الله هو ما دل عليه النص دلالة قطعية، وكون النص يحتمل أكثر من معنى فلا ينفي أن ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي أحكامًا شرعيةً مأخوذةً من النص بحسب دلالة "لامستم" التي تحتمل تعدد الفهم. ومن يرفض الآراء بحجة أنها أفهام بشر إنما يعطل العمل بالشريعة؛ إذ لا بد من أخذ الأحكام عن بشر مؤهلين للفهم والاستنباط سواء عن صحابي أو تابعي أو من المتأخرين، وسواء عن الشافعي أم أبي حنيفة أم غيرهم.
وفهم النصوص لا يحتاج إلى نبيٍ أو مَلَكٍ، بل يحتاج إلى معرفة في علوم اللغة والعلوم الشرعية، ومن يفسر النصوص برأيه وليس بحسب حقائق القرآن الشرعية والعربية الوضعية "إنا أنزلناه قرآنا عربيا" فقد ابتدع في اللغة والدين؛ لأن الدين يؤخذ من الوحي وليس من العقل؛ ولأن اللغة هي مسألة وضع ولا يجوز تغيير دلالة ألفاظها؛ إذ لا بد أن تؤخذ بالنقل عمن قوله حُجَّةٌ في أصل اللغة، كالعرب العاربة (القحطانيون)، والعرب المستعربة (العدنانيون) حتى القرن الرابع الهجري قبل فساد اللسان، ولا يجوز أن يقرر العقل والتجربة دلالتها؛ لأنها مسألة اصطلاح ووضع. يقول الإمام فخر الدين الرازي: "الطريقُ إلى معرفة اللغة، إما النقلُ المحضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل، كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء، ونقل إلينا أنَّ الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذٍ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم، وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك".
وأما الرأي والرأي الآخر في العلمانية والديمقراطية الليبرالية، فهو مطلق رغم الزعم بتقييده؛ لأنه مبني على "نسبية الحقيقة" وعلى الحرية ومركزية الإنسان التي تقتضي مركزية الآخر. ذلك أن العلمانية والديمقراطية الليبرالية تقوم فلسفيًّا على "الحق الطبيعي"؛ أي على مركزية الإنسان في تقرير المصالح والحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح. ومركزية الإنسان تقتضي مركزية الآخر بمنطق المساواة، وهو ما يعطي اعتبارًا للرأي الآخر نظريًّا، بصرف النظر عن الصواب والخطأ، ومنشأ ذلك هو الفلسفة السفسطائية ورائدها الفيلسوف بروتاجوراس، وهي التي تخلط الحق بالباطل، وتُشكك المسلمين بدينهم، وتساوي بين الإسلام وبين الديانات المحرفة والباطلة، وتؤول إلى تفكيك المجتمع وتبيح التعددية والتوافق والبراغماتية وتجعل الإسلام خيارًا ليس وحيدًا. وهو ما تبناه الحداثيون وغلاة المتصوفة الذين يؤمنون بوحدة الوجود.
ومركزية الآخر تحتم الانقياد للحل الوسط "التنازل" الذي يسميه أرسطو: المتوسط الذهبي بين الطرفين. وهو تنازل الأطراف عن جزء من مواقفهم والتوافق فيما بينهم. ومن هذا المنطلق اشتق الفلاسفة العقد الاجتماعي، سواء بتنازل الأفراد عن إرادتهم للحاكم كما يقول هوبز أم بتنازلهم للإرادة العامة كما يقول روسو، وبهذا المعنى ينتقل المركز من الوحي إلى الفرد والدولة والشعب وتصبح له السيادة.
والحقيقة أن الحل الوسط لا يستقيم في العقائد والأخلاق؛ لأن الأخلاق لا تتجزأ؛ ولأن العقائد تقوم على اليقين في النفي أو الإثبات ولا توسط بينهما. وهذا بخلاف الإسلام الذي يجعل تقرير المصالح والحكم على الأفعال والأشياء لجهة لا ترجو المنفعة لنفسها، ويجعل الشرع؛ أي الوحي هو المركز.
ونسبية الحقيقة أو "النسبية المعرفية" تعود على نفسها بالبطلان، وتنطوي على تناقض وعلى الجمع بين الضدين، وهي على مذاهب، فمنهم من يقرر حقيقة عدم وجود حقيقة، ومنهم من يقرر تعدد الحقيقة، وهذا باطل؛ لأن الحقيقة هي مطابقة الواقع؛ أي مطابقة الفكر للواقع، وهي واحدة لا تتعدد عند المسلمين أو غيرهم؛ لأن الواقع خارج الذهن واحد، إذ لو تعددت الحقيقة كما يتوهمون لجعلت اجتماع الضدين ممكنًا وهذا من محالات العقول.
وقضية النسبية relativism في الحق truith أو في الأخلاق ethich هي قضية فلسفية، وظيفتها التشغيب والتشويش والتعجيز وتحويل الأفكار إلى أحاجي وألغاز. والنسبية المعرفية تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان حقًا بالأمس قد ينقلب باطلًا اليوم أو غدًا، والغرض من هذا الزعم الذي تم استعارته من الفلسفة السفسطائية قديمًا ومن الثقافة العلمانية الأوروبية التي تنابذ الدين، هو تبرير "تاريخية المعرفة" وحصر الشريعة الإسلامية في زمن التنزيل وقطع اتصاله بالحاضر، معتمدين في ذلك على السفسطة والجدل الديلاكتيكي، وعلى العلوم التجريبية مثل "ميكانيكا الكم quantum mechanics" لتبرير اجتماع الضدين. والفلسفة السفوسطائية التي أنتجت نسبية الحقيقة قد نقضها سقراط وعلماء الإسلام، وأحياها الأوروبيون وسخروها في صراعهم مع الكنيسة والفكر الديني من أجل تقويضه. وتقوم على "مبدأ الشك"، وتنطلق بحسب منظر السفسطائيين الأبرز بروتاجوراس، من كون الإنسان هو معيار الأشياء؛ أي أنه هو الذي يحدد الحقائق الفكرية والتشريعية، والقيم، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، وأنْ ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل شخص على حسب ما يعتقد فيها، فإذا حكم بوجود الشيء أو بعدمه فحكمه يتعلق به لا بذات الشيء، فالعالم هو قديمٌ عند من اعتقد قدمه، محدثٌ عند من اعتقد حدوثه، ما يعني أن الحكم على الشيء الواحد يختلف من شخص لآخر؛ أي أن الحقيقة هي ما يقع تحت الحس المباشر للشخص لا بحواس غيره، وبناء على ذلك تصبح الحقيقة نسبية تتبدل بتبدل الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
ومن هنا تحديدا لا يعيرون اهتمامًا للرواية و"الموروث" والآراء السابقة، ويُسقطون أفهام العلماء من الاعتبار. وحقيقة الأمر أنهم لم يفرقوا بين الحكم على وجود الشيء وبين الحكم على حقيقته أو صفته، إذ أن ما يتعلق بوجود الشيء كالعقائد فإنها أفكار قطعية وحقائق ثابتة، وإذا كانت مما يتعلق بالحكم على حقيقة الشيء أو صفته كالأحكام الشرعية فإنها أفكار ظنية نسبية؛ لكنها تبقى صحيحة ما لم يثبت خطؤها.
ونسبية الحقيقة إنما يثيرها الحداثيون الليبراليون والعلمانيون ومنكرو السنة عن قصد، ليُشككوا المسلمين بدينهم ويُفككوا يقينهم في حملة مشبوهة لا تنفصل عن خطط أعداء الإسلام والمسلمين. وذلك لوضع المسلمين أمام ازدواجية خبيثة: فإما أن يزيلوا الحدود بين الإسلام والكفر ويفتحوا الأبواب للعبث بدين الله وتكييفه مع الثقافة الأوروبية العصرية، والتخلي عن عداوة المسلمين للكفار المستعمرين وتجريم من يقاوم الأنظمة التابعة لهم تبعًا لذلك، وإما التخلف عن العصر والتراجع والفناء بحسب زعمهم!.
إن المسلمين الذين يرددون أقوال الحداثيين بنسبية الحقيقة وما تنطوي عليه من معاني تجعل الحق في غير الإسلام على قدم المساواة مع الإسلام وتُشكك بحقائق الإسلام، إنما يُقادون إلى الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة:119]، وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:108]، وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد:1]، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، وقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31].
وعلاوة على ما تقدم من بيان لزيف فكرة نسبية الحقيقة وتناقضها مع يقينيات الدين، يمكن الرجوع إلى بطون الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلامية، وإلى البحوث المحكّمة والموثقة التي تنقل ردود العلماء على الفلاسفة والفرق الضالة.
فقد رد علماء المسلمين كابن حزم في كتابه (الفِصل في الملل والأهواء والنِحل) (1/44-45)، على من يقول بنسبية الحقيقة كفرقة "العندية" فقال: "إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقًا بكونه موجودًا ثابتًا، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدومًا موجودًا في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال". وقال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس:ص 41): "وهؤلاء من جنس السفسطائية؛ فيقال لهم: أقوْلكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطلٌ عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه". وقال ابن قدامة "..إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقًا، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها". (روضة الناظر 20/419-420). وقال ابن تيمية رحمه الله: (حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل". (الفتاوى 19/ 135).
وعليه، فإن ما يقول به بعض الناس بشأن نسبية الحقيقة يؤول إلى تكذيب حقائق الإسلام وآيات القرآن الراسخة.
12/رمضان/1442هـ
24/4/2021م
متابعة فكرية
نسبية الحقيقة فكرة خيالية وباطلة وتناقض يقينيات الدين
لا بد أولا وقبل كل شيء أن ندرك أن القول بنسبية الحقيقة وما انبثق عنها من مفاهيم كمفهوم (الرأي والرأي الآخر) هي أحدى أسس ومنطلقات القراءة المعاصرة للإسلام، والتي تهدف إلى تعويمه وتقويضه وتكييفه مع الواقع، ولا بد أن ندرك أيضًا أن هذه الفلسفة لا تنفك عن السياق السياسي والحملة الأميركية الأطلسية على الإسلام والمسلمين لمسخ هويتهم وتغيير دينهم ومحو الحدود بين الإسلام والكفر، وعلمنة عقلية المسلمين وإبعادهم عن دينهم ومصدر عزتهم، الذي يحثهم على التحرر من الاستعمار الثقافي والعسكري، ويحثهم على المبادرة وقيادة العالم بالهدى وتسويد شريعة الله، بدلًا من السيادة الآدمية النخبوية التي تفرضها العقائد الفاسدة والدول الغاشمة.
إن الرأي والرأي الآخر المُسوّغ شرعًا والذي يحاول استغلاله وتسويقه دعاة التصالح مع أعداء الدين والقيم الهابطة ودعاة التوافق مع العلمانية إنما هو مقيد بما جاء به الوحي، فإذا كان النص محكمًا فلا اجتهاد ولا اختلاف ولا رأي آخر فيه، أما إذا كان النص أو مناطه ظنيًّا جاز تعدد الآراء فيه ضمن ما يحتمله المناط والنص من معاني، وكون الرأي يستند إلى النص فكل ما يدل عليه يعتبر شرعيًّا، وبالتالي فإن أفهام العلماء وإن كانت فهمًا بشريًّا لكن الرأي الذي استنبط بفهمهم من النص هو رأي شرعي، ولا يجوز رفضه من دون حجة، تحت ذريعة أنه فهم بشري.
إذ أن هناك فرقًا بين إنشاء الحكم الشرعي وبين فهم النص واستنباط حكم الله منه، فعندما يقول الله عز وجل {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} النساء (43) فهو إنشاء للحكم، وأما قول الشافعي أن اللمس؛ أي الجس بباطن الكف يُبطل الوضوء، وقول أبي حنيفة لا يبطله، فهو فهم لما يتضمنه الخطاب، وهو استنباط لحكم "الله" من النص وليس إنشاءً لحكم "اللمس".
وفهم الشافعي وأبي حنيفة لا يوصف بحكم الله؛ لأن حكم الله هو ما دل عليه النص دلالة قطعية، وكون النص يحتمل أكثر من معنى فلا ينفي أن ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي أحكامًا شرعيةً مأخوذةً من النص بحسب دلالة "لامستم" التي تحتمل تعدد الفهم. ومن يرفض الآراء بحجة أنها أفهام بشر إنما يعطل العمل بالشريعة؛ إذ لا بد من أخذ الأحكام عن بشر مؤهلين للفهم والاستنباط سواء عن صحابي أو تابعي أو من المتأخرين، وسواء عن الشافعي أم أبي حنيفة أم غيرهم.
وفهم النصوص لا يحتاج إلى نبيٍ أو مَلَكٍ، بل يحتاج إلى معرفة في علوم اللغة والعلوم الشرعية، ومن يفسر النصوص برأيه وليس بحسب حقائق القرآن الشرعية والعربية الوضعية "إنا أنزلناه قرآنا عربيا" فقد ابتدع في اللغة والدين؛ لأن الدين يؤخذ من الوحي وليس من العقل؛ ولأن اللغة هي مسألة وضع ولا يجوز تغيير دلالة ألفاظها؛ إذ لا بد أن تؤخذ بالنقل عمن قوله حُجَّةٌ في أصل اللغة، كالعرب العاربة (القحطانيون)، والعرب المستعربة (العدنانيون) حتى القرن الرابع الهجري قبل فساد اللسان، ولا يجوز أن يقرر العقل والتجربة دلالتها؛ لأنها مسألة اصطلاح ووضع. يقول الإمام فخر الدين الرازي: "الطريقُ إلى معرفة اللغة، إما النقلُ المحضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل، كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء، ونقل إلينا أنَّ الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذٍ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم، وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك".
وأما الرأي والرأي الآخر في العلمانية والديمقراطية الليبرالية، فهو مطلق رغم الزعم بتقييده؛ لأنه مبني على "نسبية الحقيقة" وعلى الحرية ومركزية الإنسان التي تقتضي مركزية الآخر. ذلك أن العلمانية والديمقراطية الليبرالية تقوم فلسفيًّا على "الحق الطبيعي"؛ أي على مركزية الإنسان في تقرير المصالح والحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح. ومركزية الإنسان تقتضي مركزية الآخر بمنطق المساواة، وهو ما يعطي اعتبارًا للرأي الآخر نظريًّا، بصرف النظر عن الصواب والخطأ، ومنشأ ذلك هو الفلسفة السفسطائية ورائدها الفيلسوف بروتاجوراس، وهي التي تخلط الحق بالباطل، وتُشكك المسلمين بدينهم، وتساوي بين الإسلام وبين الديانات المحرفة والباطلة، وتؤول إلى تفكيك المجتمع وتبيح التعددية والتوافق والبراغماتية وتجعل الإسلام خيارًا ليس وحيدًا. وهو ما تبناه الحداثيون وغلاة المتصوفة الذين يؤمنون بوحدة الوجود.
ومركزية الآخر تحتم الانقياد للحل الوسط "التنازل" الذي يسميه أرسطو: المتوسط الذهبي بين الطرفين. وهو تنازل الأطراف عن جزء من مواقفهم والتوافق فيما بينهم. ومن هذا المنطلق اشتق الفلاسفة العقد الاجتماعي، سواء بتنازل الأفراد عن إرادتهم للحاكم كما يقول هوبز أم بتنازلهم للإرادة العامة كما يقول روسو، وبهذا المعنى ينتقل المركز من الوحي إلى الفرد والدولة والشعب وتصبح له السيادة.
والحقيقة أن الحل الوسط لا يستقيم في العقائد والأخلاق؛ لأن الأخلاق لا تتجزأ؛ ولأن العقائد تقوم على اليقين في النفي أو الإثبات ولا توسط بينهما. وهذا بخلاف الإسلام الذي يجعل تقرير المصالح والحكم على الأفعال والأشياء لجهة لا ترجو المنفعة لنفسها، ويجعل الشرع؛ أي الوحي هو المركز.
ونسبية الحقيقة أو "النسبية المعرفية" تعود على نفسها بالبطلان، وتنطوي على تناقض وعلى الجمع بين الضدين، وهي على مذاهب، فمنهم من يقرر حقيقة عدم وجود حقيقة، ومنهم من يقرر تعدد الحقيقة، وهذا باطل؛ لأن الحقيقة هي مطابقة الواقع؛ أي مطابقة الفكر للواقع، وهي واحدة لا تتعدد عند المسلمين أو غيرهم؛ لأن الواقع خارج الذهن واحد، إذ لو تعددت الحقيقة كما يتوهمون لجعلت اجتماع الضدين ممكنًا وهذا من محالات العقول.
وقضية النسبية relativism في الحق truith أو في الأخلاق ethich هي قضية فلسفية، وظيفتها التشغيب والتشويش والتعجيز وتحويل الأفكار إلى أحاجي وألغاز. والنسبية المعرفية تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان حقًا بالأمس قد ينقلب باطلًا اليوم أو غدًا، والغرض من هذا الزعم الذي تم استعارته من الفلسفة السفسطائية قديمًا ومن الثقافة العلمانية الأوروبية التي تنابذ الدين، هو تبرير "تاريخية المعرفة" وحصر الشريعة الإسلامية في زمن التنزيل وقطع اتصاله بالحاضر، معتمدين في ذلك على السفسطة والجدل الديلاكتيكي، وعلى العلوم التجريبية مثل "ميكانيكا الكم quantum mechanics" لتبرير اجتماع الضدين. والفلسفة السفوسطائية التي أنتجت نسبية الحقيقة قد نقضها سقراط وعلماء الإسلام، وأحياها الأوروبيون وسخروها في صراعهم مع الكنيسة والفكر الديني من أجل تقويضه. وتقوم على "مبدأ الشك"، وتنطلق بحسب منظر السفسطائيين الأبرز بروتاجوراس، من كون الإنسان هو معيار الأشياء؛ أي أنه هو الذي يحدد الحقائق الفكرية والتشريعية، والقيم، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، وأنْ ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل شخص على حسب ما يعتقد فيها، فإذا حكم بوجود الشيء أو بعدمه فحكمه يتعلق به لا بذات الشيء، فالعالم هو قديمٌ عند من اعتقد قدمه، محدثٌ عند من اعتقد حدوثه، ما يعني أن الحكم على الشيء الواحد يختلف من شخص لآخر؛ أي أن الحقيقة هي ما يقع تحت الحس المباشر للشخص لا بحواس غيره، وبناء على ذلك تصبح الحقيقة نسبية تتبدل بتبدل الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
ومن هنا تحديدا لا يعيرون اهتمامًا للرواية و"الموروث" والآراء السابقة، ويُسقطون أفهام العلماء من الاعتبار. وحقيقة الأمر أنهم لم يفرقوا بين الحكم على وجود الشيء وبين الحكم على حقيقته أو صفته، إذ أن ما يتعلق بوجود الشيء كالعقائد فإنها أفكار قطعية وحقائق ثابتة، وإذا كانت مما يتعلق بالحكم على حقيقة الشيء أو صفته كالأحكام الشرعية فإنها أفكار ظنية نسبية؛ لكنها تبقى صحيحة ما لم يثبت خطؤها.
ونسبية الحقيقة إنما يثيرها الحداثيون الليبراليون والعلمانيون ومنكرو السنة عن قصد، ليُشككوا المسلمين بدينهم ويُفككوا يقينهم في حملة مشبوهة لا تنفصل عن خطط أعداء الإسلام والمسلمين. وذلك لوضع المسلمين أمام ازدواجية خبيثة: فإما أن يزيلوا الحدود بين الإسلام والكفر ويفتحوا الأبواب للعبث بدين الله وتكييفه مع الثقافة الأوروبية العصرية، والتخلي عن عداوة المسلمين للكفار المستعمرين وتجريم من يقاوم الأنظمة التابعة لهم تبعًا لذلك، وإما التخلف عن العصر والتراجع والفناء بحسب زعمهم!.
إن المسلمين الذين يرددون أقوال الحداثيين بنسبية الحقيقة وما تنطوي عليه من معاني تجعل الحق في غير الإسلام على قدم المساواة مع الإسلام وتُشكك بحقائق الإسلام، إنما يُقادون إلى الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة:119]، وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:108]، وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد:1]، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، وقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31].
وعلاوة على ما تقدم من بيان لزيف فكرة نسبية الحقيقة وتناقضها مع يقينيات الدين، يمكن الرجوع إلى بطون الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلامية، وإلى البحوث المحكّمة والموثقة التي تنقل ردود العلماء على الفلاسفة والفرق الضالة.
فقد رد علماء المسلمين كابن حزم في كتابه (الفِصل في الملل والأهواء والنِحل) (1/44-45)، على من يقول بنسبية الحقيقة كفرقة "العندية" فقال: "إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقًا بكونه موجودًا ثابتًا، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدومًا موجودًا في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال". وقال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس:ص 41): "وهؤلاء من جنس السفسطائية؛ فيقال لهم: أقوْلكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطلٌ عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه". وقال ابن قدامة "..إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقًا، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها". (روضة الناظر 20/419-420). وقال ابن تيمية رحمه الله: (حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل". (الفتاوى 19/ 135).
وعليه، فإن ما يقول به بعض الناس بشأن نسبية الحقيقة يؤول إلى تكذيب حقائق الإسلام وآيات القرآن الراسخة.
12/رمضان/1442هـ
24/4/2021م