المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فرية إنكار السنة



Abu Taqi
16-04-2021, 03:37 PM
فرية إنكار السُّنَة المطهرة


1442هـ - 2021

Abu Taqi
16-04-2021, 03:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
لا يزال الغرب مسكونًا بهاجس المدّ الإسلامي، الذي ظهرت ملامحه وبوادره منذ أربعة عقود تقريبًا، ولا تزال مؤسسات ومراكز الأبحاث الغربية بعامة والأميركية منها بخاصة تقوم بالعديد من الدراسات والأبحاث والاستطلاعات حول كيفية الحيلولة دون هذا المدّ، أو للحدّ منه على الأقل، وذلك لأنه المبدأ القادر على الوقوف أمام أطماع ومصالح الغرب في العالم الإسلامي، وافتكاك زمام المبادرة منه.
فالهجوم على الإسلام والمسلمين تحت غطاء عناوين عديدة، وتصاعد هذه الهجمة في السنوات الأخيرة، هو صراع قديم ومتجدد، يقوده الغرب الكافر.
فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد الولايات المتحدة في الموقف الدولي سنة 1990 والبلاد الإسلامية تتعرض لحروب دموية، وغزوات ثقافية غربية. وذلك بسبب زوال المبدأ الشيوعي الذي كان الغرب يتخذونه عدوًا، واستبدال العالم الإسلامي به. فالإسلام الذي يشكل منافسًا حضاريًّا للرأسمالية ليس كالشيوعية المناقضة لحقيقة الوجود وفطرة الإنسان، فهو مبدأ يقنع العقل ويوافق الفطرة ويملأ الحياة عدلًا والنفوس طمأنينة وسعادة، ويملك القدرة على دحض المبدأ الرأسمالي وأنظمته المجرمة، فهو قادر على إحياء الأمة الإسلامية مجددًا ورفعها إلى مصاف الأمم الكبرى والدول العظمى، كما ويملك القدرة على الإطاحة بمركز الولايات المتحدة وتفوقها السياسي والحضاري والاقتصادي، سيما وأن الأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تملك مقومات النهضة الصحيحة وعناصر التفوق المادي.
وإذا ما استقلت الأمة في هذا الزمن، -الذي بات فيه العالم يعتمد اعتمادًا كليًّا على ثرواتها ومواردها الطبيعية- فلا جرم أن الغرب سيفقد وسائل قوته المادية التي يخفي وراءها فساده العقدي والقيمي والحضاري، وسينقلب ميزان القوة المادية والإشعاع الحضاري لصالح المسلمين.
ولهذا كان لا بد لأميركا وحلفائها، الذين يدركون ذلك، من العمل على تكييف الإسلام مع مقتضيات الواقع وتفريغه من مضمونه، وفصله عن الحياة، من خلال تقويض أصوله وأركانه على يد أهله وأبنائه؛ أي بتزييف هوية الأمة وإخضاعها من الداخل.
فعكف عبر مراكز الدراسات التابعة له على وضع التدابير التي من شأنها علمنة الإسلام، وأمركة المسلمين، في تديُّنهم وتفكيرهم وطريقة عيشهم وتكييف عقيدتهم بما يتوافق ومشاريعه في بلاد المسلمين.
فحشد من أجل ذلك أقصى طاقات مكره وخداعه، وجند كثيرين لإغراق المسلمين في جدل عقيم، يجعل بأسهم بينهم، ومعركتهم مع أنفسهم ومع حضارتهم؛ ليصرفهم عن حاضرهم ونهضتهم ومستقبلهم ورسالتهم، مستهدفًا فئة الشباب منهم، باعتبارهم العنصرالأهم في تشكيل مستقبل الأمة من جهة، ومن جهة أخرى لكونهم بنظره الأسهل والأكثر ميلًا لكسر المحرمات، والانحراف والانجراف وراء الشهوات والدعوات التي تبرر انغماسهم في أوحال الثقافة الغربية.
وقد برز ذلك واضحًا في انجذاب كثير من شباب المسلمين لأفكار شرذمة من المارقين الذين باعوا أنفسهم لأميركا، وعملائها في الإمارات على وجه الخصوص، والذين أوصت مؤسسة راند الأميركية بدعمهم وتبنيهم، والذين تولوا بدورهم حمل راية التخريب والتشغيب عبر دعواتهم للتجديد وتنقية "التراث" والقراءات المعاصرة للإسلام، بدعم من قبل مؤسسة الوعي والتغيير"Awareness and Change" الأميركية التي تقوم بترجمة وترويج أفكارهم ونشرها للمسلمين غير الناطقين بالعربية.
ولمَّا كانت السنة النبوية - قول وفعل وتقرير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما يتعلق بالرسالة - من الوحي مثل القرآن الكريم، وفيها البيان للنصوص القرآنية، ولمَّا كان إنكار كونها وحيًا ومرجعًا للفهم والتشكيك بمروياتها ورجالها يقطع صلة الدين بالدولة التي تقوم على البيان النبوي، بل ويهدم فهم الإسلام بشكل منضبط، جعلوا منها الهدف الذي وجّهوا إليه سهامهم المسمومة بمداد المستشرقين وفلاسفة عصر "التنوير" الأوروبي، والمضبوعين بالثقافة الغربية.
ولما كان الاستشراق قنطرة الاستعمار والتبشير في بلاد المسلمين، ارتكز الحاقدون والمأجورون والجهلة في طعونهم بالسنة النبوية على الأفكار الشاذة، وأكاذيب المستشرقين أمثال جولدزيهر، الذي زعم أن ألوف الأحاديث النبوية هي من صنع علماء الإسلام، وشكك في أئمة الحديث وعلماء المسلمين، وطعن في أمانتهم، واتهم بعضهم بالتواطؤ مع الحكام كتواطؤ الزهري مع عبد الملك بن مروان حسب زعمه. وهو ما يتكرر على ألسنة فراخ المستشرقين وذيولهم في هذا الزمان.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:42 PM
سياق الحملة على السنة الشريفة المطهرة
ومما يدل على أن هذه الحملة المسعورة على السنة لا تنفصل عن السياق السياسي الذي تجسده الولايات المتحدة في بلاد المسلمين عبر دعمها للأنظمة العلمانية الاستبدادية ومكافحتها للإسلام بحجة الإرهاب وإيعازها إلى الحكام بتغيير مناهج التعليم، والدعوة للعلمانية بدعوى التحديث وتجديد الخطاب الديني وتنقية التراث - مما يدل على ذلك كله- هو ما جاء في مقال أحد الحداثيين المحرفين للدين "محمد شحرور" - والذي رُوِّج له وفُتحت له المنابر، وأثر في تخريب عقلية فئة من شباب المسلمين-، على حسابه في الفيسبوك: "نكرر ما خلصنا إليه من نتائج القراءة المعاصرة: يمكن فصل الدين عن السلطة، لكن لا يمكن فصله عن المجتمع"، وأضاف: "أمّا السنة النبوية فمارست تنظيم الحلال (القانون المدني)، ولا تحمل الطابع الشمولي الأبدي ولا يقاس عليها، ولا وجود لما يسمّى (وحيًا ثانيًا)".
كما أن الصعيد السياسي للهجوم على الإسلام واستهداف السنة بمناهج الحداثة، وإغراق المسلمين في سجال حول دينهم ظاهرٌ في قول أوباما: "هناك أيضًا حاجة للإسلام ككل لتحدي هذا التفسير للإسلام، وعزله، والخضوع لمناقشات نشطة داخل مجتمعهم حول كيفية عمل الإسلام كجزء من مجتمع سلمي وحديث". ويمضي غولدبرغ في القول إنه "في لقاءات خاصة مع قادة العالم الآخرين، جادل أوباما بأنه لن يكون هناك حل شامل للإرهاب الإسلامي حتى يتصالح الإسلام مع الحداثة ويخضع لبعض الإصلاحات التي غيرت المسيحية".
وهذا بالإضافة إلى ما جاء في التعريف بإحدى مواقع الشبكة العنكبوتية: (يضم مجلس المركز القرآني الدولي أعضاء مسلمين ونصارى ويهود. ويرحب المركز بالأعضاء المستنيرين من كل الأديان للمساهمة في مشروع إعادة تفسير الإسلام بصفته دينا يتشاطر القيم مع كل الأديان العالمية العظيمة وبصفته نظامًا عقديًا ملتزمًا بالقيم الليبيرالية لعالم ديمقراطي. كما يندد المركز بكل تضليل للأفكار الأساسية للإسلام من طرف الذين يزرعون الحقد ويحرفون المبادئ الأساسية للإسلام).
وجاء على الموقع حول أهداف المركز:
1_ دعم الإصلاح السلمي في العالم الإسلامي على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان واقتراح الاستراتيجيات العملية لذلك.
2_ حشد علماء القرآن المنفتحين على شبكة الإنترنت ودعوتهم للاجتماع شخصيًّا لتبادل الأبحاث الدالة على تجانس الإسلام مع الديمقراطية.
3_ إخبار المسلمين من كل الأطياف بقيمة الديمقراطية العالمية.
4_ المبادرة بإنشاء حوار أديان حقيقي يشمل المسلمين والمسيحيين واليهود، وأعضاء من كل الديانات الأخرى التي تؤمن ببناء مجتمعات على أسس التسامح والعدالة.
5_ تثقيف المسلمين في أميركا لفهم وتفسير الإسلام بما يتماشى مع الديمقراطية الأميركية.
وهكذا اقتفى "التنويريون" الجدد ودعاة الحداثة والقراءات المعاصرة أثر المستشرقين والعلمانيين، واتبعوا سننهم وحذوا حذوهم في العبث بالدين الإسلامي وتحريفه، وفي تلويث عقلية أبناء المسلمين.
إن السؤال المهم بشأن تحديث الإسلام هو: هل الفكر الإسلامي يواجه أزمة بحيث لم تعد أدواته في الفهم قادرة على شرحه وتفسيره، ومن ثم لا بد من تحديث أصوله ومفاهيمه المركزية؟! أم أنّ القضية ليست متعلقة بفكر الإسلام وأدوات فهمه، بل متعلقة بكونه تحديًّا حضاريًّا لفكر متغلب بالقوة المادية يُراد تكييف الإسلام معه؟!
والجواب على ذلك، أن المشكلة في الحقيقة لا تكمن في الإسلام وأدواته في الفهم، إذ لو كان الأمر كذلك لكان الارتباك في أصوله وأدواته مضطردًا، ولظهر ذلك منذ نزول النص القرآني والسنة النبوية، وليس في الزمن المعاصر فقط، وهو ما يعني أن مشكلة الحداثيين تكمن في منظومة الفهم الإسلامي المنضبطة والتي تمثل موقفًا حضاريًّا ناجحًا، وتمثل تحديًّا وعائقًا أمام تكييف الإسلام مع منتجات الثقافة الغربية وتزييف هوية الأمة.

حقيقة الصراع بين الإسلام والكفر
رغم خطورة المرحلة الراهنة وخطورة تداعياتها وما سينتج عنها إن أصابت أميركا والغرب الكافر نجاحًا فيما تُعدّه وتريده للأمة الإسلامية، إلا أن كثيرًا من المسلمين لم يدركوا بعد أن الصراع الفكري القائم الآن بين المسلمين من جهة وبين دول الكفر وعلى رأسها أميركا من جهة أخرى هو صراع مصيري يتحدد بنتيجته مصير الأمة الإسلامية، ومصير الهيمنة الغربية على المنطقة في آن معًا. وكثير ممن يدرك ذلك يقف موقف المتفرج أمام هذا الصراع، فالصراع الدموي الذي فرضه الغرب بقيادة أميركا على الأمة الإسلامية منذ ثلاثة عقود، بجانب الصراع الفكري العنيف الدائر في جميع بلاد المسلمين، إنما هو صراع بين الإسلام وبين الكفر، بين التحرر من الهيمنة الأميركية والتطلع للحكم بالإسلام، وبين إحكام القبضة الأميركية والنجاح التام في تسويد الحضارة الغربية في المنطقة، مع ما يرافق ذلك من قضاء على أفكارالإسلام ومفاهيمه التي أقضت مضاجع الغرب، وجعلت أميركا تدفع بفلذات أكبادها وبعشرات المليارات من أموالها لتكبيل المسلمين ومحو ثقافتهم وإحلال الثقافة الغربية محلها، نعم هذا هو صعيد الصراع ولا صعيد غيره، وهذه هي أطرافه، وهذه أيضًا هي أهدافه ونتائجه.
إن ما يجري في أوساط الأمة الإسلامية هذه الأيام من تيار فكري مأجور وموجه بتوصيات ودعم من مراكز البحوث الغربية لنفي حجية السنة النبوية ونزع الصفة السياسية عن الإسلام؛ لتقويضه وقطع صلته بالحياة وتحويله إلى عقيدة روحية كالنصرانية واليهودية، هو جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير وفصل من فصول الصراع بين الإسلام والكفر. وقد بات واضحًا دون لبس أن الغاية من القراءات المعاصرة المزعومة، وتنقية "التراث"، وتجديد الخطاب الديني، هو إضفاء الشرعية الدينية على فصل الدين عن الحياة، وترسيخ القيم والأفكار الغربية في وعي الأجيال القادمة من أبناء المسلمين، فنجد هؤلاء إما ينادون بالديمقراطية وفصل الدين عن الحياة صراحة، أو أنهم يوفقون بين الإسلام والحضارة الغربية، يهدفون من ذلك تلوين الإسلام بالصبغة السياسية القائمة في بلاد الإسلام والنظام الدولي، وهو ما يؤكد أنهم فئة موجهة لضرب الإسلام وتقويض أركانه، سواء بحسن نية أم بسوء نية.
وهذا يوضح علاقة دعوتهم بمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ لضرب الرأي العام المنبثق عن الوعي العام للإسلام الذي وجد وتركز في الأمة منذ ثمانينات القرن الماضي. فالغاية دون ريب أو جدال هي التشكيك بصلاحية الإسلام الذي تيقَّظَ في أذهان المسلمين من جراء الهزات العنيفة التي تعرضوا لها في العقود الأربعة الأخيرة، وضرب الثقة بصدق عقيدته وصلاحية أحكامه ومعالجاته لمشاكل المسلمين في الحياة، والوصول من ذلك كله إلى إزالة الحدود بين الإسلام والكفر واقتلاع فكرة "الدولة الإسلامية" التي تطبق مبدأ الإسلام وتحمله للعالم عن طريق الجهاد.
لذلك تراهم يجهدون في الهجوم على الثروة التشريعية والثقافية للمسلمين تحت دعوات "التجديد" و"تنقية التراث"، وكل هذه الدعوات المشبوهة التي ظاهرها الحرص والغيرة، وباطنها الدس والتحريف، هدفها تطويع الإسلام للواقع، فحقيقة دعوتهم هي إنكار الوحي أو إنكار مرجعيته وعلاقته بالدولة والمجتمع.
غير أنه لما تميّز القرآن عن كتب النصارى واليهود بثبوته اليقيني عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وثبوت أنه من الوحي لإعجازه، فقد دعاهم هذا لإنكار وحي السنة دون الكتاب، ظنًّا منهم أن السنة هي الخاصرة الضعيفة للإسلام. وحتى يحققوا مرادهم فقد عطلوا معايير الفهم المنضبط، وحرروا أنفسهم من قيد اللغة، وأسباب النزول، وقواعد الفقه، والأصول، وأدوات التفسير، وزعموا أن القرآن لا يحتاج إلى بيان لكي يتسنى لهم تفسير القرآن حسب أهوائهم تحت ستار التدبر.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:44 PM
البدايات والجذور
لم يكن الهجوم على السنة النبوية المطهرة أمرًا جديدًا على المسلمين، إذ سبق أن أثار الزنادقة مثل هذه الشبهات، وتصدى لها علماء المسلمين بالمناقشة والتفنيد، ومن ذلك ما كتبه الإمام الشافعي من ردود على شُبَهِ محاوره بما يتعلق بالسنة في كتابه الرسالة وكتابه جماع العلم، كما تصدى كثير من علماء الأمة قبله وبعده لهذه الدعوات التي كانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى.
ثم جاء دور المستشرقين الذين جمعوا شبهات الزنادقة وأضافوا إليها، وأخذوا يثيرونها بين المسلمين، وذلك في أواخر الدولة العثمانية وبعد إلغاء الخلافة الإسلامية، حتى استطاعوا أن يهزوا ثقة المسلمين بدينهم، لولا أن قيض الله لهذه الأمة علماءَ ربانيين، دفعوا شبهات الزنادقة والمستشرقين، وأعادوا الثقة بالإسلام وتشريعاته، وبدأ التحول في الرأي العام في المجتمع.
وقد بدأ الغرب الكافر الذي يتتبع هذه التغيرات التي طرأت على الأمة، جولة أخرى أعدّ فيها من يحمل لواء الزنادقة والمستشرقين، في هجمة جديدة على الإسلام، تبدأ من التشكيك بالسنة، وتنتهي بإنكار مرجعية الوحي، ووضع تفسيرات مختلقة للقرآن الكريم، تنفي عنه قداسته ومرجعيته للأمة.
وهو بذلك قد تبع ما قام به المستشرقون في نهايات القرن قبل الماضي وبدايات القرن الماضي، وفي ضوء هذا المنهج في الفهم غيروا الأحكام الشرعية الثابتة عن الوحي، فعدّوا الجهاد حربًا دفاعية، وأباحوا الربا، وخلع اللباس الشرعي للمرأة، وعطلوا الحدود، وبدلوا دين الله.
ومع وضوح وظهور بطلان هذه الدعوات وضعفها عند من له أدنى اطلاع واعٍ على الإسلام، إلا أنه لا بد بل من الواجب التنبيه على خطر تلك الطروحات، وبيان بطلانها ذودًا عن حياض هذا الدين، ونصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وبخاصة عوام المسلمين.
ولذلك سنتعرض لمفاصل الفكرة التي يقومون عليها دون الخوض في التفاصيل الجزئية، إلا بما يلزم؛ لأن هدم الأساس الذي يرتكزون إليه كفيل بإسقاط ما بني عليه من هلوسات وأباطيل. فإنكار السنة هي الفكرة الأساسية وحجر الزاوية لفلسفتهم، وهو ما ينبغي العناية به من خلال إثبات حجية السنة بالأدلة لدحض أباطيلهم.

منهج منكري السنة في فهم آيات القرآن الكريم
وقبل بيان حجية السنة وما يتعلق بها لا بد من الوقوف عند منهج هؤلاء في تفسير القرآن والتعامل مع نصوص الشرع. فهم يرفضون مفهوم التفسير عند المسلمين بحجة أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير، ومنهج هؤلاء في فهم القرآن يتلخص في التدبر أو الاجتهاد في التفسير من خلال جمع الآيات المحكمة والمتشابهة المتعلقة بالمسألة، وتفسير القرآن بنصوصه لا من خارجه باعتبار أن للقرآن لغته الخاصة، وبالرغم من أن جمع الأدلة في المسألة هو جزء من الاجتهاد إلا أن إخضاعه لحكم العقل يعكس مفهوم التفسير فيجعل القرآن مفسرًا للّغة وليس العكس.
وهذا المنهج في التفسير لا يمكن معه فهم القرآن؛ لأنه يجعل العقل وليس اللغة هو المقياس والمقرِر لدلالة النصوص على الأحكام، مع أن الأحكام دليلُها الشرع وليس العقل، ودلالة النصوص المقروءة أو المسموعة هي دلالة وضعية وليست عقلية؛ أي أن دلالة الكلام على المعاني تكون بحسب ما وضع من معانٍ لهذه الألفاظ التي صيغ بها الكلام لا بحسب العقل.
فهذا المنهج باطل بلا شك، إذ من البديهي أن أي كلام مقروء أو مسموع لا يمكن أن يفهم إلا بحسب اللغة التي قيل أو كتب بها، وبحسب اصطلاح صاحب الكلام، وبحسب القرائن المتعلقة بهذا الكلام المسموع أو المقروء، وهذا ما ينطبق تمامًا على القرآن الكريم.
فتفسير القرآن هو بيان معاني مفرداته في تراكيبها، ومعاني تراكيبه من حيث هي تراكيب. وحتى يـتأتى تفسيره لا بد من معرفة واقع القرآن وموضوعه الذي جاء به.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:45 PM
المنهج الصحيح لفهم آيات القرآن الكريم
أما واقع القرآن فهو كلام عربي، فيجب أن يُفهم باعتباره كلامًا عربيًّا. إذ يجب أن تُدرَك مفرداته من حيث كونها مفردات عربية، وأن تُدرَك تراكيبه من حيث كونها تراكيب عربية تحتوي ألفاظًا عربية، وأن يُدرَك واقع التصرف في المفردات في تراكيبها، وواقع التصرف في التراكيب بوصفها تراكيب فحسب، من حيث كونه تصرفًا عربيًّا في مفردات عربية في تراكيب عربية، أو تصرفًا عربيًّا في تراكيب عربية، من حيث التركيب جملة. وأن يدرَك فوق ذلك الذوق العالي في أدب الخطاب، وأدب الحديث في القرآن من حيث النهج العربي في الذوق العالي في أدب الخطاب وأدب الحديث في كلام العرب. فإذا أُدرِك ذلك كله؛ أي إذا أُدرِك واقع القرآن على هذا الأساس العربي إدراكًا تفصيليًّا، أمكن تفسيره وإلاّ فلا؛ لأن القرآن كله يمضي في ألفاظه وعباراته على ألفاظ العرب وعباراتهم ومعهودهم في كلامهم، ولا يخرج عن ذلك قيد شعرة، فلا يمكن تفسيره إلاّ بهذا الإدراك وعلى هذا الواقع، وما لم يُتوفر ذلك فإنه لا يمكن تفسيره تفسيرًا حقيقيًّا بحال من الأحوال.
وعليه فإنه يتوقف تفسير القرآن بوصفه كلامًا عربيًّا ونصًا من النصوص العربية على إدراك واقعه العربي من حيث اللغة {كذلك أنزلناه قرآنًا عربيًّاً}، {وكذلك أنزلناه حُكمًا عربيًّا}.
فهذا واقع القرآن وحقيقته، وما ينطبق عليه الواقع من حيث ألفاظه ومعانيه؛ أي من حيث اللغة. أمّا من حيث الموضوع الذي جاء به، فإن موضوعه رسالة من الله لبني الإنسان يبلّغها رسولٌ من الله. ففيه كل ما يتعلق بالرسالة من العقائد والأحكام والبشارة والإنذار والقَصص؛ للعظة والذكرى. والوصف لمشاهِد يوم القيامة والجنة والنار؛ للزجر وإثارة الشوق، والقضايا العقلية؛ للإدراك، والأمور الحسية، والأمور الغيبية المبنية على أصل عقلي؛ للإيمان والعمل، وغير ذلك مما تقتضيه الرسالة العامة لبني الإنسان.
فالوقوف على هذا الموضوع وقوفًا صحيحًا لا يمكن أن يكون إلاّ عن طريق الرسول الذي جاء به، لا سيما وقد بيّن الله تعالى أن القرآن أُنزل على الرسول بلغة قومه ليبيّنه للناس قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، {إنا أنزلنا إليك الذِكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم}. وطريق الرسول هي السنّة؛ أي ما روي عنه رواية صحيحة من أقوال وأفعال وتقريرات.
ولذلك فإنه لا يمكن أن يفسر القرآن إلا بأن تُتخذ اللغة العربية والسنّة النبوية الأداة الوحيدة لفهم القرآن وتفسيره من حيث مفرداته وتراكيبه، ومن حيث المعاني الشرعية، والأحكام الشرعية، والأفكار التي لها واقع شرعي (اصطلاح صاحب النص)، وأن يطلَق للعقل أن يفهم النصوص بقدر ما يدل عليه كلام العرب ومعهود تصرفهم في القول، وما تدل عليه الألفاظ من المعاني الشرعية الواردة بنص شرعي من قرآن أو سنّة (اصطلاح صاحب النص).
فنقل الألفاظ من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الشرعية لا يتأتى معرفته لغة وعقلًا، بل لا بد أن يكون وحيًّا من الله، فالصلاة مثلًا تعني في أصل اللغة الدعاء، لكنها استعملت للدلالة على معنى آخر في القرآن وهي الأقوال والأفعال المخصوصة التي تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم، ولو جُمعت كل النصوص القرآنية لاستنباط أحكامها لما عُرفت هيئتها، مما يدل على أن السنة بيان للقرآن ووحي من الله.
وأما القول بأن الصلاة من الموروث التشريعي للرسالات السابقة فباطل؛ لأن هيئة الصلاة عند اليهود والنصارى، تختلف عن صلاة العرب، وصلاة العرب تختلف عن صلاة المسلمين: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} كما أن صلاة العرب سابقة للقرآن، ولا يمكن أداء الصلاة في الإسلام بغير القرآن، وهذا الأمر وحده كاف لدحض حجج هؤلاء لولا مكابرتهم وإصرارهم على الباطل.
من هنا يتضح أن منهجهم في تفسير القرآن غير منتج في فهم القرآن وأحكامه بل ينتج تحريفًا لدلالات نصوص القرآن، وبالتالي تحريفًا للإسلام وهو المطلوب سياسيًّا.

تحريفات منكري السنة
فمن تحريفاتهم الخطيرة والخبيثة وتبريراتهم لإسقاط السنة مثلًا ابتداعهم لما يسمى بمقام النبوة ومقام الرسالة، وفصلهم في الطاعة بين النبي وبين الرسول. وما يدعيه هؤلاء بناء على منهجهم الباطل في التفسير لا يستقيم شرعًا؛ لأن النبي والرسول هما صفتان لازمتان لذات واحدة هي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تلقى رسالة وأمر بتبليغها، فهو نبي ورسول كما وصفه الله في كتابه: {الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ..} فالآية لم تفرق في الاتّباع بين صفتي النبي صلى الله عليه وسلم بل قررت اتباعه بصفته "الرسول النبي"، ولم تعلق الاتباع على لفظ دون آخر أو تفرق بين ما يقوله كنبي أو يقوله كرسول، والاتباع يتضمن في معناه الخضوع والانقياد ويلزم منه الطاعة؛ لأنه ينطوي على تكاليف شرعية، وهذا يجعل الطاعة واجبة له في التبليغ كنبي ورسول دون الفصل أو التمييز بين الصفتين.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:46 PM
فرية التفريق بين النبي والرسول من ناحية الطاعة والاتباع
إن الوظيفة التي كلف الله بها الأنبياء والرسل هي وظيفة واحدة، وهي التبليغ عن الله، بدليل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} وقوله: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فهذه الآيات دليل على أن مهمة الأنبياء والرسل هي التبليغ عن الله بلا تمييز بين نبي ورسول، حيث قال: {النبيين مبشرين ومنذرين} وقال: {رسلًا مبشرين ومنذرين}، فوظيفة الأنبياء والرسل واحدة وهي التبليغ عن الله، والآيات واضحة في ذلك ودلالتها شاخصة لا تحتاج إلى بيان.
وأما الفرق بين النبي والرسول: فإن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه، وأما النبي فهو من أُوحي إليه بشرع غيره وأُمِرَ بتبليغه، فالرسول هو من يُبلِغ شرع نفسه الذي أُوحاه الله إليه، والنبي هو من يُبلِغ شرع غيره من الرسل، ويبرز ذلك في قوله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} فهذه الآية تفيد بأن النبيين يبلغون ويحكمون بشرع غيرهم؛ لأن التوراة لم تنزل عليهم ابتداءً وإنما نزلت على موسى عليه السلام، وأمروا أن يبلغوها وأن يحكموا بها، فإذا علمنا أن من يبلغ الشريعة التي نزلت عليه ابتداءً قد سماه الله رسولًا كموسى صاحب التوراة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} فإنّ من أُمِرَ بتبليغ شريعة غيره هو نبيٌّ، كهارون، الذي بلغ رسالة أخيه، وكالأنبياء الذين ذكرتهم آية المائدة 44؛ لذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا من جهة تلقيه شريعة أوحي إليه بها ابتداءً وكان نبيًّا لأنه مكلف بتبليغها. هذا هو الفرق بين النبي والرسول، ويتلخص في موقعهم من الرسالة التي يبلغونها، وليس في مهمتهم لأنهم يشتركون في التبليغ، وبالتالي لا فرق بين النبي والرسول في التبليغ عن الله ووجوب طاعته؛ لأن الفرق بين اللفظين يكمن في دلالتهما على صفة المبلغ تبعًا للرسالة وصاحبها وليس على المهمة التي جاء بها، فمن كلفه الله بتبليغ الرسالة الموحى إليه بها ابتداءً يكون رسولًا نبيًّا، ومن كلفه بتبليغ رسالة غيره يكون نبيًّا، وبهذه الإضاءة القرآنية ندرك أن الطاعة ليست متعلقة بالألقاب، وإنما بكون الأنبياء والرسل قد كُلّفوا بأمر يقتضي الطاعة وهو التبليغ، ولذلك لا يقال إن ما ينطق به كرسول فهو مطاع وما ينطق به كنبي لا يطاع فيه. لا يقال ذلك؛ لأن مقام النبوة والرسالة هما لذات واحدة، مكلفة بحمل الرسالة، وتبليغها، وهذه الذات الواحدة، معصومة عن الخطأ في التبليغ كما يقرره علم الأصول. وهذا وحده كافٍ لنقض فلسفة الفصل بين النبي والرسول في التبليغ والطاعة، ونسف ما بني عليها من تقسيم لاهوتي كنسي لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وعَلمَنةٍ لرسالته، ويُبطل تخصيص الطاعة بصفة الرسول، أو حصر العمل بالشريعة في النبي وحده من دون أمته؛ لأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم هو ذاته الرسول المبلغ عن الله والخطاب له هو خطاب لأمته.
أما الدليل على أن تطبيق الشريعة يتعلق بالأنبياء أيضًا لا بالرسل وحدهم، وأن الشريعة للحياة وليست لهم من دون أمتهم، فهو قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}، فقد نصّت هذه الآية على الأنبياء لا على الرسل، وبيّنت أن الرسالة هي للحكم والمجتمع، وليست لسلوك الأنبياء بمفردهم؛ لأنه قال: {ليحكم بين الناس}، وهو ما ينفي مفهوم استقلال النبي في سن القوانين والتشريع بوحي ذاته، أو بوحي الواقع والزمان والمكان بمعزل عن الوحي الإلهي؛ لأن الضمير يعود على الكتاب وما يتضمن من تشريع، كما ينفي الزعم بأن الرسول هو الشريعة؛ لأن من البديهي أن من يحكم هو النبي وليس صفحات الكتاب؛ لوجود قرائن تبين أن من يحكم هم الأنبياء، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}، على أن قوله في الآية: {بما أراك الله}، أعمُّ من الحكم بالكتاب فتشمل السنة.
وأما قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} فلا يعني أن الرسول هو الرسالة ذاتها؛ لأن القرينة هي التي تعيّن المراد من الآية سواء من تركيب الجملة، أو من الألفاظ، أو من آيات أخرى، وذلك مثل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} فالقرائن هي التي صرفتها للوجوب من مثل قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين} وتركيب الجملة في الآية والألفاظ والقرائن في الآيات الأخرى تنفي أن يعود الضمير في قوله وتسبحوه على الرسول؛ لأن التسبيح عبادة والعبادة لله وحده، وهذه قرينة تجعل التسبيح لله والتعزير والتوقير للرسول. صحيح أن القاعدة اللغوية تقول: (إذا تعددت الأسماء في الجملة فالضمير يعود على أقرب أو آخر اسم ورد قبل الضمير مباشرة)، ولكن ذلك لا يمنع من عودة الضمير على ما قبل الاسم الأخير بقرينة صارفة للمعنى، وهذا دارج في القرآن مثل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا}، ولم يقل إليه أو إليهما فالضمير يعود هنا إلى التجارة وليس إلى اللهو؛ لأهمية التجارة على اللهو، ولأن الله تعالى ختم الآية بقوله: {والله خير الرازقين}، والرزق يأتي من التجارة لا من الفرح واللهو بقدومها. وبالتالي فإن كل ضمير يرجع لمن يليق به الفعل وحسب القرائن، والتسبيح يليق بالله سبحانه وتعالى وليس برسوله. ولذلك نظائر كثيرة في القرآن، منها قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة}، ومنها أيضًا قوله: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئًا}.
وعلاوة على ما تقدم، فإن بعض الآيات القرآنية قد خاطبت محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفته نبيًّا رسولًا، دون الفصل بين اللفظين، وعلقت اتباعه بهذين الوصفين، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله: {قل يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وهذه الآيات لا تدع مجالًا للشك بأن محمدًا النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو ذاته محمدًا الرسول لقوله: {ورسوله النبي}، ولا فصل بينهما إلا في مخيلة أصحاب هذا الرأي الباطل في الفصل بين النبي والرسول. والآيتان توضحان بأنه يبلغ الناس ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وكل ذلك يقتضي الاتباع ويوجب الطاعة والانقياد واقتفاء الأثر: {واتبعوه لعلكم تهتدون}.
كما أن هناك آيات جاءت تخاطب محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم دون أن تتصل بلفظ النبي أو الرسول، مما يجعلها عامة بصفتي النبي والرسول كما في الآيات التالية: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} وفي هاتين الآيتين ذكر عصيانه {فإن عصوك} مما يفيد بوجوب طاعته، وقوله {لمن اتبعك} لم يعلق الحكم على صفة من صفتيه فيبقى عام وتخصيصه بصفة يحتاج إلى دليل. وقوله أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ففي هذه الآية لم يعلق الحكم على أي من اللفظين، مما يوجب إعمال الحكم المستفاد منهما في الصفتين، والآية توجب الرجوع في الحكم والطاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبما أن الله لم يعلق الحكم على أحد اللفظين فيبقى مطلقًا فيها؛ لأن تخصيص الخطاب بأحد الصفتين يستلزم دليلًا للتخصيص ولم يرد أي دليل يخصص الخطاب بصفة دون غيرها.
ومن الآيات التي علّقت الرسالة والدعوة على لفظ النبي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًاْ} وموضوع الرسالة والشهادة هي الشريعة وهو ما يوجب الطاعة؛ لأن الحكم بالشريعة يوجب طاعة أولي الأمر، قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. وهذه الآية توجب طاعة الرسول والرد إليه؛ لأنه مبلغ عن الله، ولعل من أوضح البراهين على وجوب تسييد الشريعة وعدم تعلقها بلفظ الرسول أو النبي تحديدًا قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلم يحدد الخطاب في هذه الآية لفظ النبي أو الرسول، ودعاه بشكل مطلق دون تقييد لاتباع الشريعة، وعدم اتباع أهواء الذين لا يعلمون، والاتِّباع هنا يعني الخضوع والانقياد، والذين لا يعلمون هم الذين يحكّمون العقل المحدود ويُشركونه مع الله في التشريع، والخطاب للنبي هو خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصص الخطاب به؛ لأنه مخاطب به كحامل رسالة وليس كأي إنسان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}.
وتعليق الطاعة على صفة "الرسول" ونفيها عن "النبي" باطلٌ أيضًا من جهة مفهوم المخالفة، فلا يصح نفي الحكم عن صفة من صفات الذات لتعلقه بصفة أخرى إلا إذا كان اللفظ وصفًا مفهمًا أي مفيدًا للعليّة، وما لم يرد نصٌ يعطل العمل به، وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم صفتان: نبي، ورسول، ولكي نعلق الحكم على صفة وننفيه عن الأخرى لا بد أن يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفًا لمدلوله في محل النطق، بمعنى أن يكون مدلول لفظ النبي مخالفًا لمدلول لفظ الرسول، وهذا لا ينطبق على صفتي النبي والرسول؛ لأنهما يتفقان في المعنى من حيث التبليغ عن الله، فلو قلنا بوجوب طاعة الرسول؛ لأنه مبلغ عن الله فالنبي مبلغ عن الله أيضًا فلا يصح نفي طاعته، فاتفاق اللفظين في المعنى من هذه الحيثية ينفي العمل بمفهوم المخالفة ويُثبت الطاعة في الصفتين. وعلاوة على ذلك فإن شرط عدم ورود نص معطل للحكم المستفاد من مفهوم المخالفة ليس متحققًا في مفهوم الرسول؛ لأن الآيات توجب طاعة النبي أيضًا كما تقدم. ولذلك لا يستفاد من تعلق الطاعة بالرسول نفيها عن النبي فيسقط الفصل بين الصفتين.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:49 PM
العصمة في التبليغ تشمل لفظي النبي والرسول لأنهما مبلغان عن الله
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًاْ}، فدلت هذه الآية دلالة قطعية على أن النبي أرسله الله برسالة، وأنه مبلغ عن الله الرسالة التي أوحاها الله إليه، وبالتالي فإنه واجب الطاعة بوصفه نبيًّا ومبلغًا عن الله.
أما قولهم إن الطاعة مرتبطة بلفظ الرسول لتعلق الخطأ والعتاب في القرآن بلفظ النبي لا بلفظ الرسول، ومن يجوز عليه الخطأ لا تجب طاعته واتباعه، فهذا أيضًا باطل؛ لأنه لا فصل بين النبي والرسول كما تقدم، ولو جاز عليه الخطأ في التبليغ كنبي لجاز عليه الخطأ كرسول؛ لأن العصمة إنما تكون في التبليغ، والنبي والرسول يشتركان في التبليغ عن الله دون فرق، ثم إن عتاب الله للنبي لا يقدح بعصمته؛ لأن العتاب لا يفيد المعصية ولا يفيد بأن النبي مجتهد يصيب ويُخطئ في التبليغ، وإنما يعني أنه خالف الأولى في المباح، بل إن العتاب يُثبت حجية السنة؛ لأنه جاء على بعض مواقف النبي، ولم يأت على كل مواقفه. كما أن العتاب لم يرد إلا على فعل كان قد تم تشريع حكمه من قبل ولم يكن تشريعًا جديدًا أو استدراكًا لخطأ فعله النبي، إذ يستحيل الخطأ في التبليغ؛ لأن الحجة لا تقوم على الناس وهم في شك مما يبلغهم به. كما أن الآيات التي عاتب الله فيها النبي لم تنحصر بلفظ النبي كما يزعمون؛ لأن هناك آياتٍ لم تعيّن أيًّا من اللفظين مما يجعلها عامة في اللفظين دون تخصيص.
وأما العتاب بشأن ما حَرَّم على نفسه في الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فلم يكن لارتكابه معصية، بصرف النظر عن الشيء الذي حَرَّمه على نفسه أكانت "مارية أم العسل"، فإنه لم يكن تشريعًا بل كان عملًا بحكم شرعي سابق، خالف فيه الأولى مما أُبيح له ولأمته كأكل العسل أو الامتناع عنه، أو حرَّم أمَتَه على نفسه، فلم يكن فعله تحريمًا بمعنى تبديلًا للحكم على نحو قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها"، وإنما كان حرمانًا لنفسه من أمر مباح كامتناعه عن أكل الضب دون أن يحرّمه على أمته كقوله: "الضب لست آكله ولا أحرمه"، وهذا ليس مما يقدح بعصمته؛ لأن ترك المباح ليس ذنبًا، ولأن فعله لم يكن تبديلًا لحكم الله بشأن العسل أو وطء أمته.
ففعل (تُحرّم) مستعمل في معنى: تجعل ما أحل لك حرامًا؛ أي تحرمه على نفسك كقوله تعالى: {إلّا ما حرم إسرائيل على نفسه}، وقرينته قوله هنا: {ما أحل الله لك} فليس معنى الآية أنّ الرّسول جعل الحلال حرامًا، فإنّه ليس له ذلك، فهو إنّما يحلل ويحرم بوحي من الله، وإنّما معنى الآية هو: أن يحلف على شيء حلال بأن لا يفعله، بدليل تكملة الآية اللاحقة {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}؛ أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقَّدتهُ بالكفارة، فتحريم ما أحل الله متعلق بهذا الموضوع، ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيرت إباحته حرامًا على الناس أو عليك.

أفعال الرسول
وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام:
أحدها الأفعال الجبلية؛ أي الأفعال التي من جبلة الإنسان وطبيعته أن يقوم بها، وذلك كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه، فهذه لا نزاع في كون الفعل على الإباحة بالنسبة له صلى الله عليه وسلم ولأمّته، وشأنها في ذلك شأن الأشكال المدنية كاللباس والعمران ووسائل النقل وغيرها مما يدخل في عموم أدلة الإباحة ما لم يرد دليل التحريم.
القسم الثاني: الأفعال التي ثبت كونها من خواصه صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد، وذلك كاختصاصه بإباحة الوصال في الصوم؛ أي مواصلة النهار بالليل في الصوم، وكالزيادة في النكاح على أربع نسوة إلى غير ذلك من خصائصه، فهذه لا نزاع في أنه لا يجوز الاقتداء فيها بالنبي عليه السلام؛ لأن ذلك مما اختص به الرسول.
القسم الثالث: ما ليس من الأفعال الجبلية وليس مما اختص به عليه السلام؛ أي سائر الأفعال، وهذه لا نزاع في أننا مأمورون بالاقتداء فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزاع في أنها دليل شرعي كأقواله وسكوته، فيجب العمل بها لأنه فَعَلها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَة حَسَنَة}، ولقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ}، وقوله تعالى: {إَنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}. وهذا صريح وواضح وظاهر في العموم، فيشمل كل ما يقوم به الرسول من أعمال، كما يشمل الأقوال، ويشمل السكوت.
ففعله هنا هو بيان لنا، فهو دليل من غير خلاف، وذلك إما بصريح مقاله كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" فإنه دل على أن فعله بيان لنا لنتبعه، وإما بقرائن الأحوال، وذلك كقطعه يد السارق من الرسغ بيانًا لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وهذا البيان في فعله بالقول أو قرائن الأحوال تابع للمبين في الوجوب أو الندب أو الإباحة على حسب دلالة الدليل.
أما الأفعال التي لم يقترن بها ما يدل على أنها للبيان لا نفيًا ولا إثباتًا، فهي إما أن يظهر فيها قصد القربة أو لم يظهر، فإن ظهر فيها قصد القربة فهي تدخل في المندوب، يثاب المرء على فعلها ولا يعاقب على تركها مثل سنة الضحى، وإن لم يظهر فيها قصد القربة فهي تدخل في المباح.
ولما كانت مخالفته صلى الله عليه وآله وسلم لم تقع في محظور شرعي فلا تعتبر معصية ولا تقدح بالعصمة، فالمعصية تكون في ترك واجب أو فعل حرام، والقرينة هي التي تبين إن كان الفعل معصية أم ليس بمعصية، ومثال ذلك إذا ترتب على الفعل عقوبة أو ذمٌ فإنه يدلّ على أن الفعل معصية وليس مخالفة للأولى.
ومن الأمثلة على خلاف الأولى هو عتاب الله للنبي بشأن عبد الله بن أم مكتوم في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَى} حيث خالف النبي الأولى ولم يرتكب معصية؛ لأنه كان يبلغ قادة قريش، والعتاب كان على تقديمه دعوة قادة قريش على تعليم الأعمى وعبوسه في وجهه، وليس على القعود عن التبليغ، والعتاب هنا لم يتعلق بلفظ النبي أصلًا وإنما عبر بصيغة الغائب {جاءه} وتخصيص الخطاب بلفظ النبي ونفيه عن لفظ الرسول يحتاج إلى دليل. وكذلك في عتاب الله للنبي بعدم الإثخان قبل الأسر في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلم يدل الفعل على عصيان النبي لله ومخالفة أمره، وإنما دل على مخالفة الأوْلى في الإثخان، إذ لم يَرِد في الشرع وصفٌ يحدد قدر الإثخان، وما دام لم يحدد الشرع قدْرًا للإثخان فيُعمل بمعناه اللغوي وهو القتل والتخويف الشديد، ويرجع تقدير ذلك للقادة، والأسر في حال حصول تقدير الإثخان جائز، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسر بعد أن اختار قدْرًا من الإثخان، فعاتبه الله على ذلك القدْر المباح فقال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}، وكون الخطاب لم يصحبه تشريع بديل أو عقوبة أو ذم دلّ على مخالفة الأولى وليس على معصية.
أما قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} فلم يكن معصية؛ لأن الإذن كان قد شرع من قبل في قوله تعالى: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} من سورة النور، وهي متقدمة في النزول عما جاء من عتاب على الإذن لهم في سورة التوبة، وهذا يدل على أنه خالف الأوْلى، لأن إذن النبي للمنافقين مباح قبل نزول آية التوبة، وكان الأوْلى ألا يأذن لهم في غزوة تبوك بالذات وعاتبه الله على ذلك.
وأما نفي عصمة النبي بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقد فُسِّر قوله: {ما تقدم من ذنبك} بالذنب السابق للتكليف بالرسالة، والعصمة إنما تأتي بعد التكليف بها كما حصل لموسى عليه السلام، وأما قوله {وما تأخر} فتُحمل للتأكيد على خلو النبي من الذنوب، نحو قولهم: "أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه"، وهو في الواقع لم يعطِ من لم يلقه ولم يضرب من لم يره.
وأما الآيات التي خاطبت النبي ليستغفر لذنبه كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} فلا دليل فيها على وقوع النبي في الذنب؛ لأنها لم ترتبط بفعل من أفعاله، ولو كان قد أذنب لذكرت الآية الذنب واستدركت على فعله؛ لأن أفعال النبي تشريع للناس، كما تقدم، وعدم استدراك الوحي على أفعاله دليل قاطع على عدم قيامه بمعصية، حيث لم يثبت في القرآن أن الله قد استدرك من فعل رسوله تشريعًا واحدًا إلا بنسخ الحكم دون عتاب، وذلك كنسخ حكم القبلة لبيت المقدس بقوله تعالى: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام}، فقوله تعالى: {فاستغفر لذنبك} لا تدل على ارتكابه ذنبًا إلا إذا ارتبط بمعصية اقترفها النبي، وهذا لم يثبت؛ لأن المعصية تبرز في الاستدراك على فعل النبي وإلغاء تشريعه، أو بذم فعله أو معاقبته عليه، وهو ما لم يحصل أبدًا، بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ}.
ومهما كان التأويل فلا بد من نفي الذنب عن النبي، لأن الآيات التي يُشتبه بنفيها العصمة عن النبي ظنية الدلالة والعصمة قطعية بالدليل العقلي، إذ لو جاز عليه الذنب والمعصية لما قامت الحجة على الناس في التبليغ لدواعي الشك فيما ينقله عن الله، ولا يقال إن العقل ليس حجة في الدين؛ لأن العقل حجة في العقائد لا في الأحكام وعصمة الأنبياء هي من العقائد التي يجوز الاستدلال عليها بالعقل.
وخلاصة الأمر أن التبليغ المطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم هو تبليغ معصوم عن الخطأ، فالعصمة ثبتت بالدليل القاطع، ولا بد أن تكون هي المعيار في تفسير الآيات الظنية آنفة الذكر، فما ورد من الآيات منافيًا للعصمة في الظاهر فلا بد أن يفسر بحسب ما هو مقطوع به من عصمة الأنبياء في التبليغ، ومثل ذلك أيضًا إذا تعارضت العلوم الظنية مع المقطوع به عقلًا كالقرآن فيحمل الظني على القطعي، وإذا كانت دلالة القرآن ظنية والعلوم قطعية تكون العلوم قرينة لترجيح دلالة المعاني الظنية في القرآن؛ لأن مقياس صحة الفكر هو انطباقه على الواقع.
وعصمة النبي في التبليغ منطبقة على الواقع، وما يخالفها يُحمل على نفي ما يناقضها من أوجه الدلالات، وثبوت العصمة وحدها تكفي بأن تكون دليلًا قاطعًا على حجية السنة -قول وفعل وتقرير الرسول بما يتعلق بالرسالة- فلسنا بحاجة لأكثر من ثبوت أن محمدًا رسول ونبي حتى يثبت ان كل ما يخبرنا به عن الله هو من الوحي.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:50 PM
لا يجوز الاجتهاد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم
أما تعلقهم بمقولة جواز الاجتهاد على النبي التي قال بها بعض السابقين -مع إقرار العلماء السابقين بحجية السنة- وبنوا عليها أن النبي مجتهد والمجتهد يصيب ويخطئ، وهو ما يدل على أن تطبيق الشريعة خاص به وليس ملزِمًا لأمته فهو قول خاطئ؛ لأن النبي ليس مجتهدًا ولا يجوز الاجتهاد في حقه؛ لأنه مبلغ عن الله {إنما أنذركم بالوحي}، ولا فرق بين أقواله وأفعاله وسكوته؛ لأن الله أمرنا بالأخذ عنه بصيغة العموم: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وأقوال النبي وأعماله وسكوته هي أحكام شرعية للأمة؛ لأنها بيان وتشريع بالوحي.
والاجتهاد يتنافى مع عصمة النبي في التبليغ على الصحيح؛ لأن الخطأ في مسألة يعني الخطأ في التشريع والتبليغ وهذا محال.
وأما تعلقهم بالحوادث الثابتة عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أخذ الرأي من الناس، فإنه كان في أمور الدنيا من وسائل وأساليب مباحة وليس في التبليغ عن الله، ومثال ذلك استشارته للصحابة في بدر وأحد بشأن الحرب، وما حصل في مسألة تأبير النخل التي هي من الأساليب المباحة، وليست من أمور الرسالة.
فالاجتهاد لا يجوز في حق النبي؛ لأنه لا يقول برأيه، وإنما بالوحي {إن أتبع إلا ما يوحى إلي}، وهذا دليل قاطع على أن ما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير إنما هو وحي من الله تعالى، كما أن النبي كان لا يعطي الرأي إلا بعد نزول الوحي، ولو كان يجتهد رأيه لأعطى الحكم قبل نزول الوحي، ولو أخطأ في الحكم لاتبعه الناس في الخطأ وهذا باطل؛ لأنه ينقض الرسالة والنبوة.
ولا يُقال: يجوز عليه الاجتهاد، إذ لو أخطأ لاستدرك عليه الوحي ــ كما هو رأي من يقول بجواز الاجتهاد من العلماء السابقين ــ لا يقال ذلك، لأن الله لا يأمر باتباعه والأخذ عنه لو جاز عليه الخطأ في التبليغ حيث قال: {واتبعوه لعلكم تهتدون}.
وبناءً على ما تقدم، يمكن تلخيص المسألة بعدم انفصال لفظ النبي عن لفظ الرسول إلا في ذهن أصحاب هذا الرأي الباطل، وفي أجندة أعداء الإسلام والمسلمين، فإن لزومَ طاعة النبي معلومٌ من الدين بالضرورة عند الصحابة، -وهم أكثر الناس فهمًا للدين- وعند المسلمين من بعدهم، فلا فرق في طاعة الرسول واتّباعه، سواءٌ تعلق الحكم بلفظ النبي أو بلفظ الرسول، ولذلك فإن الخطاب للنبي والرسول هو خطاب لأمته؛ لأنه مبلغ عن الله، وهو تشريع للمسلمين إلى آخر الزمان، وليس للنبي وحده أو للمسلمين في مكة.
ونَخْلص من ذلك أيضًا أن الفصل بين اللفظين إنما ابتُدع من أجل تكييف الإسلام مع عقيدة فصل الدين عن الحياة، وهذه هي الغاية التي طُوّرت فكرة الفصل بين لفظي النبي والرسول من أجل تحقيقها؛ حتى تضرب السنة النبوية من قول أو عمل أو تقرير، والتي هي التجسيد العملي للإسلام في الواقع، وإسقاط حجية السنة يلغي الإسلام من الوجود السياسي في الحياة، بل ويحرف الاسلام فلا يعود هو الإسلام الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

القراءة التاريخية للنص القرآني
ثمة من يحاول من العلمانيين ومنكري السنة تطويق السنة وعزلها وإسقاط حجيتها ومرجعيتها، من خلال البناء على فلسفة "تاريخية النص" التي تؤول إلى "تاريخية الإسلام" وحصره في زمن الرسول صلىالله عليه وسلم .
وتاريخية النص هي منهج حداثي غربي تغذيه الفلسفة الماركسية، وفلسفة نيتشة وكانط التي استبضعها العلمانيون العرب كفرح أنطون؛ لحصر النصوص في سياقها التاريخي والجغرافي والبيئة المعرفية والثقافة السائدة بُغية تجاوز مرجعيتها التشريعية في زمن آخر. ومن أبرز رواد هذا المنهج محمد أركون، ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم ممن حاولوا إضفاء الشرعية الدينية على تعطيل مرجعية الوحي في الزمن الحاضر، عبر تطبيقهم للفلسفة والمنطق والمنهج التجريبي على قواعد اللغة والفقه وأصوله.
ويقوم هذا المنهج على نسبية القيم والمعارف وتقريرها ضمن التاريخ ورفض إطلاقها، ولذلك يعتبرون قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" جريمة في حق التشريع!! ومآل هذا المنهج هو إسقاط مرجعية النص باعتبار أنه يحاكي واقعًا ظرفيًّا.
وبهذا المنطق ينقلب النص إلى وعاء تصنعه الظروف التاريخية، ويملؤه العلماء من وحي الواقع والبيئة الثقافية والسياسية السائدة، ثم تجري على النصوص سنن التاريخ في الهدم والبناء، وتتبدل دلالة النصوص بتبدل الواقع.
هذا هو مختصر منهجهم الذي يؤول إلى "عزل الكتاب والسنة" وإلى فصل الدين عن الحياة، وبالطبع لا علاقة لهذا كله بالفهم التشريعي؛ لأن التاريخ ليس مصدرًا للتشريع، ولأن سلوك الإنسان مرتبط بمفاهيمه المنبثقة من عقيدته لا من التاريخ. أما الإنسان من حيث هو، فلم يتبدل ولم يتغير منذ بدء الخليقة، وما صلح له من معالجات في الماضي يصلح له في الحاضر والمستقبل وفي كل زمان ومكان، والذي تغير هو الوسائل والأساليب التي يستعملها في الحياة.
لقد بدأوا بإعادة تعريف الإسلام وهدم أصوله من خلال مقدمات منطقية خاطئة عن العقل والوحي بحيث تُعيد تشكيل الوعي من منظور حداثي، وتقود إلى هدم المنظومة التشريعية وبناء قواعد حداثية جديدة تمنع التصادم بين العلمانية والإسلام، وتُذيب المفاهيم الإسلامية في بوتقة العلمانية. فيزعمون أن الوحي كان لا بد منه لملء الفراغ المعرفي في الزمن الذي اعتذر فيه العقل والتجربة عن تلبية الحاجة الفكرية للإنسان وتحصينه ضد أسطرة الوعي وتفسير الظواهر الكونية بالخرافة في طفولة البشرية الأولى.
إذ الأصل بحسب زعمهم هو أن الله خلق العقل مسنودًا بالتجربة صانعًا أصيلًا للمعرفة، ومع قصور العقل والتجربة في الزمن الماضي عن تفسير الظواهر الكونية كان لا بد من نزول الوحي لتلبية حاجة البشرية للمعرفة، وهو ما يجعل الوحي مصدرًا معرفيًّا ظرفيًّا نسقيًّا وليس أصيلًا، وحال تمكن العقل والتجربة من استعادة دورهما الذي كان يغطيه الوحي في غيابهما لزم الاستغناء عن الوحي، لا سيما أن الوحي في تفسيره لبعض الحوادث لم ينتزع الخرافة! وإنما أعاد إنتاجها بحسب زعمهم كقصة سليمان مع الهدهد والنملة وإسراء النبي صلى الله عليه وسلم!!
وهذه الفكرة الخبيثة تنطوي على اتهام للوحي بالشطط والتخريف الذي يُفضي إلى تصادم النص والعقل في الزمن الذي يمليه الواقع والتحديث والقراءة المعاصرة. وترتب على هذا التسلسل المنطقي إغلاق قناة الوحي، كنتيجة حتَّمها الواقع ونُضْجُ العقل البشري وتطورُ العلوم وتراكمُ المعرفة التجريبية، وأضيف إلى ذلك عدم ثبوت المرويات عن النبي، قياسًا خاطئًا على ما فعله فلاسفة التنوير الأوروبي حين أسقطوا مرجعية الدين والكنيسة في تدبير شؤون الحياة وعزلوا "الحق الإلهي".
وغرض العلمانيين ومنكري السنة هو إفراد العقل مسنودًا بالمعايير التجريبية في تحصيل المعارف، واعتبار النصوص والقواعد والأحكام الشرعية مسألة تاريخية تجري عليها سنن الهدم والبناء، كما يجري على اللغة العربية أيضًا.
وترتب على ذلك نقض قاعدة "لا اجتهاد مع النص" التي تحدد دور العقل بالفهم ومنعه من الحاكمية والتشريع وترسم الحدود بين الكفر والإسلام، واستبدال قاعدة "لا نص مع العقل" بها. وترتب على ذلك أيضًا نقض قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" التي تُجسّر للشريعة، وتُبقي فاعليتها في كل زمان ومكان، واستبدال قاعدة "العبرة بخصوص السبب أو المناسبة لا بعموم اللفظ أو المعنى" بها، طبقاً لدلالة الخصوص والعموم في المنهج التجريبي واستبعاد اللغة العربية وأدواتها؛ أي استبعاد مفهوم العموم والخصوص من تحديد دلالة النصوص، وهو الأمر الذي يمنع من إعمال الأحكام الشرعية في زمن خارج زمن التنزيل، وكل ذلك من أجل اعتقال الشريعة، ووضعها رهن الإقامة الجبرية في زمن البعثة النبوية، ومنع امتدادها إلى الحاضر، بل ومنع زيارتها بوصفها وباءً قابلًا للعدوى والانتشار، أو جينات معرفية فاسدة موروثة عن الآباء والأجداد.
وعلى هذا النحو المُغرض من التقديم لوظيفة الوحي وما ترتب عليه من تأصيل وتعريفات، فإن دعاة التحديث لم يُبدعوا تجديدًا لفهم الدين كما زعموا، بل أنتجوا تغريبًا ثقافيًّا، ومحاولات هدم لأصول الدين وتحصيناته ومعاييره ومنظومته التشريعية. ولم يكتفوا بإقصاء الدين عن الحياة فحسب بل سعوا لهدم طريقة التفكير، وأدوات الفهم في المعارف العقدية والشرعية، واستبدلوا مركزية العقل والعلم والعالم المادي بمركزية الشرع، وحرفوا بوصلة المسلمين الثقافية والحضارية.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:52 PM
وإزاء هذه الفلسفة لا بد من بيان ما يلي:
أولًا: إن العلمانيين يطرحون جدلية العلاقة بين النص والواقع لنفي قداسة النص وهدم مرجعية اللغة لتشكيل الإسلام بحسب الواقع. فهم يخضعون فهم النصوص الشرعية للديالكتيك والتفكيك والفلسفة والمنطق والمنهج التجريبي، باعتبار أنها مسلّمات أو مقدسات ولا يخضعونها لأدوات الفقه والأصول واللغة العربية وعلوم التفسير والحديث.
والحال أن الإسلام يدعو إلى إخضاع المعارف الشرعية لمعاييرها ومصادرها لتحصيل اليقين فيما يقتضيه القطع كالعقائد والأصول، وتحصيل المعارف من مظانها فيما يكفي فيه الظن كالأحكام الشرعية والعلوم التجريبية.
كما ويدعو إلى مركزية الشرع التي تقتضي حاكمية الشرع وتحديد دور العقل في الفهم، وتكييف الواقع والسلوك والعلاقات بحسب الأحكام الشرعية. ومتى عُلم ميدان العقل ومجاله التفكيري وحقوله المعرفية، وشُخِّص الواقع الموضوعي خارج الذهن، تبلورت المعايير وانضبط الفهم وتقلص الخلاف حول المسائل المتشابهة، وسقط الاحتجاج بنسبية الحقيقة.
وذلك أن الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع، وهي واحدة لا تتعدد عند المسلمين أو غيرهم؛ لأن الواقع خارج الذهن لا يتعدد، فالشمس هي الشمس وليست شمسًا أو قمرًا، ولا يمكن أن تكون شمسًا وقمرًا في آن واحد، وبالتالي فإن الحقيقة تتعلق بما هو قطعي ويقيني ولا تتعلق بما هو ظني.
والنصوص القرآنية كلها حقائق من حيث ثبوت أنها من الوحي، وأغلبها ظني الدلالة، أما النصوص التفصيلية للسنة فأغلبها ظنية الثبوت عن الوحي، وبعضها قطعي الدلالة وبعضها الآخر ظني الدلالة. وفيما يرشد إلى الظن من النصوص الشرعية لا نطلب فيه "حقيقة"، بل نطلب فيه الراجح من القول، ويكون الرأي المظنون رأيًّا شرعيًّا وليس "رأي الشرع"؛ أي هو فهم من أفهام أخرى يحتملها النص، ولا يُنكَر فيه على المخالف.
أما الاختلاف في العقائد فإن صعيده حقٌ وباطلٌ؛ لأنه يتعلق بمطابقة العقيدة للواقع أو عدم انطباقها عليه، سواء أكان الواقع الذي يقع عليه الحس، أو الواقع الذي جاء به الوحي المقطوع بصدقه عقلًا.
والحال أن العلمانيين والليبراليين لا تعنيهم الحقيقة بقدر ما يعنيهم احتكار السلطة، واحتكار العقل لسلطان التشريع، والاستبداد بالدين وبالمسلمين.
ثانيًا: لقد اختزلت فلسفة "العلمانيين العرب" والقراءات المعاصرة دورَ الوحي في تغطية الفراغ المعرفي لحاجة البشرية إلى التوجيه الإلهي في طفولة البشرية؛ أي حصرت دور الوحي بالكمِّ المعرفي وتجاهلت نوع المعرفة وأدوات تحصيلها.
والحقيقة أن وظيفة الوحي غير متعلقة بالكم المعرفي ولا بالجوانب التي لم يكن بمقدور العقل والتجربة تفسيرها في زمن معين، بل وظيفة الوحي هو ملء المنطقة التي يعجز العقل والتجربة عجزًا تامًّا عن تغطيتها في كل وقت، وهي المنطقة المنقطعة عن الحس في التصور الكلي للوجود كتنظيم علاقة الخالق بالمخلوق تنظيمًا صحيحًا، والغيبيات، بالإضافة إلى الأحداث التاريخية التي لا تصل مدارك الناس إليها.
ولذلك كان الافتراض بأن العقل مسنود بالتجربة يمكنه أن يستقل عن الوحي ويقتلع الخرافة من تفسير الظواهر هو الخرافةُ بعينها، علاوة على أنها مقدمة منطقية خاطئة؛ لأنها لم تعرّف الدور الحقيقي للوحي، وأخطأت في فهم العقل الذي لا يستقل بمعرفة الغيب بمعزل عن الوحي، وحاجة البشر إلى الخالق بالتشريع في ضوء طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، حتى لو كان العقل قادرًا على اجتراح الحلول والمعالجات.
وبالتالي فإن الافتراض بأن العقل والتجربة يوصلان إلى معارف حسية، إن في الحال أو بعد حين، وبإمكانهما الاستغناء عن الوحي هو افتراض خاطئ؛ لأن الوحي لم يكن عمله تفسيرَ الظواهر الكونية ، وإنما جاء برسالة سماوية تخبر عن المحسوس وعن المغيب كالملائكة والجنة والنار والتاريخ، وتنظيم علاقات البشر التنظيمَ الصحيحَ، وهذه ليست مما يستقل العقل والتجربة بمعرفتها دائمًا وأبدًا؛ لأنها خارج حدود العقل وميدان العلم الذي لا يعترف بغير الذي يخضع للتجربة، فكيف سيصل من يقدسون المنهج العلمي إلى تفسير الوجود لا سيما علاقة الإنسان بالخالق، التي تقوم على الإيمان بالوحي والرسل والجنة والنار، والخضوع والانقياد لشريعة الله؟ فالوحيُ مصدرٌ معرفيٌّ "أصيلٌ" لانتزاع الخرافة ولتصحيح القداسة وتوجيهها؛ ولتقديم التفسير اليقيني لأصل الوجود والغاية منه، ولتنظيم شؤون العباد، وليس مصدرًا ظرفيًّا كما يزعمون؟ إذ بغير الوحي لا يمكن الإجابة بشكل صحيح عن كل الأسئلة الكبرى في حياة الإنسان كالإجابة عما بعد الحياة، ومعرفة نظام الخالق في تدبير شؤون الحياة، وكل ذلك مما لا يستطيع العقل والتجربة اقتحام حقوله والاستقلال بمعرفته بمعزل عن الوحي.
ولذلك كانت وظيفة الوحي المفترضة من قبل هؤلاء مقدمة منطقية خاطئة؛ لأن الوحي لم يأت لتفسير الظواهر الكونية الحسية والغائبة عن الحس في زمن معيّن، ولا للرصيد المعرفي الكمي، إذ أن القضية هي قضية خالق ومخلوق، وقضية خلق وأمر. وهو ما يجعل الوحي مصدرًا معرفيًّا أصيلًا وليس ظرفيًّا كما يدّعون، لا سيما وأن الشريعة الإسلامية تعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنسانًا لا يتغير بتغير الزمان والمكان، وأن الإسلام دين كامل ورسالة إلى الناس كافة.
ولهذا كان اعتماد العلمانيين على العلم والتجربة مصدرًا معرفيًّا بديلًا بحجة حركة التاريخ وتطور العلم واستغنائه عن الوحي هو خطأ وانحراف منهجي في التفكير.
ثالثًا: إن نوع المعارف يفرض الطريقة والمصادر التي تؤخذ منها، والأدوات التي تُسلك لتحصيلها، فمنهج العلم التجريبي هو الطريقة الصحيحة في بحث العلوم التجريبية، لكنه لا يصلح أساسًا للتفكير في كل شيء، والخطأ الذي وقع فيه العلمانيون هو جعل المنهج التجريبي وليس الطريقة العقلية أساسًا للتفكير.
والأفكار إما أن تكون حكمًا على واقع وإما معالجة لواقع، والتفكير قد يتعلق في وجود الشيء أو في ماهية الشيء لاتخاذ الموقف منه، ولكل مجال بحثي منهج ومصادر وأدوات. فالعلاقات والحوادث لا تخضع للبحث التجريبي كما تخضع المادة في المختبر، وإخضاعها لأدوات المنهج التجريبي يوقع الباحث في الخطأ كما حصل مع علماء النفس والاجتماع؛ لأن منهج البحث العلمي يختص بالمادة التي تخضع للتجربة كالكيمياء والفيزياء، ولا يطبق على المسائل الفقهية والفكرية والسياسية واللسانية.
أما الاستنتاجات الفكرية المستنبطة من الاستقراء والملاحظة فهي مسألة عقلية وإن أدرجت في المنهج العلمي.
وهذا يحتم التفريق بين النصوص الفقهية والسياسية واللغوية والعقدية وبين الأشياء المادية، بل يُحتّم التفريق بين الأشياء المادية وبين الإنسان نفسه. فلا يصح تطبيق المنهج التجريبي على الفقه والعقائد والسياسة واللغة؛ لأن تحصيل المعرفة في اللغة والفقه والعقيدة وأصولها وقواعدها لا يتحقق بمعلومات تتصل بالتجارب العلمية ونتائجها الظنية.
فالأفكار المتصلة بالواقع الذي لا يقع عليه الحس، هي من أبحاث العقيدة، ودليلها الوحي، الذي ثبت أصله عن طريق العقل، والأفكار المتصلة بالواقع الذي يقع عليه أو على أثره الحس، فهي أيضًا من أبحاث العقيدة، ولكن دليلها العقل، كفكرة صلب المسيح التي نحكم عليها بعقيدة المسلمين في المسيح، وكألوهية المسيح وفكرة التثليث التي يقرر العقل أنها عقائد باطلة؛ لأن ولادة المسيح تعني أنه لم يكن موجودًا قبل ولادته، مما يجعله مخلوقًا حادثًا وليس إلهًا أزليًّا، ولأن تعدد الآلهة يتناقض مع كمال الخالق وأزليته؛ لأن كل إله سيحد من قدرة الآخر بمقدار تأثيره في الوجود، وهو ما ينفي عنهم الألوهية أو يُثبتها لأحدهم وينفيها عن الآخرين، كثبوت ألوهية الله وانتفائها عن المسيح والروح القدس. فضلًا عن أن فكرة تعدد الآلهة تتناقض مع مبدأ عقلي هو "عدم اجتماع الضدين".
أما الأفكار التي تعالج الواقع فهي أبحاث فقهية، وطريق تحصيلها هي النصوص الشرعية وأصولها وأدوات فهمها كاللغة العربية وليس العقل ولا التجربة. ولا يقال يمكننا أن نأخذ بمخرجات العقل السليم الذي لا يتعارض مع الشرع الصحيح، لا يقال ذلك لأن المسألة هي مسألة حاكمية وليست مسألة حكم؛ أي مسألة حاكمية الله بصرف النظر عن قدرة العقل على اجتراح الحلول وإبداع المعالجات. فالحاكمية لله وليست للعقل حتى لو وافق حكمه الشرع: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}، {والله يحكم لا معقب لحكمه}. ولو كان العقل السليم طريقًا للمعارف التشريعية لما أرسل الله الرسل، ولَمَا وصف الإنسان بالنقص والتقلّب الذي يتعارض مع منطق التشريع، كقوله تعالى: {قُتل الإنسان ما أكفره} {إن الإنسان لربه لكنود} {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} {كلا إن الإنسان ليطغى} {وكان الإنسان عجولًا} {إن الإنسان خلق هلوعًا} {وخلق الإنسان ضعيفًا} {وكان الإنسان قتورًا} {وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} {إن الإنسان لفي خسر} {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبًا إليه، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أندادًا ليضل عن سبيله} {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمَه فيقول ربي أكرمنِ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهاننِ}. فهذه الآيات الكريمة تبين بوضوح، أن الإنسان مهما بلغ من الاستقامة في تفكيره لن يبلغ الكمال الذي تقتضيه مهمة التشريع، ولن ينفكّ عن هذه الصفات القادحة بعقله وميوله.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:53 PM
على أن الذي يعين الموقف من المصالح هو المدح والذم على الفعل، وليس على ما فيها وفي الأشياء من حسن وقبح بحسب نظرة الإنسان إليها، والمدح والذم على الفعل هو للشرع وليس للعقل؛ لأن المدح يترتب عليه الثواب والذم يوجب العقاب، وهذا يملكه الله ولا يملكه الإنسان، ولذلك كان تقرير المصالح للشرع وليس للعقل والتجارب.
رابعًا: العربية هي لغة القرآن الكريم، واستنباط الأحكام يكون بفهم دلالة الألفاظ بحسب ما وضعت له؛ أي بحسب معهود اللغة عند العرب لا بحسب الواقع والعقل والتجربة.
ولا بد أن تؤخذ اللغة العربية بالنقل عمن قوله حُجَّةٌ في أصل اللغة، وهم العرب، والمراد بالعرب؛ العربُ الأقحاحُ الذين كانوا يتكلمون اللغة العربية قبل فساد اللسان العربي. وقد ظل قسم منهم حتى القرن الرابع الهجري، كانوا يسكنون البادية ولم تفسد لغتهم، ولذلك يؤخذ عنهم. فما يقوله العرب عن اللغة يُسلَّم به، إذ هي اصطلاح لهم.
ولا يجوز أن يقرر الواقع المتجدد والعقل والتجربة دلالتها؛ لأن المسألة مسألة وضع اصطلحوا عليه وليست مسألة عقلية ولا متعلقة بالإدراك. يقول فخر الدين الرازي: "الطريقُ إلى معرفة اللغة، إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل، كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء، ونقل إلينا أنَّ الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذٍ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم، وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك".
وقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، التي تقضي بدوام تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع في كل زمان ومكان، هي مسألة لسانية وفقهية وليست عقلية أو تجريبية، وطريق استنباطها وتقريرها هو قواعد الفقه وأصوله واللغة، وليس العقل والتجربة.
فمثلًا عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميمونة ووجدها ميتة قال: "أيما إهاب دُبغ فقد طهر"، فتعلق الحكم بالإهاب وليس بشاة ميمونة، ولو كان الحكم خاصًا بميمونة وشاتها لصرّح بذلك مثلما صرّح لأبي بردة "ضحِّ بها ولا تصلح لغيرك"، وبالتالي فإن حكم جِلد الميتة إذا دُبغ هو حكم عام في كل جِلد وليس في شاة ميمونة وحدها.
وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} حكم عام يشمل جميع أنواع البيع، إلا الأنواع التي ورد نص في تحريمها، فإنها تصبح حرامًا بالنص مستثناة من العموم. وأما المنطق التجريبي الذي طبقه بعضُ العلمانيين على قاعدة العموم والخصوص تعسفًا إنما يصلح في التعميم بالانتقال من الخاص إلى العام في الأشياء المادية وليس في الأحكام وأصولها وقواعدها؛ لأن المنطق التجريبي يتعلق بطبيعة الأشياء وخصائصها وليس في الحكم عليها، فيمكن تعميم واقع الخمر على كل شيء مُسْكِر انتقالًا من الخاص إلى العام تمامًا كتعميم قانون "تمدد الفلزات بالحرارة" أو "درجة غليان الماء في ظروف معينة" بوصفها أشياءً.
وأما الحكم عليها؛ أي الخمر، فيخضع لصيغ النصوص المتعلقة بها من حيثُ عمومُها وخصوصُها، ومن حيث سياقُها وقرائنُها ودلالتُها على الحكم. ولهذا كانت الأحكام والقواعد الفقهية تؤخذ من الأدلة الشرعية، والأدلة هي نصوص عربية فيها الخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ.
وحين نبحث في الحكم الشرعي لتعميمه نبحث في دلالة النصوص بحسب قواعد اللغة العربية وليس بحسب العلوم التجريبية وقوانينها. وبالتالي فإن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" هي القاعدة الصحيحة؛ لأنها منسجمة مع الطريقة الصحيحة في الاستنباط، وهي أدوات الفقه واللغة وليس العقل والواقع والتجربة.
ولو لم تكن العبرة بعموم اللفظ معتبرة لما احتج عمر بن الخطاب على أبي بكر في قتاله لمانعي الزكاة بعموم قوله عليه السلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"، ولأنكر عليه أبو بكر والصحابة حجته، لكن أبا بكر رد عليه "إلا بحقها".
وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن الصحابة عملوا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في أحكام السرقة واللعان والظهار والزنا وكثير من الأحكام، فكان ذلك منهم إجماعًا وحجة على صحة قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
ومن هنا كان تقرير القواعد الشرعية بالفلسفة والمنطق والعلم التجريبي خطأ فادحًا وانحرافًا في الفهم التشريعي.
ولا بد من فهم النصوص الشرعية بقواعد الفقه واللغة؛ لأنها الأدوات الصحيحة لتحصيل المعارف الفقهية وأصول الدين، خاصة وأن الألفاظ والتراكيب التي تفهم بها النصوص وتُبنى بها القواعد الشرعية تدور مع المعاني الذهنية وليس التجريبية.
واللغة العربية هي وضعٌ واصطلاحٌ قد تقرر على يد العرب قديمًا ونزل القرآن بحسب ما اصطلحوا عليه وصار معيارًا لتفسير القرآن. وطريق أخذ اللغة هو النقل والاستنباط وليس العقل، وإن استبعاد اللغة كأداة لفهم النصوص واستنباط القواعد الشرعية أو تغيير مدلولاتها الوضعية ومعهودها عند العرب يوجب الحاجة لوحي يخاطب الناس في كل عصر بلغته وهذا محال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رفض تحكيم العلوم التجريبية في توجيه الفهم لا يعني أن الإسلام يتناقض مع العلم وحقائقه، وإنما هو رفض لإعمال قواعد الفلسفة والعلم التجريبي والمنطق في تقرير الحقائق والأحكام المحمولة في النصوص الشرعية؛ لأن الفلسفة والمنطق والعلم التجريبي لا تتجانس كلها مع الفهم التشريعي.
أما الحقائق العلمية والشرعية فلا تناقض بينها في المقام الأول؛ إذ يستحيل تناقض الحقائق مع بعضها بصرف النظر عن مصدرها. فإذا تناقضت النتائج العلمية التجريبية مع المقطوع به عقلًا كالقرآن تُرَد النتائج الظنية ويُؤخذ بالقرآن المقطوع بصدقه.
أما الحقائق التجريبية القطعية فلن تتعارض مع يقينيات الإسلام إلا في مخيلة الذين فقدوا ثقتهم بالدين، واتخذوا من الفلسفة والطريقة العلمية التجريبية وحيًّا من دون الله وألبسوا منتجاتها الظنية قداسة وهيبة، وفي مخيلة الذين لم يدركوا أن النتائج العلمية القطعية لن تتعارض إلا مع النصوص الظنية؛ لأن النص الشرعي الظني لا يقطع في المسألة، وإنما يترك تقريرها لقرائن الحال والمقال، ومن ضمنها العلم التجريبي، الذي قد يكشف عن دلالة بعض النصوص الظنية، وحينئذ تؤخذ النتائج العلمية القطعية "قرينة حال" لترجيح أحد الآراء المستنبطة من دلالة النصوص الشرعية. علمًا أن المسائل الظنية التي لها تعلق بالعقائد ليست موضع إيمان في عقيدة المسلمين؛ أي لا تصدق تصديقًا جازمًا؛ لأن العقائد لا تؤخذ إلا عن يقين.
وفي الختام لا بد من التفريق بين نقد الأفكار لتمييز الأصيل من الزائف منها؛ لتقرير الأصيل ونفي الزائف، وبين النقد كوسيلة للتشكيك ومساواة الحق بالباطل، والقطع مع الوحي وتقويضه بحجة مقدارٍ مهجور من المرويات الزائفة؛ لأن كلمة "نقد" تعني إخراج الزائف من الحقيقي وتمييزه. وهذا ما لم يفعله دعاة الحداثة والقراءات المعاصرة وتنقية "التراث" أبدًا، بل نجدهم يستهدفون المرويات الشرعية، ولا يتعرضون للمرويات العلمية والتجريبية الظنية؟!
مع أن "المجتمع العلمي" يعتمد الأبحاث السابقة كمعلومات وأخبار يستشهدون بها ويبنون عليها تمامًا كما يستشهد علماء الفقه والتاريخ بالمرويات، مع فارق ضوابط الرواية في الإسلام التي لو طبقت على تاريخ الأمم كلها لن يبقى لهم تاريخ، وبخاصة وأن تحصيل المعارف التجريبية كنشأة الكون والإنسان ليس متاحًا لكافة الناس بل لفئة العلماء، وما يستنتجونه تجريبيًّا يتم نقله بـ "الرواية" إلى كافة الناس ليتلقوه بالتسليم دون أن يقفوا على إنشائه وسنده بأدوات الفحص العلمي "الجرح والتعديل". وفي الحقيقة إن هؤلاء إنما يسعون إلى تأصيل المنهج التجريبي وترسيخه كبديل يُراد إحلاله محل "الوحي" بعد أن خلعوا على العلم والعقل لباس القداسة، لتركيز العلمانية بشقيها الربوبي والإلحادي؛ لأن المنهج التجريبي لا يعترف بالماورائيات، ولا بمرجعية الوحي كمصدر للمعارف وتدبير شؤون الحياة. وهذا وحده كاف لتوجيه الاتهام للحداثيين و"التنويريين" بتواطئهم على تزييف الدين وتغريب وعي المسلمين وعلمنتهم.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:54 PM
حجية السنة
إن مرجعية السنة النبوية مسألة إيمانية دونها الكفر والخروج من الملة ودائرة الإسلام؛ لثبوت أن السنة وحي من الله بالدليل القاطع، وهي التي لا ينفصل الإيمان بها عن العقيدة، فضلًا عن الآيات القطعية التي تأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
إن قوله تعالى: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقوله {وإنك لعلى خلق عظيم} وقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} يقتضي أن تكون أفعال النبي وأقواله وسكوته بما يتعلق بالرسالة وحيًا ودينًا، ولو لم يكن الدين والهدى والحجة متمثلًا ومتجسِّدًا في أفعال الرسول النبي وأقواله وسكوته المتعلقة بالرسالة، ولو لم يكن ذلك وحيًّا لما كان لله حجة على الناس مع وجود الرسل؛ لأن الحجة والدين والهدى تقتضي أن يكون هناك وحيٌّ ورسالة من الله.
فمن البديهيات أن النبي والرسول هو المبلغ عن الله بعد ثبوت نبوته، وأنه معصوم فيما يبلغه عن الله سبحانه وتعالى، وثبوت العصمة وحدها تكفي أن تكون دليلًا قاطعًا على حجية السنة -قول وفعل وتقرير الرسول بما يتعلق بالرسالة- فلسنا بحاجة لأكثر من ثبوت أن محمدًا رسول ونبي حتى يثبت أن كل ما يخبرنا به عن الله هو وحي.
وحصر الوحي من الله في القرآن فقط لا دليل عليه، وإنما هو تحكم وتكلف وليّ لأعناق النصوص قد نهى الله عنه بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. قال مجاهد، وقتادة، ومالك عن زيد بن أسلم: (ثاني عطفه) أي: لاوي عنقه. فقد أوحى الله إلى الأنبياء السابقين كما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المقطوع به أنه لم يوحِ إليهم القرآن، وهذا يبرهن أن الوحي غير محصور في القرآن فقط، قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين} ولا يقال إنَّ هذا خاص بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو إنَّ الله لم يوحِ إلى النبي إلا القرآن فقط، ولم يوحِ إليه بشيء غيره، لا يقال ذلك؛ لأنه ليس هناك دليل واحد يدل على أن القرآن هو فقط ما أوحى به الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو مما أوحي إليه لا كل ما أوحي إليه.
فالسنّة؛ أي "كل ما ورد عن الرسول من قول أو عمل أو تقرير بما يتعلق بالرسالة " دليل شرعي كالقرآن؛ لثبوت الدليل القاطع على نبوة سيدنا محمد عليه السلام ورسالته، وهي وحي من الله تعالى. والاقتصار على القرآن وترك السنّة كفر صراح، وهو رأي الخارجين عن الإسلام.
على أن القرآن نفسه لا يمكن إثباته إلا بقول الرسول فأقواله هي التي أرشدت بأن ما يتلوه هو قرآن من عند الله؛ إذ أن ترتيب الآيات في السور ليس مما يستقل العقل بمعرفته، ولو ارتجل النبي بترتيب الآيات في السور من دون وحي لاضطرب نظم القرآن، فقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: "ضعوا هذه الآيات في السورة كذا" هو من السنة وليس من القرآن، ولذا كان هذا الإرشاد النبوي إلى مواقع آيات القرآن في السور وترتيبها، هو وحي من الله مثل الآيات ذاتها، ولو لم يكن ترتيب الآيات وحيًّا لما علم النبي بموقعها في السور؛ لأنها ليست من تأليفه. ومثل ذلك ما رواه أحمد عن عقبة بن عامر الجهني (لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم}، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال: "اجعلوها في سجودكم"، فإن قوله عليه الصلاة والسلام في مثل هذه المسألة التوقيفية: (اجعلوها في ركوعكم) و (اجعلوها في سجودكم) ليس مما يستقل العقل بمعرفته أو تقريره من دون وحي، مما يجعل توجيهاته وحيًّا.
ولهذا فإن ما ينطق به النبي من قرآن هو وحي، وما يتصل بذلك من إرشاد عن الآيات وترتيبها هو وحي مستقل عن القرآن. وقد يقول قائل إن القرآن دل عليه نظمه وإعجازه ولا حاجة للسنة لتدل عليه، وهذا صحيح في إثبات حجية القرآن أنه كلام الله، وليس في إثبات أن ما بين دفتي الكتاب هو القرآن، ولا بترتيب آياته التي كانت تنزل منجمة على الأحداث والوقائع، إذ لم يكن يُعلم بترتيب الآيات إلا من خبر الرسول؛ أي من السنة، كما أن الإعجاز لا يَبْرز في أفراد الآيات المنجمة في القرآن عند نزولها؛ لأن الإعجاز يظهر في السورة كاملة، فلا يتأتى معرفة الآية غير المعجزة بأنها من القرآن قبل أن تكتمل في السورة وتدل على أنها كلام الله بالإعجاز إلا بشهادة النبي أو بالنظم القرآني المتعالي على أسلوب البشر، ولعل قائلًا يقول إن النبوة ذاتها لم تثبت له إلا بعد ثبوت إعجاز الكتاب وتعالي نظمه على ما سواه وهذا صحيح، ولكن النبوة قد ثبتت بإعجاز سورة واحدة أو بالنظم القرآني المتعالي والظاهر فيما دون السورة الكاملة، وأما ثبوت الآيات المنجمة التي لا يظهر فيها النظم ظهورًا متمايزًا عن غيره قبل اكتمال السور فلا بد له من دليل غير النظم والإعجاز، وهي شهادة النبي الذي لا ينطق عن الهوى.
وبمعنى آخر، فإن حجة النقل هي غير حجة المنقول، فنقل القرآن عن الوحي دليله النبوة، وأما المنقول فمنه ما كان معجزًا كالسورة، ومنه النظم المتعالي غير المعجز، ومنه دون ذلك ككثير من الآيات المنجمة عند التنزيل قبل أن تكتمل السور، وصِدق ما اكتمل من السور بعد التنزيل دليله الإعجاز، وأما صدق ما لم يثبت بالنظم المتعالي والإعجاز من الآيات المنجمة وترتيبها فدليله قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى}. ومثال ذلك قوله تعالى: {القارعة}، فهي آية، لكنها ليست معجزة بمفردها، ولا يمكن معرفة أنها من القرآن أم من غيره إلا بشهادة النبي الذي ثبتت نبوته بشيء من النظم الظاهر والمتعالي على معهود العرب في اللغة، وبكونه لا ينطق عن الهوى بشهادة القرآن له.
ولهذا لا يقال إن الإعجاز قد دلّ على القرآن بمفرده؛ لا يقال ذلك لأن القرآن بحاجة إلى من يُعرّف به وبترتيب آياته، ولهذا أقسم الله بأن النبي لا ينطق عن الهوى، وقال: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} والشاهد في المسألة أن هناك آيات غير معجزة بمفردها، وتحتاج إلى وحي من خارج القرآن للإرشاد إلى كونها من القرآن، وإلى ترتيبها في السور. وبما أن القرآن لم ينص على ترتيبها في السور كان بيان النبي لتلك الآيات وترتيبها دليلًا قاطعًا على استقلال وحي السنة عن الكتاب؛ أي أن السنة وحي مثل القرآن؛ ولأن الآيات المنجمة لا تدل بذاتها على الإعجاز عند التنزيل، وأقوال النبي هي التي بينت كل ذلك، لزم أن يكون البيان ليس لإظهار القرآن للناس والنطق به فحسب، وإنما للشهادة لآياته وترتيبها وتفصيل أحكامها، وهذا يبطل منهج هؤلاء في التفسير، ويثبت استقلال وحي السنة عن القرآن، ولو كان المقصود بالبيان بيان القرآن لنفسه للزم أن ينص القرآن على ترتيب الآيات، ولزم أيضًا أن تكون جميع آيات القرآن معجزة فضلًا عن لزوم بيان القرآن لكل الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وهذا مناف لواقع القرآن.
على أن معنى البيان ظاهر في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} والمقصود بالبيان هو تفصيل مجمله وتقييد مطلقه وتخصيص عامِّه، إذ لو كان المقصود بالبيان "النطق به" كما يزعم المنكرون لكان مقتضى الظاهر أن يقال "لتبيّنه للناس" وليس {لتبين للناس ما نزل إليهم}. كما أن بناء الفعل "نُزّل" للمجهول يومئ إلى خفاء ما جاء في القرآن من تفاصيل تقتضي البيان كأحكام الصلاة والزكاة والحج. ومن ذلك تخصيصه عليه الصلاة والسلام لآية {حرمت عليكم الميتة} بقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وقوله: "لا وصية لوارث" مخصصًا حكم الوصية. إذ لو لم يكن تخصيصه وحيًا لكان استدراكًا وتقوّلًا على الله القائل: {والله يحكم لا معقب لحكمه} والقائل: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين}، وبما أن الله لم يعاقبه على ذلك أبدًا، دل على أن بيانه وحي بشهادة الآية القرآنية.
وأما ثبوت أن القرآن من عند الله فطريقه العقل ودليله الإعجاز بعد اكتمال سوره، ولذلك فسر بعض العلماء قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم..} بكمال إعجازه.
ثم إن كون السنّة وحيًا من الله هو صريح في القرآن الكريم، قال تعالى: {قل إنما أنذركم بالوحي}، وقال: {إن أتّبِع إلاّ ما يوحى إليّ}، وقال: {إنما أتّبِع ما يوحى إليّ من ربي}، وقال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى}. فهذه الآيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة في حصر ما ينذر به الرسول وما ينطق به وما يتبعه وكل ما يتعلق به بوصفه رسولًا ونبيًّا بالوحي ولا تحتمل أي تأويل، فالسنّة وحيٌ كالقرآن.
وأمّا أن السنّة واجبة الاتباع كالقرآن الكريم، فهو صريح في القرآن أيضًا، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وقال: {ومن يُطع الرسول فقد أطاع الله}، وقال: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم}، وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلّموا تسليمًا}، وقال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}، وقال: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}، وقال: {إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يُحببكم الله}، {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} فهذا كله صريح واضح في وجوب اتباع الرسول فيما يأتي به، وفي اعتبار طاعته طاعة لله تعالى. فهذه النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة صريحة في وجوب الأخذ بالسنة كالأخذ بالكتاب. ومن ذلك أيضًا اتباع الصحابة للنبي في اتجاه القبلة الأولى التي شرع النبي التوجه نحوها بسُنَّتِهِ، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ}.
فمن ينكر أن السنة -قول وفعل وتقرير الرسول بما يتعلق بالرسالة- من الوحي كافر قطعًا، فيجب الأخذ بالسنة كالأخذ بالقرآن سواء بسواء من غير أي فرق بينهما. ولا يجوز أن يقال: عندنا كتاب الله نأخذ به؛ لأن ذلك قد يفهم منه ترك السنة، بل لا بد من أن تُقرن السنة بالكتاب، وقد نبه الرسول إلى ذلك في حديثه، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته يحدث بحديث عني، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدناه فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله"، وروي أنه عليه السلام قال: "يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان من حرام حرمناه, ألا إن من بلغه عني حديث فكذب به، فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه".

Abu Taqi
16-04-2021, 03:56 PM
موضع السنة بالنسبة للقرآن
السنة قاضية على الكتاب ــ أي مبينة له ــ؛ لأن الكتاب يكون محتملًا للأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما، فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى ظاهر الكتاب، فالسنة بالنسبة للقرآن مبينة له، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. فبيان القرآن للأحكام الشرعية كلي فأكثره جاء بألفاظ عامة مطلقة أو مجملة ولم تأت بشكل تفصيلي جزئي، وحتى عندما جاء في بعض نصوصه بالتفصيل لحوادث جزئية فإنها صيغت بألفاظ تتسع لانطباقها على أحكام كثيرة، فمثلا يقول الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}، فإن هذه الآية يستنبط منها حكم شرعي هو أن المطلقة تستحق أجرة الرضاع، ويستنبط منها حكم شرعي أيضًا أنّ الأجير أيا كان يستحق الأجرة إذا قام بعمله، سواء أكان أجيرًا خاصًّا أم أجيرًا عامًّا. فالقرآن جامع، ولا يكون جامعًا إلا والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله.
والسنة على كثرتها وكثرة مسائلها بيانٌ للكتاب، وجميع ما في السنة له أصل في الكتاب بينه على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معًا، وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بالتوضيح والشرح.
قال تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلك}، بعد قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم} مما يدل على حل كل ما عدا ما ذكر، فجاءت السنة فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، يقول الرسول عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها"، فكان ذلك تركًا لظاهر الكتاب وتقديم السنة عليه. وقد يكون ظاهر الكتاب أمرًا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. فقد أتى القرآن بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرًا، فجاءت السنة فخصصته بأموال مخصوصة عينتها وحصرت أخذ الزكاة منها فقط، فلا تؤخذ من غيرها.
وقد جاءت السنة بأحكام كثيرة لم ينص عليها في القرآن الكريم، لكن هذه الأحكام جاءت ملحقة بأصول لها مذكورة في القرآن، وهي من قبيل البيان لما في القرآن، فتكون السنة مبينة للكتاب. ويتلخص بيان السنة للكتاب فيما يلي:
1_ تفصيل مجمله: ومن ذلك أن الله تعالى أمر بالصلاة في الكتاب من غير بيان لمواقيتها وأركانها وعدد ركعاتها، فبينت السنة ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وورد في الكتاب وجوب الحج من غير بيان لجميع مناسكه، فبينت السنة ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". وورد فيه وجوب الزكاة من غير بيان لما تجب فيه ولا المقدار الواجب فيه، فبينت السنة ذلك، وهكذا.
2_ تخصيص عامه: فقد وردت في القرآن عمومات وجاءت السنة وخصصت هذا العام، ومن ذلك أن الله تعالى أمر أن يرث الأبناءُ الآباءَ على نحو ما بين في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} الآية، فكان هذا الحكم عامًّا في كل أب يورِّث وكل ولدٍ وارث، فخصصت السنة الأبَ المورِّث بغير الأنبياء بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". وخصصت السنة الوارث بغير قاتل مورثه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل". ومن ذلك قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرًا}، فإن هذه الآية دلت على عِدة الوفاة، فخصصت هذه الآية في حديث سبيعة الأسلمية إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فأخبرها عليه السلام أن قد حَلَّت، فبين ذلك أن الآية مخصوصة في غير الحامل.
3_ تقييد مطلقه: فقد وردت في القرآن آيات مطلقة، وجاءت السنة وقيدت هذا الإطلاق بقيد معين، ومن ذلك قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فإنه مطلق في كل سرقة وكل سارق، وجاءت السنة وقيدت السرقة التي يجري فيها القطع بقيود بأن تكون في ربع دينار فصاعدًا بقوله عليه السلام: "القطع في ربع دينار فصاعدًا"، وأن يخرجها من الحرز، إلى غير ذلك من القيود التي جاءت بها السنة.
4_ إلحاق فرع من فروع الأحكام بأصله الذي ورد في القرآن، فيظهر هذا الفرع بأنه تشريع جديد، وعند التدقيق يتبين أنه ملحق بأصله الذي ورد في القرآن. وهذا كثير، فمن ذلك أن الله تعالى يقول: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}، ولم يذكر تفصيلات، فنصت السنة على ما يستعين به المجتهد على معرفة الأحكام فيما يشتبه أنه من الخبائث والطيبات وألحقته بهما. فنصت السنة على النهي عن أكل لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وألحقتها بالخبائث، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"، وعن جابر قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"، ونصت السنة على إباحة أكل الضب والأرنب وما شابهها وألحقتها بالطيبات، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: "لا آكله ولا أحرمه"، وعن أبي هريرة قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها ومعها صنابها وأدمها، فوضعها بين يديه فأمسك صلى الله عليه وسلم فلم يأكل، وأمر أصحابه أن يأكلوا"، والصناب صبغ يتخذ من الخردل والزبيب ويؤتدم به.
ومن ذلك أن الله أباح من صيد الجارح المُعَلَّم ما أمسك، وعلم من ذلك أنه ما لم يكن مُعَلَّمًا فصيده حرام إذا لم يمسك إلا على نفسه، فدار بين الأصلين ما كان مُعلَّمًا ولكنه أكل من صيده، فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك، والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك. فتعارض الأصلان، فجاءت السنة ببيان ذلك، فقال عليه السلام: "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه"، ومن ذلك أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}، فألحق النبي عليه السلام بهاتين سائر القرابات من الرضاعة اللاتي يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك، فقال عليه السلام: "إن الله حرَّم من الرضاع ما حرّم من النسب".
ومن ذلك أن الله تعالى قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}، فحكم بالأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل، فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد، فقضى عليه السلام بذلك، فقد روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس مرفوعًا أنه عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد ويمين المدعي.
وعلى هذا المنوال جاءت السنة بأحكام كثيرة لم تأتِ في الكتاب، وهي تشريع جديد ولكنها ملحقة بأصل لها. غير أنه ليس معنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بتشريع جديد إلا كان ملحقًا بأصله في القرآن، ولا معناه أن كل تشريع جديد يأتي به الرسول عليه السلام لا بد أن يكون ملحقًا بأصله في القرآن، بل ذلك هو الأغلب الأعم، ولكن قد يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بتشريع جديد ليس ملحقًا بأصله في القرآن، بل قد يكون لا أصل له في القرآن وليس معنى ذلك أنه هو شرَّع هذا التشريع من ذاته، بل هو مبلغ عن الله وهو من هذه الناحية ملحق بأصل؛ أي كونه مبلغًا عن الله، فإن القرآن نص على أنه مبلغ عن الله وأنه واجب الاتباع والانقياد والرد إليه والاقتداء به.
فمثلًا، الملكية العامة الثابتة في الأشياء التي هي من مرافق الجماعة، تشريع جديد بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"، وهذا غير ملحق بأصله في القرآن.
ومن ذلك أخذ الأرض من مالكها إذا أهملها ثلاث سنوات، بقوله عليه السلام: "وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين"، فإنه غير ملحق بأصله في القرآن. ومن ذلك تحريم أخذ ضريبة الجمارك، الثابت بقوله عليه السلام: "لا يدخل الجنة صاحب مكس"، فإنه غير ملحق بأصله في القرآن. غير أن هذا قليل، والأعم الأغلب أن التشريع الجديد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ملحق بأصله في القرآن.
وهكذا نجد السنة راجعة إلى الكتاب، وما ورد فيها بمنزلة البيان والشرح لمعاني أحكام الكتاب من تفصيل مجمله وتخصيص عامه وتقييد مطلقه وإلحاق فرع بأصله، ولكن مع ذلك فإن فيها تشريعًا جديدًا بلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لم يرد له أصل في القرآن، فكانت السنة بيانًا للقرآن وتشريعًا جديدًا للأحكام، أما البيان فيدل عليه قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، وأما التشريع الجديد فيدل عليه قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، والردُّ إلى الله بالرد إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول إذا كان حيًّا، فلما قبضه الله صار الردُّ إلى سنته، والتنازع مطلق في فهم القرآن وفي استنباط الأحكام، والرد إلى السنة مطلق فيما أصله موجود في القرآن وفيما كان تشريعًا جديدًا، ولذلك قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}، وقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}، وهو عام لأنه اسم جنس مضاف.
وعلى ذلك كانت السنّة دليلًا شرعيًّا مثل الكتاب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".
متى تكون السنة صالحة للاحتجاج
ليس معنى أن السنّة واجبة الاتباع كالقرآن، أن كل ما رُوي أنه من السنّة هو فعلًا من السنّة، فلا بد أن يثبت أن الرسول هو الذي قال هذا الكلام، أو عمل هذا العمل، أو سكت عن هذ الكلام، أو هذا العمل. فإذا ثبتت السنّة فقد صح الاستدلال بها على الأحكام الشرعية وعلى العقائد، وكانت حجة على أن هذا الثابت بالسنّة حكم شرعي، أو عقيدة من العقائد.
إلاّ أن ثبوت السنّة إما أن يكون ثبوتًا قطعيًّا، كأن يرويها جمع من تابعي التابعين عن جمع من التابعين عن جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بشرط أن يكون كل جمع يتكون من عدد كاف، بحيث يُؤمَن تواطؤهم على الكذب، وهذه هي السنّة المتواترة أو الخبر المتواتر. وإمّا أن يكون ثبوت السنّة ثبوتًا ظنيًّا كأن يرويه واحدٌ أو آحادٌ متفرقون من تابعي التابعين عن واحد أو آحاد من التابعين، عن واحد أو آحاد من الصحابة، عن النبي عليه السلام، وهذا هو حديث الآحاد أو خبر الآحاد.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:56 PM
ومن هنا كانت السنّة من حيث الاستدلال قسمين اثنين هما الخبر المتواتر وخبر الآحاد. أمّا الخبر المشهور أو المستفيض وهو الذي يروى بطريق الآحاد عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشتهر في عصر التابعين أو تابعي التابعين فإنه من خبر الآحاد وليس قسمًا ثالثًا؛ لأنه لا يرتفع في الاستدلال عن مرتبة خبر الآحاد، فلا يصل إلى مرتبة المتواتر مطلقًا. وما دامت الرواية قد تطرق إليها وجود آحاد في أي مرتبة من المراتب سواء أكان في الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين فإنه يعتبر آحادًا ولو كانت المرتبتان الأخريان جمعًا بلغ حد التواتر، فالسنّة إما متواترة أو آحاد ولا ثالث لهما.
إلاّ أن هذا الاستدلال بالسنّة يختلف شأنه بالنسبة لما يُستدل به عليه، فإن كان ما يُستدل عليه يكفي فيه أن يغلب الظن عليه فإنه يُستدل به بما يغلب الظن على الشخص أن الرسول قاله، ويُستدل به بما يتيقن الشخص أن الرسول قاله من باب أولى. أمّا ما يجب فيه الجزم واليقين فإنه يجب أن يُستدل به بما يتيقن الشخص أن الرسول قاله، ولا يُستدل عليه بما يغلب على الظن أن الرسول قاله؛ لأن الظن لا يصلح دليلًا لليقين، إذ ما يتطلب فيه الجزم واليقين لا يصلح فيه إلاّ الدليل اليقيني.
والحكم الشرعي يكفي فيه ما غلب على ظن الشخص أنه حُكم الله فيجب عليه اتباعه، ومن هنا جاز أن يكون دليله ظنيًّا، سواء أكان ظنيًّا من حيث الثبوت أو ظنيًّا من حيث الدلالة.
فخبر الآحاد إذا كان صحيحًا أو حسنًا "رواية ودراية"، يعتبر حجة في الأحكام الشرعية كلها ويجب العمل به، سواء أكانت أحكام عبادات أم معاملات أم عقوبات. والاستدلال به هو الحق، فإن الاحتجاج بخبر الآحاد في إثبات الأحكام الشرعية هو الثابت، وهو ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
والدليل على ذلك أن الشرع قد اعتبر الشهادة في إثبات الدعوى، وهي خبرَ آحاد، فيقاس قبول رواية السنّة وقبول الآحاد على قبول الشهادة. ذلك أنه ثبت بنص القرآن الكريم أنه يُقضى بشهادة شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين في الأموال، وبشهادة أربعة من الرجال في الزنا، وبشهادة رجلين في الحدود والقِصاص، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق، وقبِل شهادة امرأة واحدة في الرضاع، وهذا كله أخبار آحاد. وقد سار على ذلك الصحابة كلهم ولم يرو عنهم مخالف. والقضاء إلزام بترجيح جانب الصدق على جانب الكذب ما دامت الشبهات التي تجعل الخبر مظنة الكذب قد انتفت وغير ثابتة.
وهذا الإلزام ليس إلاّ عملًا بخبر الآحاد، فوجب بالقياس أن يُعمل بخبر الآحاد المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لترجيح جانب الصدق ما دام الراوي عدلًا ثقة ضابطًا قد التقى بمن روى، فقد انتفت شبهة مظنة الكذب ولم تثبت عليه هذه الشبهة. فكان قبول خبر الآحاد عن الرسول عليه السلام والاستدلال به على الحكم مثل قبول الشهادة والحكم بموجبها على الأمر المقضي به، وعلى ذلك يكون خبر الآحاد حجة بدليل ما أرشد إليه القرآن.
وفوق ذلك فإن النبي عليه السلام يدعو إلى حفظ قوله وأدائه، فكان فرضًا على كل من يسمعه، واحدًا أو جمعًا، أن يؤديَه، ولا يكون لأدائه ونقله أثر من حمله إلى غيره إلاّ إذا كان كلامه مقبولًا. فالدعوة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى نقل أقواله، هي دعوة إلى قبولها ما دام المنقول إليه قد صدّق أن هذا كلام الرسول؛ أي ما دام الناقل ثقة أمينًا تقيًّا ضابطًا يعرف ما يحمل وما يدع، حتى تنتفي عنه مظنة الكذب ويترجح فيه جانب الصدق، وهذا يدل على أن خبر الآحاد حجة بصريح السنّة وبما دلت عليه السنّة.
وعلاوة على هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في وقت واحد اثني عشر رسولًا إلى اثني عشر ملكًا يدعوهم إلى الإسلام. وكان كل رسول واحدًا في الجهة التي أُرسل إليها. فلو لم يكن تبليغ الدعوة واجب الاتباع بخبر الواحد لَما اكتفى الرسول بإرسال واحد لتبليغ الإسلام. فكان هذا دليلًا صريحًا من عمل الرسول، على أن خبر الواحد حجة في التبليغ. وكان الرسول يرسل الكتب إلى الولاة على يد الآحاد من الرسل ولم يخطر لواحد من ولاته ترْك إنفاذ أمره لأن الرسول واحد، بل كان يلتزم بما جاء به الرسول من عند النبي عليه السلام من أحكام وأوامر، فكان ذلك دليلًا صريحًا أيضًا من عمل الرسول على أن خبر الآحاد حجة في وجوب العمل بالأحكام الشرعية وفي أوامر الرسول ونواهيه، وإلاّ لَما اكتفى الرسول بإرسال واحد إلى الوالي.
ولا يقال إن هناك فرقًا في قبول أخبار الآحاد في عصر الرسول عنه في العصر الحاضر، فإنه بإمكانهم مراجعة الرسول والتحقق من الخبر، لا يقال ذلك؛ لأن هذا الكلام لا يغير من موضع الشاهد ولا ينفي الحجة فيه وهو عمل الصحابة بأخبار الآحاد المظنونة في عصر التنزيل وإقرار الشرع لذلك.
ثم إن الثابت عن الصحابة فيما اشتهر بينهم واستفاض عنهم أنهم كانوا يأخذون بخبر الآحاد إذا وثقوا بالراوي حتى بعد وفاة الرسول عليه وآله السلام. والوقائع الثابتة في ذلك تخرج عن الحد والحصر ولم يرِد عن واحد منهم أنه ردَّ خبر الواحد لأنه قد رواه واحد، وإنما كانوا يردّونه لعدم ثقتهم بالراوية. وعلى ذلك يكون خبر الواحد حجة في الأحكام الشرعية وفي تبليغ الإسلام بدليل الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم.
ولا يقال: إنّ ذلك يتعارض مع ذم الله للظن كقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}، وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وغيرها من الآيات في نفس المعنى، لا يقال ذلك؛ لأنّ المتتبع لهذه الآيات يجد أنّ موضوعها العقائد لا الأحكام، وعلى فرض عمومها فإنّ الدليل القاطع المتقدم يجعلها خاصة بالعقائد.
أمّا العقيدة فهي التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل. وكون هذه هي حقيقة العقيدة وهذا هو واقعها، فلا بد أن يكون دليلها محدِثًا التصديق الجازم، وهذا لا يتأتى مطلقًا إلاّ إذا كان هذا الدليل نفسه دليلًا مجزومًا به حتى يصلح دليلًا للجزم؛ لأن الدليل الظني يستحيل أن يحدث جزمًا فلا يصلح دليلًا للجزم، ولذلك لا يصلح خبر الآحاد دليلًا على العقيدة لأنه ظني، والعقيدة يجب أن تكون يقينية، وقد ذم الله تعالى في القرآن الكريم اتباع الظن، فقال: {ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظن}، وقال: {وما يتبع أكثرهم إلاّ ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}، وقال: {إن تُطِع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلاّ الظن}، وقال: {إن يتبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس}، وقال: {وما لهم به من علم إن يتبعون إلاّ الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً}. فهذه الآيات وغيرها صريحة في ذم من يتبع الظن بالعقائد، وذمهم والتنديد بهم دليل على النهي عن اتباع الظن. وخبر الآحاد ظني، فالاستدلال به على العقيدة اتباع للظن في العقائد، وهذا ما ورد ذمه في القرآن صريحًا، فيحرم أن يكون دليلها ظنيًّا، وكل مسلم يبني عقيدته على دليل ظني يكون قد ارتكب حرامًا ويكون آثمًا عند الله.
فالدليل الشرعي، وواقع العقيدة، يدل كل ذلك على أن الاستدلال بالدليل الظني على العقائد لا يوجِب الاعتقاد بما جاء في هذا الدليل وعلى ذلك فإن خبر الآحاد ليس بحجة في العقائد.
غير أنه يجب أن يُعلم أن الحرام هو الاعتقاد وليس مجرد التصديق؛ لأنه جزم بني على ظن ولذم الله لمن يبني عقيدته على الظن. إلا أن عدم الاعتقاد لا يعني الإنكار وإنما يعني فقط عدم الجزم، فليس معنى لا أعتقد بالشيء أنكره بل معناه لا أجزم به، فلا بد من ملاحظة هذه الناحية الدقيقة ملاحظة تامة؛ لأنه قد وردت أحاديث صحيحة ظنية في أمور تعتبر من العقائد وليست من الأحكام الشرعية، فليس معنى تحريم الاعتقاد بالظني رفض ما في هذه الأحاديث وعدم التصديق بما جاء فيها، بل معناه فقط عدم الجزم بما في هذه الأحاديث.
وعليه فمنكر ما هو قطعي من السنة كافر، كمن ينكر عدد ركعات الفرض في كل صلاة من الصلوات المفروضة، أما منكر السنة الظنية الصحيحة فلا يكفر ولكنه آثم بلا شك.

Abu Taqi
16-04-2021, 03:57 PM
الخبر طريقة من الطرق المعتبرة للوصول إلى المعرفة
يقول ابن خلدون في المقدمة في باب أصناف العلوم: "هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان أن يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول".
فهذا يبين أن المعارف قسمان: معارف يتوصل إليها المرء من نفسه. ومعارف يتلقاها عن غيره تلقيًّا.
فالناس يعتبرون المعارف العقلية والطبيعية عامة للناس جميعًا، ويعتبرون غيرها من المعارف النقلية خاصة بكل أمة نقلت عنها، ثم أخذ يتحدد معنى العلم بمعارف معينة، ومعنى الثقافة بمعارف معينة. وصار للعلم معنى اصطلاحي، وللثقافة معنى اصطلاحي، غير معناهما اللغوي. وبناءً على هذا الاصطلاح يكون معناهما ما يلي:
العلم: هو المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنتاج، مثل علم الطبيعة وعلم الكيمياء، وسائر العلوم التجريبية.
والثقافة: هي المعرفة التي تؤخذ عن طريق الإخبار والتلقي والاستنباط، مثل التاريخ واللغة والفقه والفلسفة، وسائر المعارف غير التجريبية.
وهنالك معارف غير تجريبية تلحق بالعلم وإن كانت تدخل في الثقافة، مثل الحساب والهندسة والصناعات. فإنها وإن كانت من الثقافة، ولكنها تعتبر اعتبار العلم من حيث كونها عامة لجميع الناس ولا تختص بأمة من الأمم. وكذلك ما يشبه الصناعات من الثقافات المتعلقة بالحرف، كالتجارة والملاحة، فإنها تعتبر اعتبار العلم وتكون عامة.
وأمّا الفنون، كالتصوير والنحت والموسيقى فإنها من الثقافة، وهي تتبع وجهة نظر معينة، وهي ثقافة خاصة. والفرق بين الثقافة والعلم هو: أن العلم عالمي لجميع الأمم ولا تختص به أمّة دون أخرى، وأمّا الثقافة فقد تكون خاصة تُنسَب للأمة التي نتجت عنها أو تكون من خصوصياتها ومميزاتها، مثل الأدب وسير الأبطال، وفلسفتها عن الحياة، وقد تكون عامة مثل التجارة والملاحة وما شاكلها.
ولهذا يؤخذ العلم أخذًا عالميًّا؛ أي من أي أمّة من الأمم؛ لأنه عالمي لا يختص بأمة. وأمّا الثقافة فإن الأمة تبدأ بثقافتها حتى إذا درستها ووعتها وتمركزت في الأذهان تدرس الثقافات الأخرى.
فالخبر هو طريق ثابت معتبر من طرق الوصول للمعرفة ولا يجوز ولا يصح انتقاص هذا الطريق، فإسقاط هذا الطريق يعني إلغاء معارف كثيرة معتبرة نحصل عليها ونمارس حياتنا على أساسها، فالكثير من المعارف ثبتت بالأخبار كالتاريخ، وتاريخ العلوم، واللغة، والأدب، وأخبار الشعوب والأمم (الصحافة والإعلام)، بل إن أغلب المعارف العلمية يأخذها الناس بالخبر ولا يمارسون هم عملية التجربة. فإذا ذهب أحدهم إلى الطبيب وأعطاه دواءً لمرض ما، فإن كلامه يؤخذ ويطبق للثقة بخبره وخبرته وعلمه، فهو لم يأخذ هذه المعرفة العلمية لعلاج نفسه أو ابنه بالقيام بالتجربة، بل أخذها بالخبر من عالم يثق بعلمه ومعرفته في هذا الجانب. والدواء الذي نأخذه للعلاج نأخذه لإخباره أيضًا ولا نقوم بأي تجربة على هذا الدواء. وهكذا، فأغلب سير الإنسان في حياته اليومية يعتمد على المعارف الخبرية.
ولكن هذه الأخبار لها قواعد لقبولها فليس كل خبر يُقبل، ولا كل خبر يرد، فما هي قواعد أخذ المعارف بالخبر؟
وما هي الأخبار التي تقبل؟ وما هي الأخبار التي ترد؟
والجواب على ذلك: إن المراد بالخبر هنا ما هو أَعم من الإِنشاء والطلب، كقول المحدثين: أَخبار الرسول مع اشتمالها على الأوامر والنواهي، وكذا تاريخ الشعوب والأمم، وتاريخ العلوم، فإنها أَعم من الإنشاء والطلب وتحتمل التصديق والتكذيب.
فالخبر من حيث كونه محتملًا للصدق والكذب، ينقسم لأنواع:
1_ ما يقطع بصدقه.
2_ ما يقطع بكذبه.
3_ ما لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع، وحينَئذ فقد:
أ_ يظن الصدق. ب_ يظن الكذب. ج_ يستويان.
أما كيف يكون القطع بصدق الخبر أو القطع بكذبه؟ وما لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع؟ فبيان ذلك أن المخبَر عنه بالخبَر لا يخلو أن يكون:
1_ مما يقع تحت حس المخبِر بالخبر؛ أي المنقول له الخبر، فإن الخبر بذاته ليس دليلًا على مضمون الخبر؛ أي لا يكون الخبر ذاته دالًا على القطع بصدق أو كذب القضية المخبر عنها أو ما لا يقطع بالصدق أو الكذب، وإنما العقل؛ لأن المخبِر عنه واقع تحت حس المخبِر بالخبر؛ أي من نقل له الخبر. فالقطع بصدق أو كذب أو استواء أحدهما مرتبط بما دل عليه العقل في القضية المخبَرِ عنها الواقعةِ تحت الحس مباشرة. وذلك مثل الإخبار بأن هناك خالقًا للوجود، فهذا الخبر لا يُثبت أن هناك خالقًا للوجود؛ لأن هذه القضية واقعة تحت حس المخبِر بالخبر، فالوجود واقع تحت حسه، وكونه مخلوقًا أو غير مخلوق مرتبط بحقيقة الوجود، وهنا يمكن القطع بهذا الخبر للدليل العقلي القاطع على أن الوجود مخلوق لخالق، والعكس بالعكس؛ فالخبر بأن الوجود أزلي نقطع بكذب هذا الخبر؛ لأن الوجود واقع تحت الحس والعقل يقطع بكذب هذا الخبر.
أما إذا كان الخبر مما لا يُقطع بصدقة أو كذبه وكان مما يقع تحت الحس فإن الظن بصدقه أو كذبه أو الإستواء بينهما مرتبط بالدليل الظني الدال على ذلك عقلًا، فليس كل قضية عقلية يمكن أن يُقطع فيها، وذلك مثل أخبار وأبحاث العلماء في القضايا العلمية الظنية. فالحس والتجربة وسعة الإطلاع في القضية المخبَر عنها الواقعة تحت الحس هو الذي يمكننا من ترجيح الصدق أو الكذب أو الاستواء بينهما، ويمكن في بعض هذه المعارف أن تتحول إلى ما يُقطع بصدقه أو كذبه إذا أصبح بالإمكان ذلك. فهذا هو القسم الأول في الأخبار، والذي يكون العقل هو الدال على القطع أو عدم القطع بالقضية المخبر عنها، ما دام المخبر عنه واقع تحت حس المنقول له الخبر مباشرة.
2_ الأخبار الواقعة تحت حس الإنسان ولكنها غير واقعة تحت حس المخبَر بالخبر؛ أي هي غائبة عن حس المُخبَر بالخبر؛ أي المنقول له الخبر، ولكن موضوع الخبر واقع تحت حس الإنسان كإنسان، أو هو خبر ممن يقطع بصدقه في هذا النوع من الأخبار، فالخبر في هذه الحالة عما هو محسوس وغير واقع تحت حس المخبَر بالخبر يكون حجة على المخبَر به، وممكن أن يقطع بصدقه أو يظن صدقه أو كذبه أو يبقى محتملًا للصدق والكذب. والعقل هنا - ما دام المخبَر عنه غير واقع تحت حس من وصل له الخبر - لا يكون حجة في نفي أو إثبات الخبر ما دام ممكنًا عقلًا إن كان غير واقع تحت القسم الأول. فأخبار التاريخ واللغة وتاريخ العلوم وأخبار الإعلام كلها داخلة في هذا القسم والقطع فيها يكون في حالة تواتر الخبر، أو إخبار من يستحيل عليه الكذب عقلًا وهو الله سبحانه، بعد إثبات أن الخبر منه أو ممن هو معصوم عن الخطأ؛ أي الأنبياء، بالسماع منهم مباشرة أو ثبوت الخبر عنهم بالتواتر.
ومن هذا الباب نقطع بالحوادث التاريخية وبوجود الشخصيات التاريخية وبنسبة الأبحاث والنتاج المعرفي لأصحابها، وبوجود الأماكن والبلدان البعيدة عنا، وبحصول الحوادث البعيدة عنا، بشرط أن تكون متواترة أو ممن يقطع العقل بصدق خبره كما تقدم. أما إذا كانت أخبار آحاد فإنها داخلة في دائرة ما يُظن صدقة وما يُظن كذبه أو ما يستويان. فحدوث الحرب العالمية الثانية أمر قطعي للخبر القطعي المتواتر عن ذلك، أما تفاصيل حوادث حدثت في الحرب فإنها راجعة لوجود أخبار الآحاد المتعلقة بها والظن بصدقها أو كذبها، أو استواء الصدق والكذب متعلق بالمخبرين وواقعهم ومقارنتها ببقية الأخبار المتعلقة بها، وبناء على ذلك يحكم على الخبر.
3_ الإخبار عما لا يقع تحت حس الإنسان أصلًا؛ أي المغيبات عن حس الإنسان. والفرق بين هذا القسم والقسم السابق أن الإخبار في القسم السابق يكون عن محسوس مغيب عن حسِّ من نُقل له الخبر، أما هذا القسم فإن الخبرَ عما لا يقع تحت حس الإنسان كإنسان أصلًا، فالأول؛ مثل ما تقدم من أمثلة؛ كالإخبار عن حوادث وشخصيات تاريخية أو وجود أماكن أو حصول حوادث بعيدة عنا. أما الثاني؛ فهو مثل وجود الجنة والنار ويوم الحساب والجن والشياطين، فهذه كلها مما لا يقع حس الإنسان عليها أصلًا. وفي هذه الحالة فلا قيمة للخبر إلا إذا كان عمن يستحيل عليه الكذب، أو ممن هو معصوم عن الخطأ. وفي هذه الحالة إما أن يثبت الخبر عنه بشكل قاطع، بالسماع من المعصوم مباشرة، أو بالنقل المتواتر عنه.
وإما أن يكون الخبر آحادًا فعندها لا يقطع بالخبر ويكون مما يظن صدقه إذا صح رواية ودراية عنه.

Abu Taqi
16-04-2021, 04:05 PM
تدوين السنة
إنّ المسلمين وضعوا علومًا لحفظ الإسلام ومعرفته أخذوها من الكتاب والسنّة ومما أرشد إليه الكتاب والسنّة من وقائع، فوضعوا علومًا لحفظ الإسلام وفهمه كعلم النحو وعلم الأصول وعلم الفقه وعلوم البلاغة وعلم التفسير وعلم الحديث ومنها علم مصطلح الحديث، وهذا العلم يعتبر في دقته سابقة في تاريخ البشرية كلها، وقد شهد على دقته العدوّ قبل الصديق.
فقد بيّن علم مصطلح الحديث أن الحديثَ الصحيحَ هو الحديثُ الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًا ولا معلَّلًا. وأن الحديث الحسن هو ما لم يستوفِ جميع شروط الصحيح وما قَبِله عامة العلماء أو اعتبره جلة الفقهاء.. الخ، وبيّن الضعيف بجميع أنواعه.
فعلم الحديث هو علم بقوانين يُعرف بها أحوال السند والمتن، وغايته معرفة الحديث الصحيح من غيره. وهو قسمان: علم الحديث الخاص بالرواية، وعلم الحديث الخاص بالدراية. أمّا الخاص بالرواية فيشتمل على نقل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. أمّا الخاص بالدراية فيُعرف به حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها وأصناف المرويات، وحال الرواة وشروطهم وما يتعلق بهم، وتشمل الدراية معرفة المعنى الذي تضمنه الحديث من حيث مناقضته لنص أقوى منه. فالحديث يرد دراية إذا عارض ما هو أقوى منه من آية أو خبرمتواتر أو مشهور، مثل ما روي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنًا ولا نفقة"، فهذا الحديث يعارض قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم}، ويعارض الحديث المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "للمطلقة النفقة والسكنى ما دامت في العدة"، ولذلك يجب رده ولا يجوز العمل به.
فعلم الحديث بحث عقلي؛ ذلك أنه بحث في الأخبار والمخبِرين. فهو كقواعد، صالحٌ للبحث في الأخبار والمخبرين، فعدالة وضبط المُخْبِر شرط لقبول خبره، وهذه بديهية من البديهيات، فإذا انتفى الضبط أو العدالة فإن هذا يجعلنا نرجح عدم تصديق خبر المخبر، وهذا بديهي أيضًا في أي خبر مثل أخبار الإعلاميين ورواة التاريخ وغيرهم، بل إنه بديهي أيضًا حتى في الشهادات في القضاء، فالشاهد مخبِر عن القضية التي ينظر فيها القضاء، ومن البداهة أن الطعن في عدالة الشاهد أو ضبطه يسقط قيمة شهادته، وإذا كان الشاهد عدلًا ضابطًا فإنه لا بد من النظر فيما أخبر به عن القضية موضع النظر عند القضاء، فإن كان ما أخبر به يتناقض مع المحسوس فيما يتعلق بالقضية، أو يتناقض مع مخبرين في نفس القضية معلومين بالعدالة والضبط، فلا بد في هذه الحالة من البحث في القرائن المتعلقة بالخبر وبالمخبِرين لترجيح أحد الخبرين أو إسقاط خبر الطرفين.
فهذا هو تمامًا ما يُبحث عند النظر في علم الحديث، ولما كان البحث عن رواية معينين في موضوع معين، تطلب ذلك الخوض في تفاصيل هؤلاء الرواة وحالهم وتاريخهم ومروياتهم، والنظر فيما رووه من متون، وضبط ألفاظها والعناية بمدلولات ألفاظها.... الخ مما يدخل في علم الحديث.
وهو بحث نشأ بنشوء الرواية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أيام الصحابة بالنظر للراوي وللمروي، فقد تحدثوا رضي الله عنهم عن المرويات وعن الرواة.
بل إن القرآن أشار لأصول أخذ الأخبار والأنباء من ناحية النظر فيمن يروي الرواية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. فالآية حجة وأصل للنظر في الراوي ومعرفة حاله والتثبت قبل قبول خبره، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث أن المعلَّقَ على شيء بكلمة "إن"، عُدِم عند عدمه.
وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وهذه الآية أصل وحجة في أخذ الأخبار والأنباء من ناحية النظر في المروي؛ لأنها ترشد إلى كيفية التعامل مع ما يشاع من أخبار لمعرفة الأخبار الصحيحة مما هو إشاعات مغرضة، برد الأخبار للخبراء للنظر في المروي لتمييزه وبيان حقيقته.
فموضوع الأخبار والمخبرين والنظر فيها لمعرفة ما يُقطع بصدقه أو كذبه وما لا يقطع بواحد منها بأن يُظن صدقه أو يظن كذبه أو يستويان، هو بحث عقلي عند كل البشر وهو بحث مهم ولازم بما يتعلق بهذا الصنف من المعارف البشرية وهو ينطبق على علم الحديث.
والمسلمون منذ عصر الرسول عليه الصلاة والسلام حتى اليوم وهم يبذلون أقصى جهودهم لتنقية الحديث والمحافظة عليه، فالصحابة كانوا لا يقبلون الحديث إلاّ بعد معرفة راويه وثبوت ذلك لديهم بالبينة الصحيحة، والتابعون وتابعو التابعين كانوا ينقلون الأحاديث ولا يقبلون رواية الحديث إلاّ من العدل الضابط.
ولما جرى تدوين الحديث التزم العلماء بشروط رواية الحديث، ووضعت علوم الحديث ودونت كتب الحديث، ثم تخصص علماء بالحديث وحده ودوّنوا كتبًا للحديث عرفت اصطلاحًا بالصحاح وهي ستة: البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة، فهذه كتب حديث دوّنها محدّثون ورواة للحديث، ولم يكن لهم نشاط علمي إلاّ بالحديث، وهناك علماء بالفقه والحديث دوّنوا كتبًا للحديث جُعلت بجانب الكتب الستة أو بعدها، مثل مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطأ للإمام مالك، وهناك كتب أخرى كثيرة للحديث تحوي كثيرًا من الحديث الصحيح والحديث الحسن.
وهناك كتب فقه لعلماء الفقه وكتب أصول فقه لعلماء أصول الفقه جرى الاستدلال فيها بالحديث، فما لم يكن منه من الحديث الصحيح فإنه من الحديث الحسن لأنهم من جلة الفقهاء، وقد استدلوا بها فتؤخذ ولو ضعّفها بعض علماء الحديث، وذلك كالأم للشافعي وكالمبسوط للسرخسي وكالمغني لابن قدامة وكإحكام الأحكام للآمدي وغيرها.
فأفراد الحديث وما وصلنا من السنّة قد ضبطه المسلمون على وجه يجعل الاطمئنان إلى أنه من السنّة اطمئنانًا كاملًا، فضُبط في الرواية وضُبط في التدوين، وضُبط في الرواة، وضُبط في الاستدلال، وضُبط في كل شيء، ثم إنه ليس بصحيح أن الحديث قد جمع في وقت متأخر، بل إن جمع الحديث في الرواية والحفظ والضبط حصل منذ أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، واستمر كذلك حتى عصر التدوين.
صحيح أن تدوين الحديث في كتب حصل في القرن الثاني للهجرة ولكن كتابة الحديث حصلت منذ زمن الرسول عليه السلام، وحصلت كذلك بعد الرسول؛ أي قبل عصر التدوين، والذي تأخر هو تدوين كتب الحديث وليس جمع الحديث، فهناك من جمع ودون ما رواه من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فمن الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص وصحيفة علي بن أبي طالب وصحيفة سعد بن عبادة، بل إن كتابة بعض السنة حصل في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثل كتابه في الزكاة والديات، وكتابه لعمرو بن حزم وَالِيه على اليمن، وكتابه لوائل بن حجر، وكتابته صلى الله عليه وآله وسلم للملوك والعظماء يدعوهم فيها للإسلام، والعقود والمعاهدات التي أبرمت مع الكفار. ولكن هذه الكتابة والتدوين كانت بجانب الرواية ولم تكن هناك مدونات وجوامع جَمعت ودَونت كل السنة، بل كان الاعتماد على الرواية أكثر من الكتابة.
أما عصر التابعين فقد كثر التدوين كما فعل الإمام الزُّهري وأبو بكر بن عبد الرحمن، ثم وجدت بعد ذلك الجوامع والمصنفات كجامع معمر بن راشد المتوفى سنة (154) هجري ومصنف حماد بن سلمة المتوفى سنة (167) هجري، والموطآت وأشهرها موطأ الامام مالك المتوفى سنة (179) هجري، وغيرها الكثير من الجوامع والمصنفات والمسانيد، هذا غير كتابة الحديث في كتب الفقهاء.
ثم جاء القرن الثالث عصر تدوين ما جمع مما يروى من السنة، وهو عصر اكتمال التدوين في المصنفات والجوامع والمعاجم والمسانيد بجانب الكتب الستة المشهورة، فليس هؤلاء هم فقط من دونوا الرواية بل سبقهم كثير من العلماء مثل الإمام أحمد بن حنبل حيث صنف المسند، والحميدي الذي صنف المسند المعروف بمسند الحميدي، وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وكلاهما صنف كتابًا اسمه "المصنف" وغيرهم.
فرواية الحديث وحفظه حصلت في عهد الرسول عليه السلام، واستمرت الرواية والحفظ والضبط بعده. حتى كتابة الحديث فقد وقعت في عهد الرسول عليه السلام، وبالرغم من قول الرسول للصحابة "لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن" فإن كتابة الحديث قد استمرت، وفهم الصحابة من هذا الحديث أنه ترجيح للحفظ والرواية وليس نهيًا عن الكتابة، أو على الأقل ليس نهيًا جازمًا عن الكتابة، وما نسمعه من منكري السنة في هجومهم على سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الرسول نهى عن كتابة السنة، هو لعَمْر الحق مغالطة، فإنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن كتابة السنة مطلقًا بكل وجه، بل النهي كان عن كتابة غير القرآن عند تدوين القرآن. وحتى يفهم هذا النهي على وجهه والمقصود منه فلا بد من فهم قرائن هذا النص، ولا بد أن يجمع مع بقية النصوص المتعلقة بهذا الموضوع، فكما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كتابة غير القرآن، وأمر بأن يُمحى أي شيء كتب غير القرآن، فإنه ثبت أيضًا أنه أذن للصحابة بكتابة ما يقول، بل ثبت أنه هو نفسه أمر بكتابة السنة لولاته.

Abu Taqi
16-04-2021, 04:05 PM
فالثابت أن تدوين الحديث يعود إلى عصر الصحابة، فقد كان منهم عدة أشخاص يكتبون ويحدّثون مما كتبوا. فإنه روي عن أبي هريرة أنه قال: "ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا مني إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب". ولكن هؤلاء الصحابة الذين كانوا يكتبون كانوا نادرين لقلّتهم. ومعظم الصحابة كانوا يعون ذلك في صدورهم، إذ نُهوا عن كتابة الحديث في بدء الإسلام لعلة معينة سنذكرها لاحقًا. فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخُدريّ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدّثوا عني ولا حرج"، وقال: "من كذَب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، ولذلك أحجم الصحابة عن كتابة الحديث واكتفوا بحفظه ووعيه.
وها هنا نقطة مهمة فإن عدم الكتابة مع القرآن غير القرآن لا يعني عدم اعتبار السنة دليلًا وعدم وجوب نقلها وتبليغها، فإن هذا أمر ثابت ومسلم به ومن المغالطة جعل النهي عن كتابة السنة مع القرآن دليلًا على عدم اعتبار السنة دليلًا وحجة، ولا يدل على عدم وجوب الأخذ بها وحملها وحفظها وتبليغها بدليل تكملة الحديث نفسه الذي فيه النهي عن الكتابة فهو يقول: "وحدّثوا عني ولا حرج" ، فهذا تشريع للنقل عنه وتبليغه وهذا أمر واجب بلا شك، فورود النهي عن كتابة غير القرآن لا يدل على النهي عن كتابة السنة مطلقًا من كل وجه، بل هو لعلة معينة، بدليل ثبوت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقر من كان يكتب السنة، فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قلت: يا رسول الله اني أسمع منك أشياء أفأكتبها؟ قال: "نعم". قلت: في الغضب والرضا؟ قال: "نعم، فإني لا أقول فيهما إلا حقًا". وعَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو: "كُنْت أَكْتُب كُلّ شَيْء سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَتْنِي قُرَيْش" الْحَدِيث. وَفِيهِ: "اُكْتُبْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُج مِنْهُ إِلَّا الْحَقّ". بل ثبت أنه كتب لبعض ولاته كتبًا عن أحكام الصدقات. وبالتالي فإن النهي عن كتابة غير القرآن يدل على أنه لا يُكتب مع القرآن غير القرآن حتى لا يختلط به، ولا يفهم منه النهي عن كتابة السنة بكل الوجوه. أما حديث أبي سعيد الخُدريّ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدّثوا عني ولا حرج" فإن من العلماء من قال بأنه موقوف على أبي سعيد الخدري، وليس مرفوعًا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن يأخذ بهذا ويرجحه فإنه لا إشكال أصلًا ولا تعارضَ؛ لأن رأي الصحابي ليس دليلًا شرعيًّا. وعلى فرض أنه مرفوع وهو الأرجح وعدم قبول الجمع المتقدم فإن أحاديث ثبوت الكتابة أكثر وأقوى، فيسقط هذا الحديث من الاعتبار، ولكن الجمع ممكن دون تكلف، وهو ظاهر بأن النهي لعلة عدم كتابة الحديث مع القرآن حتى لا يختلط به.
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتبليغ الأحاديث عنه؛ أيْ السُّنة، وأمر بنقلها، وثبت أن الصحابة كتبوا في عهده وبعد وفاته، وسار على ذلك من بعدهم التابعون وتابعو التابعين، حتى جاء عصر التدوين في كتب الحديث.
ولا بد من التنبه لنقطة مهمة وهي أن ما دوّن في كتب الحديث ليس جمعًا للأحاديث كما يفعل المؤلفون اليوم، وإنما هو تدوين رواية راو من رواة الحديث. فالبخاري لم يجمع الأحاديث المتفرقة، بل كان راويًا للحديث تنطبق عليه شروط الرواة، وقد دوّن ما رواه من أحاديث في كتاب، فهو ليس كتاب حديث مؤلف أو مجموع، بل هو رواية راو من رواة الحديث مدوّنة في كتاب، ومثل ذلك سائر الكتب الستة، بل مثل ذلك أيضًا كتب الحديث التي رواها المجتهدون مثل مسند أحمد وموطأ مالك وغيرهما. فكتب الحديث ليست مؤلفات جمع فيها الحديث بل هي ما رواه أحد أئمة الحديث وأحد رواته من أحاديث، وبهذا يسقط ما يقوله بعض منكري السنة: (كيف كان المسلمون يعبدون الله قبل هؤلاء الستة وكم هي سنوات الضياع التي يُفترض أن المسلمين عاشوها بعد موت الرسول (ص) وحتى وُلد أصحاب الكتب الستة وكبروا ليجمعوا للمسلمين أحاديث الرسول (ص) ويقدموها لهم ويقولوا لهم هذا هو دينكم الذي كان ضائعًا مدة تزيد على مئتي عام بقي فيها القرآن بدون بيان وبدون تفاصيل أحكام). فهذا جهل بتاريخ الرواية وخلط بين مفهوم رواية السنة ومفهوم تدوين السنة في كتب في عصر التدوين، أما الجهل بتاريخ الرواية فأصحاب الكتب الستة رووا عن رواة قبلهم، فقد سبقهم هؤلاء الرواة، كما سبقتهم كتب كثيرة دوَّنها هؤلاء الرواة كما ذكر سابقًا، وشاركهم غيرهم في روايتها.
أما الخلط بين مفهوم الرواية وتدوين السنة فهناك فرق بين الرواية وتدوين الروايات، وبين جمع الروايات وتدوين السنة في الكتب، فالرواية للسنة موجودة منذ عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان الصحابة ينقلون لبعضهم ولغيرهم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره، ويتقيّدون بذلك باعتباره وحيًّا من الله، وهذا ثابت يقينًا ومقطوع به، بل إن القرآن أشار لذلك وأوجبه عليهم؛ أي حمل الدعوة إلى غيرهم بما سمعوه ورأوه وتعلموه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
كما أن هناك من كتب ما كان يراه ويسمعه من الرسول في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنه ثبت كما تقدم أن الرسول أمر بكتابة بعض السنن، ومن المشهور والثابت أن كثيرًا من التابعين كانوا يُدوِّنون ما سمعوه من الصحابة عن الرسول، كما كانوا يروون ذلك سواء هم ومن لا يكتبون. وفي عصر تابعي التابعين بدأ ظهور المصنفات والموطآت والمسانيد بالإضافة إلى بقاء الرواية ممن لا يكتبون، هذا بالإضافة إلى رواية السُّنة عن طريق الفقهاء وكتبهم، فسنة الرسول ثابتة وموجودة ومروية ومعلومة بين العامة والخاصة من المسلمين جيلًا بعد جيل إلى اليوم، فما فات العامة منه لم يَفُتِ الخاصة، وإن فات بعض الخاصة فإنه لا يفوت جميعهم، وهذا الأمر ثابت ومتيقن. وعصر أصحاب الكتب الستة هو عصر انتهاء الرواية بجمع وكتابة ما روي من السنة في الجوامع والمسانيد والمعاجم والمصنفات وبعد هذا العصر؛ أي عصر تدوين السُّنة، لا في هذه الكتب فقط بل فيها وفي غيرها، انتهى عصر الرواية ولم يعد لها داع، ومع ذلك فإن الرواية بالسَّند بقيت إلى اليوم في كثير من بلاد المسلمين بجانب تدوين الكتب.
وعليه فإن الحديث الذي أخرجه البخاري يؤخذ كما يؤخذ الحديث عن عبد الله بن عمر، وكما أُخذ عن سعيد بن المسيب وغيرهما من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. والحديث حين يُستدل به اليوم وحين يؤخذ من كتب الحديث إنما يُستدل به ويؤخذ من رواية راوٍ لا من كتاب، فكما كان يستدل به عمر بن الخطاب حين يرويه أبو موسى الأشعري، يستدل به كذلك الفقيه أو العالم اليوم وحتى قيام الساعة حين يرويه عن البخاري أو ابن ماجة أو مالك أو أحمد بن حنبل؛ أي حين يأخذه عن كتاب أي واحد منهم.
فأخذ الحديث اليوم هو كأخذ عمر بن الخطاب له، هو أخذ عن راو اجتمعت له شروط رواية الحديث الصحيح أو الحديث الحسن، ولذلك لا فرق بين أخذ الحديث اليوم وأخذ أبي بكر له، فكله أخذ عن راو عدل منضبط.. الخ؛ أي اجتمعت له شروط الرواة الموثوقين، ولا فرق بينهما ولا بوجه من الوجوه. فعمر بن الخطاب حين كان يحكم بالقضية مستندًا إلى حديث رواه له أحد أصحابه أو رواه هو بنفسه، والقاضي المسلم الذي يحكم بقضية اليوم حين يحكم بها مستندًا إلى حديث أخذه من البخاري، أو من ابن ماجة أو أخذه عن الآمدي أو عن المُغني، فكل منهما حكم بناءً على حديث رواه له راو ثقة عدل منضبط.. الخ؛ لأن ابن ماجة مثل ابن عمر، فالاستدلال برواية ابن ماجة كالاستدلال برواية ابن عمر سواء بسواء، ومثل القاضي أيُّ عالِم يستدل على حكم شرعي بحديث صحيح أو حسن أخذه عن راو من مثل الترمذي أو أحمد بن حنبل أي من صحيح الترمذي أو مسند ابن حنبل.
ولذلك فإنه من التشكيك في أصول الإسلام وعقائده أن يُطعن في الأخذ بالسنّة؛ لأنها دوّنت متأخرة أو يُطعن في الأخذ من كتاب من كتب الحديث؛ أي من رواية راو من الرواة؛ لأن ذلك فوق كونه خطأ فاحشًا وجهلًا مطبقًا في موضوع الحديث كما تقدم، فإنه دعوة لترك الإسلام؛ لأن الإيمان بالسنّة كالإيمان بالقرآن، ويكفر من يُنكر السنّة كما يكفر بإنكار القرآن، ولأن الشرع كله إنما هو موجود بالسنّة بجانب القرآن.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" والله يقول: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} والأحاديث هي بيان القرآن علاوة على كونها تشريعًا جديدًا، فالتشكيك في السنّة هو تشكيك في الدين والدعوة إلى ترك السنّة أو التحفظ في أخذها هي دعوة لترك الإسلام أو التحفظ بالأخذ منه، لذلك فإن من يفعل هذا من المسلمين يعامَل معاملة المرتد.

Abu Taqi
16-04-2021, 04:06 PM
حقائق ثابتة عند المسلمين
1- القرآن الكريم ثابت عن الرسول بالتواتر جيلًاً عن جيل.
2- إنّ نسبة أمهات الكتب المُصنفة - في كل فروع الثقافة الإسلامية - إلى مصنفيها معلومة بالجملة بالضّرورة، فإنّا نعلم بالضّرورة أنّ محمدًا بن إسماعيل البخاري ألّف كتابًا في الحديث، وأنّه هو الموجود بين أيدي المسلمين جيلًا بعد جيل، وإنما وقع الظنّ في بعض تفاصيله.
3- إنّ أهل الكذب والتّحريف قد يئسوا من إدخال الكذب في هذه الكتب، فلا يمكن لأحد أن يدخل على الفقهاء في المذاهب الأربعة غير مذاهب أئمتهم، فَيُدخل في ((المنهاج)) للنّووي أنّ الشّافعي لا يشترط النّصاب في زكاة ما أخرجت الأرض، ويدخل على الحنفية مثل ذلك. وكذا لا يستطيع أحد أن يدخل على الزّيدية في كتاب ((اللّمع)) الذي هو مدرستهم مسألة للفقهاء وينسبها إلى أئمة الزّيدية، ولا يستطيع أحد أن يدخل على النّحاة في كتبهم المدروسة ما ليس فيها. فكذلك يتعذّر أن يدخل في البخاري أحاديث ((الشّهاب)) ونحوه ويمضي ذلك على الحفّاظ.
ولو قُدّر ذلك في حق بعض الضّعفاء الجهال فإنه لا يلبث أن ينكشف الحقّ عن قريب.
4- إن أغلب أمهات الكتب في كل فروع الثقافة الإسلامية لا تزال تروى رواية عن مصنفيها - مع عدم الحاجة لهذه الرواية - عند طلاب العلم في العالم الإسلامي في الشام والعراق والمغرب العربي والجزيرة العربية ومصر والهند.
5- إن كل ما روي أنه من السنة من متون دون تكرار الصحيح مع الحسن مع الضعيف مع الموضوع مع المحال مع المنقطع والمرسل.. الخ لا يزيد مع المبالغة عن 25 ألف متنٍ.
6- إن مجموع ما في الصحيحين دون تكرار هو: 2980 حديثًا؛ أي أقل قليلًا من ثلاثة آلاف حديث. وإن أفراد أبي داود على الصحيحين عددها 2450 حديثًا مرفوعًا بلا مكرر. وإن أفراد الترمذي على الصحيحين وأبي داود عددها 1350 حديثًا مرفوعًا بلا مكرر. كما إن أفراد النَّسائي على الأربعة الذين سبق ذكرهم عددها 2400 حديثًا مرفوعًا بلا مكرر. فيكون مجموع أفراد السنن على الصحيحين: 6200 حديثًا؛ أي مجموع الأصول الخمسة التي تكاد تجمع كل الصحيح هو: 9180 حديثًا أكثرها ضعيف. وإن أفراد ابن ماجة على مَن سبق ذكرهم عددها 600 حديثًا مرفوعًا بلا مكرر، وأكثر من 500 منها ضعيف. كما إن أفراد الموطأ المرفوعة على الستة عددها 50 حديثًا. وإن أفراد نيل الأوطار (أغلبها أحاديث اشتهرت عند الفقهاء المتأخرين وأصلها من سنن الدارقطني ومعجم الطبراني)، عدّة تلك الأحاديث مرفوعة 500 حديثًا.
وتبلغ أفراد المسند على مَن سبق ذكرهم مرفوعةً بلا مكرر ولا شواهد عند من سبق ذكرهم 1500 حديثًا. فيكون مجموع الحديث كله الذي تجده مكتوبًا في الكتب المشهورة: 11830 متنًا. ومما يشهد لتلك النتيجة أن كتاب "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد" الذي كتبه الإمام محمد بن محمد بن سليمان المغربي ثم الدمشقي (1039-1094هـ)، وهو كتاب يجمع بين الكتب الحديثية الـ 14، وهي: 1- صحيح البخاري 2 - صحيح مسلم 3 - سُنن الترمذي 4 - سُنن النسائي 5 - سُنن أبي دَاود 6 - مُوَطّأ مَالِك 7 - مُعجَم الطبراني الكبير 8 - مُعجَم الطبراني الأوسَط 9 - مُعجمَ الطبراني الصغير 10 - مُسنَد أبي يعَلى الموصلي 11 - مُسنَد البزار 12 - مُسنَد أحمد 13 - سُنن الدارمي 14- سُنن ابن ماجه بالإضافة إلى زوائد رزين، وعدد متونه 10131 متنًا.
7- متون السنة الصحيحة والحسنة دون تكرار بين أربعة آلاف وأربع مائة، إلى سبعة آلاف، وذلك بحسب اختلاف مناهج الحكم على الحديث بالتصحيح أو التحسين عند علماء الحديث والفقه والتوحيد. وعدد ما خرجه البخاري ومسلم معًا من متون الحديث دون تكرار هي (2980) حديث.
8- وكمثال على افتراء وكذب منكري السنة هجومُهم على الصحابي الجليل أبي هريرة، واتهامُهم له بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند تتبع روايات أبي هريرة كلها، نجد أن هناك ما يزيد عن ثمانمائة صحابي وتابعي رووا عنه الحديث وكلهم ثقات، وعند البحث في كتب الحديث الستة نجد أن أحاديث أبي هريرة بلغت 5374، وإذا بحثنا في المكرر من حديثه، نجد أنها 4074، وبالتالي فإن غير المكرّر هو 1300حديث، وهذا العدد عند تتبعه نجد أن العديد من الصحابة قد رووا نفس هذه الأحاديث من غير طريق أبي هريرة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وبعد حذف الأحاديث التي رويت من غير طريق أبي هريرة في كتب الصحاح الستة، نجد أن ما انفرد به أبو هريرة ولم يروه أي صحابي آخر هو أقلّ من عشرة أحاديث. ومن هذا يظهر أمانة الصحابي الجليل أبي هريرة وصدقه في رواية الحديث الشريف، ويبرئ ذمته رضي الله عنه مما اتهم به.
وإذا بحثنا عن أحاديث أبي هريرة في الكتب التسعة نجد أن الأحاديث المنسوبة له في هذه الكتب هي 8960 حديثًا، منها8510 بسند متصل و450 حديثًا بسند منقطع.
وبعد حذف المكرر منها نجد أن عددها هو 1475 حديثًا، وقد اشترك في روايتها معه عدد من الصحابة. وإذا حذفنا الأحاديث التي رويت عن طريق صحابة آخرين نصل إلى حقيقة مهمة، وهي أن ما أتى به أبو هريرة مع المكررات في كتب الحديث التسعة هي 253 حديثًا، كما نجد أن الأحاديث التي انفرد بها أبو هريرة من دون تكرار ولم يروها أحد غيره في الكتب التسعة هي 42 حديثًا. وهذه النتائج تزيل كل تلك الشبه والتهم العقيمة والمغرضة التي كانت تلصق بأبي هريرة، والتي يتهمونه فيها بالإكثار من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إنه رضي الله عنه روى 8000 حديث بمفرده، وبعضهم يقول إنه روى 5000 حديثًا بمفرده، هكذا دون روية أو تدقيق أو تمحيص. وكتب الحديث الستة هي في اصطلاحهم: (صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة). أما كتب الحديث التسعة، فهي في اصطلاحهم (صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وموطأ مالك ومسند أحمد والدارمي).

Abu Taqi
16-04-2021, 04:08 PM
خاتمة
إن ما يجري في أوساط الأمة الإسلامية منذ مدة وحتى اليوم من تيار فكري مأجور مدفوع لنفي حجية السنة النبوية والعمل على نزع الصفة السياسية عن الإسلام لتقويضه وقطع صلته بالحياة وتحويله إلى عقيدة روحية كالنصرانية واليهودية، هو جزءٌ من مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفصل من فصول الصراع بين الإسلام والكفر، فغايتهم من هذا الطرح واضحة؛ وهي الوصول بالمجتمع الإسلامي إلى فصل الدين عن الحياة، فنجد هؤلاء ينادون بالديمقراطية وفصل الدين عن الحياة لتلوين الإسلام بالصبغة السياسية التي يريدها الكفار، وعلى رأسهم رأس الكفر أميركا، وتقف خلفها في هذه الغاية كل الدول الغربية.
وهو ما يؤكد أن هذا التيار فئة موجهة لضرب الإسلام وتقويض أركانه. وهذا يوضح ارتباط دعوتهم بمشروع الشرق الأوسط الكبير لضرب الرأي العام المنبثق عن الوعي العام للإسلام، الذي وجد وتركز في الأمة منذ ثمانينات القرن الماضي.
فالغاية هي ضرب الثقة بصدق وصلاحية الإسلام كعقيدة ينبثق عنها نظام وكطريقة عيش؛ لعلاج مشاكل المسلمين في الحياة، بإيجاد دولة إسلامية تطبق هذا المبدأ وتحمله للعالم عن طريق الجهاد.
لذلك تراهم يجهدون في الهجوم على الثروة التشريعية والثقافية للمسلمين تحت دعوات "التجديد" و"تنقية التراث"، وكل هذه الدعوات المشبوهة التي ظاهرها الحرص والغيرة وباطنها الدس والتحريف هدفها تطويع الإسلام للواقع، فحقيقة دعوتهم هي إنكار الوحي أو إنكار علاقته بالدولة والمجتمع، غير أنه لما تميّز القرآن عن كتب النصارى واليهود بثبوته اليقيني عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وثبوت أنه من الوحي لإعجازه فقد دعاهم هذا لإنكار وحي السنة دون الكتاب ظنًا منهم أن السنة هي الخاصرة الضعيفة للإسلام للوصول لما يريدونه من إفقاد المسلمين ثقتهم بالإسلام كعقيدة ينبثق عنها نظام، وإيجاده واقعيًّا في دولة قادرة على علاج مشاكلهم في الحياة في جميع جوانبها على أساس الإسلام؛ أي القرآن والسنة.
وحتى يحققوا مرادهم فقد عطلوا معايير الفهم المنضبط، وحرروا أنفسهم من قيد اللغة، وأسباب النزول، وقواعد الفقه، والأصول، وأدوات التفسير. وزعموا أن القرآن لا يحتاج إلى بيان لكي يتسنى لهم تفسير القرآن حسب أهوائهم تحت ستار التدبر.
وهم بذلك قد تبعوا ما قام به المستشرقون في نهايات القرن قبل الماضي وبدايات القرن الماضي بل إنهم أذناب لهؤلاء المستشرقين. وفي ضوء هذا المنهج في الفهم غيروا الأحكام الشرعية الثابتة عن الوحي، فعدّوا الجهاد حربًا دفاعية، وأباحوا الربا، وخلع اللباس الشرعي للمرأة، وعطلوا الحدود، وبدلوا دين الله.
وإنه وإن كنا قد أزلنا شبهاتهم وأبطلنا دعواهم بالدليل، وأظهرنا خطرها على الإسلام والمسلمين، عند من له أدنى اطلاع على الإسلام، إلا أنه على الخاصة قبل العامة من أبناء الأمة واجب التصدي لهذه الدعوة الخبيثة، واجتثاثها من جذورها، لما لها من خطر على الأمة ودينها ومستقبلها.
وإنا ندعو الأمة وبخاصة العلماء منها وأهل الرأي والفكر، إلى دراسة هذا الكتيب، وجعل ما جاء فيه من أفكار هي مادة الصراع مع هذه الفئة، سواء أكانوا من الضالين المُضَللين، أم كانوا من الضالين المُضِلين. وذلك بإسقاط الأساس الذي ترتكز إليه دعوتهم، فإنكار السنة هي الفكرة الأساسية وحجر الزاوية لفلسفتهم وهو ما ينبغي العناية به من خلال إثبات حجية السنة بالأدلة لدحض أباطيلهم.

انتهى بحمد الله
غرة رمضان/1442هـ
13/4/2021