المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التعليق السياسي حول زيارة البابا للعراق



Abu Taqi
08-03-2021, 09:59 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


التعليق السياسي
اختتم بابا الفاتيكان فرانشيسكو اليوم الإثنين 8 آذار/مارس، زيارته التي وصفت بـ"التاريخية" إلى العراق، والتي استمرت أربعة أيام، رغم ما تفرضه الحكومات من تضييق وإغلاق على الشعوب بسبب "وباء" كورونا، وفي الوقت الذي تتصاعد فيه التفجيرات والهجمات الصاروخية التي تشهدها بلاد الرافدين. حيث توجه البابا إلى 5 محافظات عراقية (بغداد، والنجف، وذي قار، والموصل، وأربيل). والتقى خلالها رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وقادة الأكراد.
وفي اليوم الثاني، توجه إلى النجف (جنوبًا) وعقد لقاءً "تاريخيًّا" مع المرجع الشيعي علي السيستاني. ثم توجه إلى مدينة "أور" الأثرية، التي يُعتقد أنها مهد النبي إبراهيم عليه السلام، وأقام هناك صلاة موحدة بين الأديان شارك فيها ممثلون عن الدين الإسلامي، ومختلف المذاهب والطوائف النصرانية.
إن قراءة ما وراء هذه الزيارة وما بين سطور التصريحات والبيانات التي تمخضت عنها، وبالنظر إلى الظروف المحيطة بها، والتفاصيل الميدانية للزيارة، وبالنظر إلى واقع البابا ودوره، وواقع القادة العراقيين السياسيين والسيستاني بوجه خاص، يتضح أن زيارة البابا هي مهمة لتسويق جملة من المفاهيم والقضايا.
إذ أن الهدف الأساس من الزيارة هو الترويج لمبدأ التشارك الديني تحت مظلة "الديانات الإبراهيمية" التي وُظفت في تسويغ اتفاقات التحالف والتطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل لافت، ولذا لم تكن زيارة البابا إلى مدينة أور التي ترمز إلى النبي إبراهيم بريئة. كما تهدف هذه الزيارة إلى الترويج للديمقراطية الليبرالية التي تعنى بحقوق الأفراد والأقليات واحتواء الأديان، وتُرسّخ العلمانية باعتبار أنها تقف على مسافة واحدة من كافة الطوائف والأديان بزعمهم، وهو النهج الذي يعتزم بايدن تفعيله ضمن أساليب القوة الناعمة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط فكريًّا وسياسيًّا، ومن ذلك دعم حوزة النجف مقابل حوزة قم بمقتضى المرحلة السياسية القائمة، والتي تتطلب إضفاء الصفة الرسمية على حوزة النجف، وتهميش حوزة قم الإيرانية؛ لإضعاف تأثير إيران على القوى السياسية العراقية، وتحجيم تأثيرها المذهبي في المنطقة لصالح السيستاني الذي يقوم بفرز قوى الحشد الشعبي على أساس الموالاة لمرجعيته والتبعية لحكومة الكاظمي، وكذلك تحجيم الدور الإيراني لصالح الحل الإقليمي الذي يدمج الكيان الصهيوني في النسيج المجتمعي والاقتصادي والأمني للشرق الأوسط.
والأخطر من ذلك هو ما إذا كانت هذه الزيارة تسبق مخططًا قد تلجأ فيه أميركا، أو إسرائيل في ظل الظروف الانتخابية الإسرائيلية لضرب إيران وإرغامها على العودة إلى مربعها الوظيفي، وهو ما يجعل مهمة البابا تندرج أيضًا في إطار تجريد إيران من أدواتها وتحييدهم وتجنيب المصالح الأميركية في العراق من تداعيات أي أزمة مرتقبة. وبخاصة وأن الفاتيكان قد لعب أدوارًا مركزية في خدمة مصالح وأهداف الولايات المتحدة و"إسرائيل" في قضايا عديدة، نحو "تدويل القدس" وإبراء اليهود من "دم المسيح" بخلاف ما يؤكده كتاب النصارى. ومن ذلك أيضًا خدمة الفاتيكان للولايات المتحدة في تفكيك الاتحاد السوفييتي، حيث ذكر تقرير وكالة المخابرات المركزية الذي رفعت عنه السرية منذ عام 1978 أن "البابا البولندي سيعيد إحياء القومية في بولندا والدول الأخرى التي يحتلها الاتحاد السوفييتي مما يشكل تحديًا خطيرًا للسوفييت"، إذ تمكن الرئيس ريغان من تسخير الفاتيكان في تقويض الاتحاد السوفييتي عبر تواصل الفاتيكان مع ويليام كيسي رئيس الاستخبارات المركزية.
على أن هذا البابا "الداعي إلى السلام" تحديدًا، هو الذي ضغط في عام 2013، ضد التدخل العسكري في سوريا ردًا على استخدام النظام أسلحة كيماوية ضد الشعب، وذلك عندما اختارت الولايات المتحدة عدم التدخل عسكريًا في ذلك الوقت، حيث خدم هذا البابا المنتحل صفة "حمامة سلام" الرئيس أوباما بإيعازه إلى الدبلوماسيين البابويين لإطلاع أكثر من 70 سفيرًا أجنبيًا على موقف البابا الرافض للتدخل العسكري في سوريا، وقد أبدت إيران إعجابها بالاسلوب الذي اتبعه البابا لإيقاف الضربات الجوية على النظام السوري في حينه.
وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن زيارة البابا تبعث برسالة دعم لأتباع المذهب الشيعي في دول الخليج العربي والأقليات الدينية في العالم الإسلامي. إذ تشكل حماية الأقليات الدينية أرضية لتبرير تدخل الولايات المتحدة والدول الاستعمارية في بلاد المسلمين وتقسيمها بحجة حماية مقدساتها والأقليات الدينية أو العرقية باسم الحرية والديموقراطية. وهذا قد حصل عندما سمحت بريطانيا بهجرة الصينيين إلى سنغافورة حتى أضحوا الأغلبية وطلبوا الانفصال عن ماليزيا. وحصل بفصل جنوب السودان وتيمور الشرقية وهو قيد العمل في المناطق الكردية، ومناطق الأمازيغ الجزائرية ومناطق الشيعة في اليمن. ولهذا سن الكونجرس الأميركي قانون التدخل لحماية الاقليات الدينية.
وتحت هذا العنوان أيضا يجري تغيير المناهج الدراسية وحذف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتغيير المفاهيم في بلاد المسلمين، وبخاصة في منطقة الخليج وبلاد الشام تماهيًا مع الدين "الإبراهيمي" المزعوم واتفاق التحالف مع الصهاينة. فيما تعاني الأقليات المسلمة حتى لو كانت أوروبية الأصل من الاضطهاد والتمييز في بلدان أدعياء الديمقراطية وحقوق الإنسان.
كما وتبعث زيارة البابا إلى العراق برسالة تفاخر واستعلاء باعتبار أن زيارته التي أحيطت بهالة من التعظيم والإكبار تستمد صفتها "التاريخية" من كونها زيارة لحاضرة الخلافة العباسية، التي كان يتودد في زمانها رئيس الدولة الرومانية "المقدسة" شارلمان في القرن الثامن لخليفة المسلمين "هارون الرشيد".
ويأمل البابا من هذه الزيارة أيضًا أن يُزيِّن الغربَ في عيون المسلمين، وأن يمسح آثار الجرائم الغربية الهمجية التي أكد جورج بوش على طابعها الاستعماري والصليبي. كما أن زيارة البابا للسيستاني شخصيًّا، هي تقدير ووفاء لخدماته التي قدمها للولايات المتحدة، حينما دعا أهل العراق إلى التعاون مع أميركا وعدم قتالها في آب/أغسطس 2004، فضلًا عن خدمته لأميركا بسعيه المتواصل إلى تفكيك الحشد الشعبي ودمجه بأجهزة الدولة وفصله عن إيران في الوقت الحاضر.
والحقيقة أن أبرز ما في هذه الزيارة أنها تستكمل ما بدأته أميركا في الإمارات قبل سنتين، عندما التقى بابا الفاتيكان بشيخ الأزهر أحمد الطيب، ووقعا ما تسمى بـ"وثيقة الأخوة الإنسانية"، والتي أسست لما يسمى بفكرة "الدين الإبراهيمي"، التي ينقضها قوله تعالى {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
إن هذه الزيارة أشبه بحملة صليبية صهيونية علمانية داعمة للحملة البربرية على المسلمين وبلادهم وأصول دينهم، بغرض إذلالهم ومحو هويتهم واستعبادهم للغرب المجرم وعملائه وقيمه الليبرالية الهابطة.
ومن المخزي أن يتولى هذا الدور الخسيس في الترويج للعلمانية والإلحاد الذي انقلب على الكنيسة في عصر "التنوير" ويعادي الإله من يدعي أنه "ظل الله في الأرض" ، ومن الخيانة والكذب أن ينادي هذا "الحبر" بعدم توظيف الدين في السياسة ويدعو إلى نصرة المظلومين وإغاثة الفقراء فيما يطوع دينه وكنيسته لخدمة الملاحدة والعلمانيين ووحوش الرأسمالية والاستعمار والطغيان العالمي.
ومن المقرف كذلك أن يكرر من يزعمون حبهم لآل البيت خيانة ابن العلقمي ويفرشون الطريق لأميركا وعميلها البابا بالورود، وأن يمكنوهم من البلاد، ويرهنوا مصير أبنائهم وأبناء المسلمين بيد شر البرية.
والحقيقة أنه لم يكن لهذه الزيارة التي تنطوي على امتهان لكرامة المسلمين أن تتم لولا الخزي والذل الذي بلغ مداه عند عملاء أميركا في العراق وعلى رأسهم زعيم الحوزة السيستاني ورئيس الدولة برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذين استقبلوا البابا استقبال الفاتحين.
وإننا إزاء فرية "الإرهاب" التي ألصقها بابا الغرب الاستعماري بالمسلمين لتبرير دعمه لأبناء دينه، وتبرير دعوته المسلمين لترك دينهم إلى "الدين الإبراهيمي" و"الأخوة الإنسانية"، نؤكد على أن أسباب العنف مع غير المسلمين من الذميين والمعاهدين والتي لا يُقرها الإسلام إنما يتحمل مسؤوليتها الغرب صانع "الإرهاب" و"الإرهابيين"، وتتحملها الأنظمة التي صنعها الغرب لقمع المسلمين والحركات الإسلامية وإرادة الشعوب، ويتحملها انحياز الغرب وعملائه إلى الأقليات الطائفية على حساب المسلمين الذين يشكلون الغالبية العظمى في بلادهم، ويتحملها أيضًا قادة الطوائف الدينية الذين يستفزون المسلمين ويستقوون عليهم بالخارج، ويمثلون دعامة رئيسية للأنظمة المجرمة كما هو حال أقباط مصر وإسنادهم للمجرم عبد الفتاح السيسي.
على أن عداون الغرب والأنظمة العميلة وأدواتها_من طوائف وعلمانيين_ على الإسلام والمسلمين وتهجيرهم وهدم مساجدهم دون إنكار وشجب أشد وأكبر فداحة من تدمير بعض الكنائس وتهجير النصارى الذين بكاهم البابا في زيارته. فيجب على أبناء الطوائف أن يرفضوا استعمالهم من قبل الغرب وعملائه وقودًا للحرب على الإسلام والمسلمين إذا أرادوا السلامة والنجاة . كما يجب على المسلمين أن يتصدوا للحملة الوقحة على الإسلام والتي تقودها الأنظمة وأدواتها الرخيصة من أبناء الطوائف والعلمانيين والمأجورين. فقد كان للمسلمين قيمة وكرامة ومهابة عندما كان لهم دولة، وعندما زال كيانهم السياسي صاروا كالأيتام على مأدبة اللئام، وصار قادة الغرب يفاخرون ويجاهرون في كل محفل بامتهانهم لكرامة المسلمين وسطوهم على ثرواتهم.
ولم يعد للمسلمين من سبيل لاسترداد كرامتهم المهدورة وسيادتهم على بلادهم وتحررهم من التبعية إلا باتخاذ العمل لاستئناف الحياة الإسلامية قضية مصيرية، تؤدي إلى إقامة دولتهم بالفعل، التي تحفظ حقوق رعاياها بمختلف عقائدهم، وتضع العالم أجمع على عتبة العدل والكرامة الإنسانية المفقودة.

24/رجب/1442هـ حزب التحرير
8/3/2021م