المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول المظاهرات في روسيا



Abu Taqi
28-01-2021, 08:50 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
المظاهرات في روسيا
بتاريخ 23 كانون ثاني/يناير 2021 خرج عشرات الآلاف في موسكو وسانت بطرسبرغ والعديد من المدن الروسية في مظاهرات لدعم إطلاق سراح الناشط أليكسي نافالني، الذي اعتقل بعد عودته من ألمانيا إلى روسيا في 17 كانون ثاني/يناير الجاري، حيث جرى القبض عليه فور وصوله بتهمة إخلاله بشروط الأفراج عنه.
وبعد فترة وجيزة من اعتقاله، أصدر زملاؤه، الناشطون في مكافحة الفساد، شريط فيديو يظهر قصرًا يملكه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على البحر الأسود بحسب زعمهم. كما أصدروا قبل ذلك قائمة بأبرز ثماني شخصيات روسية من دائرة بوتين مطالبين الغربَ بمعاقبتهم، مستغلين الفساد المتفشي لبوتين والنخب الروسية المتحالفة معه، والانحراف المستمر للعدالة، وركود مستويات المعيشة إلتى خلفت سخطًا كبيرًا على النظام لدى قطاعات كبيرة من الجمهور الروسي، وانعكست في تجاوب فئة الشباب مع دعوة نافالني وزملائه للاحتجاج والتظاهر.
وقد تعمد الإعلام الغربي تسليط الضوء على عدد مشاهدات "فيديو قصر بوتين"، التي وصلت ٨٥ مليونًا، وعلى مدن لم تشترك بتاتًا في مظاهرات سابقة، مثل سافيستبول وكيموروف. كما أبرز دور الشباب الروسي الذين تجاوبوا مع المظاهرات لأول مرة وقُدِّرت أعدادهم ب 40% من المتظاهرين.
واتخذ المخططون للمظاهرات الجيلَ الحاليَ الذي لا يعرف شيئًا عما جرى في تسعينات القرن الماضي، وكيف خلَّصَ بوتين روسيا من براثن الروس الجدد الذين تعاونوا مع أميركا، ثغرةً لتأجيج الغضب على بوتين والتظاهر ضده. وبالتالي لا يعرف الجيل الجديد أن البديل عن بوتين الجشِع هم وحوشٌ رأسمالية أشدُّ تطرفًا ووحشية من بوتين، وهم فئة ليبرالية مجرمة تريد تقاسم روسيا مع الولايات المتحدة وتسخرها لخدمة أميركا عالميًّا.
وعلى إثر هذه المظاهرات، دعا كلّ من وزراء خارجية إستونيا ولاتفيا وليتوانيا إلى فرض "اجراءات مقيّدة ضدّ الموظفين الرسميين الروس المسؤولين عن الاعتقالات".
وصرحت الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة "ستقف كتفًا لكتف مع حلفائنا وشركائنا بالدفاع عن حقوق الانسان – في روسيا أو غيرها حيثما تكون مهددة". بينما صرح بوتين: "يجب على الشرطة العمل ضمن القانون"، وفي تحذير مباشر لنفالني قال : لا ينبغي لأحد أن يسعى إلى تحقيق "أهدافهم وغاياتهم الطموحة، لا سيما في السياسة" عبر استخدام الأطفال والشباب والعنف.
ولفهم هذه الأحداث التي لا يخفى وقوف الولايات المتحدة خلفها، لا بد من بحثها في سياق التوجه الأميركي العام حيال روسيا، وفي ضوء موقف الإدارة الأميركية الجديدة التي استدارت بمقتضى المصلحة الأميركية إلى النهج الديموقراطي بنسخته النيوليبرالية، والتي ترتكز في ترسيخ العظمة الأميركية وسياسة الهيمنة الرأسمالية على التصادم مع الأنظمة الشمولية بشقيها القومي "روسيا"، والعقدي "النظام الشيوعي الصيني والإسلام"، وإبراز التفاوت الحضاري معهما لضمان تماسكها الداخلي، وتفردها في الموقف الدولي، وتحقيق مصالحها في الخارج؛ وذلك وفق رؤية بايدن الداعية إلى"قيادة العالم ليس فقط بمثال القوة الأميركية، بل أيضًا بقوة المثال الأميركي"؛ أي بتميُّز النموذج الأميركي عن الأنظمة الشمولية كروسيا، والصين، التي قال وزير الخارجية الأميركي الجديد أنتوني بلينكن بخصوصها: "من الصعب منافسة الصين عندما يبدو نظامها أكثر استقرارًا مقابل الفوضى في النظام الأميركي".
ومن هذا المنطلق تسعى الولايات المتحدة الطامعة بموارد روسيا وتركة الاتحاد السوفييتي السابق إلى تقويض نظام بوتين القومي، الذي يقف حائلًا أمام توغلها في عمق المجال الجيوسياسي الروسي بل وفي روسيا نفسها. ولذلك لا يتوقع أي تغيير في الاستراتيجية الأميركية نحو روسيا في المدى المنظور، وإنما ستزداد الضغوط عليها في ظل الإدارة الجديدة وهو ما استؤنف بالفعل عبر المظاهرات التي ستتكرر في الأيام القادمة ، سيما وأن معالجة ملف الشرق الأوسط يستلزم الضغط على بوتين، والحد من التدخل الروسي خارج حدود روسيا في المرحلة المقبلة، ويؤيد ذلك إجماع الشيوخ الأعضاء في لجنة العلاقات الخارجية يوم الثلاثاء ١٩/١/٢٠٢١، على أن "تدفع روسيا ثمنًا باهظًا"، وأن " تواجه تبعات أعمالها التخريبية"، وما قامت به من تدخل صارخ في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام ٢٠١٦، واحتلالها للقرم وشرق أوكرانيا وسوريا وليبيا وتدخلها في حرب إقليم كاراباخ. بل وأكد نائب رئيس اللجنة السناتور مينينديز الديمقراطي في توجيه مباشر لبلينكن المرشح لوزارة الخارجية بشأن روسيا "إن لم يكن لديك صلاحيات كافية فاطلبها من اللجنة".
ولا يخفى أن قضية المعارض الروسي نافالني قد حظيت باهتمام الرئيس بايدن شخصيًّا، حيث طرح مشكلته في المكالمة التي جمعته مع بوتين، وهو ما أكده المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف بقوله: "بالنسبة إلى هذا الموضوع ، نعم ، فقد طرحه رئيس الولايات المتحدة الأميركية. وقدم الرئيس بوتين التفسيرات اللازمة"، مما يقطع الشك بأن المظاهرات التي انطلقت في روسيا قد تم تدبيرها وتوقيتها وبرمجتها ضمن الغارات السياسية الأميركية على روسيا ومناطق نفوذها في بيلاروسيا وقرغيزستان ومولدوفا بعد خسارتها لجورجيا وأوكرانيا لصالح الولايات المتحدة، لكنها ستأخذ في ظل الإدارة الأميركية الجديدة بعدًا إضافيًّا موجهًا لتقويض دولة الرجل الأوحد التي اختصرها بوتين بشخصه. وهو الأمر الذي حظي بعناية كبيرة في المناقشة الطويلة التي جرت بين أعضاء اللجنة الخارجية لمجلس الشيوخ الأميركي، وبخاصة من قبل السناتور تيد كروز بخصوص مشروع نوردستريم٢، والذي قال بأنه "يسهم في تمويل عُدوانية بوتين" وأنه يجب علينا "منع استكماله" وإن أغضب ذلك "ميركل"؛ أي بمعنى تجفيف موارد بوتين التي سمحت لروسيا بإعادة بناء قوتها العسكرية وتمويل عملياتها في سوريا وليبيا وأرمينيا وأوكرانيا.
فلا شك أن هذه المظاهرات تندرج ضمن سلسلة الضغوط الأميركية لكسر حاجز الخوف لدى الشعب الروسي، وتفكيك النواة الصلبة للقيادة الروسية المتمثلة بالرئيس بوتين والدولة العميقة في مؤسسات الجيش والأمن وكبار رجال المال والأعمال، وهو ما تصدى له المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في تعليق له على مزاعم نافالني بامتلاك بوتين للقصر المزعوم بقوله: "إن عمليات الفضح الكاذبة من هذا القبيل ليست سوى سلسلة في الحملة الإعلامية الموجهة ضد الرئيس بوتين شخصيًّا... وزعزعة استقرار روسيا". وهو الأمر الذي تجسده المظاهرات بالفعل في شعار المتظاهرين "لم نعد نخافك"، والذي يحمل بنفس القدر رسالة تحريض على التظاهر إلى شعوب المنطقة و دول الحزام في المجال الحيوي الروسي.
وهذا الاستهداف لبوتين شخصيًّا يأتي على خلفية طبيعة النظام الذي أسسه هذا الأخير والذي لعب فيه دور المنقذ للشعب الروسي التائه والناقم على السياسة والسياسيين. إذ من المعلوم أن بوتين كان قد استغل التفجيرات التي هزت موسكو إبان رئاسته للوزراء لحرف بوصلة الاهتمام الشعبي بعيدًا عن شعارات العدالة الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي إلى شعارات السلامة الشخصية والأمن والأمان لتعزيز قبضته على السلطة، واتخذ من الحرب الشاملة على "الإرهاب" الشيشاني بوابة للعبور إلى قلوب الجماهير التائهة والخائفة، كما اتخذ من الفساد المتفشي ذريعة لتطهير الوسط السياسي من القوى المنافسة؛ ليتفرد بالسلطة منذ ذلك الحين.
ونتيجة لتطهير بوتين الوسط السياسي من رجالات أميركا وقمعه لكل معارض حقيقي، وقيامه بتصميم أحزاب سلطة على مقاسه، ونتيجة لفساد الوسط السياسي الروسي كله ولجمه من قِبل بوتين، لم تتمكن الولايات المتحدة من إسقاطه وضبط سياسة روسيا وفق مصالحها رغم محاولاتها المتكررة.
ومن هنا، تمثل قضية نافالني فرصة للاستثمار الأميركي السياسي وتحريك الشعب ضد الطبقة الحاكمة من بوابة مكافحة الفساد التي عبر منها بوتين ذاته إلى الحكم، مستغلة تداعيات أزمة كورونا وحرب أسعار النفط والغاز الأخيرة والعقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، بغرض تخويف القوى الداعمة لبوتين، وتفكيك كتلته الصلبة التي تُمده بالقوة والصمود.
غير أن نشاط نافالني وفريقه وإن كان قد أظهر كفاءة بدعم أميركي وغربي في تحريك المظاهرات وتهديد شعبية بوتين وحزبه الحاكم، إلا أنه لا يملك القدرة على الإطاحة بنظامه الحالي على الفور. وذلك أن نافالني لا يحظى بأي دعم من النخب السياسية والاقتصادية على المستوى المحلي، ولا تملك الولايات المتحدة عملاء مؤثرين فيما يسمى بـ "الوزارات السيادية للسلطة": الداخلية والجيش والأجهزة الأمنية بحيث توفر له وللمظاهرات الدعم للاطاحة بالنظام.
ورغم أن أميركا تدرك أن نافالني غير قادر على تغيير النظام إلا أنها تستثمر في الدورات المتكررة من الاحتجاج والقمع، وفي خطأ بوتين بتحويل نافالني من عميل غربي إلى بطل قومي، مما يساعد في كسر حاجز الخوف وهز صورة النظام وإضعاف سنده، وتقليص شعبية بوتين ضمن سلسلة من الأعمال طويلة الأجل.
أما على صعيد معالجة الموقف من قبل النظام، فيتوقف على قدرة بوتين على مواجهة العاصفة، وإخماد المظاهرات، والسيطرة على الوضع، عبر الترويع والاعتقالات والقمع والسجن والغرامات المالية، التي دأب على استعمالها في الاحتجاجات السابقة، لكي يواصل خطواته نحو تنفيذ ما يطمح إليه وهو تأسيس مجلس رئاسي على غرار النظام الصيني؛ لضمان استمرار سياساته القومية الاستقلالية بعد رحيله.
وعلى الأرجح أن يواصل المواجهة ومقابلة التصعيد بالتصعيد فيما يتعلق بحماية نظامه والكيان الروسي على قاعدته الشهيرة "أنا ضابط ولا أستسلم"، وقد يلجأ إلى التراجع التكتيكي بشأن السياسات المتعلقة بسوريا وليبيا، والمناورة في العلاقة مع تركيا ومصالح الولايات المتحدة بشأن الأكراد، وقد يلجأ أيضًا إلى ضرب استقرار دول البلطيق واللجوء إلى استبدال شخصية أخرى بحليفه لوشينكو قطع الطريق على زيادة الضغط الأمريكي من بوابة بيلاروسيا، وإعادة التوتر لشرق أوكرانيا واجراء استفتاء لانضمامها لروسيا كما فعل في القرم.

15/جمادى الآخرة/1442هـ
28/1/2021م