المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول النزاع في إثيوبيا



Abu Taqi
07-12-2020, 11:44 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
النزاع في إثيوبيا
أعلن الجيش الإثيوبي يوم 28 تشرين ثاني/نوفمبر الماضي سيطرته على مدينة ميقيلي عاصمة إقليم تغراي، بعد معارك ضارية انطلقت يوم 4 تشرين ثاني/نوفمبر بين الحكومة المركزية في أديس أبابا والحكومة الإقليمية في إقليم تغراي. ولفهم حقيقة ما يجري من حرب في إثيوبيا والأسباب التي تقف وراء ذلك لابد من فهم طبيعة القوى المتصارعة على مركز الحكم.
إن مركز الحكم في إثيوبيا كان دائمًا بيد عرقية الأمهرة، التي يعود إليها تأسيس الدولة الإثيوبية الحديثة، والمكونة من خليط من أعراق متعددة وقوميات مختلفة. فمع نهاية القرن التاسع عشر قام ملك الحبشة منيليك الثاني بضم منطقة الأرومو ذات الغالبية المسلمة، وبدعم من بريطانيا تمكن من الحصول على منطقة بني شنقول التي كانت جزءًا من السودان. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وخسارة إيطاليا في الحرب سلمت بريطانيا إقليم أوغادين إلى إثيوبيا مع أنه جزء من أراضي الصومال.
إن إثيوبيا الحالية في الحقيقة هي دولة مصطنعة بفعل الاحتلال البريطاني، ذلك أن موقعها التاريخي، وهو الحبشة، يدور حول مناطق الأمهرة وأجزاء من تغراي حيث توجد مدينة أقسوم عاصمتها التي كان فيها مقر حكم ملوك الحبشة وبها قبر النجاشي الذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.
واستمر الحكم في يد ملوك الحبشة الأمهريين حتى وقع الانقلاب على آخر ملوكهم هيلا سيلاسي في العام 1974 من قبل المجلس الماركسي الذي ألغى النظام الملكي وأسس دولة شيوعية. ومنذ سنة1980 تبنت أميركا عددًا من جبهات التحرير في إثيوبيا وبخاصة في تغراي وأريتريا وأوغادين وأرومو.
وما أن دخلت سنة 1991 حتى فقد آخر حاكم ماركسي في إثيوبيا وهو مانغستو هيلا مريام الحكم على يد الجبهة الديمقراطية الثورية الإثيوبية، التي هي فصيل مكون من عدد من الجبهات أهمها جبهة تحرير شعب تغراي بزعامة ميليس زيناوي، والتي سيطرت أكثر من غيرها على مقاليد الحكم ومفاصل الدولة.
وبالتوازي مع ذلك وتحت رعاية أميركية (مؤتمر لندن الذي نسق له وليام كوهين مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون الإفريقية) تسلمت الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا بزعامة أسياس أفورقي الحكم في أريتريا في نفس العام، وأعلنت الاستقلال عام 1993 بعد استفتاء صوري. واستمر ميلس زيناوي، وهو من التغراي (6%)، في الحكم حتى توفي في عام 2012 فتولى الحكم من بعده نائبه هيلا مريام دسالين، وهو أرثوذكسي مثل سلفه ولكنه من الأقاليم الجنوبية. ولكن يبدو أن الاعراق التي تمثل الدولة العميقة في إثيوبيا، وبخاصة أمهرة وتغراي، رفضوا وجوده في الحكم، وبدأت تخرج ضده مظاهرات واحتجاجات دفعته في النهاية إلى تقديم استقالته، والتوافق على تولي آبي أحمد على الحكم في آذار/مارس 2018 بدعم أميركي، ظهر في منحه جائزة نوبل للسلام بعد زيارة قام بها إلى حائط البراق.
ورغم أن آبي أحمد يحسبه كثيرون على عرقية الأرومو (35%) بسبب أبيه المسلم، لكنه في الحقيقة يمثل مصالح عرقية الأمهرة (25%) بسبب نسبه لأمه المسيحية، فعرقية الأمهرة هي التي كانت تمثل ثقل الدولة العميقة في إثيوبيا منذ مملكة الحبشة، وفوق ذلك فإن آبي أحمد هو بروتستانتي المذهب، وهذا أيضًا من دوافع أميركا لدعمه سياسيًّا رغم أن الأرثوذكس يمثلون الأغلبية في الطوائف المسيحية الإثيوبية، كما حظي بدعم عرقية الأرومو المسلمة تمامًا مثلما فعل سلفه ميلس زيناوي عندما أخذ الحكم عام 1991.
ويعتبر آبي أحمد أول مسؤول من إثنية الأرومو يختاره حزب "الجبهة الثورية الديموقراطية لشعوب إثيوبيا" الحاكم لمنصب رئيس الوزراء بعد 27 عامًا على وجود الحزب في السلطة. وقد جاء إلى الحكم نتيجة الاحتجاجات التي انطلقت في إقليم أوروميا مطلع عام 2018 بسبب تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية، وأدت إلى انتقال السلطة إليه بشكل سلس إثر تفاهمات مع تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، في نيسان/أبريل 2018، غير أنه انقلب على حلفائه في الجبهة وبدأ بعملية تطهير للسلطة من الحرس القديم الذي يعرفه جيدًا بحكم منصبه السابق في رئاسة المخابرات.
تاريخيًّا، لقد عمقت الولايات المتحدة هيمنتها على منطقة القرن الإفريقي، وهمشت فرنسا التي تملك أكبر قاعدة عسكرية على مستوى القارة الإفريقية في جيبوتي، وأعطت دورًا لألمانيا على حساب الفرنسيين منذ سنة 2002. وتعتبر إثيوبيا دولة محورية في ضبط المنطقة لصالح أميركا، فقد دعمتها في ضرب الجيوب العسكرية في أريتيريا، ثم ساهمت بإنهاء الخلاف بين إثيوبيا وأريتيريا، بالإضافة إلى انطلاق حكام الإمارات عبرها لتعميق النفوذ الأميركي في العمق الإفريقي، كما عمقت الولايات المتحدة نفوذها في القرن الإفريقي عبر جيبوتي التي تعتبر الدولة الأهم في أمن الطاقة والملاحة في البحر الأحمر .
ورغم أن النزاع الداخلي قد يفضي إلى تمزيق إثيوبيا، وقد يتعداها، لكن وحدة إثيوبيا في إطار فدرالي يمثل مصلحة للولايات المتحدة لوعورة التركيبة الإثنية في القرن الإفريقي وجواره، والتي لو انفجرت ستؤدي إلى تغيير الوضع الجيوسياسي في المنطقة برمتها بعد أن عملت الولايات المتحدة على استقرارها وإزالة الخلافات بين بلدانها.
ومن تتبع النزاع الدائر منذ احتجاجات أوروميا، التي اندلعت في تموز/ يوليو 2020 على خلفية مقتل مطرب شعبي مشهور، وتفجر النزاع المسلح مطلع الشهرالماضي، نجد أنه انطلق نتيجة تصرفات الرئيس آبي أحمد وخلافاته مع الدولة العميقة، التي تتمثل في الأحزاب السياسية وكبار ضباط الجيش وقادة الأقاليم، وهم الذين دعموه في تولي السلطة.
فقد اندلع النزاع في الخامس من شهر تشرين ثاني/نوفمبر الماضي إثر صدام بين الرئيس وبين (جبهة تحرير شعب تيغراي)، وهي إحدى تشكيلات الحزب الحاكم السابق (الجبهة الديموقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا)، والذي حكم إثيوبيا ثلاثة عقود، وبحسب المعلومات المتضافرة فإن ثمة خلافات كبيرة بين الرئيس وبين الجبهة الديموقراطية الثورية، تعود إلى انقلاب الرئيس على الجبهة وحلها وبطشه بقادتها، وتحويلها إلى حزب باسم حزب "الازدهار" وهو الأمر الذي عده خصوم الرئيس خيانة لهم، بل حتى قبيلة الرئيس "الأرومو" وجدت أنه لم يف بوعوده في إعادة التوازن بينهم وبين خصومهم من الإثنيات الأخرى. ونجم عن ذلك تمرد جبهة تحرير تيغاراي التي رفضت تسليم قادة الجبهة الديمقراطية الثورية لآبي أحمد، وقيامها بانتخابات للإقليم بمعزل عن الحكومة الفدرالية. وبخاصة بعد تأجيل الرئيس للانتخابات الرئاسية بحجة كورونا وهو ما رفضه آبي أحمد واضطره إلى قطع الدعم المالي للإقليم في تشرين أول/أكتوبر الماضي. مما يعني أن الظروف التي انطلق فيها الصدام هي ظروف محلية يكتنفها التعقيد في التركيبة الإثنية الإثيوبية والمصالح الشخصية والحزبية والجهوية، تمامًا كالنزاعات الداخلية في جنوب السودان، ولا يوجد ما يربطها بالشأن الإقليمي أو الدولي، من حيث الأسباب الموضوعية لانطلاقها.
ويبدو أن أميركا التي تربطها مصالح قوية مع الرئيس آبي أحمد منذ توليه رئاسة المخابرات الإثيوبية، هو ما يفسر سكوتها على حملته على خصومه الذين استهلكتهم في النزاعات الإقليمية مع أريتيريا، وبات إخراجهم من المشهد ضرورة تمليها المصالح الأميركية في الإقليم كله، وهي الأجندة التي عكف آبي أحمد على تنفيذها وتسببت في اندلاع الخلافات السياسية والنزاع المسلح.
ومن الواضح أن جبهة تحرير شعب تيغراي التي تدرك المصالح الأميركة تحاول المشاغبة على الولايات المتحدة في محاولة منها لتوسيع الأزمة نحو أريتيريا، لا سيما وأنها كانت تعترض على توقيع معاهدة السلام في ٢٠١٨ حيث أن سياسة الجبهة كجزء من حكومة الائتلاف منذ انتهاء الحرب في عام ٢٠٠٢ كانت ترتكز على عزل وتهميش أرتريا ورئيسها أفورقي، والذي تعمد عدم تحقيق أي تقدم في المفاوضات مع هيلا مريام، بالإضافة لغضب الجبهة من أن معاهدة السلام قد أدت إلى إخراج أفورقي وأريتريا من عزلتهم، وتنازل إثيوبيا القانوني عن مطالبات تغراي التاريخية بالأراضي الأريترية التي تسكنها قبائل إثنية مرتبطة بتغراي.
وما يؤكد محاولة جبهة تغراي توسيع الصراع، هو تصريح رئيس إقليم تغراي جبرمايكل أن "أريتريا أرسلت جنودًا ودبابات لمساندة إثيوبيا". وبالتالي فإن هذا الصراع له تبعات كبيرة وتأثير على أريتريا؛ لأن أي ثورة في تغراي ستمتد لأريتريا؛ لتواجد إثني فيها، وهو الأمر الذي حذر منه بومبيو في اتصال مع آبي أحمد بحسب وكالة رويترز التي قالت إن "قلق واهتمام أميركا باستمرار الاقتتال ينبع من تبعاته ومخاطره"؛ أي مخاطر امتداد الأزمة لدول الجوار.
وقد أوردت صحف إفريقية مثل "غانا اليوم" بتاريخ ٣٠ تشرين ثاني/نوفمبر أن "إطلاق الصواريخ من قبل جبهة تغراي على أريتريا في منتصف تشرين ثاني/نوفمبر قد حوّل صراعًا داخليًا إلى صراع عابر للحدود". وفحوى ما تم نشره من وزارة الخارجية الأميركية يُظهر رغبة أميركية في احتواء الأزمة وإيجاد حل داخلي. وما قام به آبي أحمد من عمليات تطهير في السلطة وما ترتب عليه من توجه للحسم المسلح لا يخرج عن الأجندة التي جاء لتنفيذها.

17/ربيع الثاني/1442هـ
2/12/2020م