المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول توقف الحرب في إقليم ناغورنو كرباخ



Abu Taqi
14-11-2020, 11:24 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
توقف الحرب في "ناغورنو قره باغ"
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اتّفاق لـ"وقف إطلاق نار شامل" في إقليم ناغورني كاراباخ، وجاء في الاتفاق المعلن، أنه (تم وقف كامل لإطلاق النار في "قره باغ"، اعتبارًا من منتصف ليل 10 نوفمبر بتوقيت موسكو، كما توقف الجيشان الأذربيجاني والأرمني في مواقعهما، وتعهدت الأطراف، بتبادل أسرى الحرب). ونص الاتفاق على (أن تعيد أرمينيا منطقة "كيلبجار" إلى أذربيجان بحلول 15 نوفمبر، ومنطقة "لاتشين" بحلول 1 ديسمبر 2020، تاركة تحت سيطرتها ممر "لاتشين" بعرض خمسة كيلومترات، مما سيضمن ربط "كاراباخ" بأرمينيا).
لقد تمكنت روسيا من وقف الحرب الأذرية الأرمنية بصورة مفاجئة بعد نحو شهرين من المعارك العسكرية في أقليم كاراباخ الأذري المحتل، والذي تعود جذور مشكلته إلى سنة 1923 حين كان الإقليم ضمن الأراضي الأذربيجانية، وتم فصله على يد "جوزيف ستالين" عن أذربيجان، وفي أيار/مايو 1992، احتلت القوات الانفصالية الأرمينية مدينتي شوشا ولاتشين. وفي 1993، استولت القوات الأرمينية على ست مقاطعات أذربيجانية أخرى حول ناغورني - قره باغ، بما في ذلك كلبجار، وأغدام، وفوزولي، وجبارايل، وقبادلي، وزانغيلان. وروسيا التي ساعدت أرمينيا في ذلك، إنما خلقت بؤرة التوتر هذه بين البلدين لضمان تدخلها وإدارة العلاقات بين الطرفين بما يحفظ نفوذها في منطقة القوقاز المرشحة للانفجار العرقي والديني الذي يهدد اتساعه الكيان الفدرالي الروسي ذاته، فضلًا عن تهديده للمجال الحيوي والاستراتيجي الروسي في المنطقة برمتها لصالح الولايات المتحدة الطامعة بالاستيلاء على مواردها الطبيعية وممراتها، وتطويق روسيا واحتوائها ضمن مخطط قديم تحدث عنه صانع السياسات وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر.
وبالإضافة إلى الأطماع الأميركية، هناك أيضًا محاذير روسية من دخول تركيا لاعبًا مؤثرًا وفاعلًا في منطقة القوقاز، بمباركة أميركية لا تَخفى أهدافها على صعيد تسخين الاحتكاك بين روسيا وتركيا وتوهين العلاقة بينهما، وتفجير الوضع الديمغرافي في مكونات الشعب الإيراني الفارسية والأذرية المحاذية لأذربيجان، وهو الأمر الذي دعا إيران لعرض الوساطة بين الأطراف المتحاربة.
غير أن روسيا التي تتعرض في الفترة الأخيرة إلى غارات سياسية أميركية على مناطق نفوذها في بيلاروسيا وقرغيزستان ومولدوفا بعد خسارتها لجورجيا وأوكرانيا لصالح الولايات المتحدة، تنطلق من استراتيجية دفاعية تقوم على إيجاد توازن بين أرمينيا وأذربيجان، وإخراج ملف قضية كاراباخ من يد مجموعة منسك؛ أي إبعاد الولايات المتحدة وأوروبا عن القضية، مع حرصها على إبقاء هوامش الخلافات مع تركيا تحت السيطرة، من أجل تثبيت مسافة النفور والخلافات بين تركيا والولايات المتحدة وأوروبا، وهو أشبه بأن يكون خيارًا تمليه حاجة روسيا وتركيا لبعضهما، وليس قرارًا سياسيًّا استراتيجيًّا لكل الطرفين. ذلك أن الخيارات المتاحة لروسيا وسط الظروف التي تُحيط بها ضيقة للغاية، مما جعلها تترك سير العمليات الحربية في اتجاه يمكنها من تحقيق أهدافها الآنية، وهي البقاء في المنطقة والإشراف على العلاقات وليس السيطرة عليها أو التفرد المطلق فيها.
وبالتالي فإن وقف الحرب على يد روسيا وبمعزل عن مجموعة منسك قد حقق لها ما تريد، وفق مقاربتها السياسية المقيدة بالتوازنات، سواء على الصعيد الدولي المتعلق بأميركا، أو على صعيد تحييد تركيا وتحديد حركتها وتأثيرها، وتسجيل نقطة تقارب مع إيران المتوجسة من تداعيات الأزمة على وحدة أراضيها وتماسكها المجتمعي، وكذلك على صعيد الداخل الأرمني وهو تأديب رجل أميركا رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشنيان، وتعريضه لغضب الشعب بمعية داعميه من قوى المجتمع المدني المرتبطة بـ"فاعل الخير" الملياردير الأميركي جورج سوروس. صحيح أن الدافع الرئيس للتدخل الروسي لوقف الحرب هو التطورات الميدانية المتسارعة واستعادة أذربيجان لمدينة شوشا وتقدمها في مختلف محاور القتال، وخشية موسكو من انهيار كامل لقوات أرمينيا مما يهدد حديقتها الخلفية بالتآكل، إلا أن وقف بوتين للحرب وإمضاءه الاتفاق بمعزل عن مجموعة منسك هو اختراق روسي، وإعلان موجه لكافة الأطراف بأنه اللاعب الأساسي في الأزمة، وبالتالي يمكن اعتبار مخرجات الاتفاق بأنها نجاح لبوتين في فرض وجود عسكري روسي دائم في المنطقة لمدة 5 سنوات، مع التجديد التلقائي لفترات إضافية مدتها خمس سنوات، وأنه تمكن من هز النفوذ الأميركي بتقويض شعبية رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الذي انقلب على تفاهماته مع الروس عبر سماحه لمؤسسات المجتمع المدني المرتبطة بالولايات المتحدة بالتمدد والعمل ضد النفوذ الروسي، ولعل ذلك ما يفسر قبول بوتين بالشروط الأذرية التي بدا فيها باشنيان مستسلمًا؛ لكي يحطم شعبيته وينهي مستقبله السياسي ويُشرد به من خلفه، وهو ما بدأت ملامحه تظهر من خلال اندفاع الأرمن باحتجاجات في العاصمة "يريفان"، حيث تجمعوا أمام مبنى الحكومة، مرددين هتافات ضد "باشينيان"، كما كسروا زجاج النوافذ واقتحموا مبنى الحكومة، ووصل بعضهم إلى مكتب رئيس الوزراء الأرميني، وطالبوه بالاستقالة.
كما وتمكن بوتين من تحقيق هدف أبعد وهو إضعاف حظوظ أردوغان في امتلاك أوراق للضغط والمساومة أو اقتحام ميادين التنافس معه، رغم حرصه على إبقاء العلاقة والتفاهمات مع أردوغان باعتبار أنه أول رئيس تركي يمكن التفاهم معه. ومما تمكن بوتين من تحقيقه أيضا هو حرمان أذربيجان المدعومة من تركيا من استرجاع كامل السيادة على أراضيها، واحتوائها ولجمها عن تحدي السيد الروسي في مناطقه الجيوسياسة في المستقبل، بالإضافة إلى تحقيقه لهدف أبعد من ذلك، وهو إنقاذ الأرمن من هزيمة مذلة لإقناعهم بحاجتهم الأكيدة للمظلة الروسية، وتقزيمه لنصر الأذريين الذين سحقوا الأرمن المحتلين بالفعل وأملوا شروطهم من موقع القوة المسنودة بتركيا، وذلك حتى لا يُعيد انتصار الأذريين إلى ذاكرة الروس والأرمن هيبة المسلمين، أو يعيد لذاكرة المسلمين مجدهم الضائع وحقوقهم التي ما تزال رهن اعتقال القيصر الروسي كجزيرة القرم.
أما على الجانب الأذري والتركي، فقد استطاعت أذربيجان وبدعم تركي رغم التفاف الروس على النصر من تحقيق سابقة بمعزل عن الإرادة الدولية المتمثلة بمجموعة منسك، وهي تكريس واقع في الإقليم الأذري لم يعد بالإمكان تجاوزه، كما تمكنت تركيا من فرض وجودها في المنطقة كلاعب لم يعد بإمكان روسيا تجاهله، وبخاصة بعد أن أثبتت الأسلحة التركية قدرتها على تغيير موازين القوة في شمال سوريا وليبيا وأذربيجان. وهو ما يبرهن على أن الأمة الإسلامية التي تكبلها المؤسسات والقرارات الدولية قادرة على الخروج من حالة الذل والانكسار إذا وجدت الإرادة والقيادة المستقلة التي تدوس قرارات المنظمات الاستعمارية وتأخذ بيدهم إلى معالي الأمور.

27/ربيع الأول/1442هـ
13/11/2020م