المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول موقع روسيا في السياسة الدولية وعلاقتها بالولايات المتحدة



Abu Taqi
07-11-2020, 11:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
موقع روسيا في السياسة الدولية وعلاقتها مع الولايات المتحدة
باستثناء بريطانيا التي تدور في فلك أميركا، فإن روسيا وباقي الدول العظمى لا ينازعون الولايات المتحدة السيادة على العالم، وإنما يبحثون عن البقاء الاستراتيجي والأمني في مناطق نفوذهم التاريخي ضمن مقاربات سياسية تفرضها وتُشكلها قوة الولايات المتحدة ونفودها الدولي. ذلك أن عضويتهم في مجلس الأمن والمنظمات الإقليمية المخترقة أميركيًّا، والمؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة مثل (منظمة التجارة العالمية) و(صندوق النقد والبنك الدوليين) باتت تؤطّر تحركهم السياسي، بدلًا من أن تمنحهم هامشًا في التأثير في السياسة الدولية، سيما وأن أميركا التي تسيطر على مناطق النفط، وتهيمن عملتها على النظام المالي العالمي القائم على الدولار، وتسيطر على أغلب الإعلام العالمي المؤثر، وتملك اليد الطولى في أدوات تنفيذ القرارات الدولية، منحها كل ذلك القدرة وحدها على خرق القوانين، والخروج على المنظومة الدولية، وتجاوز مؤسساتها دون الخوف من سيف العقوبات، الذي تُلجم به دول العالم بمن فيهم روسيا والدول الكبرى.
ورغم هذه القوة التي تتمتع بها أميركا، ورغم أن روسيا وباقي الدول العظمى مدمجون ضمن منظومة الحوكمة التي أسستها أميركا منذ قرابة ٩٠ عامًا، وأمدت بقاءها بعد انتهاء الحرب العالمية، ثم بعد سقوط سور برلين والحرب على الإسلام، رغم ذلك كله إلا أنها لا تضع روسيا خارج الدول المستقلة؛ لأن تفاوت القوة العسكرية والاقتصادية بين الدول الكبرى لا يعني تبعيتها للدولة الأولى في العالم و دورانها في فلكها، بقدر ما يعني تراتبية الدول العظمى في القوة والنفوذ والتأثير وصنع القرار الدولي. وبالتالي فإن تحركات روسيا التي تبدو متماهية مع السياسة الأميركية تندرج في إطار التفاهمات والمصالح المشتركة والمتبادلة مع الولايات المتحدة، مثل ضرب روسيا لفصائل المقاومة السورية المسلحة وإضعافها لإعادة التوازن العسكري بين النظام السوري والمعارضة، وإلجاء الفصائل المقاتلة والمعارضين الذين يغردون خارج السرب إلى أميركا، وإرغام الشعب على النفور من أصحاب التوجه الإسلامي، وإخضاعهم لحلولها ومشاريعها كفدرلة الدولة وصفقة القرن، وهو ما أكده أندرو إيكسوم مساعد نائب وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط في خطاب له أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي مبررًا التفاهمات الأميركية الروسية من أجل المحافظة على أمن الكيان الإسرائيلي. كما أن بعض التحركات الروسية ومواقفها هي تحركات صرفة، ولا تدخل في التفاهمات مع الولايات المتحدة، كتواطئها على ضرب "إسرائيل" للقوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها في بعض المناطق، ومثل ضربها بمعية المجرم بشار لإدلب وتهجير سكانها، وهو ما لا يتعارض مع سياسة أميركا في إفزاع تركيا وأوروبا من موجات الهجرة و"الإرهاب ، سيما وأن الاستراتيجية الأميركية في سوريا وليبيا تستوعب في شطرها المتعلق بإرباك أوروبا التحرك الروسي الصرف الذي يمكن تحويل مخرجاته إلى مدخلات تؤسس لمرحلة لاحقة، وذلك مثل استغلال أميركا لوجود مرتزقة فاغنر، واستغلال معارضة روسيا اقتحام تركيا لـ"سرت والجفرة" ذريعة لتحديد مجال عمل روسيا وتركيا في ليبيا، وتجميد المسار العسكري، وإخراج فرنسا من اللعبة، ودفع كافة الأطراف الخارجية والداخلية في المسار السياسي وفق رؤيتها للحل، كما جاء في مؤتمر برلين ومخرجات جنيف.
ومن جانب آخر، فإن روسيا دولة قومية لا تنافس الولايات المتحدة عالميًّا؛ إذ برغم تحولها إلى الرأسمالية؛ لكنها نسخة مافيوية مشوهة فاقدة للأنموذج الحضاري الغربي الديموقراطي الذي يمكن أن يُحتذى، وفاقدة للقدرة التنافسية في المجالات التكنولوجية والصناعات المدنية التي تعتلي الدول الغربية ميادينها؛ لكنها تسعى إلى تأكيد ذاتها وسيادتها القومية من خلال قوتها العسكرية، وتطوير سلاحها، وتغوّلها على باقي المكونات الدينية والقومية والعرقية في كيانها وفي محيطها الإقليمي، وعبر استعراض القوة العسكرية الغاشمة في سوريا وليبيا. وهذا ما يُجبرها على التفاهمات مع الولايات المتحدة خارج مجالها الجيوسياسي، ويجعلها منكفئة على مقاومة التمدد الأميركي في مجالها الحيوي ومحيطها الجيوسياسي، الذي بات غالبيته في الفترة الأخيرة خارج سيطرتها الكاملة، وبخاصة بعد خروج جورجيا وأوكرانيا من دائرة نفوذها في الثورات الملونة، وبعد الأحداث الانتخابية في بيلاروسيا وقرغيزستان وجمهورية مولدوفا والحرب في أرمينيا. بينما تحاول من خلال تفاهماتها مع الولايات المتحدة في بعض المناطق أن تمتلك أوراق ضغط لمساومة أميركا دفاعًا عن مصالحها في عمقها الإقليمي.
أما أميركا فما تزال تغذ الخطى نحو محاصرة روسيا في مناطقها الجيوسياسية، ولا يخفى على المتابع للتغييرات السياسية الناجمة عن انضمام معظم أعضاء حلف وارسو سابقًا للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ولا يخفى كذلك أعمال القضم الأميركية لمجال روسيا الحيوي في الكومنولث الروسي، وخلخلة اتحادها في حرب الشيشان التي حسمها بوتين لصالحه.
كما وتتخذ الولايات المتحدة من روسيا فزاعة عبر السماح لها بالتمدد إلى شواطئ الشرق الأوسط وأفريقيا، التي تعُد منطقة بالغة الحساسية لأمن أوروبا ومصالحها وللدول العربية، وتسخرها أيضًا في "نظرية الألعاب" "game theory" واستراتيجية الصراع "the strategy of conflict" لتعميق الأزمات وإحاطة أوروبا من الشرق والجنوب والجنوب الشرقي بحزام من القلاقل والحروب، وذلك لإبقاء حالة عدم اليقين الأوروبي بشأن روسيا مستمرًا، بهدف التحكم بهم جميعًا وابتزازهم وإدارة العلاقات فيما بينهم وفق رؤيتها ومصالحها، وهو ما أشار إليه رئيس الاتحاد الأوروبي شارل ميشيل بقوله: "أوروبا محاطة بحزام عدم استقرار".
وتراهن أميركا على تقوية أداء الحلف الأطلسي، واستغلال المخاوف الأوروبية من التهديدات الروسية لأجل التأثير بشكل أكبر على السياسة الداخلية والخارجية للدول الأوروبية، ولذلك تستفز الولايات المتحدة روسيا بخرقها لاتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة والمنظومات الدفاعية في بولندا ودول البلطيق، متذرعة بالخطر الإيراني و"الإرهاب" الذي تقف وراءه، فضلًا عن تجاهلها للعرض الفرنسي للوساطة مع روسيا بشأن اتفاقية الصواريخ لنفس الغرض وهو إدامة "عدم اليقين" بشأن روسيا والتحكم بالأمن الأوروبي.
كما تعمل على استمرار عزل روسيا دوليًّا، مستغلة ضم روسيا لجزيرة القرم وتدخلها في انتخابات دول الجوار لفرض العقوبات عليها؛ وذلك لتحجيمها وكبح مقاومتها لمشروع أوارسيا بالصبغة الأميركية، الذي تحدث عنه كيسنجر كثيرًا، من أجل الوصول إلى مصادر الطاقة في “القفقاس” ودول بحر قزوين، والوصول من ذلك إلى فطم أوروبا عن الغاز الروسي، أو تحجيمه لتقليص موارد روسيا المالية التي تعزز صناعاتها الحربية تحوطًا لتحديات القرن الواحد والعشرين، ومن جهة أخرى لإبقاء أوروبا معتمدة في الطاقة عليها وعلى المناطق الخاضعة لنفوذها ضمن إستراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من روسيا وأروبا.
وأما التقارب الروسي الصيني فلا يمنحهما القوة الكافية للتأثير في السياسة الدولية، بقدر ما يعزز استراتيجية أميركيا في دفع الصين نحو التخلي عن نظامها الشيوعي الذي يعيق فرض الأنموذج الليبرالي عليها، وذلك بفعل القوانين الرأسمالية التي من شأنها أن تتسرب تلقائيًّا إلى النظام الشيوعي الصيني من بوابة التحالف الخارجي وشبكة التوريد الاستراتيجي. فلا خشية من أن يؤول التقارب الصيني الروسي إلى تشكيل ثقل سياسي منافس للولايات المتحدة؛ لأن التحالف الهش الذي يربطهما لا يصمد أمام تضارب مصالحهما بشأن أسعار النفط الذي يخدم ارتفاعه روسيا المنتجة للنفط ،ويضر بالصين المستهلكة له، فضلًا عن أنهما قد تحالفتا واستعملتا حق النقض (الفيتو) مرارًا وتكرارًا في الملف السوري، دون أن تحققا قدرًا مؤثرًا في الموقف الدولي، ولم يعد عليهما سوى بخروجهما عن الإجماع الدولي. ويرجع ذلك إلى قدرة الولايات المتحدة على احتواء تحرك الخصوم المحتملين، وتسخير حضورهم في المشهد الدولي لتضليل الشعوب والنأي بالنفس عن المهمات القذرة، أو انتدابهم من قبلها للتدخل نيابة عنها لاعتبارات داخلية كالانشغال في الانتخابات، أو لتلافي غضب الرأي العام الأميركي على الرئيس وحزبه، وبخاصة بشأن الكيان الصهيوني، أو لأية أسباب موضوعية أخرى.

Abu Taqi
07-11-2020, 11:43 AM
وكثير ما يكون الحضور الإعلامي والثانوي لدول مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين في المشهد السياسي ضرورة تمليها السياسة الأميركية؛ لتوريطهم وتشتيت النظر عنها أو لحشد الرأي العام العالمي حول قضية معينة وتوفير الغطاء الدولي لها، كترشيح أميركا لفرنسا وبريطانيا لإدارة شرق الفرات والمنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا على الحدود مع سوريا، وهو الأمر الذي من شأنه أن ينزع صفة "الإرهاب" ويضفي الشرعية على قوات سوريا الديموقراطية وحزب العمال الكردستاني وهو ما ترفضه تركيا بشكل مطلق.
وبالإضافة إلى ذلك فإن سماح الولايات المتحدة بحضور الدول التقليدية الكبرى في المشهد السياسي يصرف نقمة الشعوب نحو عدو آخر، كتسليط غضب المسلمين على روسيا وإيران في الملف السوري، أو لخلق تنافس ومزاحمة بين الدول التقليدية الكبرى وتوسيع الفجوة بينهم، ومن ذلك غض البصر جزئيًّا عن مشروع الحزام الصيني العابر للقارات، وكذلك إغراء أميركا لروسيا وأوروبا بأسواق الدول العربية وربط مصالحهم بمناطق نفوذها من أجل ابتزازهم والتحكم بهم والإشراف على علاقتهم بتلك الدول، ومن أجل توفير الشرعية لعملائها المستبدين كعبد الفتاح السيسي، وهو ما يفسر سماح أميركا لعملائها بفتح أسواقهم لمنافسيها، وبخاصة في مجال الطاقة والسلاح.
وبالإضافة إلى ذلك كله، يمكن ملاحظة نوعية العلاقة بين أميركا وروسيا من خلال تصريحات آشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي، في 3 ديسمبر/كانون أول سنة 2016 حيث قال: "الولايات المتحدة لا تريد حربًا مع روسيا لا باردة ولا ساخنة، ولكنها ستدافع عن حلفائها، والنظام العالمي، وستواجه نية تقويض الأمن الجماعي". وكان كارتر أكثر وضوحًا بشأن العلاقة مع روسيا حين قال: إن "الموقف المتوازن للإدارة الأميركية من روسيا يتلخص في ردع موسكو بالتزامن مع استمرار التعاون الثنائي معها فقط في المجالات التي توجد فيها أهداف ومصالح مشتركة"، وتصريحات كارتر هذه تبرر للولايات المتحدة علاقاتها الثنائية مع موسكو وتقيد العلاقة الأوروبية الروسية، وهي تصريحات مطابقة لواقع العلاقة بينهما ومنسجمة مع محاولة أميركا إرغام أوروبا على التعاطي مع روسيا وفق الرؤية الأميركية التي تصنف روسيا عدواً وتبرر بقاء حلف الناتو وتعزيز موازنته. ولذلك سعى بوتين لإزالة مخاوف أوروبا واستمالة ماكرون بعد فوزه بالرئاسة، حيث قال بمناسبة عيد النصر في 9 أيار/ مايو 2017: "إن أسباب اشتعال الحرب العالمية الثانية تعود إلى عدم وجود توافق لدى الدول الرائدة، ما أتاح فرصة للنازيين لامتلاك الحق في تقرير مصير الشعوب، وشن حرب شعواء، للاستيلاء على البلدان الأوروبية كافة" وأضاف مذكرًا الأوروبيين بدور روسيا في إنقاذهم من النازية: "لا ننسى أبدًا أن حرية أوروبا والسلام المنشود على كوكبنا تم تحقيقهما بفضل جهود آبائنا وأجدادنا".
ونخلص من ذلك أن روسيا ما تزال دولة مستقلة ومستهدفة بالفعل من قبل الولايات المتحدة التي تلاحقها في مجالها الحيوي، وتعمل دون توقف لكف يدها عن دول الجوار، ومواصلة التغلغل في عمقها الإقليمي جنوبًا في دول القوقاز وبحر قزوين وأسيا الوسطى من أجل السيطرة على منابع النفط والغاز وطرقه وإمداداته؛ لتقليص الواردات المالية، وإعاقة روسيا من الانفاق على سياسة بوتين الرامية لتجديد القوات العسكرية الروسية لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
وفي الختام، فإنه رغم كل تلك الخلافات والمكر الذي يقطر سُمًّا وأنانية في تعاطي الولايات المتحدة مع أبناء جلدتها من الذئاب المسعورة والحوش الكاسرة، ورغم استثمارها في "الهجرة والإرهاب"، وتفكيك بلاد المسلمين في "الربيع العربي"، وتسخيرهم وقودًا في مشاريعها الهادفة إلى استعباد المسلمين وترويع روسيا وأوروبا والصين من انتقال عدوى التفكيك إليهم؛ لكنهم جميعًا يرون في بلاد المسلمين التي ليس لها راعٍ محمية كحدائق الحيوان، ويرمون المسلمين عن قوس واحدة، وكلهم دول استعمارية محاربة وطامعة ومجرمة.
وعلى المسلمين أن يدركوا أن أميركا ليست قدرًا محتومًا عليهم، وأنها لم تحظ بالزعامة العالمية والتفوق الاقتصادي إلا بتغييب الإسلام والمسلمين ودولتهم، وتسليط العملاء عليهم ونهب ثروتهم التي إن استردوها أعادوا كتابة التاريخ وحكموا العالم بأسره.
قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم}.
21/ربيع الأول/1442هـ
7/11/2020م