المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول الحالة التي عليها فرنسا وعلاقتها بالولايات المتحدة



Abu Taqi
05-11-2020, 02:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
الحالة التي عليها فرنسا وعلاقتها بالولايات المتحدة
لكل دولة موقف سياسي داخلي وآخر خارجي، ومن خلال رصد سياسة الدولة الداخلية والخارجية في ضوء الموقف الدولي والعلاقات الدولية ندرك حالة الدولة ما إذا كانت دولة تابعة لغيرها في سياستها أم دولة مستقلة أم تدور في فلك دولة أخرى؟
يقول أحد المفكرين الاستراتيجيين الفرنسيين: "تريد فرنسا أكثر من أي شيء أن تكون ذات سيادة، ومع ذلك، فإن سيادتها غير كافية لضمان مصلحتها الوطنية"، ومن طبيعة فرنسا والمبدأ الذي تقوم عليه ومن تتبع موقفها السياسي الداخلي والخارجي، نجدها دولة مستقلة، لكنها لا تملك التحكم بمصيرها.
ولأن جعل الشيء جزءًا من شيء أعظم منه يجعله تابعًا له، ربطت فرنسا الدول المستعمرة بثقافتها، وكما هو معلوم فإن التبعية الثقافية تُعيق استئصال النفوذ السياسي، ولهذا بقي لفرنسا شيء من التواجد في غرب إفريقيا، وأوجد لها مبررًا للتدخل في القارة، والحضور على المستوى الدولي، لا سيما وأن الحفاظ على مكانة دولية يستلزم ما تقدمه الدولة إلى العالم، وهذا ما تملكه فرنسا إلى جانب أميركا وبريطانيا وتفتقر إليه روسيا، وهو المنظومة القيمية الديمقراطية والليبرالية. مع ملاحظة أن الاستثمار فيما يؤمن به بعض المنافسين أو الخصوم من الدول المستقلة هو من أساليب أميركا، تمامًا كاستغلالها حاجة روسيا وفرنسا للظهور دوليًّا بدافع المبدأ أو القومية، كضمانات لتأكيد الذات، وتلافي التآكل الداخلي والسقوط، وكذلك استغلال أميركا حاجة أردوغان لرفع رصيده الشعبي، وتسخير ذلك في استراتيجيتها ومخططاتها التي غالبًا ما تستوعب حركة الآخرين أيًّا كان اتجاهها بهدف احتوائها وإدارتها، كتحركات تركيا روسيا في سوريا وليبيا، وهو ما قد يُلبس على المراقب فهم العلاقات بين أميركا وتلك الدول ويُفضي إلى تحليل الأحداث على نحو مغاير لواقعها.
ومن ذلك أيضًا استثمارها لحماس الشباب المسلم للجهاد على قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"؛ لتحقيق أهدافها بموجب استراتيجية دالاس، ودعم حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي في القرن الماضي وذلك استنادًا إلى شهادة ضابط المخابرات الأميركية أوليفر إيزلين حول مشاركة المخابرات الأميركية في حركات التحرير الوطنية في إفريقيا.
ومن استقراء الواقع كحالة مالي، ودولة النيجر التي أنشأت الولايات المتحدة فيها قاعدة بالقرب من مناجم اليورانيوم، حيث تحصل فرنسا على 90٪ من منتوجها لمحطاتها النووية، ومن خلال ملاحظة استماتة فرنسا على إفشال الأنموذج الليبي في "التحرر" خشية انتقال عدواه إلى غرب إفريقيا، ومن تتبع السياسة الأميركية في نشر "الإرهاب" في تلك المنطقة عبر الجزائر، وهو ما أكده جيرمي كينان في كتابه "الصحراء السوداء"، والذي اتهم فيه الولايات المتحدة والجزائر بـ"التآمر لتلفيق الأدلة والمبالغة في خطر إرهاب القاعدة في شمال إفريقيا"، ووصف "الحرب العالمية على الإرهاب" بالخدعة، وأن الهجمات التي تشنها تلك الجماعات إنما تخدم توسيع النفوذ السياسي الأميركي على المنطقة ومواردها الاقتصادية، من تتبع ذلك كله يتضح أنه لا يزال لفرنسا العديد من العملاء في مناطق عدة في إفريقيا، والذين خدموا مصالحها السياسية والاقتصادية لعدة عقود، إلا أن "الاستراتيجية الأميركية للقارة الإفريقية" وبخاصة في عهد إدارة ترمب قيدت أولئك العملاء، فانساق بعضهم وراءها أو وراء مصالحه مع الصين، في إطار استراتيجية أميركية لخلق تنافس بين الصين وفرنسا، وحتى بين فرنسا وتركيا وبين الصين وتركيا التي أطلت برأسها في القارة الإفريقية، إذ لم يعد توغل الصين وبناؤها لمصالح اقتصادية عبر مشاريع البنية التحتية والإقراض المباشر للدول الإفريقية خافيًا. بالإضافة إلى تقييد الولايات المتحدة لسلوك بعض أولئك الحكام والأوساط السياسية من تركة الاستعمار القديم للقارة العجوز ضمن اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية، بحيث لم يعودوا قادرين على تقديم وجهة النظر الفرنسية أو البريطانية وتحقيق مصالحهما بمعزل عن الإشراف الأميركي.
كما أن سيطرة رؤوس الأموال الانجلوساكسونية على الشركات الفرنسية، وبخاصة النفطية، وما يشمله من أنظمة حوكمة أسستها صناديق الاستثمار، قد شلت قدرة فرنسا في تسخير شركاتها النفطية لأغراضها السياسية، مثلما كانت تفعل شركة إلف في السابق، والتي كانت تقوم مقام وزارة الخارجية الفرنسية؛ لدرجة قيامها بتسليح الجيوش وتعيين الرؤساء وعزلهم.
فالنفوذ الفرنسي اليوم له تواجد عبر أشخاص في مراكز قوى، لكنهم محاطون بالشركات الأميركية ورجالاتها، وقواعد أفريكوم العسكرية في الساحل ووسط إفريقيا. وكانت فرنسا قد تمكنت من استرداد ساحل العاج من يد عميل أميركا الحسن واتارا، واختطاف الرئيس الكونغولي كابيلا من يد أميركا؛ لكن أميركا قتلته لقاء انقلابه عليها، واستبدلت ولده به، تمامًا كما تستبدل نعالها في الخليج.
غير أن نفوذ فرنسا وبريطانيا في مستعمراتهما السابقة يعني بالضرورة امتلاك الحكام التابعين لهما القرار في تلك الدول، ولكن لا يعني القدرة على المشاغبة علنًا على أميركا؛ لأن الذي يحكم قدرة العميل على التصرف هو قدرة الدولة العظمى التي يتبع لها على حمايته، وفرنسا وبريطانيا لا تستطيعان حماية عملائهما إذا قاما بما من شأنه تقويض النفوذ الأميركي علنا، ذلك أن الولايات المتحدة تملك أدوات التأثير الدولي ليس على الدول التابعة فقط، بل وعلى الدول المساندة لها. وهذا فضلًا عن طبيعة العلاقة بين الدول الكبرى والتي لم تعد علاقة صراع.
ومع كثرة محاولات أميركا للتوغل في النظام السياسي والدولة العميقة الفرنسية، لكنها لم تحقق النجاح الذي وصلت إليه مع بريطانيا وتقزيمها بأعمال مباشرة، إذ تمكنت من استدراج قادتها مثل (تاتشر وبلير) وأحزاب ونقابات عمالية وطلابية ونفوذ اقتصادي، وتمكنت من ربط مصالح بريطانيا بالسياسات الأميركية، وجلبها للمشاركة في حروب أفغانستان والعراق، والحرب على "الإرهاب"، والضغط على فرنسا بشأن حلف الناتو والخروج من الاتحاد الأوروبي.
وأمثلة التوغل في النظام الفرنسي ومحاولات زعزعته وتفكيك آليات الاستقلال الفرنسي كثيرة ومنها: مواجهتها مع فرنسا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفق سياسة تجفيف المنابع وتصفية المستعمرات، وكنس بريطانيا وفرنسا من مستعمراتهما، حيث اتخذت أميركا مع كلا الحليفين سياسة الهجوم بالوكالة عن طريق عبدالناصر والقذافي في ساحل وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى الحركات العمالية والطلابية التي أودت بحكومة بطل فرنسا العسكري ديغول، الذي رفض دخول بريطانيا لعضوية السوق الأوروبية لإدراكه أن ذلك سيؤدي إلى أمركة المشروع الأوروبي. ثم شرعت بعد ذلك بتقويض عمليات الاستثمار الفرنسية في مجالها الاستعماري السابق في غرب القارة الإفريقية عبر عدة قوانين منها (قانون التنمية والفرص الافريقي في عام ٢٠٠٠)، وبرامج مثل (التعاون الاستراتيجي الإفريقي الأميركي والحوار الأميركي الإفريقي) وبرعاية الاتحاد الإفريقي والبنك الدولي والمنظمات والمؤسسات الأميركية غير الحكومية، والتي ترمي إلى تنفيذ الأهداف المشتركة والمتعلقة "بتنمية القارة السمراء وتكاملها"، وتشمل التنمية الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والأمنية، والتي عادة ما تكون برعاية أميركية رفيعة المستوى، وهذا ما يؤكده نص "الاستراتيجية الأميركية للقارة الإفريقية".
ولا يخفى على المتابع قيام أميركا وعبر شركاتها النفطية وسيطرتها على رؤوس أموال شركة توتال (والتي تضم تجمع ٣ شركات فرنسية نفطية عملاقة وهي توتال وإلف وأكيتن) بنسبة 34.5% من الأسهم، وامتلاكها محافظ استثمار بريطانية بنسبة 12.4%. بالإضافة إلى امتلاكها غالبية الأسهم في شركة إطارات ميشلان الفرنسية التي يتم اسغلالها من قبل أميركا في الضغط على الحكومة الفرنسية نحو تسريح عدد كبير من الموظفين في عقد التسعينات، مما أحدث مشكلة للحكومة الفرنسية.
وهذا علاوة على اختراق أميركا للإعلام الفرنسي، حيث يوجد قرابة خمسين داعمًا من اليهود المرتبط أغلبهم بالولايات المتحدة، مثل برنار هنري ليفي. فهم يعملون كعملاء داخل النظام الفرنسي، ومنها محطة "بي أف أم تي في" و"سي نيوز"، وهم من أصحاب التوجه اليميني المتطرف المدعوم أميركيًّا.
أما الوضع الراهن في فرنسا فيدل على أعمال أميركية متقدمة لتفكيك الدولة العميقة، ومنها الهجوم على تركيبة النظام التعليمي، وشغر الوظائف الحكومية الرئيسية من قبل خريجي كلية واحدة، وهي الكلية الوطنية للإدارة (Ecole Nationale d'Administration) والتي أسسها ديغول بعد الحرب العالمية، وتخرج منها شيراك وهولاند وماكرون.
وأما ما يقوم به ماكرون من محاولات لبسط بعض النفوذ في منطقة البحر الأبيض المتوسط من ليبيا أو قبرص أو لبنان، فلم يكن تحركًا منفصلًا عن التوجيه الأميركي، حتى أن بعض قادة لبنان كالوزير السابق وئام وهاب قد صرحوا بذلك، وقالوا إن أميركا أرسلت ماكرون بأجندتها المعروفة لدينا. بينما كشفت الأحداث الأخيرة في ليبيا أن فتح أميركا المجال لفرنسا في دعم عميلها خليفة حفتر كان فخًا سياسيًّا لإظهار فرنسا بمظهر العاجز.
وأما محاولات ماكرون البائسة لإقناع أعضاء الاتحاد الأوروبي بتأسيس قوة عسكرية أوروبية، أو محاولته لإعادة العلاقات مع روسيا، أو التدخل لحل معضلة اتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة فجميعها باءت بالفشل. فأميركا تعمل بشكل مباشر أو من خلال عملائها على بث اليأس في فرنسا وتقزيمها وكنسها إلى الداخل الوطني الفرنسي.
ومن الممكن قراءة ذلك في ردود فعل ماكرون، ومحاولته التغطية على فشله، والتعويض عنه من خلال الهجوم على الإسلام والتحوط الوطني عبر إشعال خوف المواطن الفرنسي من الهجوم على هويته ودستوره.
كما أن فرنسا دولة نووية تختلف عن بريطانيا، حيث حافظت على استقلال الرادع النووي الفرنسي وصناعاتها العسكرية، فلم تندمج تمامًا في إطار حلف الناتو رغم عضويتها فيه، حيث انسحبت من الجانب العملياتي في الحلف منذ زمن ديغول، ولم تندمج في مشاريع التعاون العسكري والصناعات المشتركة كما تفعل بريطانيا، وهو ما يُغضب أميركا ويجعلها تطالب دائمًا برفع مستوى الإنفاق العسكري للحلف أمام محاولات التملص الفرنسية.
ولا ننسى موقف فرنسا من أحداث أيلول/سبتمبر، وسعيها الحثيث لإقرار اتفاقيات تعميق الاندماج الأوروبي وسخطها الكبير على النظام المالي الانجلوسكسوني بعد انهيار الأسواق المالية سنة ٢٠٠٨.
إن مركز تنبه فرنسا هو مقاومة أي شيء يمس عقيدتها وفهمها لمصالحها الوطنية أو يهدد مواردها الاقتصادية في أفريقيا. ومشكلتها الرئيسية أن مصالحها الوطنية لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن الولايات المتحدة، مما يُجبرها على التكيّف، إذ أنها ممزقة بين مقاومة الخضوع للولايات المتحدة وبين التكيف مع حجمها ومع الواقع، ورغم أنها تستجيب بسرعة وانفعال كبير في الأزمات؛ لكنها ما تلبث أن تتراجع وتنتهي من حيث بدأت في كل خطوة تُغضب الولايات المتحدة.
وأميركا تدرك تمامًا سيكولوجية فرنسا وتسخرها لصالحها وتُمدها بالعون لتعمق فيها الشعور بالضعف والعجز والحاجة إليها، ولذلك يشوب العلاقات بينهما عدم الثقة، وبخاصة من طرف فرنسا التي عانت كثيرًا من تسخير الآخرين لها في مصالحهم، وهو ما تؤكده المقولة البريطانية الشهيرة "سنقاتل حتى آخر جندي فرنسي".
19/ربيع الأول/1442هـ
5/11/2020م