المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول المناورات الروسية في شرق البحر المتوسط



Abu Taqi
05-09-2020, 11:57 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
المناورات الروسية في شرق البحر المتوسط

بتاريخ 2 أيلول/سبتمبر 2020 أعلنت تركيا عن إنذارين بحريين جديدين في شرق المتوسط من أجل إجراء روسيا تدريبات بالذخيرة الحية في منطقة التنقيب عن الغاز، وحددت الموعد الأول بين 8-22 أيلول/سبتمبر، والثاني بين 17-25 أيلول/سبتمبر 2020.
والجديد في هذه التدريبات هي أنها سوف تجري قرب المناطق التي سبق وأن قامت فيها فرنسا واليونان بتدريبات عسكرية مشتركة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل إن أزمة نفط شرق المتوسط سوف تسفر عن تحالفات سياسية أو عسكرية جديدة؟
وللجواب على هذا السؤال يجب أن ندرك أن علاقة تركيا مع روسيا لا تقوم على التحالف مثلها في ذلك مثل علاقة تركيا مع أميركا. فالقاعدة التي تسير عليها تركيا اليوم بعد أن حققت استقلالها عن أميركا، وخرجت من تبعيتها الكاملة للمنظومة الغربية هو حفظ مصالحها الإستراتيجية.
ومن أجل تحقيق هذه المصالح العليا فإن لها الخيار بالتعامل مع الدول الكبرى في كل ملف بشكل منفرد؛ ففي ليبيا تتعاون مع أميركا ضد روسيا وفرنسا بغض النظر عن السياسات البعيدة لأميركا في ليبيا وشمال إفريقيا، وفي سوريا تتعاون تركيا مع روسيا بغض النظر عن التفاهمات الروسية الأميركية، وهكذا تقوم تركيا بشق طريقها في السياسة الدولية على أساس المصالح وليس التبعية، وهي مستعدة لرفع التحدي إذا تعرضت لخطر مباشر، وبخاصة فيما يخص أمنها القومي، وما عدا ذلك فهي إما أن تنحني أو تناور أو تتفاهم.
والذي ينبغي ملاحظته في أزمة شرق المتوسط هو تداخل المصالح الدولية، والتي أكثر ما تهم أوروبا في المقام الأول باعتبارها تتعلق مباشرة بصلب استراتيجية أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي، ومحاولة أوروبا فرض واقع جديد من خلال اليونان، يحرم تركيا من التحكم ببورصة الغاز، ويحول دون اعتراضها لخط غاز "ايست ميد" الذي يُعتقد بأنه سينقل الغاز "الإسرائيلي" إلى أوروبا في المستقبل.

وبالعودة إلى السؤال فإن هناك مصالح لروسيا في شرق المتوسط ليس فقط بحكم وجودها العسكري في سوريا، بل أيضًا بسبب ما يجري العمل عليه من أميركا وأوروبا، من تمرير خطوط أنابيب غاز من شرق المتوسط باتجاه إيطاليا وبلغاريا لإضعاف اعتماد أوروبا شبه المطلق على الغاز الروسي, فأوروبا بحاجة لتنويع مصادر الطاقة حتى لا تبقى رهينة مصدر بعينه.
وتقف أميركا وأوروبا وإسرائيل بقوة وراء هذا الخط الذي لو تم إنجازه فإنه سوف يضعف الاعتماد على خطوط الإمداد الروسي لأوروبا بالطاقة، وبخاصة الخط الجنوبي والخط التركي. لكن تركيا اعترضت على هذا الخط؛ لأنه يمر من وسط "الوطن الأزرق" بموجب الاتفاقية البحرية مع ليبيا.
وقد عبر عن هذا الرفض بكل وضوح يوم 2 أيلول/سبتمبر الجاري نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي قائلًا بكل وضوح: "الاتفاقية التركية الليبية خط أحمر ولا يحق لأحد مراجعة ذلك وخاصة فرنسا". وفي التصريح رد مباشر على "الخطوط الحمر" التي وضعها إيمانويل ماكرون لتركيا بزعمه في شرق المتوسط.
وإدراكا من تركيا لهذه المصلحة الروسية الإستراتيجية، ورغبة منها في كسر التحالف الأوروبي الأميركي ضدها في شرق المتوسط، فإنه من غير المستبعد أن تستغل رغبة روسيا ومصلحتها ورقة رابحة للمساومة لتحقيق مصالح استراتيجية لها.
ولذلك عملت تركيا على إقحام روسيا في أزمة شرق المتوسط للحفاظ على مصالحها في مجال الطاقة في السوق الأوروبية، وتحقيقًا لمصلحة تركيا في جلب أوروبا إلى طاولة المفاوضات، وهي تملك أوراقًا قوية للتفاوض بالإضافة إلى قوتها العسكرية التي أثبتت فعاليتها مؤخرًا أمام الطائرات اليونانية والفرقاطات الفرنسية.
ومن المعلوم أن أميركا تحاول منع روسيا استكمال بناء خط "نوردستريم 2" تحت ذريعة أن هذا المشروع يهدد الأمن في أوروبا. فقد وقع دونالد ترمب يوم 21/12/2019 قانونًا يفرض عقوبات على أية شركة تساعد شركة غازبروم في استكمال مد هذا الخط الذي يمر تحت المياه والذي من شأنه أن يسمح لروسيا بزيادة صادراتها من الغاز إلى ألمانيا.
ومن الواضح أن هدف أميركا ومعها أوروبا هو العمل على منع روسيا من الاستمرار في تصدير الغاز نحو أوروبا، والاستعاضة عنه بغاز شرق المتوسط والغاز الأميركي. ولو نجحت أميركا في تحقيق ذلك فإنها سوف توجه ضربة جيوستراتيجية قوية إلى روسيا.
ومن هنا تأتي مصلحة روسيا في دعم الموقف التركي ليس فقط من أجل دق أسفين في الحلف الأطلسي، بل أيضا دفاعًا عن مصالحها الإستراتيجية في إبقاء أوروبا من أكبر المستوردين للغاز الروسي. وما يعنيه ذلك من التأثير في القرارات الأوروبية وعدم انصياعها الأعمى وراء السياسات الأميركية ذات العلاقة بروسيا ومصالحها.
إن المثير في هذه المناورات الروسية في شرق المتوسط هو أن الإعلان عنها جاء من تركيا وليس من روسيا. وفي هذا رسالة بالغة تريد تركيا وروسيا إيصالها، فتركيا تريد تأكيد سيادتها على هذه المناطق التي يجري فيها المسح الزلزالي، وسمحت فيها لروسيا بالتدريبات والمناورات بالذخيرة الحية. أما روسيا فإنها تريد إظهار اعترافها الضمني بسيادة تركيا على هذه المناطق بغض النظر عن الموقف اليوناني والأوروبي والأميركي.
وفي هذا الأمر رسالة بأن تركيا ليست وحدها أمام تصلب المواقف الأوروبية والأميركية. ويبدو أن هذه الرسالة قد وصلت بوضوح إلى زعماء أوروبا كما صرحت بذلك المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا.
فقد وصفت زاخاروفا بالاستفزاز ما نشرته بعض وسائل الإعلام الغربية بأن ما وُصف بتصرفات تركيا العدائية في شرق المتوسط مرتبطة بالدعم الروسي لأنقرة. وأضافت أن روسيا تدعو إلى حل المسائل الخلافية بين الدول عن طريق الحوار السياسي وبناء الثقة، والبحث عن الحلول التي تلائم جميع الأطراف والمبنية على قواعد القانون الدولي.
في الختام، قد تكون تركيا تناور بجلب روسيا إلى النزاع شرق المتوسط، بعد أن أعلنت أميركا رفع حظر السلاح عن قبرص، ولكن ليس للتحالف معها ضد أميركا، بل لتجنب تقديم تنازلات لروسيا في ليبيا وسوريا، وفي هذه الحالة تخدم روسيا وأميركا وتبتز أوروبا. فوجود روسيا في الأزمة يعمق الحاجة لحلف الناتو الذي يوشك أن يتصدع بسبب الخلاف اليوناني الفرنسي مع تركيا. وبالقدر الذي يعمق حاجة أوروبا للناتو فإن تصدع العلاقات داخل الحلف يقوض الحلف لصالح روسيا ويجلب لها تفاهمات أوسع مع تركيا.

17/محرم/1442هـ
5/9/2020م