Abu Taqi
14-07-2019, 01:37 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
الأخ الكريم..
هذا الموضوع اطرحه للنقاش .. لأهميته في فهم الحالة الراهنة للسياسة الدولية.
لعل الكتلة الأكثر تأثيرا في العالم والتي تكاد تنفرد بقيادة العالم هي كتلة اصحاب رؤوس المال في أميركا(البنوك والمؤسسات المالية). هذه الفئة يبدو أنها حسمت أمرها واختارت سياسةً الهيمنة العالمية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. واتبعت سياسات في فترة كلينتون وبوش مما أدى إلى أزمة 2008 الخطيره نتيجة تكاليفها المالية الهائلة (غزو أفغانستان والعراق). فجاء اوباما فاتبع سياسات مالية لإنقاذ المصارف لكن سياسته أدت لتفاقم الديون مما قوى من شبح الانهيار للاقتصاد بدل من ابعاده.
يبدو أن المجئ بترمب كان تعبيرا عن التغيير في هذا التوجه بعد أن استنفذ وراكب الديون وادى لهجرة الصناعات من أميركا.
السؤال: هل جاءت هذه المجموعة بترمب بسياسته الانكفائية متراجعة عن سياسة الهيمنة العالمية التي بدأت قبل اوباما؟ ام ترمب مجرد خطوة للخلف (التراجع عن سياسة أوباما) ولكن سياسة الهيمنة العالمية مستمرة لكنها تلتقط أنفاسها لإعادة ترتيب البيت الأميركي ومن ثم تنطلق بدفع جديد للهيمنة؟ وترمب قد يكون كبش الفداء لتبرير التراجع المذكور (مع ملاحظة احتمال أن ينجح ترمب فتصبح فتعتمد سياسته كاستراتيجة وليس كخطوة تكتيكية) وإشارات ذلك تتضح في احتدام الصراع الداخلي في أميركا بين ترمب والديمقراطيين.
الجواب: إن سياسة الهيمنة على العالم هي سياسة مستمرة من قبل الإدارة الأميركية، يقول نيوت غينغريتش الرئيس الأسبق لمجلس النواب الأميركي في مقال له كتبه حول إصلاح وزارة الخارجية قبل رئاسة ترمب بسنوات: ( فالولايات المتحدة بحاجة للتواصل مع العالم بشكل أكثر فاعلية من أجل قيادته , .... وبوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم, وأكبر اقتصاد في العالم, وصاحبة أكثر ثقافة مقدامة, فإنه لا مفر من أن تثير الولايات المتحدة اهتمام شعوب ودول أخرى ومصالحها, وأن تتدخل أيضا فيها, وعلى بلد بهذه القوة أن يعمل يوميًا من أجل أن ينقل للعالم ما يقوم به, ولا يتعين على العالم أن يحبنا, ولكن عليه أن يكون قادرًا على التكهن بما نقوم به). ويقول روبرت جيرفيس في مقاله المعنون بـ (الامبراطورية الملزمة)..." معظم البلدان تهتم بما يحدث في محيطها الجغرافي المباشر, غير أن العالم كله هو المحيط الجغرافي المباشر بالنسبة إلى القوة المهيمنة".
فالولايات المتحدة كانت وما تزال ترى أن العالم مزرعة ينبغي أن تديرها هي وتحصد إنتاجها لمصلحتها, وقد ثار جدل سياسي واسع داخل الوسط السياسي الأميركي بعد انهيار السوفييتي بخاصة لبناء السياسة الخارجية لأميركا إما بالسيطرة على العالم (القوة العسكرية) أو قيادة العالم, ولم تطرح خيارات العزلة أو الانكفاء أو غيرها.
ولذلك فإن مجيء ترمب إلى الحكم لا يعني أن أميركا قد تبنت سياسة "الانكفاء" بل كل ما حصل هو أنه مع مجيء ترمب حصل تغيير في أسلوب الهيمنة والسعي نحو التحكم بالموارد والثروات العالمية.
فتحت شعار "أميركا أولًا" نجح ترمب ومعه البنوك والمؤسسات المالية وباقي عناصر الدولة العميقة في وضع أساليب جديدة لابتزار العالم بدءًا من دول أوروبا الغربية عبر دعوتهم لرفع نسبة المساهمة المالية في حلف الناتو وانتهاءً بدول الخليج، وكل ذلك وفق قانون "الجباية مقابل الحماية" سواء بالنسبة لدول الخليج أو بالنسبة لدول أوروبا نفسها.
أما الصين فإن سياسة فرض الرسوم الجمركية ومحاصرة الشركات الصينية الكبرى مثل "هواوي" فماهي إلا إحدى تجليات سياسة الهيمنة الأميركية على العالم التي يظهر من أهدافها دفع الشركات الأميركية للعودة إلى البلاد برؤوس أموالها من أجل إضعاف الوضع الاقتصادي للصين وتشغيل مزيد من اليد العاملة الأميركية.
إن ما أقدم عليه ترمب من السير في سياسات "حمائية" في السياسة والاقتصاد قد يوحي للمتابع أن تغييرًا قد وقع على مستوى سياسة الهيمنة الأميركية ولكن الحقيقة أن هذه السياسة مستمرة ولكن بأساليب مختلفة عن سابقاتها من أساليب حكام أميركا قبله, فأساليب ترمب تبدو في ظاهرها أنها تقوم على سياسة "انكفائية" لأول وهلة , لكن الفهم العميق لمدلول شعار "أميركا أولًا" يبين حقيقة تلك الأساليب انها أساليب هجومية ترتكز على قاعدة سياسة "حافة الهاوية" في العلاقات الدولية وعلى عنصر "المباغتة" أو " الصدمة والمفاجأة" في التصريحات والقرارات.
ولإلقاء الضوء أكثر على سياسات ترمب فقد كان واضحًا منذ وصوله إلى الحكم في كانون ثاني/يناير 2017 أنه يسير في إدارة شؤون حكم أميركا وفق الأسلوب الآنف الذكر "الصدمة والمفاجأة"، وهو أسلوب يربك "الصديق" قبل "العدو". فالصورة التي رسمها ترمب لنفسه ومن ثم رسمها الإعلام الأميركي أنه حاكم غير تقليدي يباغت الجميع في اتخاذ القرارات وفي إصدار التصريحات، مرتكزًا في كل ذلك كله على قاعد (شعار) أن "أميركا أولا".
ورغم أن هذا الشعار الذي رفعه ترمب منذ حملته الانتخابية يظهر أميركا وهي تتصرف بمقتضى "الأنانية السياسية" في علاقاتها الخارجية، ولكنه في حقيقته يعكس مستوى التفكير المرحلي الذي وصلت إليه الدولة العميقة في أميركا بخصوص كيفية إدارة شؤون العالم. فأصحاب القرار في أميركا يرون في ترمب أنه الرجل المناسب الذي يجب عليه أن يحدث نقلة واسعة في قطف ثمار مجهودات حكام أميركا السابقين على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
فبعد انتهاء مرحلة "الربيع العربي" بإسقاط حكام الجمهوريات العربية وبعد نجاح "الثورات المضادة" في تحجيم دور ما يسمونه بـ"الإسلام السياسي"، وبعد أن تقلص الدور الوظيفي لتنظيم "داعش" في سوريا والعراق، جاء الوقت المناسب لتسريع إحداث التغييرات الكبرى على مستوى الشرق الأوسط والعالم بأسره على قاعدة "مصالح أميركا أولًا". ومن أهم هذه التغييرات التي يراد منها أن تحقق المصالح العليا لأميركا نجد ما يلي:
أولًا: على مستوى منطقة الشرق الأوسط
لا تخطئ العين عمل الإدارة الأميركية للسيطرة المباشرة على الثروات النفطية في المنطقة كما نرى ذلك في العراق مثلًا، والسيطرة على الأصول المالية لدول الخليج وابتزازها عبر صفقات مالية ضخمة لانعاش الاقتصاد الأميركي, ومطالبتها بتقديم المال مقابل حماية عروش حكامها, والبدء في إنشاء الكيانات السياسية الجديدة كما نرى ذلك مثلًا في السعي الأميركي الحثيث نحو تفتيت اليمن على الأقل إلى كيان شمالي برعاية إيران وكيان جنوبي برعاية الإمارات وتصفية القضية الفلسطينية عبر الترويج لـ"صفقة القرن" من خلال إنهاء ملف "اللاجئين" (بإيقاف "المساعدات المالية" عنهم) مثلا, وتسليم القدس كاملة إلى "إسرائيل" والترويج لدولة "غزة الكبرى".....الخ .
ثانيًا: بالنسبة لدول أوروبا وروسيا وباقي دول العالم
يلاحظ إحراج حلفائها من دول أوروبا وإرغامها على تحمل الأعباء المالية لحلف شمال الأطلسي، وهو المظلة الأمنية التي من خلالها تتحكم أميركا بأوروبا، وتجعل منها تابعًا للسياسات الأميركية في الدفاع والأمن والخارجية والعلاقات الدولية. وما الرسوم الجمركية التي فرضتها أميركا على أوروبا إلا وسيلة لابتزاز أوروبا ماليًّا على قاعدة "الجباية مقابل الحماية". وبخصوص روسيا والصين فإنها تضغط من أجل تقليص حدود نفوذهما الإقليمي وعدم السماح لهما بالتطلع إلى منازعة أميركا دوليًا ولو على المستوى الاقتصادي (الصين) أو الحضور العسكري (روسيا), فضلًا عن التحكم بطرق أنابيب النفط المحيطة بهذه الأخيرة ( روسيا) وما يعنيه ذلك من السعي للتحكم بمنابع الطاقة في آسيا الوسطى.
ولا يخفى كذلك عمل الإدارة الأميركية للسيطرة الكاملة على طرق المواصلات وبخاصة مخارج ومداخل المضايق والممرات المائية الدولية. وفي هذا السياق يجب أن نفهم الهجمة الإماراتية بالنيابة عن أميركا على موانئ اليمن (عدن) وجيبوتي وأريتريا والصومال وغيرها.
إنه من الواضح أن أصحاب القرار في أميركا قد وجدوا ضالتهم في دونالد ترمب لتحقيق هذه التغييرات والمصالح الكبرى لأميركا لأنه يجيد اتباع أساليب الاستعراض الدعائي وإرباك "الأصدقاء والحلفاء والأعداء" من خلال "التناقضات المدروسة" للتصريحات والقرارات والأعمال التي تقوم بها إدارته. فهذه "الفوضى" الظاهرة في السياسة الخارجية الأميركية والتناقض الواضح والمقصود الذي يبدو بين وزارة الخارجية مدعومة من الخلف بالمخابرات الأميركية وبين البيت الأبيض مدعومًا بوزراة الدفاع إنما الغرض منه هو تمرير السياسات الأميركية التي أشرنا إليها آنفًا في الوقت الذي ينشغل فيه العالم ببحث وفهم تلك "الفوضى المفتعلة" من قبل الحكومة الأميركية.
فمنذ مجيء دونالد ترمب للحكم وأميركا تتبع سياسية المباغتة في العلاقات الدولية، وهو ما شرحه ترمب بقوله "يجب أن نكون أمة غير قابلة للتنبؤ (unpredictability) بأفعالها". ومن أهم أدوات تحقيق هذه السياسة هو إظهار "الفوضى" في الأفعال والتصريحات مصحوبة بالتهديد والإيهام بالحرب أثناء المفاوضات. فهذه الأساليب تصيب الحلفاء والأعداء عن قصد بالإرباك والشلل في التعامل مع تصرفات الإدارة الأميركية؛ لأنها تلقي ضبابًا كثيفًا وغموضًا كبيرًا حول النوايا الحقيقية لصناع القرار في أميركا.
أما احتمال التضحية بترامب وتقديمة كبش فداء فهو احتمال وارد, ولكن بعد استكمال تحقيق ما جيء بإدارة ترمب لأجله.
10/ذي القعدة/1440هـ
14/7/2019م
جواب سؤال
الأخ الكريم..
هذا الموضوع اطرحه للنقاش .. لأهميته في فهم الحالة الراهنة للسياسة الدولية.
لعل الكتلة الأكثر تأثيرا في العالم والتي تكاد تنفرد بقيادة العالم هي كتلة اصحاب رؤوس المال في أميركا(البنوك والمؤسسات المالية). هذه الفئة يبدو أنها حسمت أمرها واختارت سياسةً الهيمنة العالمية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. واتبعت سياسات في فترة كلينتون وبوش مما أدى إلى أزمة 2008 الخطيره نتيجة تكاليفها المالية الهائلة (غزو أفغانستان والعراق). فجاء اوباما فاتبع سياسات مالية لإنقاذ المصارف لكن سياسته أدت لتفاقم الديون مما قوى من شبح الانهيار للاقتصاد بدل من ابعاده.
يبدو أن المجئ بترمب كان تعبيرا عن التغيير في هذا التوجه بعد أن استنفذ وراكب الديون وادى لهجرة الصناعات من أميركا.
السؤال: هل جاءت هذه المجموعة بترمب بسياسته الانكفائية متراجعة عن سياسة الهيمنة العالمية التي بدأت قبل اوباما؟ ام ترمب مجرد خطوة للخلف (التراجع عن سياسة أوباما) ولكن سياسة الهيمنة العالمية مستمرة لكنها تلتقط أنفاسها لإعادة ترتيب البيت الأميركي ومن ثم تنطلق بدفع جديد للهيمنة؟ وترمب قد يكون كبش الفداء لتبرير التراجع المذكور (مع ملاحظة احتمال أن ينجح ترمب فتصبح فتعتمد سياسته كاستراتيجة وليس كخطوة تكتيكية) وإشارات ذلك تتضح في احتدام الصراع الداخلي في أميركا بين ترمب والديمقراطيين.
الجواب: إن سياسة الهيمنة على العالم هي سياسة مستمرة من قبل الإدارة الأميركية، يقول نيوت غينغريتش الرئيس الأسبق لمجلس النواب الأميركي في مقال له كتبه حول إصلاح وزارة الخارجية قبل رئاسة ترمب بسنوات: ( فالولايات المتحدة بحاجة للتواصل مع العالم بشكل أكثر فاعلية من أجل قيادته , .... وبوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم, وأكبر اقتصاد في العالم, وصاحبة أكثر ثقافة مقدامة, فإنه لا مفر من أن تثير الولايات المتحدة اهتمام شعوب ودول أخرى ومصالحها, وأن تتدخل أيضا فيها, وعلى بلد بهذه القوة أن يعمل يوميًا من أجل أن ينقل للعالم ما يقوم به, ولا يتعين على العالم أن يحبنا, ولكن عليه أن يكون قادرًا على التكهن بما نقوم به). ويقول روبرت جيرفيس في مقاله المعنون بـ (الامبراطورية الملزمة)..." معظم البلدان تهتم بما يحدث في محيطها الجغرافي المباشر, غير أن العالم كله هو المحيط الجغرافي المباشر بالنسبة إلى القوة المهيمنة".
فالولايات المتحدة كانت وما تزال ترى أن العالم مزرعة ينبغي أن تديرها هي وتحصد إنتاجها لمصلحتها, وقد ثار جدل سياسي واسع داخل الوسط السياسي الأميركي بعد انهيار السوفييتي بخاصة لبناء السياسة الخارجية لأميركا إما بالسيطرة على العالم (القوة العسكرية) أو قيادة العالم, ولم تطرح خيارات العزلة أو الانكفاء أو غيرها.
ولذلك فإن مجيء ترمب إلى الحكم لا يعني أن أميركا قد تبنت سياسة "الانكفاء" بل كل ما حصل هو أنه مع مجيء ترمب حصل تغيير في أسلوب الهيمنة والسعي نحو التحكم بالموارد والثروات العالمية.
فتحت شعار "أميركا أولًا" نجح ترمب ومعه البنوك والمؤسسات المالية وباقي عناصر الدولة العميقة في وضع أساليب جديدة لابتزار العالم بدءًا من دول أوروبا الغربية عبر دعوتهم لرفع نسبة المساهمة المالية في حلف الناتو وانتهاءً بدول الخليج، وكل ذلك وفق قانون "الجباية مقابل الحماية" سواء بالنسبة لدول الخليج أو بالنسبة لدول أوروبا نفسها.
أما الصين فإن سياسة فرض الرسوم الجمركية ومحاصرة الشركات الصينية الكبرى مثل "هواوي" فماهي إلا إحدى تجليات سياسة الهيمنة الأميركية على العالم التي يظهر من أهدافها دفع الشركات الأميركية للعودة إلى البلاد برؤوس أموالها من أجل إضعاف الوضع الاقتصادي للصين وتشغيل مزيد من اليد العاملة الأميركية.
إن ما أقدم عليه ترمب من السير في سياسات "حمائية" في السياسة والاقتصاد قد يوحي للمتابع أن تغييرًا قد وقع على مستوى سياسة الهيمنة الأميركية ولكن الحقيقة أن هذه السياسة مستمرة ولكن بأساليب مختلفة عن سابقاتها من أساليب حكام أميركا قبله, فأساليب ترمب تبدو في ظاهرها أنها تقوم على سياسة "انكفائية" لأول وهلة , لكن الفهم العميق لمدلول شعار "أميركا أولًا" يبين حقيقة تلك الأساليب انها أساليب هجومية ترتكز على قاعدة سياسة "حافة الهاوية" في العلاقات الدولية وعلى عنصر "المباغتة" أو " الصدمة والمفاجأة" في التصريحات والقرارات.
ولإلقاء الضوء أكثر على سياسات ترمب فقد كان واضحًا منذ وصوله إلى الحكم في كانون ثاني/يناير 2017 أنه يسير في إدارة شؤون حكم أميركا وفق الأسلوب الآنف الذكر "الصدمة والمفاجأة"، وهو أسلوب يربك "الصديق" قبل "العدو". فالصورة التي رسمها ترمب لنفسه ومن ثم رسمها الإعلام الأميركي أنه حاكم غير تقليدي يباغت الجميع في اتخاذ القرارات وفي إصدار التصريحات، مرتكزًا في كل ذلك كله على قاعد (شعار) أن "أميركا أولا".
ورغم أن هذا الشعار الذي رفعه ترمب منذ حملته الانتخابية يظهر أميركا وهي تتصرف بمقتضى "الأنانية السياسية" في علاقاتها الخارجية، ولكنه في حقيقته يعكس مستوى التفكير المرحلي الذي وصلت إليه الدولة العميقة في أميركا بخصوص كيفية إدارة شؤون العالم. فأصحاب القرار في أميركا يرون في ترمب أنه الرجل المناسب الذي يجب عليه أن يحدث نقلة واسعة في قطف ثمار مجهودات حكام أميركا السابقين على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
فبعد انتهاء مرحلة "الربيع العربي" بإسقاط حكام الجمهوريات العربية وبعد نجاح "الثورات المضادة" في تحجيم دور ما يسمونه بـ"الإسلام السياسي"، وبعد أن تقلص الدور الوظيفي لتنظيم "داعش" في سوريا والعراق، جاء الوقت المناسب لتسريع إحداث التغييرات الكبرى على مستوى الشرق الأوسط والعالم بأسره على قاعدة "مصالح أميركا أولًا". ومن أهم هذه التغييرات التي يراد منها أن تحقق المصالح العليا لأميركا نجد ما يلي:
أولًا: على مستوى منطقة الشرق الأوسط
لا تخطئ العين عمل الإدارة الأميركية للسيطرة المباشرة على الثروات النفطية في المنطقة كما نرى ذلك في العراق مثلًا، والسيطرة على الأصول المالية لدول الخليج وابتزازها عبر صفقات مالية ضخمة لانعاش الاقتصاد الأميركي, ومطالبتها بتقديم المال مقابل حماية عروش حكامها, والبدء في إنشاء الكيانات السياسية الجديدة كما نرى ذلك مثلًا في السعي الأميركي الحثيث نحو تفتيت اليمن على الأقل إلى كيان شمالي برعاية إيران وكيان جنوبي برعاية الإمارات وتصفية القضية الفلسطينية عبر الترويج لـ"صفقة القرن" من خلال إنهاء ملف "اللاجئين" (بإيقاف "المساعدات المالية" عنهم) مثلا, وتسليم القدس كاملة إلى "إسرائيل" والترويج لدولة "غزة الكبرى".....الخ .
ثانيًا: بالنسبة لدول أوروبا وروسيا وباقي دول العالم
يلاحظ إحراج حلفائها من دول أوروبا وإرغامها على تحمل الأعباء المالية لحلف شمال الأطلسي، وهو المظلة الأمنية التي من خلالها تتحكم أميركا بأوروبا، وتجعل منها تابعًا للسياسات الأميركية في الدفاع والأمن والخارجية والعلاقات الدولية. وما الرسوم الجمركية التي فرضتها أميركا على أوروبا إلا وسيلة لابتزاز أوروبا ماليًّا على قاعدة "الجباية مقابل الحماية". وبخصوص روسيا والصين فإنها تضغط من أجل تقليص حدود نفوذهما الإقليمي وعدم السماح لهما بالتطلع إلى منازعة أميركا دوليًا ولو على المستوى الاقتصادي (الصين) أو الحضور العسكري (روسيا), فضلًا عن التحكم بطرق أنابيب النفط المحيطة بهذه الأخيرة ( روسيا) وما يعنيه ذلك من السعي للتحكم بمنابع الطاقة في آسيا الوسطى.
ولا يخفى كذلك عمل الإدارة الأميركية للسيطرة الكاملة على طرق المواصلات وبخاصة مخارج ومداخل المضايق والممرات المائية الدولية. وفي هذا السياق يجب أن نفهم الهجمة الإماراتية بالنيابة عن أميركا على موانئ اليمن (عدن) وجيبوتي وأريتريا والصومال وغيرها.
إنه من الواضح أن أصحاب القرار في أميركا قد وجدوا ضالتهم في دونالد ترمب لتحقيق هذه التغييرات والمصالح الكبرى لأميركا لأنه يجيد اتباع أساليب الاستعراض الدعائي وإرباك "الأصدقاء والحلفاء والأعداء" من خلال "التناقضات المدروسة" للتصريحات والقرارات والأعمال التي تقوم بها إدارته. فهذه "الفوضى" الظاهرة في السياسة الخارجية الأميركية والتناقض الواضح والمقصود الذي يبدو بين وزارة الخارجية مدعومة من الخلف بالمخابرات الأميركية وبين البيت الأبيض مدعومًا بوزراة الدفاع إنما الغرض منه هو تمرير السياسات الأميركية التي أشرنا إليها آنفًا في الوقت الذي ينشغل فيه العالم ببحث وفهم تلك "الفوضى المفتعلة" من قبل الحكومة الأميركية.
فمنذ مجيء دونالد ترمب للحكم وأميركا تتبع سياسية المباغتة في العلاقات الدولية، وهو ما شرحه ترمب بقوله "يجب أن نكون أمة غير قابلة للتنبؤ (unpredictability) بأفعالها". ومن أهم أدوات تحقيق هذه السياسة هو إظهار "الفوضى" في الأفعال والتصريحات مصحوبة بالتهديد والإيهام بالحرب أثناء المفاوضات. فهذه الأساليب تصيب الحلفاء والأعداء عن قصد بالإرباك والشلل في التعامل مع تصرفات الإدارة الأميركية؛ لأنها تلقي ضبابًا كثيفًا وغموضًا كبيرًا حول النوايا الحقيقية لصناع القرار في أميركا.
أما احتمال التضحية بترامب وتقديمة كبش فداء فهو احتمال وارد, ولكن بعد استكمال تحقيق ما جيء بإدارة ترمب لأجله.
10/ذي القعدة/1440هـ
14/7/2019م