المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول الحرب التجارية بين الصين وأميركا وأوروبا



Abu Taqi
13-06-2019, 04:06 PM
يسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
الحرب التجارية بين الصين وأميركا وأوروبا

انطلقت شرارة الحرب التجارية الأميركية على العالم منذ وصول دونالد ترمب إلى الحكم ورفعه لشعار "أميركا أولًا". ويبدو أن الدولة العميقة الحاكمة في أميركا قد قررت أن الوقت قد حان لمعالجة العجز التجاري الذي يبلغ أكثر من نصف تريليون دولار سنويًا مع دول العالم، رغم أن الولايات المتحدة هي أضخم اقتصاد على وجه الأرض.
من هنا أشعل ترامب فتيل حرب تجارية مع دول عديدة كانت الصين في مقدمتها لأن العجز التجاري الأميركي معها وصل الى أكثر من 375 مليار دولار في سنة 2018م، وأخذت الحرب الجديدة شكل إجراءات حمائية وفرض رسوم جمركية بمليارات الدولارات على مستوردات وسلع أميركية هامة مثل الصلب والألومنيوم والسيارات.
لقد باتت أميركا تنظر إلى الصين باعتبارها خطرًا اقتصاديًا يهدد استمرار الهيمنة الأميركية على العالم بسبب ما تتمتع به الصين من معدلات نمو مرتفعة، فقوتها الاقتصادية جعلتها صاحبة ثاني أكبر اقتصاد عالمي، بقيمة 12 تريليون دولار، بعد الولايات المتحدة التي يبلغ اقتصادها 19 ترليون دولار.
ومنذ إطلاق الصين لمبادرة "الحزام والطريق" عام 2013 أصبح نفوذها في الاقتصاد العالمي في حالة تصاعد وتمدد، وهو ما جعلها تعد الوجهة الثالثة للاستثمار الأجنبي المباشر وتملك أكبر احتياطيات عالمية من النقد الأجنبي تفوق 3 ترليون دولار.
لقد أنفقت الصين على مبادرة الحزام والطريق 300 مليار دولار، وهي ستنفق ترليون دولار على هذا المشروع في السنوات العشر القادمة من خلال إعادة تأهيل البنى التحتية في عدد من الدول التي يمر عبرها الطريق، سواء كان ذلك عبر الاستثمار المباشر أو من خلال القروض.
لقد مكن هذا المشروع الصينيين، عبر ربط بلادهم بآسيا وأوروبا وإفريقيا، من الاستحواذ على عدد من الموانئ والمطارات في بعض الدول. وهذا الأمر أشعل حرب طرق وموانئ بينهم وبين عدد من الدول مثل الهند واليابان. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد دفعت الإمارات لخوض هذه الحرب نيابة عنها.
ورغم أن مبادرة الحزام والطريق تأخذ شكلًا اقتصاديًا لكن أميركا تصورها باعتبارها مشروعًا للهيمنة السياسية فضلًا عن الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية. وما أزمة شركة هواوي إلا خير دليل على مخاوف أميركا من سيطرة الصين على البنى التحتية لاتصالات الجيل الخامس، وما يعنيه ذلك من وضع نظام المعلومات والتقنية الرقمية تحت مراقبة الصين.
على أن أميركا تعتبر أطماع الصين في بحر الصين الجنوبي والتي تحيط به دول تجمع (آسيان) من أعمال الهيمنة وفرض النفوذ، حيث تطمع الصين بأكثر من نصف المياه الدولية فيه وبنت جزرًا اصطناعية للاستحواذ على الثروات المتوقعة في أعماقه، وسبق لأميركا أن أرسلت سفنًا حربية إليه بحجة ضمان حرية الملاحة وهي تقصد خلق مشاكل للصين فيه.
وترى أميركا أن الصين تستعمل سلاح تخفيض قيمة اليوان الذي يساعدها على زيادة التنافس السعري للصادرات الصينية على حساب الصادرات الأميركية. وتعتبر سياسة تخفيض اليوان التي تقوم بها الصين من أكثر الوسائل التي تمكنها من تعزيز تجارتها الخارجية وتشجيع الاستهلاك المحلي عندها.
ومما تعيبه أميركا على الصين أيضًا هو أن هذه الأخيرة لا تلتزم بمعايير حماية الملكية الفكرية ولا تتخذ أية إجراءات جنائية وعقوبات زجرية إزاء تزوير العلامات التجارية أو قرصنة حقوق النسخ التجاري. ولكن الصين ترفض البحث في موضوع تقليد المنتجات الغربية وبخاصة الأميركية لما في ذلك من فوائد جمة على اقتصادها وبخاصة ما يتعلق منها بتوفير مواطن الشغل وزيادة الصادرات.
هذه هي أهم الأبعاد الاستراتيجية للحرب التجارية الأميركية على الصين. أما الأبعاد الاقتصادية الآنية لهذه الحرب فإن البيانات الرسمية تشير إلى مواصلة عجز الميزان التجاري الأميركي تصاعده خلال عام 2018، إذ بلغت قيمته 621 مليار دولار منها 375 مليار دولار فقط مع الصين. أما الدين العام الأميركي فتجاوز حدود 22 تريليون دولار.
وبناءً على ما تقدم فإن أميركا تريد إخضاع الصين وإجبارها على الرضوخ للمطالب والشروط الأميركية فيما يتعلق بالتجارة البينية والدولية، والتي يأتي في مقدمتها تخفيض الهوة في الميزان التجاري بين البلدين، ورفع قيمة اليوان إلى مستواه الحقيقي، وعدم انتهاك حقوق الملكية الفكرية للشركات الأجنبية العاملة في الصين.
ومن أجل الوصول إلى أهدافها السابقة في حربها التجارية مع الصين تعمل أميركا على توريط حلفائها في أوروبا وآسيا للدخول بأزمات مفتعلة مع بيجين وذلك من أجل قطع الطريق على أي تقارب محتمل بين الصين وحلفاء الولايات المتحدة.
لكن سياسة ترامب الانفرادية والإجراءات الحمائية التي اتخذها في الفترة الماضية، مثل الانسحاب الأحادي من اتفاقية باريس للمناخ وإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض رسوم جمركية على العديد من واردات حلفاء أميركا قد أحدثت شرخًا كبيرًا في علاقة أميركا بدول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا وكوريا الجنوبية واليابان.
وقد اعتمدت الإدارة الأميركية في هذه السياسة على تغويل التنين الصيني وتضخيم المخاوف الغربية من قضايا التجسس التي تنسب إليه في سعيه لبسط نفوذه وفرض هيمنته الدولية، عبر شركة هواوي مثلًا، الأمر الذي أفرز حالة من الشعور لدى هذه الدول بضرورة تجاوز الخلافات مع الولايات المتحدة والوقوف معًا ضد ما يعتبرونه "تهديدًا للأمن الدولي".
ومع ذلك فإن بعض الدول الأوروبية لم تستجب كليًا لهذه السياسة الأميركية ولا لمخاوف أهم دول الاتحاد الأوروبي بعد أن نجحت الصين في ضم إيطاليا لمبادرة "طريق الحرير الجديدة" أثناء جولة الرئيس الصيني شي جين بينج في أوروبا خلال الفترة بين 21 حتى 26 آذار/مارس 2019 شملت إيطاليا وموناكو وفرنسا. فقد وقعت إيطاليا اتفاقات تتضمن استثمارات صينية في مرفأي جنوى وترييستي، رغم انتقادات قادة أوروبا للحكومة الإيطالية.
أما بالنسبة للصين فإن جذب الاتحاد الأوروبي نحوها عبر الاتفاقات الثنائية يعد عاملًا أساسيًا في حربها التجارية مع أميركا التي تتجه في طريق مسدود بسبب سياستها الحمائية ليس فقط مع الصين بل حتى مع شركائها في أوروبا. وإن ما أقدمت عليه إيطاليا سوف يكون مشجعًا لبريطانيا أن تقوم بنفس الشيء بعد خروجها الرسمي من الاتحاد.
إن حجم التجارة البينية بين الصين وأوروبا قد تضاعف 250 مرة حتى وصل إلى معدل 680 مليار دولار سنويًا في العام 2018. ومن الواضح أنه بدخول بريطانيا بقوة في هذا التبادل التجاري بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي سوف يرفع هذا الرقم إلى مستويات أكبر رغم كل محاولات أميركا المستميتة في محاصرة بريطانيا باتفاق تجاري كما ظهر ذلك في زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى لندن.
ورغم تحذيرات منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي وشركات دولية كبرى من خطر الحرب التجارية الأميركية على الاقتصاد العالمي فيما يتعلق بمعدل النمو ومناخ الاستثمار وأسواق المال والبورصات ومعدلات البطالة وأرباح الشركات، لكن يبدو أن الولايات المتحدة لا تبالي بذلك كثيرًا وهي مصرة على المضي قدمًا في صناعة مناخ من الخوف يمكنها من فرض شروطها على اقتصادات الدول المنافسة لها. من خلال فرض الرسوم الجمركية والعقوبات الاقتصادية من أجل بقاء أميركا متحكمة في السياسة الاقتصادية العالمية ضاربة عرض الحائط بالقوانين والمواثيق الدولية التي وضعتها بنفسها في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي.
إن البلطجة الأميركية على العالم ليست فقط في مجال السياسة والحرب بل هي ممتدة في مجالي التجارة والمال. وإن عجز الشركات الأميركية عن المنافسة الشريفة مع بقية الشركات العالمية هو الذي دفع الحكومة الأميركية إلى التنمر على الدول. ولم تجد الحكومة الأميركية أفضل من اتهام الصين بأنها تستخدم شركة هواوي في التجسس على الشبكات والتقنيات الإلكترونية الأميركية مع أن الحقيقة أن هذه الشركة قد كسرت الاحتكار الأميركي لتكنولوجيا الاتصالات في نسب البيع والاختراعات.
وحتى تخفي أميركا هذا الأمر غلفته بعبارة "تهديد الأمن القومي"، ثم قامت وزارة المالية الأميركية بوضع شركة هواوي الصينية ضمن "القائمة السوداء" بعد إعلان هذه الأخيرة عن تطوير تقنيات الجيل الخامس للاتصال الإلكتروني، ثم أمرت الحكومة الأميركية شركة غوغل بوقف خدمات نظام الأندرويد، لهواتف هواوي الجديدة.
وهكذا أضافت أميركا في حربها التجارية على الصين تهمة التجسس في مجال تقنية البنية التحتية لصناعة المعلومات والاتصالات. فقد دأبت أميركا على اتهام الصين بأن صناعتها تقليد للماركات العالمية دون الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية، وأن سعر اليوان أمام العملات الأخرى هو أقل بكثير من قيمته الحقيقة. وهذان الأمران هما من أهم أدوات الصين في ارتفاع صادراتها على حساب صادرات دول أميركا وأوروبا.
أن أميركا تتبع في هذه الحرب التجارية سياستها الجديدة المعتمَدة في مجالي السياسة والحرب، وهي سياسة حافة الهاوية. وحقيقة هذه السياسة هي الإيحاء للخصم أو العدو أو حتى الحليف بأن كل الخيارات ممكنة ومفتوحة بما في ذلك "الدمار الشامل". أما الغاية من وراء ذلك فهو فرض جلوسه على طاولة المفاوضات مع أميركا لتملي عليه شروطها وهو مرعوب ومسلوب من ارادة المقاومة وأوراق التفاوض.
إن الرعب من أميركا، والاستسلام لها، سيزيد من غطرستها، وتحكمها في دول العالم، والوقوف في وجه غطرستها بشجاعة ودهاء واستعداد تام للتضحية ونبذ للفرقة سيحد من اندفاعها لإخضاع كل من يقف في طريقها، وبخاصة وهي تعمل على مواجهة أعدائها أو من يقفون في وجه مصالحها متفرقين يرتعدون من إمكانية بطهشها بهم دون رحمة.
وما فعلته وتفعله أميركا في بلاد المسلمين خير شاهد على سياسات أميركا، التي استسلم لها عبيد السياسة من الحكام والزعماء الذين خانوا أمتهم بدل أن يجعلوها سندًا لهم متسلحة بعقيدتها الجبارة والقادرة على هزيمة جبابرة الأرض ، فضلًا عن مواردها الاقتصادية الهائلة التي يمكن استثمارها بقوة في وجه جشع وهيمنة أعدائها.

10/شوال/1440هـ
13/6/2019