المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعات سياسية حول الصراع أميركا وروسيا



Abu Taqi
15-04-2018, 10:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعات سياسية
هل هناك صراع دولي بين أميركا وروسيا
مثلت حادثة تسميم الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته يوم 4/3/2018 شرارة الأزمة الدبلوماسية مؤخرًا بين روسيا وكل من عموم دول أوروبا والحلف الأطلسي وعلى رأسها أميركا وبريطانيا.
إنه لا يمكن فهم ردة الفعل القوية من جانب بريطانيا وأميركا وبقية دول أوروبا التي تخوض حربًا تجارية مع أميركا إلا من خلال فهم أن روسيا تمثل بالنسبة لأميركا خطرًا استراتيجيًا سواء بسبب امتلاكها للسلاح النووي وعقيدتها الجديدة المتعلقة بحقها في الرد الفوري على استعمال هذا السلاح ضدها أو فيما يتعلق بعرقلة روسيا لمشاريع أميركا في آسيا الوسطى ومنعها من السيطرة على النفط وطرق المواصلات، بالإضافة إلى العلاقات الاستراتيجية بين روسيا والصين والدعم الروسي لتركيا وإيران باعتبارهما أهم بوابتين (البحر الأسود وبحر قزوين) للعبور نحو مناطق نفوذ روسيا الاتحادية.
إن طرد الدبلوماسيين وإغلاق القنصليات الروسية الذي قامت به كثير من دول أوروبا قد جاء بتوجيه من أميركا التي أرادت أن تمارس الضغط والمحاصرة على روسيا باعتبارها العامل الثاني الذي يؤثر سلبًا على تقدم المشاريع الأميركية في المنطقة الإسلامية. ورغم العلاقات الشخصية ظاهريًّا بين ترمب وبوتين فإن روسيا وهي من أكبر المساندين لتركيا في تمردها على أميركا والحلف الأطلسي، تقلق بأفعالها تلك التحركات الأميركية على الأرض في سوريا أو في أفغانستان أو في أوكرانيا والقرم وغيرها من مناطق التي يتواجد فيها النفوذ الروسي.
ومن هنا فإن قضية الجاسوس الروسي لا تتعلق بمحاولة قتل اتهمت فيها روسيا بل تتعلق بإعادة صياغة العلاقة الغربية مع روسيا في الإطار الذي يخدم مصالح أميركا باعتبارها المسؤول الأول عن وضع السياسات الأمنية والعسكرية لأوروبا. ولعل أول المطالب الأميركية من روسيا عبر قضية الجاسوس الروسي هي فك ارتباطها التكتيكي مع تركيا والخضوع للشروط الغربية في عدد من الملفات الإقليمية والدولية.
ومما يؤكد أن عملية تسميم الجاسوس الروسي وابنته هي عملية مفتعلة من قبل بريطانيا وسيدتها أميركا هو أن الوقائع والتوقيت يؤكدان أن روسيا ليس بوارد أن تقوم بهذه العملية التي سوف تشوش عليها قبل أيام فقط من انطلاق الانتخابات الروسية وقبل أشهر قليلة من انطلاق فعاليات كأس العام لكرة القدم، وفوق ذلك فإن روسيا قد سبق وأن قامت بعملية تبادل في حق هذا الجاسوس الروسي وكان أولى بها أن تتخلص منه قبل أن تسلمه لبريطانيا لو كان يمثل خطورة كبيرة على أمنها القومي.
ولذلك فالراجح أن عملية تسميم الجاسوس الروسي وابنته قد قامت بها المخابرات البريطانية أو مثيلتها الأميركية، أو هي عملية مشتركة بينهما من أجل تحقيق الأهداف التي أشرنا إليها سابقًا، وأهمها بناء موقف عداء غربي ضد روسيا يجبرها على الخضوع للشروط الأميركية في العلاقات الدولية والإقليمية. ومما يؤكد أن أميركا أو بريطانيا غير مستبعدتين من القيام بهذه العملية أن روسيا ليست الوحيدة التي تملك غاز الأعصاب الذي استعمل في العملية، وهو غاز نوفيتشوك (Novichok).
فبريطانيا مثلًا تملك هذا الغاز في أحد معاملها بمنطقة بورتن داون (Porton Down) التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن مكان حادثة تسميم الجاسوس الروسي في منطقة سالسبوري (Salisbury) .
ومما يؤكد كذلك أن عملية تسميم سكريبال هي عملية مصطنعة من بريطانيا وبدعم من أميركا وبقية الحلفاء هو ردة الفعل المبالغ فيها من قبل أوروبا وأميركا (طرد عشرات الدبلوماسيين الروس وغلق القنصليات الروسية) بشكل لم يحصل حتى في أكثر أيام الصراع بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي بعد الحرب العالمية الثانية. وفوق ذلك فإن المتحدثة باسم الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هايلي لم تكتفِ فقط بذكر مسألة التسميم كأحد الأسباب في طرد الدبلوماسيين الروس بل أضافت إلى ذلك أسبابًا أخرى منها السلوك الروسي في سوريا وأوكرانيا ونشاط الاستخبارات الروسية في أميركا.
إن أهم ما يقلق أميركا وحلفاءها الغربيين من روسيا أن هذه الأخيرة تقوم بدور الظهير لتركيا والداعم لها في توجهاتها الاستقلالية وسياساتها المتعلقة بالتخلص من وصاية الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ويعتبر هذا الموقف الروسي خطرًا استراتيجيًّا على الغرب سواء من ناحية وحدة حلف شمال الأطلسي وفاعليته الوظيفية في العالم أو من ناحية تحول تركيا إلى نموذج لدول أخرى تريد الخروج من نظام الوصاية الغربية.
إن روسيا تتعرض فعلًا إلى تهديد صريح من قبل أميركا وحلفائها، وما التوتر المتصاعد الذي نشهده هذه الأيام وما تبعه من أزمة دبلوماسية وفرض مزيد من العقوبات على روسيا سوى مقدمات لازمة لتنفيذ مخططات غربية ضد روسيا، أهمها السعي نحو تمزيق الأراضي الروسية والسيطرة على مواردها ومحاصرتها بحزام أمني تابع للحلف الأطلسي يتم من خلاله قطع علاقتها بآسيا الوسطى ومنعها من إنشاء خطوط أنابيب نفط بعيدة عن مناطق نفوذ الغرب مثل خط "السيل التركي" الذي وجد من أجل تلافي مرورو الغاز الروسي بأوكرانيا.
ولكن من الواضح أن حكام الكرملين يدركون اللعبة الغربية جيدًا، وهذا هو السبب وراء تحول فلاديمير بوتين من الدفاع إلى الهجوم وحديثه في خطابه يوم 1/3/2018 عن حق روسيا في "الرد فورًا على استخدام السلاح النووي ضدها أو ضد حلفائها، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب".
والمدقق يرى أنه لا يوجد صراع دولي بين روسيا وأميركا حول الموقف الدولي، كما لا توجد إرادة عند روسيا لإزاحة أميركا عن موقعها المتفرد في صنع القرار الدولي، فهذا أمر لا قبل لروسيا به وهو ليس في مخططاتها الحالية أو مخططاتها في المدى المنظور. وكل ما هناك أن روسيا تتعاون مع أميركا في بعض الملفات المرتبطة بمصالحها ولا تؤثر على أمنها القومي المباشر والبعيد، مثلما نرى ذلك بوضوح في سوريا أو العراق أو ليبيا أو مصر. وهو تعاون يحقق لروسيا مصالح مالية وعسكرية وسياسية في الوقت الذي يدفع قليلًا بالأجندة الأميركية نحو التنفيذ.
أما مواقع الخلاف التي نراها بين أميركا وروسيا فمنها ما هو مفتعل مثل الخلاف حول بقاء بشار الأسد في الحكم أو حول محاربة المعارضة السورية حول دمشق، ومنها ما هو حقيقي مثل حق الأكراد في دولة مستقلة وكذلك السيطرة على مواقع النفط أو حدود مناطق النفوذ في سوريا، وهو السبب وراء سقوط آليات روسية أو قصف مواقع روسية أو سورية من قبل أميركا وعملائها في سوريا. أما بقية القضايا في المناطق القريبة من روسيا مثل آسيا الوسطى (أفغانستان مثلًا) أو البلطيق (أزمة أوكرانيا وضم القرم) فإن الخلاف هناك حقيقي لأنه متعلق بوجود روسيا نفسها وبضمان أمنها القومي. أما العلاقة التركية الروسية فهي كذلك من نقاط الخلاف الحقيقية بين روسيا وأميركا بسبب خشية هذه الأخيرة من أن يتسبب ذلك في شق الحلف الأطلسي وإنهاء دوره في تحقيق المصالح الأمنية لأميركا.
ولذلك فإن التوترات الملحوظة بين أميركا وروسيا من وقت وآخر هي فعلًا بين توترات مصطنعة وأخرى حقيقية، ولكن التوترات الحقيقية يتم تجاوزها في معظم الأحيان بمساومات حول قضايا عالقة بين الطرفين.

28/رجب/1439هـ
15/4/2018م