Abu Taqi
04-01-2018, 07:10 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
الاحتجاجات في إيران
منذ أسبوع والعديد من المدن الإيرانية وبخاصة في طهران وفي مدن الأطراف مثل مشهد وكرمنشاه ونيسابور تشهد مظاهرات احتجاجية ضد الأوضاع المعيشية الصعبة مثل الفقر المدقع والبطالة (3.5 مليون عاطل تقريبًا) وغلاء الأسعار والتضخم وزيادة الضرائب. ولعل ما يميز هذه المظاهرات أنها رفعت سقف شعاراتها من المطالب الاقتصادية إلى رفض سياسات إيران الإقليمية في سوريا ولبنان وغزة.
إن الشعارات التي رفعها المتظاهرون كانت في بدايتها تقول "الموت للدكتاتور" و"الموت لروحاني" في إشارة إلى المرشد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني الذي فشل في تحقيق وعوده الانتخابية بالقضاء على البطالة والفقر في بلد يعد ثاني أكبر مصدر للنفط بعد السعودية وثاني مصدر للغاز بعد روسيا.
ليس هذا فحسب بل إن الأموال المجمدة التي استردتها الحكومة الإيرانية جراء الاتفاق النووي لم يُرَ لها أثر في توفير فرص عمل للعاطلين عن العمل، أو في تحسين مستوى المعيشة للفقراء، أو في الاستثمار داخل مشاريع الصحة والبنية التحتية في بلد يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر حيث يظهر أنها أنفقت لتمويل تدخلات إيران الإقليمية.
واستغلت المعارضة الإيرانية المسيسة في الداخل والخارج هذه الأحداث وشاركت في المظاهرات بقوة.
وهنا ترد بعض التساؤلات: هل لأميركا يد في هذه الاحتجاجات؟ وهل ستستمر هذه المظاهرات وتأخذ شكل "انتفاضة شعبية" تسقط النظام الحالي أو تغيره؟ هل إيران مقدمة على ربيع أميركي؟
لقد أظهرت أميركا دعمها العلني للمظاهرات منذ انطلاقها عبر تصريحات صدرت من وزارة الخارجية الأميركية أعربت فيها عن "إدانتها بشدة لاعتقال السلطات الإيرانية للمتظاهرين السلميين". أما البيت الأبيض فقد صدر عن الرئيس ترامب يوم 28/12/2017 تغريدة جاء فيها أن "تقارير عديدة تتحدث عن الاحتجاجات السلمية للمواطنين الإيرانيين الذين ضاقوا ذرعًا بفساد النظام وإهداره ثروات البلاد لتمويل الإرهاب في الخارج. على الحكومة الإيرانية احترام حقوق شعبها التي من بينها الحق في التعبير. العالم يراقب"، وفي تغريدة أخرى بتاريخ 31/12/2017 ذكر ترامب أن " ثروة إيران تسرق. حان وقت التغيير".
إن الدعم الأميركي لهذه المظاهرات لا يقف عند حدود الدعم السياسي والإعلامي بل يتجاوزه إلى أبعد من ذلك بمقتضى استراتيجية أميركا الجديدة تجاه إيران. وتتمثل هذه الاستراتيجية في دعم الحراك الشعبي لإيصاله إلى مرحلة إعادة صياغة النظام من خلال الاعتماد على القوى الداخلية المطالبة بالتغيير. وهذا هو ما صرَّح به وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في كلمة له أمام الكونغرس يوم 15 حزيران/يونيو الماضي، حيث قال: "إن سياسة أميركا تجاه إيران ترتكز على دعم القوى الداخلية من أجل إيجاد تغيير سلمي للسلطة في هذا البلد".
ولعل في تعيين الاستخبارات المركزية الأميركية أبرز مسؤوليها وهو مايكل دي أندريا، الملقب بـ"آية الله مايك" مسؤولًا عن الملف الإيراني، يعني أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بات يميل نحو سياسة إعادة صياغة النظام في إيران بالتركيز على الجهود الاستخباراتية واللوجستية اللازمة للتعاون مع معارضي الداخل والخارج.
إن هذه المظاهرات لن تستمر إلا إذا تحولت إلى قوة جماهيرية منظمة تحمل مطالب سياسية واضحة تتبناها قوى سياسية في الداخل وتكون مدعومة بأحد أذرع القوى العسكرية أو الأمنية في جهاز الدولة. ومن ثم يكون هدف هذه القوى السياسية هو تأسيس جمهورية إيرانية جديدة أو على الأقل تحويل ولاية الفقيه إلى منصب روحي وإعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الدولة.
وإنه مع وجود مؤشرات تدعم هذا الاحتمال من مثل انتشار الاحتجاج إلى كثير من المدن الإيرانية، والحديث عن انشقاقات صغيرة في الجيش وقوى الباسيج، فإنه لا توجد حتى الآن أية جهة سياسية أو عسكرية قادرة على السير في هذا الخيار وجاهزة لاستلام الحكم أو السير في عملية قيادة التغيير في النظام.
والراجح أن يقوم النظام بتبني حزمة إصلاحات جديدة استجابة منه للتحركات الشعبية لشق صف هذه المظاهرات ومنع قوى المعارضة السياسية من تحويلها إلى انتفاضة سياسية يسهل توجيهها إلى ما تريده أميركا. ولكن بالتوازي مع هذه الحزمة الترقيعية تقوم آلة النظام الأمنية والعسكرية بقمع قادة هذه المظاهرات وبحملة اعتقالات واسعة تشل حركة الاحتجاجات أو تحد من تأثيرها وتوسعها.
وفي إطار هذا الخيار الثاني استعمل النظام الإيراني ورقة "التدخل الأجنبي" و"التآمر الأميركي" ضد إيران كأحد الوسائل لتشويه مطالب الحركة الاحتجاجية والحيلولة دون أن يتركز تحولها إلى مطالب سياسية مرتبطة بأجندات خارجية.
وإذا استثنينا حركة مجاهدي خلق وبعض أنصار الملكية فإنه إلى حد الآن لم تقم أية جهة سياسية داخلية بتبني هذه التحركات بشكل واضح، وهذا ما يعطي فرصة للنظام للتفريق بين المطالب الاقتصادية والمطالب السياسية ذات العلاقة بتغيير النظام أو إعادة إنتاجه.
وزيادة على تصدي النظام لهذه المظاهرات عبر قوات الباسيج والشرطة فإنه قام كذلك بإنزال مظاهرات مؤيدة له في الشارع كانت أولاها في 30/12/2017 حيث رفع المتظاهرون شعارات منددة بأميركا وإسرائيل ومؤكدة على اللحمة الوطنية في مواجهة التدخل الأجنبي في شؤون البلاد. وكان واضحًا من نزول تلك المظاهرات المؤيدة للنظام أن هذا الأخير يخشى أن تنفلت الأمور ويظن عموم الناس في إيران أن ما يحصل من قبل المعارضة هو بداية "ثورة شعبية" عارمة شبيهة بتلك التي حصلت عام 1979.
إن تخطيط أميركا ورغبتها في إحداث تغيير في النظام في إيران أو إدخال "إصلاحات" عليه لن يتحقق ما لم يكن لها قدرة على تحريك أو تحييد أحد القطاعات العسكرية القادرة على قلب موازين الولاء للنظام الحالي ومن ثم دعم هذه التحركات الشعبية، وبالإضافة إلى ذلك التواصل مع جهات سياسية معلومة داخل النظام أو خارجه تكون متجاوبة مع المطالب الأميركية ولكنها سوف تبدو وكأنها تعبر عن تطلعات الشعب في التغيير.
ولكن إذا نجح نظام الملالي في إبقاء ميزان القوة العسكري في صالحهم من خلال ولاء الجيش والحرس الثوري وبقية القوى الأمنية، وبالإضافة إلى ذلك إذا نجح النظام في الاستجابة السريعة إلى المطالب الاقتصادية ثم نجح في فصل هذه المطالب عن الأجندات السياسية لأحزاب المعارضة (أنصار الملكية ومجاهدي خلق)، فإن النتيجة هي فشل أميركا في إعادة إنتاج النظام الإيراني الحالي.
وبناءً على ما تقدم فالراجح حتى هذه المرحلة أن لا تصل حركة الاحتجاجات والمظاهرات (حتى ولو انضم إليها إقليم أذربيجان) إلى مرحلة إحداث تغييرات جذرية في النظام، ما لم تكن وراءها جهة داخلية تستطيع قيادة الشارع لعصيان مدني يشل حركة البلاد أو جزءًا مهمًّا منها، أو تملك القوة العسكرية أو الأمنية مع الدعم الخارجي من المخابرات الأميركية كما حصل ذلك في انقلاب الخميني على الشاه.
إن الدرس المستفاد من هذه المظاهرات الجارية في إيران أنه رغم دعم النظام الإيراني (ومنذ وصول الخميني إلى الحكم عام 1979) لأغلب مخططات أميركا في دول المنطقة منذ احتلال أفغانستان والعراق وصولًا إلى احتلال سوريا، فإن ذلك لم يمنع أميركا وأجهزتها الاستخبارية من السعي إلى إعادة صياغته وإنتاجه وتحجيمه ليكون أشد طاعة، وأقل تفلتًا في تنفيذ ما تتطلبه السياسة الخارجية الأميركية داخل إيران والإقليم.
فبعد الاستقرار النسبي للأوضاع في العراق وسوريا وبعد أن نقلت أميركا تنظيم (داعش) من البلاد العربية إلى أفغانستان وآسيا الوسطى للضغط على روسيا والصين، يبدو أنه قد آن الأوان لإحداث تغييرات في النظام الحاكم في طهران؛ ليتمكن بتركيبته الجديدة من السير في مشاريع داخلية، مثل تخفيض صلاحيات نظام الملالي، والفدرالية، ومشاريع إقليمية، مثل كردستان الكبرى، والتطبيع مع إسرائيل، والامتثال الكامل للإرادة الأميركية في العلاقة مع روسيا وتركيا، حيث يعتبر ذلك كله من مقتضيات تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يُراد له أن يبقي هيمنة أميركا على المنطقة لهذا القرن.
على أن هز حالة الاستقرار النسبي في داخل إيران، يعطي ساسة إيران ذرائع لتعديل بعض تدخلاتهم في الإقليم، حيث باتت حكومة طهران في حالة حرج واضح بعد أن وصلت تدخلاتها في بعض المناطق إلى حد يتعارض مع مقتضيات سياسة أميركا التي سبق أن مهدت لها الطريق ودفعتها للتدخل. ففي سوريا بات وجود المليشيات الإيرانية أو المدعومة من إيران يتعارض مع التسوية السياسية التي يقترب منها الملف السوري، وبخاصة بعد إقرار مناطق لخفض التوتر، وتعارض اقتراب الجيش السوري ومليشيات إيران والمليشيات المدعومة منها من مناطق تواجد قوات سوريا الديموقراطية مع رغبة أميركا في إنشاء الإقليم الكردي، ولذلك قد تجد طهران ذريعة لتخفيف تدخلها أو إنهائه حسب ما سيؤول إليه الوضع الداخلي، وكذلك ما يتعلق بتدخلاتها في اليمن بعد إثارة قضية صاروخي الرياض، وفي لبنان بعد استقالة الحريري.
وختاما فبعد أن بات جليًّا كالشمس في رابعة النهار تخلي أميركا عن عملائها أو استبدال غيرهم بهم دون أخذها في الحسبان خدماتهم الطويلة لها، وذلك بعد الاستغناء عن خدماتهم، أو بعد تعارض بقائهم مع مصالحها فهل يتعظ أولئك الحكام الذين يسيرون في ركاب الكافر العلماني أنهم يسيرون وراء الشيطان نفسه الذي قال فيه الله تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّـهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}.
16/ربيع الآخر/1439هـ
3/ 1/ 2018 م
متابعة سياسية
الاحتجاجات في إيران
منذ أسبوع والعديد من المدن الإيرانية وبخاصة في طهران وفي مدن الأطراف مثل مشهد وكرمنشاه ونيسابور تشهد مظاهرات احتجاجية ضد الأوضاع المعيشية الصعبة مثل الفقر المدقع والبطالة (3.5 مليون عاطل تقريبًا) وغلاء الأسعار والتضخم وزيادة الضرائب. ولعل ما يميز هذه المظاهرات أنها رفعت سقف شعاراتها من المطالب الاقتصادية إلى رفض سياسات إيران الإقليمية في سوريا ولبنان وغزة.
إن الشعارات التي رفعها المتظاهرون كانت في بدايتها تقول "الموت للدكتاتور" و"الموت لروحاني" في إشارة إلى المرشد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني الذي فشل في تحقيق وعوده الانتخابية بالقضاء على البطالة والفقر في بلد يعد ثاني أكبر مصدر للنفط بعد السعودية وثاني مصدر للغاز بعد روسيا.
ليس هذا فحسب بل إن الأموال المجمدة التي استردتها الحكومة الإيرانية جراء الاتفاق النووي لم يُرَ لها أثر في توفير فرص عمل للعاطلين عن العمل، أو في تحسين مستوى المعيشة للفقراء، أو في الاستثمار داخل مشاريع الصحة والبنية التحتية في بلد يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر حيث يظهر أنها أنفقت لتمويل تدخلات إيران الإقليمية.
واستغلت المعارضة الإيرانية المسيسة في الداخل والخارج هذه الأحداث وشاركت في المظاهرات بقوة.
وهنا ترد بعض التساؤلات: هل لأميركا يد في هذه الاحتجاجات؟ وهل ستستمر هذه المظاهرات وتأخذ شكل "انتفاضة شعبية" تسقط النظام الحالي أو تغيره؟ هل إيران مقدمة على ربيع أميركي؟
لقد أظهرت أميركا دعمها العلني للمظاهرات منذ انطلاقها عبر تصريحات صدرت من وزارة الخارجية الأميركية أعربت فيها عن "إدانتها بشدة لاعتقال السلطات الإيرانية للمتظاهرين السلميين". أما البيت الأبيض فقد صدر عن الرئيس ترامب يوم 28/12/2017 تغريدة جاء فيها أن "تقارير عديدة تتحدث عن الاحتجاجات السلمية للمواطنين الإيرانيين الذين ضاقوا ذرعًا بفساد النظام وإهداره ثروات البلاد لتمويل الإرهاب في الخارج. على الحكومة الإيرانية احترام حقوق شعبها التي من بينها الحق في التعبير. العالم يراقب"، وفي تغريدة أخرى بتاريخ 31/12/2017 ذكر ترامب أن " ثروة إيران تسرق. حان وقت التغيير".
إن الدعم الأميركي لهذه المظاهرات لا يقف عند حدود الدعم السياسي والإعلامي بل يتجاوزه إلى أبعد من ذلك بمقتضى استراتيجية أميركا الجديدة تجاه إيران. وتتمثل هذه الاستراتيجية في دعم الحراك الشعبي لإيصاله إلى مرحلة إعادة صياغة النظام من خلال الاعتماد على القوى الداخلية المطالبة بالتغيير. وهذا هو ما صرَّح به وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في كلمة له أمام الكونغرس يوم 15 حزيران/يونيو الماضي، حيث قال: "إن سياسة أميركا تجاه إيران ترتكز على دعم القوى الداخلية من أجل إيجاد تغيير سلمي للسلطة في هذا البلد".
ولعل في تعيين الاستخبارات المركزية الأميركية أبرز مسؤوليها وهو مايكل دي أندريا، الملقب بـ"آية الله مايك" مسؤولًا عن الملف الإيراني، يعني أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب بات يميل نحو سياسة إعادة صياغة النظام في إيران بالتركيز على الجهود الاستخباراتية واللوجستية اللازمة للتعاون مع معارضي الداخل والخارج.
إن هذه المظاهرات لن تستمر إلا إذا تحولت إلى قوة جماهيرية منظمة تحمل مطالب سياسية واضحة تتبناها قوى سياسية في الداخل وتكون مدعومة بأحد أذرع القوى العسكرية أو الأمنية في جهاز الدولة. ومن ثم يكون هدف هذه القوى السياسية هو تأسيس جمهورية إيرانية جديدة أو على الأقل تحويل ولاية الفقيه إلى منصب روحي وإعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الدولة.
وإنه مع وجود مؤشرات تدعم هذا الاحتمال من مثل انتشار الاحتجاج إلى كثير من المدن الإيرانية، والحديث عن انشقاقات صغيرة في الجيش وقوى الباسيج، فإنه لا توجد حتى الآن أية جهة سياسية أو عسكرية قادرة على السير في هذا الخيار وجاهزة لاستلام الحكم أو السير في عملية قيادة التغيير في النظام.
والراجح أن يقوم النظام بتبني حزمة إصلاحات جديدة استجابة منه للتحركات الشعبية لشق صف هذه المظاهرات ومنع قوى المعارضة السياسية من تحويلها إلى انتفاضة سياسية يسهل توجيهها إلى ما تريده أميركا. ولكن بالتوازي مع هذه الحزمة الترقيعية تقوم آلة النظام الأمنية والعسكرية بقمع قادة هذه المظاهرات وبحملة اعتقالات واسعة تشل حركة الاحتجاجات أو تحد من تأثيرها وتوسعها.
وفي إطار هذا الخيار الثاني استعمل النظام الإيراني ورقة "التدخل الأجنبي" و"التآمر الأميركي" ضد إيران كأحد الوسائل لتشويه مطالب الحركة الاحتجاجية والحيلولة دون أن يتركز تحولها إلى مطالب سياسية مرتبطة بأجندات خارجية.
وإذا استثنينا حركة مجاهدي خلق وبعض أنصار الملكية فإنه إلى حد الآن لم تقم أية جهة سياسية داخلية بتبني هذه التحركات بشكل واضح، وهذا ما يعطي فرصة للنظام للتفريق بين المطالب الاقتصادية والمطالب السياسية ذات العلاقة بتغيير النظام أو إعادة إنتاجه.
وزيادة على تصدي النظام لهذه المظاهرات عبر قوات الباسيج والشرطة فإنه قام كذلك بإنزال مظاهرات مؤيدة له في الشارع كانت أولاها في 30/12/2017 حيث رفع المتظاهرون شعارات منددة بأميركا وإسرائيل ومؤكدة على اللحمة الوطنية في مواجهة التدخل الأجنبي في شؤون البلاد. وكان واضحًا من نزول تلك المظاهرات المؤيدة للنظام أن هذا الأخير يخشى أن تنفلت الأمور ويظن عموم الناس في إيران أن ما يحصل من قبل المعارضة هو بداية "ثورة شعبية" عارمة شبيهة بتلك التي حصلت عام 1979.
إن تخطيط أميركا ورغبتها في إحداث تغيير في النظام في إيران أو إدخال "إصلاحات" عليه لن يتحقق ما لم يكن لها قدرة على تحريك أو تحييد أحد القطاعات العسكرية القادرة على قلب موازين الولاء للنظام الحالي ومن ثم دعم هذه التحركات الشعبية، وبالإضافة إلى ذلك التواصل مع جهات سياسية معلومة داخل النظام أو خارجه تكون متجاوبة مع المطالب الأميركية ولكنها سوف تبدو وكأنها تعبر عن تطلعات الشعب في التغيير.
ولكن إذا نجح نظام الملالي في إبقاء ميزان القوة العسكري في صالحهم من خلال ولاء الجيش والحرس الثوري وبقية القوى الأمنية، وبالإضافة إلى ذلك إذا نجح النظام في الاستجابة السريعة إلى المطالب الاقتصادية ثم نجح في فصل هذه المطالب عن الأجندات السياسية لأحزاب المعارضة (أنصار الملكية ومجاهدي خلق)، فإن النتيجة هي فشل أميركا في إعادة إنتاج النظام الإيراني الحالي.
وبناءً على ما تقدم فالراجح حتى هذه المرحلة أن لا تصل حركة الاحتجاجات والمظاهرات (حتى ولو انضم إليها إقليم أذربيجان) إلى مرحلة إحداث تغييرات جذرية في النظام، ما لم تكن وراءها جهة داخلية تستطيع قيادة الشارع لعصيان مدني يشل حركة البلاد أو جزءًا مهمًّا منها، أو تملك القوة العسكرية أو الأمنية مع الدعم الخارجي من المخابرات الأميركية كما حصل ذلك في انقلاب الخميني على الشاه.
إن الدرس المستفاد من هذه المظاهرات الجارية في إيران أنه رغم دعم النظام الإيراني (ومنذ وصول الخميني إلى الحكم عام 1979) لأغلب مخططات أميركا في دول المنطقة منذ احتلال أفغانستان والعراق وصولًا إلى احتلال سوريا، فإن ذلك لم يمنع أميركا وأجهزتها الاستخبارية من السعي إلى إعادة صياغته وإنتاجه وتحجيمه ليكون أشد طاعة، وأقل تفلتًا في تنفيذ ما تتطلبه السياسة الخارجية الأميركية داخل إيران والإقليم.
فبعد الاستقرار النسبي للأوضاع في العراق وسوريا وبعد أن نقلت أميركا تنظيم (داعش) من البلاد العربية إلى أفغانستان وآسيا الوسطى للضغط على روسيا والصين، يبدو أنه قد آن الأوان لإحداث تغييرات في النظام الحاكم في طهران؛ ليتمكن بتركيبته الجديدة من السير في مشاريع داخلية، مثل تخفيض صلاحيات نظام الملالي، والفدرالية، ومشاريع إقليمية، مثل كردستان الكبرى، والتطبيع مع إسرائيل، والامتثال الكامل للإرادة الأميركية في العلاقة مع روسيا وتركيا، حيث يعتبر ذلك كله من مقتضيات تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يُراد له أن يبقي هيمنة أميركا على المنطقة لهذا القرن.
على أن هز حالة الاستقرار النسبي في داخل إيران، يعطي ساسة إيران ذرائع لتعديل بعض تدخلاتهم في الإقليم، حيث باتت حكومة طهران في حالة حرج واضح بعد أن وصلت تدخلاتها في بعض المناطق إلى حد يتعارض مع مقتضيات سياسة أميركا التي سبق أن مهدت لها الطريق ودفعتها للتدخل. ففي سوريا بات وجود المليشيات الإيرانية أو المدعومة من إيران يتعارض مع التسوية السياسية التي يقترب منها الملف السوري، وبخاصة بعد إقرار مناطق لخفض التوتر، وتعارض اقتراب الجيش السوري ومليشيات إيران والمليشيات المدعومة منها من مناطق تواجد قوات سوريا الديموقراطية مع رغبة أميركا في إنشاء الإقليم الكردي، ولذلك قد تجد طهران ذريعة لتخفيف تدخلها أو إنهائه حسب ما سيؤول إليه الوضع الداخلي، وكذلك ما يتعلق بتدخلاتها في اليمن بعد إثارة قضية صاروخي الرياض، وفي لبنان بعد استقالة الحريري.
وختاما فبعد أن بات جليًّا كالشمس في رابعة النهار تخلي أميركا عن عملائها أو استبدال غيرهم بهم دون أخذها في الحسبان خدماتهم الطويلة لها، وذلك بعد الاستغناء عن خدماتهم، أو بعد تعارض بقائهم مع مصالحها فهل يتعظ أولئك الحكام الذين يسيرون في ركاب الكافر العلماني أنهم يسيرون وراء الشيطان نفسه الذي قال فيه الله تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّـهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}.
16/ربيع الآخر/1439هـ
3/ 1/ 2018 م