المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب قديم بعنوان القرن الخامس عشر عصر النهضة



عمر1
17-02-2017, 02:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

قديما كانت الأمة الإسلامية تحكمها قوانين الإسلام، وكانت تسيّر حياتها ومواقفها بحسب ما أنزل الله تعالى. ولذلك اعتبرت الأمة رسالتها في الحياة نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وذلك بإزالة الحواجز المادية التي تحول دون ذلك. وجاء أمر الله تعالى لأمة الإسلام بالجهاد لتطبيق شرع الله في الأرض (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )).(1). وهبّت الأمة الإسلامية لا يشغلها شاغل عن محاربة أعداء الله حتى تعلي كلمة الحق ـ كلمة الإسلام ـ ولو في أقصى العالم. عندها خاض عقبة بن نافع الأطلسي وقال: ( يا رب لو لا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدا في سبيلك ).(2). وعندها بلغ المسلمون الصين وفرنسا في مائة سنة. وعندها علت مكانتهم بين الأمم فكانوا أعظم دولة في العالم لأكثر من ألف سنة.

وأما اليوم فقد انحطت أمتنا الإسلامية، وانخفض معها سلوكنا، واضمحلّ تفكيرنا حتى صرنا نرى في وضح النهار، الحق باطلا، والباطل هو الحق. وللأسف خضعنا لأفكار الكفر تغزونا وتعمل فينا هدما وتفريقا حتى هدمنا بأيدينا منارة عزّنا وسرّ حياتنا ومنبع كرامتنا، دولة الإسلام، حاميتنا وحاملة رايتنا. ولا زلنا نخضع لحكم الغرب حتى بعقولنا، ننشد الحياة في الغرب، ونتطلع إلى دولته قبلة أنظارنا، فمن قاتل يقول: أن الإسلام قد انتهى عهده إلى غير رجعة، وأن الأمم الراقية اليوم هي التي تسير وراء الحضارة الغربية، أو وراء العلمانية، والقومية. ومن قائل يقول: أننا يجب أن نشعر كما يشعر الأوروبي، ونحكم كما يحكم الأوروبي، ونعمل كما يعمل الأوروبي، ونصرّف الحياة كما يصرّفها أو قائل يدعو إلى ترك الإسلام وأمته ويتبنّى الشيوعية ويعتبرها مصدر فخر واعتزاز.. وهكذا..

حتى بلغ بنا الانحطاط درجة صرنا معها أن استعمار دول الغرب لنا وتحكمه في أراضينا، يمتص دماءنا ويسلب خيراتنا، ويذيقنا ألوان الهوان والذلّ طعنا وتفريقا، صرنا نرى فيه غاية الـمُنَى. وكيف لا ؟ ونحن نتمنّى أن نكون في حِمَى الغرب المتقدّم، وأن ندور معه حيث دار ولو تسلّط علينا وأعمل فينا حكم الكفر، واقتطع من بلادنا أعزّها وقدّمها لقمة سائغة لألدّ أعدائنا: اليهود، شذّاذ الأفاق ! ثم تجدنا نسعى إلى دول الشرق والغرب مستنجدين طالبين منهم أن يحلّوا لنا مشاكلنا التي صنعوها بأيديهم مكرا بنا وإذلالا لعزتنا، كي يتمكّنوا من العودة إليها ولا سيما بعد أن رأوا فيها بشائر نهضة ومعالم صحوة. نفعل ذلك كله مع أن أمر الله واضح لكل ذي عينين (( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنتصرون )) (3).

وبعد أن كنّا نرى احتلال الكفار لنا عارا يلطّخ جبيننا ويلزم الموت دونه، وذلك استجابة لأمر الله تعالى: (( وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلوكم.. )) (4) (( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم.. )) (5). فاستجبنا لأمر الله تعالى. وهببنا للزود عن أحكام الإسلام وراية الإسلام وبلاد الإسلام، ورأينا كل ما عدا ذلك من العيش الرغيد رخيصا دون الإبقاء على دولة الإسلام ورايته. ولذلك رددنا الصليبيين على أعقابهم إذ جاؤونا غازين، وتصدّينا للمغول وقلبنا هم من كفار إلى مجاهدين في سبيل الله.

وأما اليوم، فقد صرنا نرى أن الاستعمار يقرّبنا من الغرب، وصرنا نرى في الغرب قبلة أنظارنا ومدار تفكيرنا وجلّ احترامنا وتقديرنا، حتى صرنا نتمنّى أن تأتي قوى الغرب على ضراوتها لحمايتنا وحلّ مشاكلنا، مع علمنا بأنّ الغرب هو الذي صنع لنا هذه المشاكل فأوجد لنا الحروب المحلية الداخلية كحرب لنبان، وأوجد لنا النزاعات على الحدود، وزرع اليهود شوكة في قلب فلسطين، وأوجد المنظمات الفدائية لتركيز هذه الدولة المسخ كي تقبل بها شعوب المنطقة على المدى الطويل، وبعد إدخال اليأس إلى النفوس من عدم جدوى الصراع مع إسرائيل. ومكّن النصارى من الاستيلاء على عذراء ماليزيا ( الفلبيين ) ومن العمل على تنصير المسلمين في آسيا وأفريقيا.. وهكذا أَغْرَقَنَا بالمشاكل وتَظَاهر بالعمل على حلّها كي يُحكِِم علينا الطوق ويُجْهِز على هذه الأمة الإجهاز الأخير.

وقد غفلنا أو غاب عنّا تحذير الله لنا من الوقوع في حبائل الكفار: (( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين )) (6). (( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّوكم بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق )) (7). ولكن بالرغم من كل ما جرى، فإن هذه الأمة لهم تمت بعد وظنّ الغرب في أوائل هذا القرن أنها قد انتهت وقضي عليها، ولكن خاب فأله لما رأي الإسلام قد عاد يتحرك في النفوس ويحرّكها لإيجاده في مكان الصدارة بين الشعوب والأمم، ولا سيما بعدما أدرك المسلمون أن سبيل نهضتهم الوحيد هو في الإسلام، وفي استئناف حياتهم الإسلامية من جديد عن طريق إعادة دولة الإسلام إلى الوجود الدولي مرة أخرى.

ونحن اليوم ندرك يقينا أن الغرب إذا استطاع أن يغلبنا في وقت ضعفنا، فلم يكن ذلك راجعا إلى قوته، بل كان لانحطاط تفكيرنا وجهلنا، وعدم فهمنا لأفكار الإسلام. فاستطاع الغرب أن يضلّلنا ويغزونا بفكره ومن ثم بقواته. وأننا وقد أدركنا أن بعودتنا إلى الإسلام وأفكار الإسلام تكمن عزّتنا ويكمن تحريرنا من ربقة الاستعمار، فإن الأمل بحصول النهضة في كافة مجالات الحياة ابتداء من الارتفاع الفكري على أساس الإسلامي، و مرورا بالانقلاب التشريعي، وانتهاء بالنهضة التقنية والصناعية في مجال الصناعات الثقيلة، بما في ذلك صناعة الأسلحة. هذا الأمل قد بات وشيكا، وليس مستحيل الوقوع كما يظن بعد السطحيين السذّج من أبناء هذه الأمة، والله من وراء هذه الأمة، ولن يضيعها أو يتركها هكذا لقمة سائغة للكفار ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).

المؤلف

عمر1
17-02-2017, 02:25 PM
نهضة الأمة الإسلامية

إن نهضة الجماعة من الناس تظهر في استقلال قرارها وتكافلها ووحدة رأيها ورسالتها إلى غيرها من الأمم، إلى غير ما هنالك من القيم. لكننا نجد الأمة الإسلامية اليوم، ويا للأسف على هذا الواقع من فقدان للانتماء والعزّة والكرامة، وتدخّل للأعداء في شؤونها الداخلية، وارتهانها لدول الكفر، إلى غير ما هنالك من مظاهر التخلّف. وإذا كان هذا الواقع كبوة لهذه الأمة العظيمة، فما هو السبيل للنهوض من كبوتها ؟.

انطلاقة الإسلام الأولى:

قبل أن نبيّن كيفية نهضة الأمة الإسلامية اليوم، وهي تعاني الأمرّين من جراء المواجهة التاريخية مع أعدائها من اليهود والنصارى الذين تحالفوا في جميع أنحاء الأرض، لأجل العمل على كبح جماع الإسلام العظيم. لا بدّ أن نبيّن كيف نهضت الشعوب التي دانت للإسلام قديما، وكيف استطاع الإسلام أن يجعل منها أعظم وأقوى أمة على الإطلاق. فالكلّ يعلم أن العرب قبل الإسلام كانوا قبائل متناحرة، وشراذم متفرّقين في الصحراء، يغزو بعضهم بعضا ويعتدون على حرمات بعضهم، ولم تكن الشعوب الأخرى من الأعاجم قاطبة بأحسن حالا من الشعب العربي، فقد كانت الحروب تدور رحاها بين الإمبراطوريتين القويتين: فارس والروم، وكانت الشعوب تئنّ من وطأة هذه الحرب الطويلة المدى، فكانت تسترقّ وتمتهن كرامتها، وكان الظلم والفساد مستشريين وينذران بسقوط حضارة هاتين الدولتين، وكان بعض أهل الكتاب كبني يهود يسامون أشدّ العذاب ويُقتّلون ويُذبّحون ولكنهم كانوا يأملون بمجيء النبي المنتظر، الذي حّثتهم عنه التوراة.

وفي المجتمع الجاهلي خاصة، في مكة وسائر جزيرة العرب، كان الانحطاط باديا في كلّ ناحية من نواحي الحياة، فكانت عبادة الأصنام وعبادة الكواكب وتقديم النذور والقرابين للأصنام، وكانت مظاهر الشرك منتشرة في كل مكان حتى لقد بلغت الأصنام التي تعبدها العرب نحوا من ثلاثمائة وستين صنما، وكان الإيمان بالخرافات والأساطير سائدا بين الناس وكثيرا ما يلجأون إلى الكهّان والمنجّمين لاستطلاع الغيب ومعرفة الطالع من قبلهم وعن طريقهم. وكان الزنى والبغاء رائجا حتى كان الرّهط ما دون العشرة يدخلون على المرأة فيصيبون منها، فإذا ما حملت ووضعت أرسلت إليهم وألحقت الولد بأحدهم، وكان البغايا خاصة ينصبن على أبوابهنّ رايات تكون علما عليهنّ. وكانت المرأة تباع، وتورث كما يورث المتاع حتى أن الولد كان يرث زوجة أبيه، وكانت توأد وهي وليدة. إذ كان الرجل الضعيف كثيرا ما كان يخشى الفقر فيقتل ولده أو يَئد ابنته خوف الفقر والعار. وكان العبيد والإماء الذي كانوا يكثرون في كلّ مكان، تمتهن كرامتهم بصور شتى ومختلفة، وكانت الحياة الاقتصادية تقوم على كاهلهم، فهم الذين يحلبون النوق والأغنام، ويزرعون ويقودون قطعان الماشية، ويخدمون في القوافل التجارية، وتوكل إليهم الـمِهن التي يأنف المجتمع منها كالحدادة ونحوها.

فهذا المجتمع المنحط كان بأشد الحاجة إلى نبي يأخذ بيده نحو الخير ويهديه السبيل، كما كان العالم كله بحاجة إلى رسول يعيده إلى جادة الحق، وينير له الطريق كي ينهض من كبوة الجاهلية التي لفّته لفّا وأغرقته في الملذّات والشهوات، وفي الركض وراء المنافع والمطامع، ولم يكن هناك من مخلص للبشر إلاَّ في السير وراء رسالة سماوية، تبصرهم بالحقائق وتضع لهم المعالجات لما كانوا يتخبطون فيه من حياة شقية في ظل الشرائع القديمة، وفي ظلّ الديانات السماوية التي حرّفت وغيّرت وبدّلت. وكانت الرسالة الجديدة تقتضي أن تكون عامة للبشر ناسخة لما قبلها من الشرائع والأديان. وهذا ما كان برسالة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. فقد أرسل الله نبيه عليه الصلاة والسلام برسالة الإسلام ليقوم بهذه المهمة التاريخية الضخمة في تغيير حياة البشرية جمعاء، والنهوض بها إلى مستوى راق يليق بالإنسان (( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهّر، والرّجز فاهجر )) المدثر 1ـ 5. (( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. )) الأحزاب: 45 ـ 46. وأمره الله بحمل الدعوة بالطريق الفكري والسياسي أولا، حتى إذا حقّق النجاح لدعوته في الوصول إلى الحكم في المدينة، أمره حينئذ بحمل الدعوة بالطريق العسكري، قال تعالى: (( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم )) التحريم: 9. فاستطاع بعد تسع سنين قضاها في الحكم، أن يحوّل العرب إلى أمة إسلامية موحّدة، حين جاءته القبائل في السنة التاسعة من الهجرة تعلن إسلامها وتدخل في دين الله أفواجا.

وقد نهضت أمة الإسلام على هذا الأساس، فاتخذت من الإسلام نظاما تطبقه فيما بينما، وتدعو غيرها من الأمم إلى تطبيقه. فمضت حاملة رسالة الإسلام إلى العالم لا يوقفها شيء عن الجهاد في سبيل الله حتى يعمّ الإسلام الدنيا. ففتحت الشام والعراق و مصر وإفريقية وفارس والسند والهند وبلاد الترك والأندلس، وبلغ المسلمون الصين شرقا، وفرنسا غربا، وتوغّلوا في بلاد الغولغا شمالا، في دولة إسلامية واحدة.


كبوات وهزّات:

بعد سلسلة من الانتصارات التي حقّقها المسلمون في آسيا وأفريقيا، وبعد أن دانت لهم الأرض وملّكهم الله إيّاها، وجعل لهم السيادة والحكم والسلطان فيها، وبعد أن نعمت الأمة بعهود طويلة من الرّخاء والازدهار استمرت نحو ستّة قرون، تشاغلت الأمة بالدنيا، وقعدت عن الجهاد، وحصرت همّها بأمور المعاش من تجارة وعلوم وفلسفة وفنون وما إلى ذلك، وانحطت همّتها، عن حمل رسالة الإسلام، مما سهّل على الأعداء أن ينالوا منها. فحصلت كبوات عديدة لها، غير أنها سرعان ما استفاقت منها. فقد جاءت الحملات الصليبية، فتوغّلت جيوش في بلاد الشام ومصر، مستغلة تفرّق المسلمين فيها إلى دويلات متناحرة. لكن الأمة سرعان ما انتفضت من سباتها، ونفضت عنها غبار الذل، فطردت الصليبيين على أعقابهم وحرّرت بلاد الشام ومصر من احتلالهم لها، وأعادتها إلى حكم الإسلام بعد حروب طويلة المدى دامت ما يقرب من مائتي عام.

وبعدها جاء اجتياح المغول سيلا يجرف أمامه كلّ ما يقف في طريقه. وقد حصلت هذه الغزوات في وقت بلغ فيه المسلمون غاية التشاغل بأمور المعاش والتفرّق من أجله. كما كانوا قد فقدوا روح الأمة التي تتكاتف وتتعاضد وتقف وقفة رجل واحد لأجل البقاء على وحدتها والحفاظ على دولتها ورايتها. فانهزم المسلمون شرّ هزيمة، حتى إنهم أباحوا للمغول أنفسهم وبلادهم يعملون فيها القتل والحرق والنهب، دون أن يتجرّؤوا على رد ذلك. ويروى المؤرخون أن التتار كانوا إذا دخلوا مدينة استباحوا أربعين يوما، فقتلوا من قتلوا، وحرقوا ونهبوا وسبوا نساء المسلمين، وكان الواحد منهم يدخل إلى مخبأ قد تحصن فيه الجمع من الرجال ومعهم النساء والولدان، فيقول: ليس معي ما أقتلكم به، فانتظروني أعود بسفي، ثم يغيب ساعة فيعود وما هرب منهم أحد، فيحزّ رقابهم أرسالا وما يردعه رادع ( أنظر بتفصيل عن جرائم التتار في البداية والنهاية لابن كثير ج 13 – ص 83 – 88 والكامل في التاريخ لابن الأثير ج 9 ص 329 – 386 ).

لقد بلغ المسلمون في تلك الفترة غاية الضعف والذل، يمعن الكفار في تقتيلهم والتنكيل بهم، وهي خانعة مستسلمة لا تلوى حراكا، ورغم كلّ ما وصلوا إليه استعادت الأمة عافيتها بعد ذلك، ونفضت عنها غبار الذلّ وحبّ الدنيا، وعادت أقوى مما كانت، تفتح البلدان. فاستؤنفت الفتوحات في أوروبا، وبلاد الهند والبنغال، حتى دكّ المسلمون أسوار فيينا وبلغوا سيليزيا في بولندا.

عمر1
17-02-2017, 02:25 PM
انحطاط الأمة

بعد أن حافظت دولة الخلافة أيام العثمانيين على هيبة الأمة والدولة الإسلامية مدة أربعة قرون، عنيت فيها الدولة بقوة السلطان وتنظيم الجيوش، وأبهة الحكم، واشتغلت بالفتوحات. كانت بوادر الاضمحلال تلوح في الأفق، لأن العثمانيين الذي تسلموا حكم أكثر العالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري، كانوا قد أهملوا أمر اللغة العربية، مع أنها ضرورية لفهم الإسلام، وشرط من شروط الاجتهاد، ومعلوم أنه لا تقدم للأمة ولا للدولة إلا بوجود الاجتهاد. ولأنها لم تعن بأمر الإسلام من حيث الفكر، ومن حيث التشريع، فانخفض مستواها الفكري والتشريعي، وبسبب ذلك كانت الدولة قوية قوة ظاهرية، ولكنها في الحقيقة ضعيفة ضعفا بيّنا، بسبب الضعف الفكري والتشريعي. إلا أن هذا الضعف لم تلاحظه الدولة حينئذ، لأنها كانت في عنفوان مجدها، وفي أوج عظمتها، وفي منتهي قوتها العسكرية. ولأنها كانت تقيس فكرها وتشريعها وحضارتها بأفكار أوروبا وتشريعاتها وحضارتها، فتجد نفسها خيرا من أوروبا فكرا وتشريعا وحضارة، فترتاح لذلك وترضى بهذا الضعف، لأن أوروبا كانت تتخبّط في دياجير الجهالة وظلام الفوضى والاضطراب، وتتعثّر في محاولات النهضة وتفشل في كل محاولة تقوم فيها.

وما أن ظهرت النهضة الصناعية في أوروبا وجاء الغزو التبشيري، حتى عملت دول أوروبا على نشر أفكارها في بلاد الإسلام واتخذت من ( مالطة ) مركزا لها، ثم تحوّلت عنها إلى ( بيروت )، كما كانت إرساليات التبشير النصرانية ترافق المستعمرين أينما حلّوا وارتحلوا، حتى عمّت الأفكار الدخيلة بين المسلمين، وفقد المسلمون الثقة بالإسلام. وأحكامه بعد أن انطلى عليهم خداع الدول الصناعية الكافرة. وحتى وجد منهم من يطالب بترك الإسلام وأحكامه وحضارته وإتباع الغرب وأحكامه وحضارته، وجاءت دعوة القومية تفتّ ما تبقى من وحدة المسلمين، وتعلن من بلاد الكفر سنة 1913 م إثر اجتماع القوميين العرب في باريس، الانحياز إلى إنجلترا وفرنسا والهجوم على دولة الخلافة بحجة نشر الوعي القومي. فانتهى الأمر بالمسلمين أن هدموا رمز عزّهم وقوتهم، دولة الإسلام، وغدا حالهم على ما نشاهده اليوم.

إن واقع المسلمين الحالي من أسوأ الفترات، بل هو أسوأ الفترات على الإطلاق، فالأمة اليوم تركت العمل بكتاب الله وسنة رسوله، وتخلّت عن الإسلام كمنهج حياة ونظام عيش، وارتضت نظام الكفر يحكم ربوع الإسلام دون أن تنكر ذلك، وقد استولى عليها أعداءها الكفرة فقسّموا بلادها إلى أكثر من خمسين دولة، واغتصبوا منها بعض البلدان كفلسطين والفلبين، ومالطة وقبرص واليونان، وفطاني والهند، وغيرها، وشاركوها في شؤونها كلها كي يُحكموا القبضة عليها إلى الأبد. وجعلوها تعيش في فقر مدقع كي تجعل هـمّها في لقمة العيش، وتترك العمل للتغيير. وبعد أن ركنت إلى مشاغل الدنيا وصار همّ كل مسلم هو طلب المعاش، ولم يعد يهمّه أمر أمته ولا عزّتها أو رفعتها في شيء، بل انصرف كلّ إلى طلب معاشه لا يكترث في هذه الحياة لغير طلب رزقه، حينئذ أقعدوها عن العمل للإسلام، وسلّطوا عليهم حكاما ظلمة عملوا على قهرها وإذلالها، وتركوا للكفار أن يحكموا في قبضتهم على ديار الإسلام، يستغلّون خيراتها ويسلبون ثرواتها، حتى أشركوهم في حصص البترول، والغاز، وفي سائر المعادن الموجودة في بلاد الإسلام، حتى صار للكفار مصالح في بلاد، وصار المسلمون يقرّونهم عليها ويسكتون على تهديدات أمريكا باحتلال منابع النفط في الخليج بحجة حماية مصالحها، ويرى حكّام المسلمين أساطيل الدولتين العظمتين تجوب عباب المتوسط والهندي والمضائق الإسلامية، وتجعل من نفسها بوليسا دوليا، وهم ساكتون لا ينبسّون ببنت شفه، ولا يعترضون على وجود هذه الأساطيل التي تعتبر مصدر خطر وتهديد للمسلمين، بل وحتى للحكام أنفسهم مثلما حصل في اليمن الجنوبي، وفي ليبيا، وأنغولا، وفي كثير من بلاد المسلمين.

لقد فقد أمة الإسلام اليوم معنى العزة والكرامة، وفقدت إرادتها الدولية ومعنى استغلال قرارها السياسي، ولم تعد تفهم السياسة الدولية وماذا يعني تدخّل الدول العظمى في شؤونها. فها هم حكامها اليوم قد تخلّوا عن استقلالية قرارهم لدول الكفر ولا سيما الدول الكبرى منها. وفي البأساء والضراء وحين البأس نجدهم يسارعون إلى دول الغرب، يلتمسون منها المساعدة والرضا ليحلّوا لهم مشاكلهم في هيئة الأمم، أو عن طريق مؤتمر دولي للسلام، أو ما إلى ذلك. وها هم المسلمون يفتحون بلادهم لجيوش الكفر كي تحمي ( مصالحها ) في بلاد الإسلام، وتبني فيها القواعد العسكرية الثابتة والمتحركة.

لقد فقد كلّ فرد في الأمة الإسلامية كلّ انتماء وكلّ قضية. فالمسلم في هذه الأيام لا ينتمي للإسلام فيعمل لدينه ويضحّي من أجل انتمائه. حتى أنه لا يشعر بالانتماء لقوميته أو لوطنيته التي عمل ولا يزال يعمل حكام المسلمين على إثارته فيه، فيشعر بمدى ذلّ قومه أو انحطاط شعبه. لقد أصبحت قضية المسلم اليوم أن يعمل لدنياه قبل آخرته، وذلك بأن يحصل أكبر قدر من المتاع، ويؤمّن ( مستقبل ) أبنائه، ويعيش عيشا رغيدا، وَيكَأَنّ هناك عيش رغيد والأمة على ما هي عليه من ذلّ وهوان وعذاب، وَيكَأَنّ استغلال أمته وشعبه واستعمارها لا يعنيه من قريب ولا من بعيد ! وذلك منتهى الانحطاط والتخلف.

لقد بلغت أمة الإسلام أقصى درجات الانحطاط، وهي تلهث ذليلة وراء الأمم الكافرة، تستجدي عطفها، وتطلب العون والمساعدة منها، وتعيش وفق طريقة عيشها وبحسب قوانينها وتشريعاتها، فما هو السبيل الذي يجب عليها أن تسلكه للنهوض من كبوتها ؟؟.

عمر1
17-02-2017, 02:26 PM
نهضة المجتمع

إن نهضة الإنسان الفرد إنما تكون بتحقيق معنى الإنسانية، وذلك بالفكر، لأن الإنسان إنما يتميز عن غيره من المخلوقات بالعقل، أي بما وهبه الله من قدرة على التفكير وعقل للأشياء التي تحيط به لتحديد موقفه منها. ولأن هذا الفكر إن كان أساسيا أي فكرا عن الوجود كله وما يتعلق به، فإنه ينبثق عنه نظام للحياة يرتقي بحسبه السلوك الإنساني. فإذا تبع الإنسان فكره دون غرائزه نهض وارتقى، وعاش عيشة الإنسان، وتحققت له مقوماتها من العزة والكرامة والقيم الرفيعة، وهذا إن كان فكره مصدره الوحي من عند الله تعالى خالقه وبارئه. أما إن كان مصدره العقل، فإنه وإن كان قد يحقق له نهضة، ولكنها قد تكون راقية أن منخفضة، وقد تكون خلية من القيم الرفيعة، فلا تعطي وزنا إلا للمادة، وقد تحقق للإنسان عزته وكرامته وقد لا تحقق. فما كان مصدره الإنسان فإنه يكون قاصرا عن النهوض بالإنسان إلى المرتبة التي تليق به كانسان، بل قد يهوي به إلى درك الحيوانية في فوضوية الغرائز والشهوات. ولعل الحياة التي يعيش عليها الإنسان في العالم منذ ظهور المبدأ الرأسمالي الذي أطلق العنان للشهوات والحريات للفرد، والمبدأ الاشتراكي والشيوعي الذي كبت هذه الحريات وأثار الشهوات الكامنة في نفس الإنسان، حتى جعله كالبهيمة سواء بسواء، أصدق دليل على ما نقول. فإن الإنسان إذا ما تبع غرائزه دون فكره فقد انعدم العقل في حياته، وفقد كل معنى للقيم فيها فانحطت به إلى مستوى الأنعام. يقول الله تعالى واصفا هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغرائزهم واستجابوا لمكامن الشهوات في النفس: (( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ؟ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أن يعقلون إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا )) ( الفرقان 43، 44 ) ويصف تعالى الذين لا يعملون عقولهم في الوصول إلى إدراك حقائق الأشياء حولهم بأنهم شر البهائم فيقول تعالى: (( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون )) ( الأنفال 22 ).

وكما ينهض الفرد بالفكر، فإن جماعة الناس تنهض بالفكر أيضا، لكن الفرق بين الجماعة والفرد: أن الجماعة لها مقومات لا بد من جعل الفكر أساسا لها حتى تنهض بمجموعها. فإذا كان السلوك الفردي وارتقاؤه مظهرا من مظاهر نهوض الفرد، فإن نهضة الجماعة تظهر في استقلال فكرها وتشريعها، واستقلال قرارها السياسي وفرض كلمتها الدولية، ومنع الدول الكبرى من التدخل في شؤونها، كما تظهر في تكافلها وتعاضدها ووحدة رأيها، إلى غير ما هنالك من القيم الاجتماعية.
فما هي مقومات نهضة الجماعة من الناس ؟.

للجواب على ذلك نقول: إن جماعة الناس ـ كما هو معلوم ـ لا تكوّن مجتمعا اذا لم يجمعها شعور واحد، وتسودها أفكار واحدة، وتربطها علاقات دائمية يحكمها نظام عيش واحد. فهذه مقومات ثلاث لا بد منها حتى ترتقي جماعة الناس لتكوّن مجتمعا: أفكار واحدة، ومشاعر واحدة، ونظام واحد. لذلك فإن ركّاب سفينة ما، في رحلة ما، مثلا، لا يكوّنون مجتمعا مع كونهم جماعة، لأنه لا يجمعهم تفكير واحد أو شعور واحد، ولا تركز حياتهم على أساس نظام واحد. أما سكّان مدينة ما، أو حتى قرية صغيرة، فإنهم يشكّلون مجتمعا، لأنه تربطهم أفكار عامة وشعور واحد، ولأن بينهم علاقات دائمية قد أوجدتها المصالح المشتركة بينهم، وكانت هذه العلاقات يحكمها نظام معين، فكانوا بذلك مجتمعا.

وهذه المقومات الثلاث لا بد أن تحكم بالفكر، بأن يكون المجتمع تبعا لأفكاره وليس لمشاعره. فاجتماع هؤلاء الناس يجب أن يكون لأسباب فكرية وليس لأسباب غريزية. فإذا كان اجتماعهم من أجل تحصيل المعاش ودرء الأخطار، غدت هذه الجماعة تماما كقطيع الغنم أو كجماعة الأنعام تربطها نفس الأسباب. أما المجتمع الإنساني فلا بد أن يكون سبب تكوينه فكريا لا يمت إلى الحاجات والغرائز بصلة، كأن يجتمع الناس على دين إنساني واحد، أو على مبدأ واحد فيشكلوا أمة، ومعنى أن يجتمع الناس على دين أو مبدأ هو أن يتخذوه أساسا لحياتهم ومنهاجا لعيشهم، ويجعلون ذلك أمرا مصيريا يحدد انتماءاتهم وهويتهم. فإذا لم يتم ذلك لم تتحقق فيهم مقومات النهضة. وبعبارة أخرى، فمتى اتخذ الناس الدين أو المبدأ الذي يؤمنون به أساسا لحياتهم ومنهاجا لعيشهم، بحيث يشكل المجتمع أفكاره وآراءه العامة عليه، ويكوّن مشاعره بحسبه، ويسير في إقامة علاقاته على أساسه، فقد تحققت النهضة في تصرفات الجماعة.

عمر1
17-02-2017, 02:27 PM
نهضة الأمة الإسلامية

إن من الحقائق التي يجب أن تكون بديهيات لدى الأمة هي: أن الإسلام مبدأ يقوم على عقيدة (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) وأنه ليس دينا روحيا فحسب، ولا مفاهيم لاهوتية أو كهنوتية، وإنما هو طريقة معينة من العيش يجب على كل مسلم وعلى المسلمين جميعا، أن تكون حياتهم حسب هذه الطريقة وحدها بحيث لا يطمئنّون فكريا ونفسيا إلا في هذا النوع من العيش، ولا يشعرون بالسعادة إلا فيه. لذلك فما على الأمة الإسلامية إلا أن تتخذه منهاج حياة ونظام عيش إذا ما أرادت أن تتحقق لها النهضة. فإذا أدرك المسلمون أن اجتماعهم إنما كان على الإسلام ومن أجله، أدركوا أن الحفاظ على عقيدة الإسلام أمر مصيري يستلزم منهم بذل الغالي والرخيص دونه. وإذا جاء معتد هبت الأمة كلها لرد العدوان، وإذا حصل ما يهدد كيانها انبرت وضحّت بكل شيء في سبيل إزالة هذا التهديد ورفع الخطر عنها. وإذا مرت على المجتمع والأمة ظروف صعبة كما يحصل اليوم، انبرت الأمة من أقصاها إلى أقصاها لتصحيح هذا الوضع الشاذ. لأنها إن لم تفعل ذلك فقدت مبرّر وجودها، وهو مبدأ الإسلام، وإذا فقدته فقدت مقومات كونها أمة إسلامية، وغدت كأمة الأنعام يسخّرها الناس.

ولعل من أسمى مظاهر النهضة عند أمة الإسلام أنها تعتبر نفسها حاملة الرسالة إلى البشر قاطبة. فأمة الإسلام خير الأمم، ما حملت رسالة الإسلام إلى الناس، واستمرت على ذلك. قال تعالى: (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) آل عمران ـ 110. فحدد الله تعالى أن أمة الإسلام خير الأمم ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أي ما دامت تتخذ الإسلام نظاما، وتحمله للناس. ولذلك يروى عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية ثم قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها ( تفسير الطبري الأثر 7612 ). ولذلك أيضا لم تأل الأمة في السابق جهدا في سبيل نشر كلمة الله في بقاع الأرض. ولم تتوقف الأمة عن الجهاد إلا عندما انحطت الهمم، وانشغل أفرادها بحب الدنيا.

لذلك فإن نهضة الأمة الإسلامية إنما تكون باتخاذها الإسلام منهج حياة نهائي ونظام عيش شامل، ورسالة تحملها إلى العالمين تكون شغلها الشاغل في هذه الحياة. فإذا ما أرادت الأمة النهوض من كبوتها، فلا بد أن يكون الإسلام بالنسبة لها أمرا مصيريا لا يهنأ لها عيش دونه. وهذا يتطلب التضحية بكل ما في هذه الحياة. والله تعالى يقول: (( قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا )) النساء ـ 77. فإذا ترك المؤمنون حب الدنيا وطلبوا الآخرة في العمل للإسلام، كانت لهم العزة والسيادة في الدنيا فكسبوا بذلك الآخرة والدنيا معا. يقول رب العزة: (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز المبين )) سورة التوبة ـ 111.

واتخاذ الإسلام نظاما لهذه الأمة يقتضي الوعي على أحكامه وفهمها والحرص عليها كل الحرص. فإنه لم يوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم سوى الضعف الشديد في فهم الإسلام، والذي طرأ على أذهان المسلمين في مواجهة الأفكار الغربية في القرن الماضي. فإذا ضعف فهم الإسلام سهل على الأفكار الدخيلة أن تتسرب إلى مجتمع الإسلام، تشير فيه البلبلة وتؤدي به إلى ترك أحكام الدين، وكذلك فإنه يقتضي الوعي السياسي على شؤون الأمة ورعايتها والحذر من كل موقف قد يشكل جسرا للكفار ينفذون عبره إلى مجتمع الإسلام.

فنهضة الأمة الإسلامية تكون بالعودة إلى الإسلام ونبذ كل ما عداه، أمرا مصيريا يستلزم البذل والتضحية في سبيله. فإما أنها أمة إسلامية يسودها شرع الله وإما أن لا تكون. وهذا يشكل لنا خير انتماء، وخير قضية وهدف في الحياة، كما أنه يشكل أفضل رابط وخير رسالة. لقد قالها نبي الأمة صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (( لقد تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي )) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه بألفاظ متقاربة وذكره الواقدي في كتاب المغازي ـ 1103 وابن هشام في السيرة ـ 968 وابن حجر في المطالب العلية رقم 1202 وغيرها. وها نحن اليوم نلمس صدقه صلى الله عليه وسلم عندما تركنا التمسك بكتاب الله وسنة نبيه، فقد ضللنا وعمي علينا رؤية الحق، حتى أننا في كل مرة كنا نحاول فيها النهوض على أساس ما عند الأمم الأخرى، انتكسنا وساءت أحوالنا. فلعل ذلك يدفع الأمة بعدها جربّت كل المبادئ والأنظمة أن تستجيب لقول الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون )) سورة الأنفال - 24.

عمر1
17-02-2017, 02:27 PM
قيمة التفكير في نهضة الأمم

لا شك أن التفكير سلاح الأمم، تنهض به حين يزدهر وينشط، وتتخلف حين يخبو ويضمحل. وإنما بقاء الأمم بدوام شعلة الفكر فيها، وإنما اضمحلالها بانطفاء هذه الشعلة، وقد أدرك الصحابة الكرام وهم الجيل المسلم الأول هذه الحقيقة فكانوا يقولون: ( إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكير). " أورده السيوطي في الدر المنشور ج2 ص 409 ". وكان بعضهم يرون التفكر من أفضل العبادة، فقد أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن المنذر عن ابن عون قال: سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء ؟ قالت: ( التفكر والاعتبار ) " الدر المنشور ج 2 ص 409 ".

وهذا التفكير ليس هو البحث في الأمور غير المحسوسة، أو البحث في الماورائيات " أي في ما وراء الطبيعة ". أو إقامة الفرضيات والاستناد إليها. وإنما هو التفكير المنتج في الوقائع التي تحصل للإنسان في كل يوم وفي كل ساعة. والتفكير في الأمور المحسوسة، والبحث في الطبيعة وما فيها للاستفادة مما فيها من أشياء ولتأصيل الإيمان بالله تعالى عن طريق النظر والتفكير في مخلوقات الله. هذا هو التفكير الذي يوجد لدى الأمة القدرة على الحياة الناهضة، ومثله يؤدي إلى الحكم على الأشياء وتعيين المواقف منها، ويؤدي بالتالي إلى ترجمة هذه المواقف إلى أعمال مادية. فالفكر هو الذي يترتب عليه عمل مادي، وهو الذي يؤدي حتما إلى نتيجة محسوسة، وذلك بالسرعة الكافية. فإذا لم يكن للأمة مثل هكذا تفكير ومقدرة على تعيين المواقف وإقامة الأعمال المادية، لم تكن الأمة جديرة بالحياة، فغلبتها الأمم وتكالب عليها الأعداء، دون أن تستطيع رد ذلك.

ومثل هذا التفكير يبرز في شكلين: التفكير التشريعي، والتفكير السياسي. فالأول تفكير لمعالجة مشاكل الحياة، والثاني تفكير لرعاية شؤون الناس، وكل منهما ضروري للأمة حتى تستمر في الحياة. والتفكير التشريعي هو ذلك التفكير الهادف إلى استنباط التشريعات لمعالجة ما قد يحصل في كل يوم من الحوادث. وهنا، لا بد من تحديد موقف الأمة والمجتمع من مثل هذه الحوادث، وتبيان خطئها إذا كانت تخالف عقيدة الأمة ومنهاجها في الحياة، أو صحتها إذا كانت كذلك. فعجلة الحياة تدور، ومعها تنشأ مستجدات كثيرة لابد من تحديد الموقف تجاهها، وإلا كانت الحيرة والجهل، ودبت الفوضى في جسم المجتمع. ومن هنا تتحتم ضرورة الحيوية في أي نظام تشريعي، فإنه يجب أن يكون شاملا لكل مستجد ولك حادث ولكل طارئ، إذا كان بالفعل يصلح لكل زمان ومكان.

وفي الأمة الإسلامية، يبرز الاجتهاد في حياة الفرد والدولة والمجتمع، بوصفه تفكيرا تشريعيا يهدف إلى استنباط حكم الشرع من النصوص الشرعية، وبالتالي تحديد موقف المجتمع الإسلامي والدولة والناس من كل جديد. وقد كان هذا النوع من التفكير مزدهرا لدى الأمة الإسلامية، وكان شغلها الشاغل حتى القرن الرابع الهجري. وكان سبب ذلك حرص الأمة الشديد على أحكام الإسلام وشرع الله، وبيان ما يرضيه وما يسخطه. وفي أواخر القرن الرابع الهجري، ظهر بين الناس من ينادي بتعطيل الاجتهاد، ويعمل على إقناعهم بخطره، حتى تم له ما أراد، واقفل باب الاجتهاد.

وعندما كان للأمة الإسلامية أعظم مدنية، ولم تكن ثمة مدنية تضاهيها، حافظت على موقعها بين الأمم. ولكن لما ظهرت الثورة الصناعية في الغرب، كان الفكر التشريعي عند الأمة معطلا، فقد اقتصرت على اجتهادات الأقدمين، ووقفت عندها، وجمدت عليها، ولم تنظر في ما استجد من وقائع وأشياء لتعطي رأيها التشريعي فيها. بل وصل الحال بها إلى أن نادى البعض بضرورة رفض كل ما عند الغرب جملة وتفصيلا. ومن المضحكات المبكيات في هذا المجال، أنه لما ظهرت قهوة البن أفتى العلماء بتحريمها، وعندما ظهرت الهاتف أفتوا كذلك بأنه حرام، كما ظهر من العلماء من ينادي بتحريم الصناعة، وتحريم طباعة المصحف. بل وجد كذلك من ينادي بتحريم تعلم العلوم الغربية كتحريم الساعات، ومكبرات الصوت، وتحريم أجهزة التلكس والبرقيات ( التلغراف ) وما شاكلها. وقد كان القرن التاسع عشر فترة ظهر فيها فراغ شاسع بين ما وصل إليه الغرب الناهض صناعيا، وبين ما عند الأمة الإسلامية. وظن كثير من المسلمين أن الإسلام على لسان علمائه، هو الذي يحول دون النهضة الصناعية. فكان أن حصلت البلبلة في المجتمع الإسلامي، فظهر من ينادي بأخذ كل ما عند الغرب كردة فعل لتحريم الصناعة. وكان من جراء ذلك أن فقد الناس الثقة بالإسلام وأحكامه، لأنهم ظنوا ـ كما أوعز إليه الغرب عن طريق عملائه من أبناء المسلمين ـ أن الإسلام لا يماشي العصر.

هذا بالنسبة للتفكير التشريعي، أما التفكير السياسي فإنه هو الهادف إلى فهم نصوص الأخبار والوقائع، ولا سيما ما يتعلق بصياغة الأخبار وكيفية فهم هذه الصياغة. وحتى يتأتى وجود هذا التفكير في الأمة فلا بد من دوام اليقظة والتتبع لجميع الحوادث اليومية، ولا بد أن يمر هذا التفكير بتجربة سياسية حتى لا تقع الأمة في حبائل الكفار، وينطلي عليها دجلهم وخداعهم، وتصبح رهنا لإرادتهم.
والتفكير بالنصوص السياسية، وإن كان يشمل التفكير بنصوص العلوم السياسية ونصوص الأبحاث السياسية، ولكن التفكير الحق، هو التفكير بنصوص الأخبار و الوقائع. والتفكير بالعلوم السياسية والأبحاث السياسية، وإن كان يعطي معلومات، ولكنه لا يجعل المفكر سياسيا، وإنما يجعله عالما بالسياسة، أي عالما بالأبحاث السياسية والعلوم السياسية، ومثل هذا يصلح لأن يكون معلما ولا يصلح لأن يكون سياسيا. لأن السياسي هو الذي يفهم الأخبار والوقائع، ومدلولاتها، ويصل إلى المعرفة التي تمكنه من العمل. سواء أكان له إلمام بالعلوم والأبحاث السياسية، أو لم يكن له إلمام. إلا أنه يحتاج فقط إلى تتبع الوقائع والحوادث التي تقع في العالم، أي يحتاج إلى تتبع جميع الأخبار. ويحتاج إلى معلومات، ولو أولية ولو مقتضبة، عن ماهية الوقائع والحوادث، أي عن مدلولات الأخبار، سواء أكانت معلومات جغرافية، أو معلومات تاريخية، أو معلومات فكرية، أو معلومات سياسية، أو ما شاكل ذلك. ويحتاج كذلك إلى تمييز الواقعة والحادثة، أي تمييز الخبر من طريق تمحيصه تمحيصا تاما، ليعرف مدى صدقه من كذبه، ولابد أن يأخذ الواقعة والحادثة مع ظروفها أخذا واحدا بحيث لا يفصل بين الحادثة وبين ظروفها ولا بحال من الأحوال. وفوق ذلك فإنه يحتاج إلى ربط الخبر بغيره من الأخبار، فإن هذا الربط هو الذي يؤدي إلى الحكم الأقرب للصواب على الخبر.

والتفكير السياسي لا يجوز أن يقتصر على الحكام والسياسيين، بل لابد أن يصبح تفكير الأفراد والجماعات، أي تفكير الأمة فإنه بدون وجوده في الأمة لا يوجد الصالح، ولا يتأتى وجود النهضة، ولا تصلح الأمة لحمل رسالتها إلى العالم. ولذلك فإن التفكير السياسي ضروري للأمة قبل الحكام، وضروري لاستقامة الحكم أكثر من ضرورته لإيجاد الحكم. ومن هنا كان لابد أن تثقف الأمة ثقافة سياسية، وأن يكون لديها التفكير السياسي. أي لا بد أن تزود الأمة بالمعلومات السياسية والأخبار السياسية، وأن ينمى لديها سماع الأخبار السياسية، ولكن بشكل طبيعي لا بشكل مصطنع. ولابد من إعطائها الصحيح من الثقافة السياسية، والصادق من الأخبار، حتى لا تقع فريسة للتضليل. ومن هنا كانت السياسة والتفكير السياسي، هي التي توجد في الأمة الحياة، أي كانت السياسة هي التي تحيا بها الأمة، ما دامت تنظر إليها من زاوية العقيدة الإسلامية، وبدون ذلك تكون الأمة جثة هامدة، لا حركة فيها ولا نمو.

ولقد عانت الأمة الإسلامية من سوء التفكير السياسي الكثير من المصائب والويلات. فالدولة العثمانية مثلا، حين كانت أوروبا تحاربها في القرن التاسع عشر، إنما كانت تحاربها في الأعمال السياسية أكثر منها في الأعمال العسكرية، وإنه وإن وقعت أعمال عسكرية ولكنها كانت مساعدة للأعمال السياسية. فمثلا ما كانوا يسمونه بمشكلة البلقان، هي مشكلة خلقتها الدول الغربية بالتصريحات، فأعلنوا أن دول البلقان يجب أن تتحرر من العثمانيين، أي من المسلمين. ولكن لم يكونوا يعنون أنهم سيحاربون الدولة العثمانية، وإنما كانوا يعتمدون على إيجاد القلاقل والإضطرابات في البلقان. فجاءوا بفكرة القومية والتحرر، فأخذها البلقانيون، وأخذوا يقومون بالثورات، فكانت الدولة العثمانية تقوم بعمليات عسكرية ضد هذه الثورات، مراعية وضع الدول الأخرى، وتحاول استرضاء الدول الأخرى ( أوروبا )، مع أن هذه الدول الأخرى هي التي كانت تسند الثورات، وهي التي كانت تجعلهم يشتغلون ضد الثورات، من أجل أن يكون عملهم إنهاكا لقواهم، لا للقضاء على الثورات. وهكذا كان من نتيجة خطأ الدولة العثمانية، وضلالها في التفكير السياسي أن خسرت البلقان، ثم لاحقتها فكرة القومية في عقر دارها، حتى قضت عليها القضاء المبرم.

فسوء التفكير السياسي هو الذي يدمر الشعوب والأمم، وهو الذي يهدم الدول أو يضعفها، وهو الذي يحول بين الشعوب المستضعفة وبين الانعتاق من ربقة الاستعمار، وهو الذي يحول بين الأمم المنحطة وبين النهوض. فقد أنطلى على المسلمين خداع مصطفى كمال لهم في ثورته التي أعلنها ضد الحلفاء، ولم يدركوا أن ثورته هي الحقيقة ضد السلطان العثماني، وأن الغاية منها هي فصل تركيا عن باقي أجزاء الدولة، وهدم الخلافة، وإقامة جمهورية تركية على أنقاض دولة الخلافة. وانطلى على كافة الشعوب الإسلامية حقيقة الدعوة إلى الاستقلال على أساس قومي وطني، والتي عصفت بالعالم الإسلامي بعد هدم الخلافة في أوائل القرن العشرين الميلادي. فلم يدركوا أن الغاية منها هي تجزئة البلاد الإسلامية لتحطيم الأمة الإسلامية كي تبقى هكذا مجزأة إلى دول وشعوب وقوميات إلى الأبد، وكي يحولوا بينها وبين عودتها أمة واحدة، يكون لها كيان واحد ودولة واحدة. وانطلى عليهم خداع جمال عبد الناصر لهم في الخمسينات والستينات من هذا القرن، وبالذات بعد مؤتمر باندونغ عام 1955م، والذي رفع شعارات الاستقلال والتحرر من الاستعمار، ودعم ثورات الجزائر و المغرب العربي، وثورة المسلمين في لبنان وسورية، وغيرها من الدول العربية الإفريقية. ولم يدركوا أن أعمال عبد الناصر هذه كانت من أجل تركيز النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وفي الحيلولة دون تحرر العرب، وقد كانوا عقب الحرب العالمية الثانية متحفزين للتحرير.

لذلك فإن سوء التفكير السياسي يشكل خطرا على الشعوب والأمم، وأخطار الخطأ أو الضلال فيه، أخطار مدمرة. ومن هنا كان لبد من العناية الفائقة بالتفكير السياسي، وكان لابد من تثقيف الأمة التثقيف السياسي، وتمرينها وتعليمها على التفكير السياسي، حتى يصبح قادرا على الوقوف في وجه الأعداء والخونة من الحكام، وحتى يجعل الأمة قادرة على الانعتاق من نفوذ الدول الكبرى، وعلى تحرير كافة بلادها الإسلامية كي تشكل منها قوة دولية مرهوبة تستطيع أن تقلب الموازين السياسية في العالم.

عمر1
17-02-2017, 02:28 PM
يتبع ------------------

عمر1
30-03-2017, 04:55 PM
النهضة الفكرية
عملية إيجاد الإحساس الفكري في الأمة

تعتبر الأمة الإسلامية اليوم فاقدة للأفكار، فهي طبيعيا فاقدة لطريقة التفكير المنتجة. فالجيل الحاضر لم يتسلم عن سلفه أية أفكار إسلامية، ولا أفكار غير إسلامية. وبالطبع لم يتسلم طريقة تفكير منتجة. ولم يكسب هو أفكارا، ولا طريقة تفكير منتجة. ولذلك كان طبيعيا أن يرى في حالة تبلد في الإحساس تجاه ما ينزل به من أحداث، وفي حالة لا مبالاة لا يلوي على شيء، حتى صارت لا تؤثر فيه الأفكار، ولا تثيره المصائب ولا النكبات، ولا تؤرقه الخيانات. لأن موطن الإحساس فيه قد تجمد، ولا الفكر فيه لا يتحرك، باعتباره فاقدا للأفكار ولطريقة التفكير المنتجة في الحياة.

ولهذا كان لا بد من إثارة الإحساس الفكري في الأمة من جديد. فالإحساس بفظاعة المعصية يؤدي إلى تركها، والإحساس بمرارة الظلم يدفع إلى تغييره، والإحساس بالانحطاط والتخلف يتحول الى فكر دافع في الأمة لإحداث النهضة الإسلامية المبتغاة. ولكن هذا الإحساس إذا بقي مجرد إحساس، فإنه لا أمل بإحداث أي تغيير. أما إذا قاد هذا الإحساس الأمة إلى التفكير بواقعها السيئ، ومن ثم إلى العمل لتغييره، فإن هذا الإحساس ـ ولا شك ـ سيقوي عند الأمة ويصبح أكثر حيوية، كلما زاد التفافها حول الأفكار الإسلامية وتكتلت على أساسها، وكلما ازداد وعيها وتشبعت عقليتها بأفكار الإسلام وأحكامه.

وفي هذا العصر: عصر النهضة للأمة الإسلامية، توجد بارقة أمل مشرق بأن يتحول الإحساس عند الأمة إلى إحساس فكري، لا سيما بعد هذه الأحداث الموجعة التي عصفت بالعالم الإسلامي منذ بدء الغزو العسكري والسياسي لبلاد الإسلام وحتى هذه الساعة، فهي قد سحقت الأمة سحقا وصارت تهددها بالفناء والزوال. فهذه الأحداث الموجعة قد أثرت في الأمة تأثيرا كبيرا، وأثخنتها بالجراح والآلام الفظيعة، فصارت بعد هذه السنين الطويلة تشعر بقيمة أفكار الإسلام في حياتها، وبالتالي بقيمة الأفكار الإسلامية في إحداث النهضة التي أخذت تتطلع إليها منذ منتصف القرن الماضي، وقد فشلت جميع جهودها لأنها ظنت أنها تستطيع أن تنهض بما نهضت به دول أوروبا وروسيا وأمريكا من أفكار المادية التي ترى أن الدين أفيون الشعوب، الذي يخدرها ويمنعها من العمل، ومن أفكار الرأسمالية التي ترى وجوب فصل الدين عن الحياة، وبالتالي عن الدولة.

فلما لم تتحقق لها هذه النهضة، وإنما زادت هذه الأفكار الغربية من تخلف المسلمين وتأخيرهم، ولما كان الإسلام يجري في مجرى الدم عند المسلمين أخذت الأمة تتلمس طريق عزتها ونهضتها في الإسلام، فلاحت لها تباشير النهضة من جديد، لأن الإحساس الفكري قد بدأ ينبض فيها بالحيوية. وهو وإن كان لا يزال إحساس الأفراد وتفكير الأفراد ـ وأعني بهم حملة الدعوة الإسلامية الذين يعملون لإعادة مجد الإسلام ـ إلا أن ضخامة الأحداث وفظاعتها، وكون التفكير والإحساس تجسد في أشخاص حتى غَدَا تفكيرا يمشي في الأسواق بين الناس، فإن هذين الأمرين: يوجدان أملا مشرقا، في أن ينتقل التفكير والإحساس من الأفراد إلى الجماعات، وأن يصبح تفكيرا جماعيا لا تفكيرا فرديا، وأن يكون تفكير الأمة لا تفكير الأفراد، فتصبح الأمة الإسلامية أمة فكرة، وتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس.

عمر1
30-03-2017, 04:56 PM
معنى الإحساس الفكري

الإحساس الفكري هو الإحساس الذي يقويه عند الإنسان الفكر. أي هو الإحساس الذي يكون الفكر مصدرا له وليس هو مجرد الإحساس بالشيء الذي يأتي طبيعيا لمجرد الشعور بالواقع فيتجاوب معه الإنسان من غير نظر أو تفكير. وبعبارة أخرى هو العملية الفكرية التي يقوم بها الإنسان في وقائع الحياة حين يستعمل ما لديه من معلومات عند الإحساس بالواقع للحكم على هذه الوقائع، وحينئذ ينتج عن فكره إحساسا، ويقوى ويضعف بقوة الفكر ووضوح الرؤية لديه أو بضعف الفكر وقصر النظر فيه.

إلا أن الإحساس الذي نعنيه هو الإحساس الذي يكون الفكر أساسا له، أي الإحساس الذي يقويه عند الإنسان الفكر، ولهذا لا بد أن يكون الفكر قويا مشرقا عند صاحبه حتى يمكن أن يصدر عنه الإحساس القوي الذي يتولد منه التفكير الجاد والمنتج في الحياة. فهذا الإحساس الذي يوجده الفكر هو ما نعنيه بالإحساس الفكري وهو الذي يتوجب إيجاده في الأمة حتى تحصل لها النهضة الفكرية قطعا.