المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدولة العميقة في أميركا تحاصر دونالد ترمب



Abu Taqi
18-01-2017, 10:39 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
الدولة العميقة في أميركا تحاصر دونالد ترمب
مقدمة
يبدو أن الدولة العميقة وأصحاب القرار الفعليين في أميركا يسابقون الزمن قبل استلام دونالد ترمب الرئاسة في البيت الأبيض بتاريخ 20 كانون ثاني/يناير 2017. فمن خلال إدارة باراك أوباما تم اتخاذ عدد من القرارات التنفيذية وتثبيت بعض السياسات الدولية ذات العلاقة بالمصالح الأميركية وبرؤيتها لشؤون العالم. ولعل أهم ما يمكن أن نلاحظه في هذا السياق هي القرارات والسياسات ذات العلاقة بملف القضية الفلسطينية والعلاقة مع روسيا والملف السوري.
فالرئيس المنتخب، دونالد ترمب، هدد أثناء حملته الانتخابية وحتى بعد نجاحه في الوصول إلى الحكم، بانقلاب كامل على سياسات وإنجازات باراك أوباما الداخلية والخارجية، خلال فترة وجيزة من حكمه. فهو يعتزم، بحسب تصريحاته إصدار جملة من القرارات الرئاسية التي قد تغير من السياسة الأميركية في الداخل والخارج.
فعلى سبيل المثال يسعى دونالد ترمب في السياسة الداخلية للإطاحة بخطة التأمين الصحي المعروفة باسم "أوباما كير"، كما وعد بخفض الضرائب في جميع المجالات وجعلها لا تتجاوز حد 15% كحد أقصى مقارنة بما عليه الحال وهو 35%. وعلى خلاف أسلافه تعهد ترمب ببناء حائط على الحدود مع المكسيك وترحيل 11 مليون مهاجر غير شرعي، وبعد أن طالب بحظر هجرة المسلمين إلى أميركا دعا إلى فحص دقيق لهم قبل دخولهم البلاد.
أما في السياسة الخارجية فقد صرح ترمب بأنه سيجمد تطبيع العلاقات مع كوبا وسيقوم بتفكيك الاتفاق النووي مع إيران أو على الأقل إعادة هيكلته. كما أعلن عن معارضته للاتفاق المقترح للشراكة عبر المحيط الأطلسي بل إنه طالب بإعادة النظر في مسألة التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها الأوروبيين في الناتو، وهو ما استدعى باراك أوباما أن يقوم بجولة أوروبية لطمأنة حكام أوروبا. بل إن ترمب كرر موقفه من حلف شمال الأطلسي قبل أيام، فوصفه بالمنظمة التي "عفا عليها الزمن"، متهمًا دولًا أعضاء في الحلف بأنها لا تدفع حصتها في إطار عملية الدفاع المشتركة وبالاتكال على الولايات المتحدة.
وفي الوقت الذي دعا فيه ترمب إلى علاقات أوثق وأقرب مع روسيا دعا إلى إحداث تغييرات أساسية في "اتفاقية نافتا" بين أميركا وكندا والمكسيك، وصرَّح بأنه ينوي الدخول في حرب تجارية مع الصين عبر فرض عقوبات اقتصادية عليها وفرض رسوم جمركية بنسبة 45% على السلع الواردة منها.
ولعل كل هذه التغييرات التي وعد بها ترمب على مستوى السياسة الداخلية والخارجية مع تسلمه للحكم في أميركا هي التي دفعت عددًا كبيرًا من الدبلوماسيين الأميركيين المتقاعدين إلى التشكيك في قدرات الرجل على حكم بلد بحجم أميركا.
وذكروا في بيان لهم بتاريخ 22/9/2016 أن دونالد ترمب "غير مؤهل على الإطلاق ليعمل كرئيس وقائد عام (للقوات المسلحة الأميركية)، وهو جاهل بالتحديات المعقدة التي تواجه بلادنا من روسيا إلى الصين إلى داعش إلى (الحد من) الانتشار النووي إلى اللاجئين إلى (الحرب على) المخدرات، ولأنه لم يبد أي اهتمام بالتعلم".
وذكر الدبلوماسيون المتقاعدون أن ترمب "أدلى بأكثر التصريحات جهلًا ونمطية" عند حديثه عن بعض البلدان؛ الأمر الذي أدى إلى "إغضاب شعوبها، وأساء إلى حلفائنا، وأسرَّ أعداءنا". وهم يشيرون بذلك إلى ما سبق أن صرح به ترمب من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "أكفأ وأفضل" من الرئيس باراك أوباما، وإلى تصريحاته العنصرية ضد المسلمين.
وبناءً على ما تقدم وبتتبع الملفات التي اتخذت فيها حكومة باراك أوباما جملة من الإجراءات نجد أن هناك محاصرة مبكرة من الحكام الفعليين في الولايات المتحدة الأميركية للوقاية من وعود ترمب الانتخابية، وتوعداته بعيد نجاحه بتنفيذ ما سبق أن وعد به؛ لأن من شأن ذلك لو حصل أن ينحرف ببوصلة السياسة الأميركية في اتجاه لا يخدم حقيقة المصالح الأميركية كما يراها الحكام الفعليون في أميركا.
ولذلك جاءت هذه القرارات والإجراءات لتطويق ترمب بأجندة مسبقة يصعب عليه الخروج عنها بعد توليه الحكم.
ومن تلك القرارات والإجراءات المهمة التي سارت فيها إدارة أوباما مؤخرًا قبل أن يتم تسليم الحكم إلى دونالد ترمب ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والذي يمكن بيانه بما يأتي:
1-/ قرار اليونسكو
أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) بتاريخ 13 تشرين أول/أكتوبر 2016 قرارًا يعتبر المسجد الأقصى في مدينة القدس تراثًا إسلاميًّا خالصًا، وينفي القرار أي ارتباط تاريخي لليهود بالمسجد الأقصى المبارك، وطالب القرار إسرائيل بالكف عن انتهاكاتها المتواصلة بحق الأقصى، وضرورة إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الاحتلال.
جاء هذا القرار استباقًا لما يمكن أن يصدر من قرارات تنفيذية عن دونالد ترمب بعد تسلمه رئاسة الدولة في أميركا. فقد سبق للمرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية أن تعهد بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة موحدة لإسرائيل. وكان ذلك خلال اجتماعه يوم 25/9/2016 مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلًا: إن "القدس عاصمة أبدية للشعب اليهودي منذ 3000 عام".
وبما أن تعهد ترمب هذا مخالف للسياسة المعتمدة من قبل أميركا، فإن صناع القرار الفعليين في أميركا قد أوجدوا من خلال قرار اليونسكو مخرجًا لترمب للتملص من هذا التعهد أو لنقل أنه يراد منع ترمب من السير في هذا الأمر. صحيح أن ترمب قد تعهد بنسبة القدس إلى اليهود أثناء حملته الانتخابية من أجل الحصول على أموال وأصوات يهود أميركا، لكن ما يجعل الأمر جديًّا أكثر هو أن مستشارة كبيرة لدى دونالد ترمب، وتدعى كالي آن كونوي، صرَّحت لإذاعة أميركية يوم 12/12/2016 أن ترمب مصمم على نقل سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس بعد تسلمه مهام منصبه في الـ 20 من كانون ثاني/يناير، وأن موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس يقع على رأس سلم أولويات الرئيس المنتخب ترمب.
إن قرار منظمة اليونسكو غير ملزم لإسرائيل بأي شيء؛ لأن كل قرارات هذه المنظمة لا تعتبر إجبارية التنفيذ؛ فهي لا تخضع للمادة السابعة أو التاسعة من قوانين هيئة الأمم المتحدة. ورغم أنه لن تكون له تداعيات عملية بالنسبة للمسجد الأقصى؛ لكنه سيبقى عائقًا سياسيًّا وقانونيًّا أمام إدارة ترمب في نقل سفارة أميركا إلى القدس، كما أنه سوف يبقى سيفًا مسلطًا على رقبة إسرائيل في المحافل الدولية وبخاصة لو "قررت" منظمة التحرير الفلسطينية رفع قضايا دولية ضد عمليات التهويد المستمرة التي تقوم بها إسرائيل في الحرم القدسي.
فحكام إسرائيل كثيرًا ما ينسوا أو يتناسوا أن دولتهم هي مجرد قاعدة عسكرية أميركية ورأس حربة متقدمة للحضارة الغربية في قلب العالم الإسلامي، ولذلك تأتي أميركا ممثلة في حكامها الحقيقيين، ومن أجل حماية مصالحها الحيوية، لتذكرهم من حين لآخر بحجمهم الحقيقي وبدورهم الوظيفي في خدمة الاستعمار الغربي. كما أن وضع المسجد الأقصى ما يزال ضمن مشروع التدويل، وإن قل الحديث في هذا الموضوع، لكن أميركا تريد أن يبقى وضع القدس مفتوحًا وقابلًا لكل المشاريع الدولية.

2-/ القرار 2334
تبنّى مجلس الأمن الدولي يوم 23/12/2016 مشروع قرار رقم 2334 يدين "الاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967"، وتقدمت بهذا القرار كلٌ من فنزويلا والسنغال ونيوزيلندا وماليزيا، بدلًا من مصر التي سحبت تداوله في وقت سابق. وقد صوت لمصلحة القرار 14 دولة، وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت دون أن تلجأ إلى استخدام حق النقض (الفيتو).
إن هذا القرار الذي تبناه مجلس الأمن ليس له تأثيرات فورية على إسرائيل؛ لأنه لم يأت تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولأنه أيضًا لا يشمل وسائل التطبيق أو العقوبات على الأطراف التي لا تطبقه. فالقرار تمت المصادقة عليه تحت البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة، ومن هنا فهو مجرد إعلان توصية وغير ملزم. ومع ذلك فقد انتقد دونالد ترمب، هذا القرار قائلًا: "لا يمكننا أن نسمح بمعاملة إسرائيل بمثل هذا الازدراء وعدم الاحترام"، وخاطب حكام إسرائيل قائلًا: "ابق قوية إسرائيل....فـ20 يناير يقترب بسرعة".
لقد ذهب ترمب أكثر من ذلك في تعليقه على قرار مجلس الأمن 2334 بأن توعد الأمم المتحدة بعد إدانة مجلس الأمن الدولي "الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، توعدها ترمب قائلًا على "تويتر": "بالنسبة إلى الأمم المتحدة، ستكون الأمور مختلفة بعد 20 يناير". وأضاف في تغريدة أخرى: "اعتادوا أن يكون لهم صديق عظيم في الولايات المتحدة، لكن ليس بعد الآن"، كما شكك ترمب في جدوى الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة في العالم، وقال متهكمًا إنها تحولت إلى مجرد "مجموعة من الأشخاص يلتقون ويتحدثون ويقضون أوقاتًا ممتعة".
ومع كل هذه التغريدات سبق لترمب أن دعا إدارة باراك أوباما إلى استخدام الفيتو ضد مشروع القرار عندما قدمته مصر أول مرة، بل إنه اتصل هاتفيًّا بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وطلب منه سحب مشروع القرار قبل أن تعيد الدول الأربع الأخرى طرحه للتصويت في مجلس الأمن بدفع من إدارة أوباما التي اتهمها بنيامين نتنياهو بالوقوف وراء قرار مجلس الأمن الدولي. فقد قال نتنياهو خلال كلمة ألقاها في افتتاح الجلسة الأسبوعية لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، الأحد 25/12/2016: "لا شك لدينا بأن إدارة أوباما قد بادرت إلى تمرير هذا القرار ووقفت وراءه ونسقت صيغه وطالبت بتمريره".

Abu Taqi
18-01-2017, 10:40 PM
إن التصويت على القرار 2334 المتعلق بإدانة "الاستيطان في الأراضي الفلسطينية" بأغلبية مطلقة، وبامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت، هي سابقة لم تحصل طوال فترة الثماني سنوات الماضية التي حكم فيها الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض. وما كان لهذا القرار أن يمر بهذه السهولة وبهذا الإجماع الدولي لولا أن إدارة أوباما كانت تقف وراءه من أجل تحقيق جملة من الأهداف لعل أهمها:

أولًا: محاصرة ترمب
فقد أعلن ترمب أثناء حملته الانتخابية عن عدم ممانعته للاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وعن نيته نقل السفارة الأميركية من تل الربيع (تل أبيب) إلى القدس التي اعتبرها بأنها يجب أن تكون موحدة كعاصمة لدولة إسرائيل. وهذان الأمران مخالفان للسياسة المعتمدة من قبل الولايات المتحدة بغض النظر عمن يسكن البيت الأبيض. وتخشى الدولة العميقة الحاكمة في أميركا أنه لو أقدم دونالد ترمب على تشجيع "الاستيطان اليهودي" ونقل السفارة الأميركية إلى القدس أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بالمصالح الكبرى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ورغم أن إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب قادرة على إلغاء هذا القرار نظريًّا بعد تسلمها الحكم لكن السير في هذا الأمر من الناحية العملية أمر صعب جدًا. فحتى ينجح ترمب في إلغاء هذا القرار يجب عليه أولًا أن يصادق على قرار معاكس يقضي بأن المستوطنات قانونية وأنها ليست عقبة في طريق السلام. ولكن حتى يصل إلى هذه الخطوة فإن ترمب يحتاج إلى تأييد ثمانية من أعضاء مجلس الأمن إضافة إلى الولايات المتحدة، كما يحتاج إلى ضمان أن كلًا من روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا لن تستخدم الفيتو؛ وهذا طبعًا أمر ضعيف الاحتمال في وقوعه.

ثانيًّا: استئناف المفاوضات
صحيح أن القرار 2334 غير ملزم لإسرائيل لكنه يشكل دافعًا نحو المفاوضات من أجل تلافي تبعاته على المستوى الدولي، ومن ثم فهو قد يفتح الباب مجددًا أمام المفاوضات في ظل إدارة أميركية جديدة، وبخاصة إذا ما تم ربط هذا القرار بخطاب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي سوف نتعرض له لاحقًا. فهذا القرار لا يعني أن القضية قد حُلَت، وإنما هو ذريعة من أجل المفاوضات ومن أجل دفع عملية السلام الأميركية بغرض الوصول إلى حل الدولتين؛ وبخاصة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
لقد جاء هذا القرار بصراحة كما أكد ذلك أيضًا خطاب جون كيري؛ ليبرئ عمليًّا ساحة الفلسطينيين أمام الرأي العام الدولي من أية مسؤولية عن تعثر مسار المفاوضات. وبنفس القدر الذي أرادته أميركا مكسبًا سياسيًّا للفلسطينيين، فإن هذا القرار الدولي ضربة معنوية لإسرائيل التي تفضل الاستفراد بالفلسطينيين على خلاف أجندة أميركا التي تريد أن تجعل من قضية فلسطين وقضية إسرائيل نفسها قضية دولية ولكن وفق المصالح الأميركية. فأميركا هي التي تقف وراء امتناع السلطة الفلسطينية عن المفاوضات المباشرة مع يهود بانتظار فرض إملاءات على إسرائيل من المجتمع الدولي.

ثالثًا: تحجيم إسرائيل
جاء هذا القرار كرسالة سياسية من حكام أميركا الفعليين بأن المستوطنات تحظى بالرفض الدولي وهي سوف تعزل إسرائيل في المحافل الدولية، وأنه لا يكفي أن ينتقد الرئيس ترمب هذا القرار حتى تلقى إسرائيل قبولًا دوليًّا في سياسة الاستيطان؛ لأنها سياسة ضد المصالح الأميركية، فهي تقضي على حل الدولتين وعملية السلام نفسها، كما سنرى ذلك لاحقًا مع خطاب وزير الخارجية الأميركي جون كيري.
إن أكثر ما تخشاه إسرائيل أن تصبح في عزلة دولية وبخاصة من قبل أميركا وأوروبا اللتين تمثلان الحبل السُري لبقائها على قيد الحياة بعد أن انقطع عنها "حبل الله". فالعزلة الدولية لإسرائيل سوف تزيد من إمكانيات تقديم شكاوى ضد إسرائيليين على المستوى السياسي والعسكري في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كما أنها سوف تعزز من قوة حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل وحركة نزع الشرعية عنها سياسيًّا واقتصاديًّا وقانونيًّا.
وهذا ما يفسر الهجوم الشديد الذي شنته إسرائيل على مؤتمر باريس الدولي للسلام يوم 15/1/2017. فقد صرح وزير الأمن الإسرائيلي، أفغيدور ليبرمان، يوم 26/12/2016 أن مؤتمر باريس "مؤامرة ضد إسرائيل". أما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فقد صرح يوم المؤتمر، أن مؤتمر باريس عبثي ويهدف إلى فرض شروط على إسرائيل، وهو أحد سمات مرحلة قد انقضت.

3-/ خطاب جون كيري:
في مؤتمر صحافي عقده مساء يوم الأربعاء 28/12/2016 في مقر وزارة الخارجية بواشنطن، تحدث وزير الخارجية الأميركي وبشكل صريح عن المصالح الأميركية في علاقتها بإسرائيل من خلال عرض "رؤية شاملة" لعملية السلام المتعثرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبدأ كيري كلامه بالقول: "خلال ولايتيْ إدارة باراك أوباما، التزمت الإدارة الأميركية بأمن إسرائيل، ونحن دائمًا ندافع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، حتى أن نصف المساعدات الخارجية الأميركية قدمناها لإسرائيل، ولكن في الوقت نفسه أود التأكيد أن علينا الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة، وجميع الإدارات الأميركية، ديمقراطية وجمهورية عارضت الاستيطان في الأراضي المحتلة".
وأكد كيري لحكام إسرائيل أن دولتهم التي يستمر وجودها بسبب الدعم الأميركي لها لا يجب عليها أن تعرّض المصالح الأميركية في المنطقة للخطر، قائلًا: أن "حل الدولتين هو الطريق الوحيد لمستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية"، محذرًا من أن "حل الدولتين بات الآن في خطر لغياب الحوار، وأصبح الآن على المحك بسبب العنف والتحريض والاحتلال والاستيطان. بعضهم يعتقد أن صداقتنا مع دول تعني القبول بكل السياسات حتى لو كانت تعارض سياستنا. أخفق الإسرائيليون في الاعتقاد أننا لن نقف في وجه القضاء على حل الدولتين".
ثم دافع كيري عن القرار 2334 الذي أدان فيه مجلس الأمن "الاستيطان الإسرائيلي" بالقول: "ما قمنا به في مجلس الأمن يتماهى مع قيمنا، ولحماية أمن إسرائيل"، مشيرًا إلى أن "قرار مجلس الأمن الدولي الأخير يؤكد عدم مشروعية المستوطنات وهذا أمر ليس جديدًا، وبخاصة التأكيد على أن القدس الشرقية أرض احتلتها إسرائيل في عام 1967".
وتابع كيري قائلًا: "إن وتيرة الاستيطان الإسرائيلي زادت بشكل كبير في الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى قرب الحدود الأردنية، وهذا يبعث رسالة سيئة للفلسطينيين، لافتًا إلى أن "بعض المستوطنات قد تبقى مع إسرائيل في إطار اتفاق تبادل الأراضي مع الفلسطينيين"، مضيفًا أن "رئيس الوزراء الإسرائيلي يدعم على الملأ حل الدولتين، لكن حكومته المتشددة والتزامها بالاستيطان يقوض ذلك".
وبعد أن ربط جون كيري بين وجود "المستوطنات" واستحالة قيام "دولة فلسطينية" بالقول أن "هناك مستوطنات إسرائيلية غير شرعية حتى وفق القانون الإسرائيلي، وهناك مئات المستوطنات غيرها وهو ما يجعل إقامة دولة فلسطينية أمرًا صعبًا"، توجه برسالة إلى حكام إسرائيل مفادها أن قضية التطبيع مع الدول العربية لن تحصل ما لم يتم إقامة دولة فلسطينية أولًا.
فقد أكد كيري بصريح العبارة أن "من يفكر بالسلام بجدية عليه أن يفكر بخطورة المستوطنات"، مضيفًا أن "الدول العربية لن تطبّع العلاقات مع إسرائيل إن لم تحلّ مشكلتها مع الفلسطينيين". وهذه رسالة واضحة أيضًا إلى حكام العرب بأنه يجب عليهم إيقاف الهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل؛ لأن ذلك لا يخدم المصالح الأميركية في هذه المرحلة.
وبعد كل هذه الخطوط الحمر التي وضعها جون كيري في وجه إسرائيل فيما يتعلق برؤية أميركا لمشكلة الاستيطان والقدس وحل الدولتين وعملية السلام، ختم كلامه بالقول: أن "تحديد سياسات المستوطنات والقدس وحل الدولتين يعود لإدارة ترمب".
والحقيقة أن هذا الكلام كما هو موجه لإسرائيل فهو موجه إلى إدارة ترمب القادمة التي يجب أن تضع في اعتبارها المصالح العليا لأميركا قبل إرضاء إسرائيل أو أي طرف ثان في المنطقة. فما يجب أن يفهمه دونالد ترمب هو أن قضية فلسطين وقضية إسرائيل هما من القضايا الكبرى التي تستعملها أميركا في المنطقة من أجل تركيز النفوذ وإحكام سيطرتها على أهل المنطقة وثرواتهم.
ورغم ادعاء جون كيري بأن تحديد هذه السياسات يعود إلى إدارة ترمب لكنه عمليًّا قدم رؤية شاملة للمفاوضات القادمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين تقوم على ستة "مبادئ" هي: أولًا، "الاعتراف بحدود دولية أساسها خطوط عام 1967 المحددة في قرار مجلس الأمن رقم 242". ثانيًّا: "تنفيذ رؤى الأمانة العامة للأمم المتحدة المتمثلة في القرار 181 من وجود دولتين بشعبين، إحداهما عربية والأخرى إسرائيلية، وباعتراف متبادل وبحقوق كاملة متساوية لكل مواطنيهما". ثالثًا: "تقديم حل عادل، مقبول وواقعي لأزمة اللاجئين الفلسطينيين". رابعًا: أن تكون القدس "عاصمة معترف بها لكلا الدولتين"، مع ضمان حرية الوصول إلى المواقع المقدسة بما يوافق حالة الوضع الراهن. خامسًا: "الإيفاء بمتطلبات أمن إسرائيل، ووضع حد نهائي للاحتلال" الذي تمارسه القوات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وأن تضمن المفاوضات لإسرائيل "الدفاع عن نفسها بشكل فعال"، وتمكن "فلسطين من تقديم الأمن لشعبها في دولة ذات سيادة منزوعة السلاح". سادسًا: "إنهاء النزاع حول جميع القضايا العالقة بما يسمح لتطبيع العلاقات وتعزيز الأمن الإقليمي للجميع كما حددته المبادرة العربية للسلام".

Abu Taqi
18-01-2017, 10:41 PM
وتناغمًا مع توجيهات جون كيري صرَّح محمود عباس، مباشرة بعد الخطاب أن القيادة الفلسطينية على استعداد لاستئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل، في حال وافقت على وقف الاستيطان وتنفيذ الاتفاقيات الموقعة؛ جاء ذلك في بيان صحفي تلاه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، أمام وسائل الإعلام في مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، بالضفة الغربية.
وأضاف عريقات أن "الرئيس عباس استمع باهتمام بالغ لخطاب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، مؤكدًا التزامه بالسلام العادل كخيار استراتيجي"، وتابع عريقات نقلًا عن عباس، أنه "في حال وافقت الحكومة الإسرائيلية على وقف الأنشطة الاستيطانية بما يشمل القدس الشرقية، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة بشكل متبادل، فإن القيادة الفلسطينية على استعداد لاستئناف مفاوضات الوضع النهائي معها".

4-/ عملية السلام:
لقد جاء توقيت قرار مجلس الأمن الدولي وخطاب كيري استباقًا للتوجهات الضبابية لإدارة ترمب إزاء عملية السلام وإعلان هذه الإدارة عن نواياها بإدخال تغييرات جوهرية على استراتيجية أميركا في الشرق الأوسط. ولذلك جاء كل من خطاب كيري والقرار الدولي (2334) تحذيرًا من "الإستبليشمنت" الأميركية (الدولة العميقة) إلى إدارة ترمب بعدم الانجرار وراء إسرائيل التي تريد القضاء على حل الدولتين وضم كامل الضفة الغربية إليها.
فقد صوت الكنيست الإسرائيلي مؤخرًا على اقتراع تمهيدي، لصالح مشروع يريد إضفاء "الشرعية" على نحو 4 آلاف منزل استيطاني، شيد فوق أملاك فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة. وقد علق وزير التعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، بالقول أن الاقتراع التمهيدي يمثل "خطوة أولى نحو السيادة الإسرائيلية في يهودا والسامرة".
وهنا استعانت أميركا بمجلس الأمن وما يسمى بـ"الشرعية الدولية" كأحد أدواتها الدبلوماسية في محاصرة إسرائيل وفي حل قضية فلسطين، وبخاصة بعد أن قام دونالد ترمب بتعيين دايفيد فريدمان، سفيرًا للولايات المتحدة الأميركية، وهو المؤيد لسياسة الاستيطان والمعارض لحل الدولتين.
وفي هذا السياق يأتي مؤتمر باريس الدولي للسلام، الذي عقد يوم 15/1/2017، والذي مهدت له أميركا بالقرار 2334 وبخطاب كيري، بغاية وضع إطار تفاوضي بين اليهود والفلسطينيين ضمن شروط محددة وخريطة طريق واضحة لعملية سلام مستقبلية في ظل إدارة ترمب القادمة.
صحيح أن أميركا لا تبدو عليها الجدية في الدفع بعملية السلام، وهذا بات واضحًا منذ فترة طويلة وبخاصة خلال فترة حكم باراك أوباما لكن ذلك لا يعني أنها سوف تعرّض نفوذها ومصالحها للخطر بسبب التعنت الإسرائيلي. وصحيح أيضًا أن أولوية أميركا في المنطقة هو تركيز نفوذها ونهب الثروات ومحاولة صياغة المنطقة وأهلها على مقتضى أهدافها في الاستعمار، وبخاصة تغيير الأفكار والمشاعر لتكون مبنية على قاعدة فصل الحياة والسياسة عن الإسلام، لكنها أيضًا تستعمل القضية الفلسطينة كأحد أهم أدواتها في تحقيق ذلك.
والدليل على ذلك أن القضية الفلسطينية لا تنقصها القرارات الدولية، حتى تتعلل أميركا بمسألة الاستيطان كعائق أمام المفاوضات واستئناف عملية السلام. ولكن الحقيقة أن القرارات الدولية الأخيرة سواء فيما يتعلق بقرار منظمة اليونسكو أو بالقرار 2334 أو بخطاب كيري وما سوف يتبعه من مخرجات في مؤتمر باريس ليست بمعزل عن معالجة النفوذ الأميركي في المنطقة وتنفيذ رؤيتها لمشروع "الشرق الأوسط الكبير".
وبناءً عليه فإنه يجب أن يكون واضحًا، حتى يستقيم الفهم السياسي وتحسن متابعة الأحداث الجارية، أن أميركا لا تضطر للدفع بعملية السلام في قضية فلسطين إلا من أجل تركيز نفوذها وصياغة المنطقة حسب مخططاتها وليس العكس كما يتوهم كثير من الناس بسبب ما تروج له أميركا ذاتها. فأميركا توهم العالم بأن هناك عملية سلام تسير بين إسرائيل والفلسطينيين مع أن هذه العملية غير موجودة بشكل متواصل أو حتى مستقل إلا بالقدر الذي يخدم تركيز النفوذ وصياغة المنطقة وأهلها عندها. فقد سرَّبت ويكيليكس مؤخرًا رسالة للمرشحة الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون بتاريخ 23/3/2015 إلى الرئيس باراك أوباما تقول فيها: "إن عملية سلام وهمية أفضل من عدمها".
لقد أوهمت أميركا العالم والمسلمين خصوصًا بأن قضية فلسطين وعملية السلام هي في أعلى سُلَّم مركز اهتمامها في سياستها الخارجية للشرق الأوسط، وذلك من أجل تشتيت انتباه المسلمين عن قضيتهم المركزية بإقامة دولتهم على أساس الإسلام وصرف جهودهم عن العدو الأول الذي يقف وراء كيان يهود في المنطقة؛ أي أميركا ذاتها.
ويبدو أن كثيرًا من المسلمين بمن في ذلك من يتصدرون للسياسة تحت راية الإسلام قد ابتلعوا هذا الطعم وصاروا يفهمون الأحداث ويخاطبون الأمة بمقتضى هذا التضليل الأميركي. والحقيقة أن أميركا تتخذ من قضية فلسطين ومن قضية إسرائيل أداة لتركيز نفوذها واستعمارها ووسيلة من أجل إعادة صياغة دول المنطقة وشعوبها بما يرسخ من استفرادها برعاية شؤون العالم وتفردها بالموقف الدولي.

18/ربيع الآخر/1438هـ
17/1/2017م

نائل سيد أحمد
19-01-2017, 12:09 AM
يبدو أن كثيرًا من المسلمين بمن في ذلك من يتصدرون للسياسة تحت راية الإسلام قد ابتلعوا هذا الطعم وصاروا يفهمون الأحداث ويخاطبون الأمة بمقتضى هذا التضليل الأميركي. والحقيقة أن أميركا تتخذ من قضية فلسطين ومن قضية إسرائيل أداة لتركيز نفوذها واستعمارها ووسيلة من أجل إعادة صياغة دول المنطقة وشعوبها بما يرسخ من استفرادها برعاية شؤون العالم وتفردها بالموقف الدولي.

18/ربيع الآخر/1438هـ