المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متابعة سياسية حول اغتيال السفير الروسي في أنقرة



Abu Taqi
20-12-2016, 11:51 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة سياسية
اغتيال السفير الروسي في أنقرة

لا بد قبل الدخول في تحليل الحدث من إيضاح ملاحظات ثلاث:
أولاها: إن ما نطرحه من رأي سياسي لا يدور حول من نفذ عملية الاغتيال للسفير الروسي، وهو شاب اندفع لمثل هذا العمل لتجاوبه مع مشاعره الجياشة تجاه ما حدث ويحدث لأخوته في سوريا، بل وإن ما تحدث به الشاب الذي كان يضحي بنفسه ليدل على معدن هذه الأمة المضحية والأصيلة، والتي تستحق أن تتسيد الأمم باعتبارها صاحبة رسالة إنقاذ للبشرية من الظلام الذي تعيشه في ظل النظام الرأسمالي العفن، إلا أن كل ذلك لا يمنع من التفكير في الحدث ومن وراءه حتى يكون المسلمون على بينة مما يكيده أعداء الله لهم.
ثانيها: فقد سبق لأردوغان أن أغضب أسياده الأميركان في أكثر من مسألة، ومن ذلك ما يخص المسألة الكردية، حيث تريد الإدارة الأميركية منه أن يتغاضى عن نشأة كيان كردي على طول الحدود التركية السورية، وهو يدرك أن الداخل التركي سيتحرك سريعًا نحو التصدع لو وافق على ما تريده الإدارة الأميركية التي تهدف إلى تحريك الأكراد نحو الانفصال بل والسير نحو حلم كردستان الكبرى. ومع أنه لوحظ موافقة تركيا على عدم التعرض للأكراد في شمال شرق سوريا (شرق الفرات) ودل على ذلك تعهد الأتراك بعدم التعرض لوحدات الحماية الكردية في نطاقه وتعهد الأميركان على لسان نائب الرئيس جو بايدن بخروج الأكراد من منبج بعد أسبوعين من تخليصها من يد تنظيم الدولة إلا أن الإدارة الأميركية لم تف بتعهداتها، ومع شعور الأتراك بخداع الإدارة الأميركية لهم بعدم خروج وحدات الحماية الكردية والتي تشكل معظم ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية وقوات الاتحاد الديموقراطي من منبج، بل واتخاذها وضعًا قتاليًّا مما جعل أردوغان يسارع لأخذ مدينة الباب قبل وصول الأكراد إليها، وتوعده بأخذ منبج لعدم تمكين الأكراد من بسط سيطرتهم على ممر يصل شرق الفرات بغربه، فأردوغان الذي دخل جرابلس والراعي تحت غطاء جوي أميركي أدرك عدم وفاء الأميركان بتعهداتهم وأنهم يراوغون ويخدعونه، وبخاصة وأن عملية الرمح النبيل التي استهدفت تنظيم الدولة شكلًا إلا أنها كانت بمنزلة إبطاء للتقدم السريع لقوات درع الفرات ولمنع اجتياحها لمناطق يسيطر عليها الأكراد.
ثالثها: مع شعور أردوغان بقوته في داخل تركيا فقد بدرت منه تصرفات يخالف فيها الإدارة الأميركية التي يريدها أن تتعامل معه _بعد تتبع مواقفه_ كما تتعامل مع زعماء أوروبا لا كبقية عملائها في دول العالم الثالث، ولذلك بات يظهر جليًّا ضغوطاتها عليه، ومن ذلك ما رأيناه من تفجيرات 10/12 وما تلاها من تفجير حافلة الجند قبل يومين، ومحاولة التأثير سلبًا على الاقتصاد التركي. وعليه فلا يستغرب أن تقوم الإدارة الأميركية بإيجاد حالة عدم استقرار لحكم العدالة والتنمية لإعادة تدجين أردوغان أو حتى العمل على التخلص منه لو لزم الأمر.
وعودة إلى مسألة اغتيال السفير الروسي في أنقرة، فإنها جاءت قبل ساعات من انعقاد اللقاء الثلاثي بين وزراء دفاع وخارجية تركيا وروسيا وإيران، وكان السفير الروسي يلقي كلمة لدى حضوره معرضًا للفن الروسي في العاصمة أنقرة عندما أطلق عليه النار مولود ألتنطاش، والذي تشير المعلومات عن وجود علاقة له مع جماعة فتح الله غولن، أو ما يسمى بالتنظيم الموازي والمرتهن للإرادة الأميركية .
وبالنظر إلى التوقيت وإلى شخصية المستهدف فإن من يقف وراء هذه العملية هي قوى دولية على رأسها أميركا. فالاغتيال جاء عشية الاجتماع الثلاثي التركي الروسي الإيراني في موسكو لبحث القضية السورية. كما أن الاغتيال جاء قبل يوم أيضًا من تقديم حزب العدالة والتنمية ملف التعديل الدستوري إلى البرلمان.
وبناءً عليه فإن عملية اغتيال السفير الروسي يرجح انها صدرت عن قرار دولي أريد له أن يحقق جملة من الأهداف القريبة والمتوسطة:

أولًا: إفشال اللقاء الثلاثي في موسكو المتعلق بسوريا
فالعاصمة الروسية موسكو تحتضن اليوم 20/12/2016 اجتماعًا ثلاثيًا يضم كلًا من وزراء خارجية روسيا سيرغي لافروف، وتركيا مولود جاويش أوغلو، وإيران محمد جواد ظريف، للنظر في القضية السورية. وسيتم خلال الاجتماع مناقشة آخر التطورات الحاصلة على الصعيد السوري، وبخاصة مسألة إجلاء المدنيين المحاصرين في شرقي محافظة حلب. كما سيتم خلال الاجتماع مناقشة فكرة جمع المعارضة السورية بممثلين للنظام السوري في كازاخستان، بغية تجهيز الأرضية المناسبة للانتقال إلى "الحل السياسي" الذي من شأنه إنهاء الأزمة السورية.
ورغم أن أميركا تسعى هي أيضًا إلى إيجاد أرضية سياسية لفرض الفدرالية والعلمانية في سوريا وبخاصة بعد نجاحها في تمكين نظام بشار من شرق حلب؛ لكنها غير مرتاحة لحضور تركيا في المفاوضات وبخاصة بعد أن فشلت في إدخالها في دائرة "الفوضى الخلاقة" مع سوريا والعراق. أما إيران فإنها لا تزال على عمالتها التامة لأميركا وهي تنفذ بكل إخلاص مخططات أميركا في المنطقة تحت شعارات "الحرب الطائفية".
وإدراكًا من روسيا أن من أهداف اغتيال السفير الروسي هو إفشال اللقاء الثلاثي صرح رئيس لجنة العلاقات الدولية في الدوما: إن اغتيال السفير كارلوف لن يفسد العلاقات مع تركيا، مضيفًا أن المحادثات مع تركيا وإيران بشأن سوريا ستجري في موعدها رغم حادثة مقتل السفير.

ثانيا : محاولة منع مشروع التعديل الدستوري في تركيا
إن حادثة الاغتيال تذكرنا بما سبق وأن قاله رئيس حزب الشعب الجمهوري متوجهًا لحزب العدالة والتنمية بأن النظام الرئاسي "لا يمكن لكم تحقيقه دون إراقة دماء". ومن المعلوم أن إقرار النظام الرئاسي يزيد في صلاحيات أردوغان، وهو ما لا يتوافق مع الإرادة الأميركية حاليًّا التي يبدو أنها ما عادت تنظر إلى أردوغان نظرة ارتياح بعد محاولاته العديدة لمخالفة إرادتها.
ولذلك لوحظ استخدامها لحزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديموقراطي وغيرهم من عملائها _الذين ينافسون أردوغان وحزبه ومن يؤيده_ أدوات قوية ليقفوا في وجهه لمعارضة التعديل الدستوري الخاص بتحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي. وقد جاءت عملية الاغتيال أيضًا بعد حوادث التفجيرات والهجمات الداخلية التي ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة لتزعزع الثقة في تركيا وفي قدرتها على حماية الأمن بعامة وحماية السفراء والأجانب بخاصة.
ولزيادة رجحان الظن في تحقيق هدف إظهار عدم الاستقرار، فقبل يومين من الاغتيال تعرض مقر حزب الشعوب الديمقراطي في عدد من المحافظات لهجمات متفرقة، وقد أثبتت التحقيقات أن من قام بذلك هم عناصر من حزب الشعوب الديمقراطي نفسه.
إن عملية الاغتيال بعد ربطها مع بقية التفجيرات والهجمات السابقة تهدف إلى إيجاد تراكم في وعي الناس بتركيا أن حزب العدالة والتنمية غير جدير بحكم البلاد ومن باب أولى أنه غير قادر على إيجاد الاستقرار السياسي بعد إقراره للنظام الرئاسي من خلال البرلمان ثم الاستفتاء.

ثالثًا: ضرب العلاقات الروسية التركية
كان من الممكن أن يتم اغتيال وقتل عدد من السياح الروس في تركيا للتشويش على العلاقات الروسية التركية؛ لكنه تم اغتيال السفير لما له من رمزية كبيرة في محاولة نسف العلاقات المتنامية بين روسيا وتركيا. ولذلك جاء هذا الاغتيال كمحاولة لتكرار حادثة إسقاط الطائرة الروسية في تشرين ثاني/نوفمبر 2015. فكلا الحادثتين لهما علاقة بالسيادة والكرامة الروسية، هذا بالإضافة إلى أن السفير أندريه كارلوف كان له دور كبير في تحسين العلاقات بين البلدين.
وقد أدرك كل من زعماء روسيا وتركيا هذا الهدف من وراء عملية الاغتيال وتصرفا بشكل مغاير لما حدث بعد حادثة سقوط الطائرة. فقد ذكر رئيس الوزراء التركي: أن الهدف من اغتيال السفير الروسي هو الاضرار بالعلاقات التركية الروسية، مضيفًا بأنه: لن نسمح بالإضرار بالعلاقات مع روسيا ولن نقع في فخ الإرهاب.
أما الرئيس أردوغان فقال: بعضهم يحاول استغلال الحادث للتأثير على علاقاتنا بموسكو ولكنهم لن يفلحوا، مضيفًا أن اغتيال السفير الروسي عمل تحريضي يستهدف العلاقات الجيدة بين البلدين. وبالنسبة للرئيس فلادمير بوتين، وهو رجل المخابرات، فقال: إن الاغتيال يهدف لإفساد العلاقات الروسية التركية وعرقلة عملية السلام السورية.

رابعًا: تشويه سمعة روسيا بين المسلمين
رغم أن هناك شعورًا في روسيا وتركيا بالاستهداف المشترك من قبل من خطط لهذه العملية، إلا أن روسيا ترى أن هذه العملية يراد بها أيضًا تحميل روسيا مسؤولية كل الجرائم التي وقعت في حلب وسوريا. وهذا ما جعل روسيا تقول أنها ستطرح مسألة مقتل السفير في تركيا على مجلس الأمن، وذلك في محاولة منها لتحويل الرأي العام من النظر إليها كدولة معتدية على حلب إلى دولة "ضحية الإرهاب".
فما صدر على لسان قاتل السفير فيه استهداف مباشر لسمعة روسيا على مستوى الرأي العام الإسلامي والدولي.
واخيرًا فإنه من الواضح أن أصابع الاتهام موجهة لمن لا يريد للتقارب الروسي - التركي أن ينجح ويستمر وبخاصة مع تعارضه مع مصلحة أميركا التي تهدف إلى تحجيم روسيا ودفعها لتكون إحدى دول أوروبا.
وهي موجهة لمن لا يريد لتركيا أن تلعب دورًا أكبر من حجم الدور المطلوب منها في الملف السوري وغيره من الملفات الداخلية والخارجية.
إن أول المتهمين بعملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة هي أميركا التي عملت ولا تزال على جعل تركيا جزءًا في دائرة "الفوضى الخلاقة".
ومع كل ذلك فمن المستبعد أن يكون لهذا الحادث تأثير سلبي على العلاقات التركية الروسية، فهي أزمة عابرة ربما تزيد في تعميق العلاقات البينية وبخاصة بعد أن بدأت روسيا تدرك أنه ليس من مصلحتها الاستراتيجية سقوط حكم أردغان ولا سقوطها هي كثيرًا في المستنقع السوري.

21/ربيع الأول/1438هـ
20/12/2016م