عبد الواحد جعفر
28-10-2016, 07:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
لبنان: ترشيح الحريري عون للرئاسة
بعد عامين ونصف من الفراغ الرئاسي الذي عانت منه لبنان، بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني واختلاف الكتل النيابية على المرشح الملائم، ومع اقتراب عقد الجلسة البرلمانية المقبلة لانتخاب رئيس في 31 تشرين أول/أكتوبر الجاري، أعلن زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري يوم 20/10/2016 م تأييده ترشيح رئيس "تكتل التغيير والإصلاح" ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
لقد جاءت هذه الانعطافة السياسية في قرار الحريري بعد مشاورات داخلية وخارجية استمرت قرابة ثلاثة أسابيع تلبية لاحتياجات إقليمية ودولية أكثر منها داخلية. فالشغور الرئاسي مستمر منذ 25 أيار/مايو 2014، ولم يحدث أي جديد على المستوى الداخلي، لكن الأوضاع الإقليمية التي تشهد تحولات كبيرة فرضت على أميركا وفرنسا أن تعملا على سد هذا الفراغ في أعلى هرم "الدولة اللبنانية".
وقد حاولت كل من أميركا وفرنسا النأي بنفسيهما ظاهريًّا عن هذا الحراك اللبناني حتى يبدو موقف الحريري وكأنه يأتي في سياق الأعمال السياسية الداخلية، مع أن الحريري قد أعلن عن موقفه الجديد بُعيد عودته من زيارة قام بها إلى روسيا والسعودية قادما من باريس.
فقد قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري في واشنطن يوم 21/10/2016: "نحن نأمل بالتأكيد بأن (يحدث) تطور في لبنان، لكنني لست واثقًاً بنتيجة دعم سعد الحريري (..) لا أدري". وأضاف كيري بحذر: "نحن نأمل بأن يتم تجاوز هذا المأزق الذي يؤثر على لبنان والمنطقة". أما فرنسا فقد صرح مصدر فيها لجريدة "الحياة" أن باريس "ستمتنع عن الإدلاء بأي تصريح. حتى يوم انتخاب الرئيس في لبنان، لأنها لا تريد التدخل ولا تأييد أي كان، فلا مرشح لديها".
دوافع القرار..
والمدقق في سياسة أميركا يرى أنها تريد أن لا يتأثر لبنان في الوقت الحالي بالتحولات التي تشهدها المنطقة ومن باب أولى أن لا يكون في دائرة الحروب التي أشعلتها أميركا. ومن هنا جاء تمرير الموافقة على ترشيح ميشال عون رغم الرفض السعودي السابق لهذا الاختيار.
وقد عبر سعد الحريري عن هذا الأمر في كلمته بالقول: "بناءً على نقاط الاتفاق التي وصلنا إليها، أعلن اليوم أمامكم عن قراري بتأييد ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية. هذا قرار نابع من ضرورة حماية لبنان والنظام والدولة والناس، لكنّه مرة جديدة قرار يستند إلى اتفاق بأن نحافظ معاً على النظام ونقوّي الدولة ونعيد إطلاق الاقتصاد ونحيد أنفسنا عن الأزمة السورية".
وبالنظر في كلام الحريري يتضح أنه لم يتحرك من تلقاء نفسه بل جاء قراره تلبية لأوامر خارجية (أميركية وأوروبية) من أجل تجنيب لبنان الوقوع في ثلاثة مخاطر لها تأثير على مخططات أميركا في المنطقة وحاجة أوروبا للأمن ولبقاء لبنان تحت وصاية الثقافة الغربية.
أولًا: الحرب الأهلية
إن الحرب المستعرة في الموصل، وما يصاحبها من مخططات طائفية وتقسيمية، وإن ما تشهده سوريا من حرب مدمرة وبخاصة في حلب، وما يراد الوصول إليه من ترسيم جديد لبلاد الشام بقوة السلاح والمفاوضات القادمة هي من أهم الأسباب التي ساهمت في دفع الدول المعنية بالسير نحو إيجاد رئيس للبنان.
وقد عبر سعد الحريري عن هذا المعنى بقوله عندما وصف لبنان بأنه "جزيرة آمنة نسبياً في بحر من الحروب الطاحنة، لكن الحفاظ على هذا الهدوء لن يكون بالصدفة، إنما بإنهاء الفراغ الرئاسي وحماية الدولة من هيمنة السلاح غير الشرعي عبر تعزيز مؤسساتها".
فالحروب الدائرة في المنطقة وارتداداتها على التطورات الداخلية في لبنان قد تُحوِّل منطقة الشمال اللبناني إلى حاضنة "جهادية" من الممكن أن تؤثر على الوضع العسكري لحزب الله الذي أوكلت له أميركا مهمة القتال إلى جانب بشار الأسد. وهذا الاختلال في موازين القوى قد يشجع أطرافًا في الداخل منفلتة من الارتباطات الإقليمية والدولية أن تعلن الحرب على حزب الله الذي أصبح بندقية مأجورة على الجبهة السورية.
ثانيًا: الهجرة إلى أوروبا
رغم ضعف احتمال نشوب حرب أهلية في لبنان، فإن الدول الغربية تُعوِّل على نجاح مسار الوصول إلى انتخابات رئاسية في انتظار ما سوف تسفر عنه حروب سوريا والعراق، التي قد يترتب عليها انتشار عناصر التنظيمات "الجهادية" في لبنان ومن ثم تحولهم إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط؛ وهذا أمر بات يمثل هاجسًا لدول أوروبا في الفترة الأخيرة.
وعن هذا المعنى قال سعد الحريري في كلمته: "لا يكذّبن أحد على أحد ويقول إن أيّ حرب جديدة لا سمح الله هذه المرّة ستكون أرحم أو أسرع أو أقصر. يكفّي أن نتطلّع من حولنا إلى سورية والعراق واليمن وليبيا. هذه البلاد التي صار أهلها لاجئين مشرّدين أو جثثاً عائمة على سطح البحر الأبيض المتوسط".
ولذلك لم تبحث الوفود الأوروبية التي زارت لبنان مسألة شغور منصب الرئاسة فقط، بل كانت تركز على وضع منطقة الشمال البحرية، واحتملات تحولها إلى معبر للتوجه نحو أوروبا. فأولويات قادة أوروبا حاليًّا هو منع تفاقم أزمة اللاجئين السوريين بخاصة وتزايد أعداد المهاجرين نحو القارة العجوز.
ثالثًا: التغيير السكاني
إن مما تخشى منه الدول الغربية هو تزايد أعداد النازحين السوريين الذين فاق عددهم المليون، وانعكاس ذلك على التركيبة السكانية في لبنان. ورغم أن وضع اللاجئين في لبنان صعب ومزري لكنه يكفي أن يكونوا من العرب السنة حتى يتخوف الغرب ومن ورائه نصارى لبنان ويتخوف "شيعة" لبنان أيضًا من تأثير ذلك على موازين القوى في المستقبل القريب والبعيد.
ولذلك من الأهمية بمكان أن يحافظ عملاء الغرب في لبنان على نظام الطائف بما يعنيه من توزيع صلاحيات الحكم بين النصارى و"السنة" و"الشيعة" بغض النظر عن العدد السكاني لكل "طائفة". فما يتخوف منه الغرب جاء على لسان الحريري بالقول: "بات السّؤال ينتشر، أو ينشر، علنًاً وسرّاً، حول فشل النظام والطائف، وضرورة فرط النظام وإعادة تركيبه، بينما تتسابق العراضات الميليشيوية على شاشات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي".
ثم ربط الحريري بين ترشيح ميشال عون وبين نظام الطائف بالقول: "بقي خيار واحد: العماد ميشال عون. هكذا بوضوح وبصراحة. خصوصاً منذ أن تبنّى حلفاؤنا في "القوات اللبنانية" ترشيحه. لكنّ الأهم أنّنا نحن والعماد عون وصلنا في حوارنا أخيرًاً إلى مكان مشترك اسمه الدولة والنظام. هو لا يريد للدولة والنظام أن يسقطا، ولا نحن نريد لهما ذلك. واتفقنا بصراحة أنّ أحدًا لن يطرح أي تعديل على النظام قبل إجماع وطني من كل اللبنانيين على هذا الطرح. وهذا كلام ينطلق من إجماعنا الذي كتبناه في دستورنا، دستور الطائف، على أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربيّ الهوية والانتماء، وأنّ كلّ اللبنانيين يرفضون التجزئة والتقسيم والتوطين".
انقسام "المستقبل"..
هذه هي أهم الدوافع التي جعلت أميركا وفرنسا تحديدًا يتحركان من أجل اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية بعد أكثر من سنتين من شغور المنصب. فتغير الأوضاع الإقليمية في سوريا والعراق وتداعيات ذلك على التوازنات السياسية والتركيبة الديمغرافية في لبنان، جعلت الغرب يدفع بسعد الحريري والسعودية وإيران أن يسيروا في ترشيح ميشال عون.
لكن قرار الحريري أوجد حالة من الانقسام في "تيار المستقبل" بسبب رفض بعض نوابه اختياره لخصمهم ميشال عون، وكان أشد المعارضين لذلك هو أشرف ريفي، وزير العدل السابق، الذي قال: "ينتظرنا عهد قبل بدايته يذكرنا بممارسات نظام الوصاية الأمنية السورية". ثم وصف ما قام به الحريري بأنه "تسليم وسنواجه مهما كان الثمن" مشيراً أنه "لو كان أحد من شهدائنا الكبار موجود لما قبل بما تقومون به".
ورغم أن هؤلاء النواب المعارضين وعلى رأسهم فؤاد السنيورة قد اتفقوا مع النواب المستقلين على تشكيل تجمع رافض لميشال عون تحت اسم "الكتلة البيضاء"، إلا أن ذلك لن يؤثر كثيرًا على عملية الانتخاب. فقرار اختيار ميشال عون أو عدم اختياره ليس بأيدي السياسيين في لبنان الذين يوهمون أنفسهم والشعب بأن حراكهم نابع من إرادتهم.
التضحية والمكافأة..
ورغم أن الحريري حاول أن يبدو وكأنه قام بـ"التضحية" من أجل "سلامة وأمن لبنان" لكن الحقيقة أن اتفاقه مع ميشال عون وقبولهما معًا لإملاءات الغرب ستمكن الحريري من نيل منصب رئيس الوزراء للمرة الثانية. وهذه "المكافأة" هي من ضمن التفاهمات التي عقدت بين الحريري وعون بغض النظر عن حالة الامتعاض التي صدرت من رئيس مجلس النواب نبيه بري وزعيم الدروز وليد جنبلاط الذين لم تجر استشارتهما في هذه التفاهمات.
أما بقية التفاهمات حول الملفات الخلافية التي عقدت بين الحريري وعون ولها علاقة بالداخل اللبناني فأهمها هو تعيين قائد جديد للجيش وحاكم جديد لمصرف لبنان يكونان مقبولين من حزب الله. كما اتفق الطرفان على إبقاء قانون الستين وعدم تغيير قانون الانتخاب الذي يستلزم توافقًا وطنيًّا وقبولًا دوليًّا لما له من علاقة بتركيبة مجلس النواب والتوازنات السياسية.
أما أكبر النقاط الخلافية التي تم الاتفاق عليها فهي:
أولًا، عدم الخوض في موضوع سلاح حزب الله؛ لأنه موضوع مرتبط بتسوية إقليمية شاملة تشرف عليها أميركا وفرنسا.
وثانيًا، تحييد الدولة اللبنانية بالكامل عن الأزمة السورية وعدم العودة إلى علاقات طبيعية معها إلا بعد أن تتضح نتيجة الأوضاع السياسية والعسكرية في سوريا، وهذا يعني عدم القيام بأية زيارت رسمية ورئاسية خلال هذه الفترة.
تجار سياسة..
إن اظهار أميركا وفرنسا عدم تدخلهما في اختيار رئيس لبنان يُراد منه إبراز أن الحراك الداخلي هو حراك سياسي ذاتي نتيجة وعي الطبقة السياسية بالمخاطر وهي تتصرف من منطلق قناعاتها، كما ذهب إلى ذلك رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي قال أنه: "من المرات النادرة سيكون لنا رئيس صنع في لبنان".!
لقد غاب عن أمثال تجار السياسة هؤلاء أن لبنان كله صنع بإرداة دولية بعد أن تم فصله عن بلاد الشام بمقتضى اتفاقية سايكس- بيكو، وهو لا يزال محكومًا بهذه الإرادة الدولية التي جرى تعديلها وفق الشروط الأميركية في اتفاقية الطائف لعام 1989. وإن وضع لبنان لن يتغير إلا إذا شاءت أميركا تغيير ذلك وفق مشروع الشرق الأوسط الكبير أو أن يأخذ المسلمون على يد أميركا ويعيدوا لبنان إلى أصله بعد أن يتحرروا من الاستعمار الغربي ويطردوه من حيث جاء.
26/محرم/1438هـ
27/10/2016م
متابعة سياسية
لبنان: ترشيح الحريري عون للرئاسة
بعد عامين ونصف من الفراغ الرئاسي الذي عانت منه لبنان، بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني واختلاف الكتل النيابية على المرشح الملائم، ومع اقتراب عقد الجلسة البرلمانية المقبلة لانتخاب رئيس في 31 تشرين أول/أكتوبر الجاري، أعلن زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري يوم 20/10/2016 م تأييده ترشيح رئيس "تكتل التغيير والإصلاح" ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
لقد جاءت هذه الانعطافة السياسية في قرار الحريري بعد مشاورات داخلية وخارجية استمرت قرابة ثلاثة أسابيع تلبية لاحتياجات إقليمية ودولية أكثر منها داخلية. فالشغور الرئاسي مستمر منذ 25 أيار/مايو 2014، ولم يحدث أي جديد على المستوى الداخلي، لكن الأوضاع الإقليمية التي تشهد تحولات كبيرة فرضت على أميركا وفرنسا أن تعملا على سد هذا الفراغ في أعلى هرم "الدولة اللبنانية".
وقد حاولت كل من أميركا وفرنسا النأي بنفسيهما ظاهريًّا عن هذا الحراك اللبناني حتى يبدو موقف الحريري وكأنه يأتي في سياق الأعمال السياسية الداخلية، مع أن الحريري قد أعلن عن موقفه الجديد بُعيد عودته من زيارة قام بها إلى روسيا والسعودية قادما من باريس.
فقد قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري في واشنطن يوم 21/10/2016: "نحن نأمل بالتأكيد بأن (يحدث) تطور في لبنان، لكنني لست واثقًاً بنتيجة دعم سعد الحريري (..) لا أدري". وأضاف كيري بحذر: "نحن نأمل بأن يتم تجاوز هذا المأزق الذي يؤثر على لبنان والمنطقة". أما فرنسا فقد صرح مصدر فيها لجريدة "الحياة" أن باريس "ستمتنع عن الإدلاء بأي تصريح. حتى يوم انتخاب الرئيس في لبنان، لأنها لا تريد التدخل ولا تأييد أي كان، فلا مرشح لديها".
دوافع القرار..
والمدقق في سياسة أميركا يرى أنها تريد أن لا يتأثر لبنان في الوقت الحالي بالتحولات التي تشهدها المنطقة ومن باب أولى أن لا يكون في دائرة الحروب التي أشعلتها أميركا. ومن هنا جاء تمرير الموافقة على ترشيح ميشال عون رغم الرفض السعودي السابق لهذا الاختيار.
وقد عبر سعد الحريري عن هذا الأمر في كلمته بالقول: "بناءً على نقاط الاتفاق التي وصلنا إليها، أعلن اليوم أمامكم عن قراري بتأييد ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية. هذا قرار نابع من ضرورة حماية لبنان والنظام والدولة والناس، لكنّه مرة جديدة قرار يستند إلى اتفاق بأن نحافظ معاً على النظام ونقوّي الدولة ونعيد إطلاق الاقتصاد ونحيد أنفسنا عن الأزمة السورية".
وبالنظر في كلام الحريري يتضح أنه لم يتحرك من تلقاء نفسه بل جاء قراره تلبية لأوامر خارجية (أميركية وأوروبية) من أجل تجنيب لبنان الوقوع في ثلاثة مخاطر لها تأثير على مخططات أميركا في المنطقة وحاجة أوروبا للأمن ولبقاء لبنان تحت وصاية الثقافة الغربية.
أولًا: الحرب الأهلية
إن الحرب المستعرة في الموصل، وما يصاحبها من مخططات طائفية وتقسيمية، وإن ما تشهده سوريا من حرب مدمرة وبخاصة في حلب، وما يراد الوصول إليه من ترسيم جديد لبلاد الشام بقوة السلاح والمفاوضات القادمة هي من أهم الأسباب التي ساهمت في دفع الدول المعنية بالسير نحو إيجاد رئيس للبنان.
وقد عبر سعد الحريري عن هذا المعنى بقوله عندما وصف لبنان بأنه "جزيرة آمنة نسبياً في بحر من الحروب الطاحنة، لكن الحفاظ على هذا الهدوء لن يكون بالصدفة، إنما بإنهاء الفراغ الرئاسي وحماية الدولة من هيمنة السلاح غير الشرعي عبر تعزيز مؤسساتها".
فالحروب الدائرة في المنطقة وارتداداتها على التطورات الداخلية في لبنان قد تُحوِّل منطقة الشمال اللبناني إلى حاضنة "جهادية" من الممكن أن تؤثر على الوضع العسكري لحزب الله الذي أوكلت له أميركا مهمة القتال إلى جانب بشار الأسد. وهذا الاختلال في موازين القوى قد يشجع أطرافًا في الداخل منفلتة من الارتباطات الإقليمية والدولية أن تعلن الحرب على حزب الله الذي أصبح بندقية مأجورة على الجبهة السورية.
ثانيًا: الهجرة إلى أوروبا
رغم ضعف احتمال نشوب حرب أهلية في لبنان، فإن الدول الغربية تُعوِّل على نجاح مسار الوصول إلى انتخابات رئاسية في انتظار ما سوف تسفر عنه حروب سوريا والعراق، التي قد يترتب عليها انتشار عناصر التنظيمات "الجهادية" في لبنان ومن ثم تحولهم إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط؛ وهذا أمر بات يمثل هاجسًا لدول أوروبا في الفترة الأخيرة.
وعن هذا المعنى قال سعد الحريري في كلمته: "لا يكذّبن أحد على أحد ويقول إن أيّ حرب جديدة لا سمح الله هذه المرّة ستكون أرحم أو أسرع أو أقصر. يكفّي أن نتطلّع من حولنا إلى سورية والعراق واليمن وليبيا. هذه البلاد التي صار أهلها لاجئين مشرّدين أو جثثاً عائمة على سطح البحر الأبيض المتوسط".
ولذلك لم تبحث الوفود الأوروبية التي زارت لبنان مسألة شغور منصب الرئاسة فقط، بل كانت تركز على وضع منطقة الشمال البحرية، واحتملات تحولها إلى معبر للتوجه نحو أوروبا. فأولويات قادة أوروبا حاليًّا هو منع تفاقم أزمة اللاجئين السوريين بخاصة وتزايد أعداد المهاجرين نحو القارة العجوز.
ثالثًا: التغيير السكاني
إن مما تخشى منه الدول الغربية هو تزايد أعداد النازحين السوريين الذين فاق عددهم المليون، وانعكاس ذلك على التركيبة السكانية في لبنان. ورغم أن وضع اللاجئين في لبنان صعب ومزري لكنه يكفي أن يكونوا من العرب السنة حتى يتخوف الغرب ومن ورائه نصارى لبنان ويتخوف "شيعة" لبنان أيضًا من تأثير ذلك على موازين القوى في المستقبل القريب والبعيد.
ولذلك من الأهمية بمكان أن يحافظ عملاء الغرب في لبنان على نظام الطائف بما يعنيه من توزيع صلاحيات الحكم بين النصارى و"السنة" و"الشيعة" بغض النظر عن العدد السكاني لكل "طائفة". فما يتخوف منه الغرب جاء على لسان الحريري بالقول: "بات السّؤال ينتشر، أو ينشر، علنًاً وسرّاً، حول فشل النظام والطائف، وضرورة فرط النظام وإعادة تركيبه، بينما تتسابق العراضات الميليشيوية على شاشات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي".
ثم ربط الحريري بين ترشيح ميشال عون وبين نظام الطائف بالقول: "بقي خيار واحد: العماد ميشال عون. هكذا بوضوح وبصراحة. خصوصاً منذ أن تبنّى حلفاؤنا في "القوات اللبنانية" ترشيحه. لكنّ الأهم أنّنا نحن والعماد عون وصلنا في حوارنا أخيرًاً إلى مكان مشترك اسمه الدولة والنظام. هو لا يريد للدولة والنظام أن يسقطا، ولا نحن نريد لهما ذلك. واتفقنا بصراحة أنّ أحدًا لن يطرح أي تعديل على النظام قبل إجماع وطني من كل اللبنانيين على هذا الطرح. وهذا كلام ينطلق من إجماعنا الذي كتبناه في دستورنا، دستور الطائف، على أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربيّ الهوية والانتماء، وأنّ كلّ اللبنانيين يرفضون التجزئة والتقسيم والتوطين".
انقسام "المستقبل"..
هذه هي أهم الدوافع التي جعلت أميركا وفرنسا تحديدًا يتحركان من أجل اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية بعد أكثر من سنتين من شغور المنصب. فتغير الأوضاع الإقليمية في سوريا والعراق وتداعيات ذلك على التوازنات السياسية والتركيبة الديمغرافية في لبنان، جعلت الغرب يدفع بسعد الحريري والسعودية وإيران أن يسيروا في ترشيح ميشال عون.
لكن قرار الحريري أوجد حالة من الانقسام في "تيار المستقبل" بسبب رفض بعض نوابه اختياره لخصمهم ميشال عون، وكان أشد المعارضين لذلك هو أشرف ريفي، وزير العدل السابق، الذي قال: "ينتظرنا عهد قبل بدايته يذكرنا بممارسات نظام الوصاية الأمنية السورية". ثم وصف ما قام به الحريري بأنه "تسليم وسنواجه مهما كان الثمن" مشيراً أنه "لو كان أحد من شهدائنا الكبار موجود لما قبل بما تقومون به".
ورغم أن هؤلاء النواب المعارضين وعلى رأسهم فؤاد السنيورة قد اتفقوا مع النواب المستقلين على تشكيل تجمع رافض لميشال عون تحت اسم "الكتلة البيضاء"، إلا أن ذلك لن يؤثر كثيرًا على عملية الانتخاب. فقرار اختيار ميشال عون أو عدم اختياره ليس بأيدي السياسيين في لبنان الذين يوهمون أنفسهم والشعب بأن حراكهم نابع من إرادتهم.
التضحية والمكافأة..
ورغم أن الحريري حاول أن يبدو وكأنه قام بـ"التضحية" من أجل "سلامة وأمن لبنان" لكن الحقيقة أن اتفاقه مع ميشال عون وقبولهما معًا لإملاءات الغرب ستمكن الحريري من نيل منصب رئيس الوزراء للمرة الثانية. وهذه "المكافأة" هي من ضمن التفاهمات التي عقدت بين الحريري وعون بغض النظر عن حالة الامتعاض التي صدرت من رئيس مجلس النواب نبيه بري وزعيم الدروز وليد جنبلاط الذين لم تجر استشارتهما في هذه التفاهمات.
أما بقية التفاهمات حول الملفات الخلافية التي عقدت بين الحريري وعون ولها علاقة بالداخل اللبناني فأهمها هو تعيين قائد جديد للجيش وحاكم جديد لمصرف لبنان يكونان مقبولين من حزب الله. كما اتفق الطرفان على إبقاء قانون الستين وعدم تغيير قانون الانتخاب الذي يستلزم توافقًا وطنيًّا وقبولًا دوليًّا لما له من علاقة بتركيبة مجلس النواب والتوازنات السياسية.
أما أكبر النقاط الخلافية التي تم الاتفاق عليها فهي:
أولًا، عدم الخوض في موضوع سلاح حزب الله؛ لأنه موضوع مرتبط بتسوية إقليمية شاملة تشرف عليها أميركا وفرنسا.
وثانيًا، تحييد الدولة اللبنانية بالكامل عن الأزمة السورية وعدم العودة إلى علاقات طبيعية معها إلا بعد أن تتضح نتيجة الأوضاع السياسية والعسكرية في سوريا، وهذا يعني عدم القيام بأية زيارت رسمية ورئاسية خلال هذه الفترة.
تجار سياسة..
إن اظهار أميركا وفرنسا عدم تدخلهما في اختيار رئيس لبنان يُراد منه إبراز أن الحراك الداخلي هو حراك سياسي ذاتي نتيجة وعي الطبقة السياسية بالمخاطر وهي تتصرف من منطلق قناعاتها، كما ذهب إلى ذلك رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي قال أنه: "من المرات النادرة سيكون لنا رئيس صنع في لبنان".!
لقد غاب عن أمثال تجار السياسة هؤلاء أن لبنان كله صنع بإرداة دولية بعد أن تم فصله عن بلاد الشام بمقتضى اتفاقية سايكس- بيكو، وهو لا يزال محكومًا بهذه الإرادة الدولية التي جرى تعديلها وفق الشروط الأميركية في اتفاقية الطائف لعام 1989. وإن وضع لبنان لن يتغير إلا إذا شاءت أميركا تغيير ذلك وفق مشروع الشرق الأوسط الكبير أو أن يأخذ المسلمون على يد أميركا ويعيدوا لبنان إلى أصله بعد أن يتحرروا من الاستعمار الغربي ويطردوه من حيث جاء.
26/محرم/1438هـ
27/10/2016م