عبد الواحد جعفر
14-10-2016, 11:29 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
رد على مقالة الاستاذ زكي بني ارشيد حول "الدولة المدنية"
الأخ الكريم، الاستاذ زكي بني ارشيد المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إليك هذه المناقشة لما ورد في مقالتكم المنشورة للعموم حول "الدولة المدنية":
1_ إن مصطلح "الدولة المدنية" مصطلح دخيل على المسلمين، فلم يعرف المسلمون في تاريخهم، فكرة "الدولة المدنية"، بل عاش المسلمون في دولة الدين الإسلامي، هذه الدولة التي يحكمها بشر، ليس لهم أي صفة من صفات القداسة، وأوجب الشرع طاعتهم باعتبارهم أولي أمر؛ أي باعتبارهم حكامًا، لهم صلاحية إنفاذ أحكام الشرع ورعاية شؤون الأمة بحسبها. وهم كسائر أفراد الأمة خاضعون لأحكام الشرع، وخاضعون للمحاسبة والعزل حسب أحكام الشرع. بخلاف واقع "الدولة الدينية" في أوروبا، تلك الدولة التي تحكم بحسب نظرية الحق الإلهي، وهي أن للملك حقاً إلهياً على الشعب، فالملك بيده التشريع والسلطان والقضاء فهو الدولة، والشعب هو رعية للملك فلا حق له لا في التشريع ولا في السلطة ولا في القضاء ولا في أي شيء فهو بمقام العبد، فالناس عبيد لا رأي لهم ولا إرادة لهم وإنما عليهم التنفيذ وعليهم الطاعة، وهذا الواقع يختلف تمامًا عن واقع الدولة والحكم والسلطان في الإسلام. وأي محاولة للمقاربة بين مفهوم الدولة في الإسلام ومفهوم "الدولة الدينية" كما عاشها الغرب في العصور الوسطى هي محاولة خاطئة وفاشلة وفوق ذلك مغرضة.
2_ منذ عقدين من الزمن تقريبًا، شنت الولايات المتحدة الأميركية حملة حضارية على العالم الإسلام، وصنعت لمفاهيمها عن الحياة دعاية هائلة، وأخذت تحمل الناس على هذه المفاهيم؛ أي مفاهيم الحضارة الغربية، ممثلة بالديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان والتعددية السياسية واقتصاد السوق. ثم بدأت بطرح فكرة "المجتمع المدني" وهي تريد بذلك تحويل المجتمع في العالم الإسلامي إلى عزل الدين عن أي شأن من شؤون الحياة، وحصره بالعبادات والمظاهر الكهنوتية. ورغم أنها لم تنجح في ذلك، إلا أنها وبعد أن أشعلت ثورات "الربيع العربي" في العالم الإسلامي أخذت تطرح مفهوم "الدولة المدنية" وأصبح هذا المصطلح لازمة على ألسنة عملائها، يطالبون به، ويدعون له، ولقد صرح أحدهم أنه اقترح استخدام مصطلح "الدولة المدنية" لتجنب حساسية الناس من مصطلح "الدولة العلمانية".
وبناءً على ما سبق فإن اعتبار النقاش الدائر حول "الدولة المدنية" بعد ثورات الربيع العربي نقاشًا طبيعيًّا وناتجًا عن الخلاف في النظر إلى الدولة والمجتمع، من قبل حفنة من العلمانيين، والحركات الإسلامية، هو اعتبار خاطئ، بل الحق أن هذه الدعوة؛ أي الدعوة لـ"الدولة المدنية" هي دعوة مشبوهة لمصطلح غربي، تقف وراءها أميركا والمجتمع الدولي.
ثم إن محاولة إيجاد فهم مشترك لفك التناقض وتوحيد الموقف، هي دعوة تلفيقية لمنهجين متضادين، فلا فهم مشتركًا، ولا توحيد موقف بين الإسلام والعلمانية، فالمنهجان متناقضان، تناقضًا تامًا. ومحاولة التقريب بينهما هي كمحاولة التقريب بين الكفر والإيمان، وبين الهدى والضلال. وهي ولا بد في النهاية تنطوي على تقديم تنازلات تبدأ في الشكليات، وتنتهي في الأمور الجوهرية، وقد عشنا هذه "المداهنة" للكفر ومفاهيمه، عيشًا واقعيًّا في مصر وتونس، ورأينا نتائج ذلك عيانًا، وليس راءٍ كمن سمع! ثم إن حفنة العلمانيين الكفار، المرتبطين بالغرب، توجيهًا وتمويلًا، لن يقبلوا بأقل من أن يتنازل المسلمون عن دينهم، تنازلًا كليًّا أو جزئيًّا، وما دون ذلك لا التقاء، ملقين بالتهمة على الحركات الإسلامية بالإقصاء، وهم في الحقيقة والواقع إقصائيون استئصاليون! وحالهم في مصر ينبئ عن هذا الواقع.
3_ أن يصطلح العالم الغربي على معايير يعممونها ويجعلونها معايير إنسانية، ويتدخلون في شؤون الدول لعدم مراعاتها لهذه المعايير، لا يصح بحال أن يقبله المسلمون، فهذه المعايير التي صبغوها بالصبغة الإنسانية لا تمت إلى إنسانيتهم بصلة، فهم يروجونها فقط للتدخل في شؤون الدول، وهم أول من يدوسونها، ولا يقيمون لها وزنًا ولا اعتبارًا، وقد رأيناهم كيف يدوسون هذه القيم عندما تركوا مسلمي البوسنة يبادون على يد الصرب، أو عندما احتلوا أفغانستان والعراق، وها نحن نشاهدهم وهم يقذفون بحممهم وبراميلهم المتفجرة وصواريخهم المدمرة وقنابلهم الفسفورية الحارقة على أهل الشام وحلب، في أعظم مجزرة يشهدها القرن الحادي والعشرين، وأبطالها وشهودها هم أصحاب المعايير الإنسانية، فأي كذب ودجل ونفاق يمارسه هؤلاء على العالم؟! وهل مطلوب من المسلمين أن يصدقوا هذا الدجل وينساقوا خلفه؟!
4_ إذا كان الكاتب نفسه يعترف بأن فكرة "الدولة المدنية" انطلقت من نظرية العقد الاجتماعي ونظرية الفكر السياسي الغربي، فكيف لا يرفض المسلمون هذه الفكرة باعتبارها نقيضًا للإسلام ومفهوم الدولة الإسلامية؟!!
5_ لا يختلف من يقول أنه (لم ترد "الدولة" لا مصطلحًا ولا مفهومًا في القرآن الكريم، كما أن مفهوم الدولة بالمعنى الحديث غير موجود في التاريخ الإنساني قبل العصر الحديث) عما فعله علي عبد الرازق من قبل من نفي نظام الحكم في الإسلام. فالدولة وإن لم ترد مصطلحًا في القرآن الكريم، لكنها وردت مفهومًا في أكثر من موضع، بل جاء القرآن الكريم ليرسي دعائم الدولة ويبين الأحكام المتعلقة بها، تارة تحت تعبير الحكم بما أنزل الله، وتارة أخرى تحت تعبير أولي الأمر، وتارة ثالثة تحت تعبير الطاعة والتي تشمل طاعة النبي بوصفه نبيًّا وطاعته بوصفه حاكمًا وطاعة أولى الأمر باعتبارهم حكامًا تتواضع الأمة على اختيارهم. فهل من الإنصاف القول أن مفهوم الدولة لم يرد في القرآن الكريم، في الوقت الذي يكرر القرآن أحكام الطاعة والشورى وأولى الأمر، وعلاقة المسلمين بأنفسهم وعلاقتهم بغيرهم من الأمم، وأحكام الجهاد والجزية والمعاهدات.. الخ من أحكام العلاقات الدولية الواردة في القرآن، فهل هذه الأحكام تتعلق بالأفراد، كحكم أداء الصلاة أو الصوم، أم هي أحكام تتعلق بالأمة والدولة؟!! ولماذا يجري نفي ورود هذا المفهوم في القرآن ولمصلحة من؟! أللبحث عن قواسم مشتركة مع علمانيين كفرة لا يؤمنون بالإسلام، ولن يؤمنوا به أبدًا حتى يحولوه إلى دين آخر، يتبع فيه المسلمون دينهم الجديد هذا؟!!
6_ الكارثة كل الكارثة، أن يشرح مسلم المفهوم الغربي الناتج عن عقيدة فصل الدين عن الحياة، ثم يبحث في القرآن عن "المعايير المتوفرة" التي تجعل من هذا المفهوم، مفهومًا قرآنيًّا أو على أقل تقدير لا يتعارض مع القرآن!! والله إنها لكارثة، وتلبيس على المسلمين دينهم، وتملق لأفكار الكفر، وتسويق لها وتزويق!! فمهما قيل في "الدولة المدنية" ومهما حاول "التوفيقيون" الذين يعتمدون منهج "التلفيق" من إلباسها لبوس الإسلام، فإنها جسم غريب عن الإسلام والمسلمين، وسيلفظ المسلمون هذا المصطلح ومدلوله، اليوم أو غدًا، فلا يتعب نفسه بالبحث عن قواسم مشتركة مع الكفر والكفار، فهما ضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان!
7_ أما ما ذهب إليه المفكر الإسلامي د. محمد المختار الشنقيطي من أن الذين يرفضون الديمقراطية إما أنهم لم يحيطوا بالديمقراطية أو أنهم غفلوا عن مقاصد الشريعة الإسلامية. فهو جزء من التلبيس والتلفيق، ومحاولة غض الطرف عن كون الديموقراطية نظام حكم، وليس مجرد آلية اختيار. فالديموقراطية ليست آلية انتخاب رئيس الدولة أو أعضاء مجلس النواب، بل هي نظام حكم معين، يقوم على نظريتي السيادة للشعب، والشعب مصدر السلطات، وهذا يعني أن الشعب هو الذي يختار من يضع الدستور والقانون، وهو الذي يقرر من يحكم، بغض النظر عن أي شيء آخر، مع الحفاظ التام على فصل الدين عن الحياة، ومنع أن يكون للدين أي أثر في الحياة... فهل يجوز القبول بهذا الواقع، وادعاء أن مقاصد الشريعة تؤيده؟!! هل تؤيد مقاصد الشريعة هذا الواقع للديموقراطية، وبالتالي تجيز أخذها؟!
8_ أما القول: (إذ أن بناء الدولة هو بناء سياسي، وليس مرتبطا بالضرورة بطبيعة النظام القانوني أو مرجعيته التي ليست في الحقيقة قضايا سياسية، بل هي نتيجة لممارسة مقتضيات بناء الدولة ومؤسساتها في أمة من الأمم، وإذا انطلقنا من طبيعة الأنظمة السياسية الحديثة التي تضم مواطنين من ديانات مختلفة، فإن النظام القانوني قد يقترب أو يبتعد عن مقتضيات "الشريعة" في بعض أحكامها التفصيلية حسب ازدياد أو نقصان تمثيلية المسلمين في الأجهزة التشريعية (البرلمانات)).
فإنه مخالف لواقع الدولة في الإسلام، ذلك أن كلمة الدولة لفظ اصطلاحي ويختلف معناها باختلاف نظرة الأمم، فالغربيون مثلاً يريدون بالدولة مجموع الأرض والسكان والحكام؛ لأن الدولة عندهم تقوم ضمن حدود يسمونها الوطن، والسيادة عندهم للشعب، والحكم أي السلطان عندهم جماعي وليس فردياً، ومن هنا كان للدولة هذا المفهوم بأنها مجموع ما يسمى بالوطن ومن يُسمّون بالمواطنين ومن يباشرون الحكم وهم الحكام. ولهذا تجد عندهم رئيس دولة؛ أي رئيس الحكام والشعب والبلاد، ورئيس حكومة؛ أي رئيس الوزارة، يعني رئيس الحكام. وأمّا في الإسلام فإنه لا توجد حدود دائمية، إذ يجب حمل الدعوة إلى العالم، فتنتقل الحدود بانتقال سلطان الإسلام إلى البلاد الأخرى. وكلمة الوطن إنّما يراد بها مكان إقامة الشخص الدائمة أي بيته وبلده ولا يراد منها أكثر من ذلك مطلقاً. والسيادة إنّما هي للشرع لا للشعب، فالحكام يسيرون بإرادة الشرع والأمّة تسير بإرادة الشرع. والحكم أي السلطان فردي وليس جماعياً، قال عليه السلام: "فأمّروا أحدكم"، وقال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، ومن هنا يختلف معنى الدولة في الإسلام عن معناها في غيره من الأنظمة، فالدولة في الإسلام هي قوة مقيدة التصرف بالشرع، وهي كيان تنفيذي للإسلام عقيدة ونظامًا.
وبناءً على ذلك فإن بناء الدولة وشكلها في الإسلام كل ذلك أحكام شرعية، لها أدلتها التفصيلية مما جاء به الوحي، فرئيس الدولة ومعاونوه والولاة والقضاة والجهاز الإداري ومجلس الشورى والجيش كل هذه الأجهزة جاء الشرع بها، فجاءت أحكام تضبطها وتضبط صلاحيات كل جهاز، وتميزها عن غيرها من الأجهزة والنظم.
10/10/2016م
رد على مقالة الاستاذ زكي بني ارشيد حول "الدولة المدنية"
الأخ الكريم، الاستاذ زكي بني ارشيد المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إليك هذه المناقشة لما ورد في مقالتكم المنشورة للعموم حول "الدولة المدنية":
1_ إن مصطلح "الدولة المدنية" مصطلح دخيل على المسلمين، فلم يعرف المسلمون في تاريخهم، فكرة "الدولة المدنية"، بل عاش المسلمون في دولة الدين الإسلامي، هذه الدولة التي يحكمها بشر، ليس لهم أي صفة من صفات القداسة، وأوجب الشرع طاعتهم باعتبارهم أولي أمر؛ أي باعتبارهم حكامًا، لهم صلاحية إنفاذ أحكام الشرع ورعاية شؤون الأمة بحسبها. وهم كسائر أفراد الأمة خاضعون لأحكام الشرع، وخاضعون للمحاسبة والعزل حسب أحكام الشرع. بخلاف واقع "الدولة الدينية" في أوروبا، تلك الدولة التي تحكم بحسب نظرية الحق الإلهي، وهي أن للملك حقاً إلهياً على الشعب، فالملك بيده التشريع والسلطان والقضاء فهو الدولة، والشعب هو رعية للملك فلا حق له لا في التشريع ولا في السلطة ولا في القضاء ولا في أي شيء فهو بمقام العبد، فالناس عبيد لا رأي لهم ولا إرادة لهم وإنما عليهم التنفيذ وعليهم الطاعة، وهذا الواقع يختلف تمامًا عن واقع الدولة والحكم والسلطان في الإسلام. وأي محاولة للمقاربة بين مفهوم الدولة في الإسلام ومفهوم "الدولة الدينية" كما عاشها الغرب في العصور الوسطى هي محاولة خاطئة وفاشلة وفوق ذلك مغرضة.
2_ منذ عقدين من الزمن تقريبًا، شنت الولايات المتحدة الأميركية حملة حضارية على العالم الإسلام، وصنعت لمفاهيمها عن الحياة دعاية هائلة، وأخذت تحمل الناس على هذه المفاهيم؛ أي مفاهيم الحضارة الغربية، ممثلة بالديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان والتعددية السياسية واقتصاد السوق. ثم بدأت بطرح فكرة "المجتمع المدني" وهي تريد بذلك تحويل المجتمع في العالم الإسلامي إلى عزل الدين عن أي شأن من شؤون الحياة، وحصره بالعبادات والمظاهر الكهنوتية. ورغم أنها لم تنجح في ذلك، إلا أنها وبعد أن أشعلت ثورات "الربيع العربي" في العالم الإسلامي أخذت تطرح مفهوم "الدولة المدنية" وأصبح هذا المصطلح لازمة على ألسنة عملائها، يطالبون به، ويدعون له، ولقد صرح أحدهم أنه اقترح استخدام مصطلح "الدولة المدنية" لتجنب حساسية الناس من مصطلح "الدولة العلمانية".
وبناءً على ما سبق فإن اعتبار النقاش الدائر حول "الدولة المدنية" بعد ثورات الربيع العربي نقاشًا طبيعيًّا وناتجًا عن الخلاف في النظر إلى الدولة والمجتمع، من قبل حفنة من العلمانيين، والحركات الإسلامية، هو اعتبار خاطئ، بل الحق أن هذه الدعوة؛ أي الدعوة لـ"الدولة المدنية" هي دعوة مشبوهة لمصطلح غربي، تقف وراءها أميركا والمجتمع الدولي.
ثم إن محاولة إيجاد فهم مشترك لفك التناقض وتوحيد الموقف، هي دعوة تلفيقية لمنهجين متضادين، فلا فهم مشتركًا، ولا توحيد موقف بين الإسلام والعلمانية، فالمنهجان متناقضان، تناقضًا تامًا. ومحاولة التقريب بينهما هي كمحاولة التقريب بين الكفر والإيمان، وبين الهدى والضلال. وهي ولا بد في النهاية تنطوي على تقديم تنازلات تبدأ في الشكليات، وتنتهي في الأمور الجوهرية، وقد عشنا هذه "المداهنة" للكفر ومفاهيمه، عيشًا واقعيًّا في مصر وتونس، ورأينا نتائج ذلك عيانًا، وليس راءٍ كمن سمع! ثم إن حفنة العلمانيين الكفار، المرتبطين بالغرب، توجيهًا وتمويلًا، لن يقبلوا بأقل من أن يتنازل المسلمون عن دينهم، تنازلًا كليًّا أو جزئيًّا، وما دون ذلك لا التقاء، ملقين بالتهمة على الحركات الإسلامية بالإقصاء، وهم في الحقيقة والواقع إقصائيون استئصاليون! وحالهم في مصر ينبئ عن هذا الواقع.
3_ أن يصطلح العالم الغربي على معايير يعممونها ويجعلونها معايير إنسانية، ويتدخلون في شؤون الدول لعدم مراعاتها لهذه المعايير، لا يصح بحال أن يقبله المسلمون، فهذه المعايير التي صبغوها بالصبغة الإنسانية لا تمت إلى إنسانيتهم بصلة، فهم يروجونها فقط للتدخل في شؤون الدول، وهم أول من يدوسونها، ولا يقيمون لها وزنًا ولا اعتبارًا، وقد رأيناهم كيف يدوسون هذه القيم عندما تركوا مسلمي البوسنة يبادون على يد الصرب، أو عندما احتلوا أفغانستان والعراق، وها نحن نشاهدهم وهم يقذفون بحممهم وبراميلهم المتفجرة وصواريخهم المدمرة وقنابلهم الفسفورية الحارقة على أهل الشام وحلب، في أعظم مجزرة يشهدها القرن الحادي والعشرين، وأبطالها وشهودها هم أصحاب المعايير الإنسانية، فأي كذب ودجل ونفاق يمارسه هؤلاء على العالم؟! وهل مطلوب من المسلمين أن يصدقوا هذا الدجل وينساقوا خلفه؟!
4_ إذا كان الكاتب نفسه يعترف بأن فكرة "الدولة المدنية" انطلقت من نظرية العقد الاجتماعي ونظرية الفكر السياسي الغربي، فكيف لا يرفض المسلمون هذه الفكرة باعتبارها نقيضًا للإسلام ومفهوم الدولة الإسلامية؟!!
5_ لا يختلف من يقول أنه (لم ترد "الدولة" لا مصطلحًا ولا مفهومًا في القرآن الكريم، كما أن مفهوم الدولة بالمعنى الحديث غير موجود في التاريخ الإنساني قبل العصر الحديث) عما فعله علي عبد الرازق من قبل من نفي نظام الحكم في الإسلام. فالدولة وإن لم ترد مصطلحًا في القرآن الكريم، لكنها وردت مفهومًا في أكثر من موضع، بل جاء القرآن الكريم ليرسي دعائم الدولة ويبين الأحكام المتعلقة بها، تارة تحت تعبير الحكم بما أنزل الله، وتارة أخرى تحت تعبير أولي الأمر، وتارة ثالثة تحت تعبير الطاعة والتي تشمل طاعة النبي بوصفه نبيًّا وطاعته بوصفه حاكمًا وطاعة أولى الأمر باعتبارهم حكامًا تتواضع الأمة على اختيارهم. فهل من الإنصاف القول أن مفهوم الدولة لم يرد في القرآن الكريم، في الوقت الذي يكرر القرآن أحكام الطاعة والشورى وأولى الأمر، وعلاقة المسلمين بأنفسهم وعلاقتهم بغيرهم من الأمم، وأحكام الجهاد والجزية والمعاهدات.. الخ من أحكام العلاقات الدولية الواردة في القرآن، فهل هذه الأحكام تتعلق بالأفراد، كحكم أداء الصلاة أو الصوم، أم هي أحكام تتعلق بالأمة والدولة؟!! ولماذا يجري نفي ورود هذا المفهوم في القرآن ولمصلحة من؟! أللبحث عن قواسم مشتركة مع علمانيين كفرة لا يؤمنون بالإسلام، ولن يؤمنوا به أبدًا حتى يحولوه إلى دين آخر، يتبع فيه المسلمون دينهم الجديد هذا؟!!
6_ الكارثة كل الكارثة، أن يشرح مسلم المفهوم الغربي الناتج عن عقيدة فصل الدين عن الحياة، ثم يبحث في القرآن عن "المعايير المتوفرة" التي تجعل من هذا المفهوم، مفهومًا قرآنيًّا أو على أقل تقدير لا يتعارض مع القرآن!! والله إنها لكارثة، وتلبيس على المسلمين دينهم، وتملق لأفكار الكفر، وتسويق لها وتزويق!! فمهما قيل في "الدولة المدنية" ومهما حاول "التوفيقيون" الذين يعتمدون منهج "التلفيق" من إلباسها لبوس الإسلام، فإنها جسم غريب عن الإسلام والمسلمين، وسيلفظ المسلمون هذا المصطلح ومدلوله، اليوم أو غدًا، فلا يتعب نفسه بالبحث عن قواسم مشتركة مع الكفر والكفار، فهما ضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان!
7_ أما ما ذهب إليه المفكر الإسلامي د. محمد المختار الشنقيطي من أن الذين يرفضون الديمقراطية إما أنهم لم يحيطوا بالديمقراطية أو أنهم غفلوا عن مقاصد الشريعة الإسلامية. فهو جزء من التلبيس والتلفيق، ومحاولة غض الطرف عن كون الديموقراطية نظام حكم، وليس مجرد آلية اختيار. فالديموقراطية ليست آلية انتخاب رئيس الدولة أو أعضاء مجلس النواب، بل هي نظام حكم معين، يقوم على نظريتي السيادة للشعب، والشعب مصدر السلطات، وهذا يعني أن الشعب هو الذي يختار من يضع الدستور والقانون، وهو الذي يقرر من يحكم، بغض النظر عن أي شيء آخر، مع الحفاظ التام على فصل الدين عن الحياة، ومنع أن يكون للدين أي أثر في الحياة... فهل يجوز القبول بهذا الواقع، وادعاء أن مقاصد الشريعة تؤيده؟!! هل تؤيد مقاصد الشريعة هذا الواقع للديموقراطية، وبالتالي تجيز أخذها؟!
8_ أما القول: (إذ أن بناء الدولة هو بناء سياسي، وليس مرتبطا بالضرورة بطبيعة النظام القانوني أو مرجعيته التي ليست في الحقيقة قضايا سياسية، بل هي نتيجة لممارسة مقتضيات بناء الدولة ومؤسساتها في أمة من الأمم، وإذا انطلقنا من طبيعة الأنظمة السياسية الحديثة التي تضم مواطنين من ديانات مختلفة، فإن النظام القانوني قد يقترب أو يبتعد عن مقتضيات "الشريعة" في بعض أحكامها التفصيلية حسب ازدياد أو نقصان تمثيلية المسلمين في الأجهزة التشريعية (البرلمانات)).
فإنه مخالف لواقع الدولة في الإسلام، ذلك أن كلمة الدولة لفظ اصطلاحي ويختلف معناها باختلاف نظرة الأمم، فالغربيون مثلاً يريدون بالدولة مجموع الأرض والسكان والحكام؛ لأن الدولة عندهم تقوم ضمن حدود يسمونها الوطن، والسيادة عندهم للشعب، والحكم أي السلطان عندهم جماعي وليس فردياً، ومن هنا كان للدولة هذا المفهوم بأنها مجموع ما يسمى بالوطن ومن يُسمّون بالمواطنين ومن يباشرون الحكم وهم الحكام. ولهذا تجد عندهم رئيس دولة؛ أي رئيس الحكام والشعب والبلاد، ورئيس حكومة؛ أي رئيس الوزارة، يعني رئيس الحكام. وأمّا في الإسلام فإنه لا توجد حدود دائمية، إذ يجب حمل الدعوة إلى العالم، فتنتقل الحدود بانتقال سلطان الإسلام إلى البلاد الأخرى. وكلمة الوطن إنّما يراد بها مكان إقامة الشخص الدائمة أي بيته وبلده ولا يراد منها أكثر من ذلك مطلقاً. والسيادة إنّما هي للشرع لا للشعب، فالحكام يسيرون بإرادة الشرع والأمّة تسير بإرادة الشرع. والحكم أي السلطان فردي وليس جماعياً، قال عليه السلام: "فأمّروا أحدكم"، وقال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، ومن هنا يختلف معنى الدولة في الإسلام عن معناها في غيره من الأنظمة، فالدولة في الإسلام هي قوة مقيدة التصرف بالشرع، وهي كيان تنفيذي للإسلام عقيدة ونظامًا.
وبناءً على ذلك فإن بناء الدولة وشكلها في الإسلام كل ذلك أحكام شرعية، لها أدلتها التفصيلية مما جاء به الوحي، فرئيس الدولة ومعاونوه والولاة والقضاة والجهاز الإداري ومجلس الشورى والجيش كل هذه الأجهزة جاء الشرع بها، فجاءت أحكام تضبطها وتضبط صلاحيات كل جهاز، وتميزها عن غيرها من الأجهزة والنظم.
10/10/2016م