المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفساد وأزمة المياه في تونس



عبد الواحد جعفر
23-08-2016, 09:58 AM
بسم الله الرحمن الرّحيم


الفساد وأزمة المياه في تونس

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
اجتاحت بعض المناطق في تونس موجة تقطّعات على مستوى التزويد بالمياه الصالحة للشرب، وقد شملت هذه الموجة ولاية قفصة وبعض مناطقها مثل منطقة العسّالة والدّوالي وحي الشّباب والتي دامت لأكثر من أسبوع، على مستوى داخل المدينة، وكذلك في أحوازها على غرار منطقة أم العرائس والمظيلة. كما عاشت عديد الولايات الأخرى في تونس نفس المشاكل مثل ولايات نابل وسليانة ومدنين وجندوبة وبعض مناطق ولاية منوبة، مما نتج عنها موجات سخط من أهالي تلك المناطق احتجاجًا على تعطيل مصالحهم الحيوية بسبب غياب الانتظام في التزويد بالمياه.
هذا وقد بررت (الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ـ الصوناد ـ) أسباب الاضطرابات في توزيع الماء الصالح للشرب في عدة مناطق بتقلص الموارد المائية نتيجة الجفاف الذي تشهده البلاد، وارتفاع نسب استعمال المياه في أوقات الذروة، كما أكدت على وجود عجز في الموارد المائية السطحية، وعلى الانخفاض المتواصل لمنسوب الآبار العميقة المزوِّدة وقلة الموارد المائية المتاحة لبقية مناطق البلاد وسطًا وجنوبًا، الشيء الذي يمنعها من مواصلة تأمين الانتظام في تزويد مناطق الشمال التونسي بخاصة بالمياه الصالحة للشرب. وفي نفس السياق أكد وزير الفلاحة السابق سعد الصدّيق على أنه في حالة إذا لم تشهد البلاد نزولًا للأمطار إلى حدود شهر أيلول/سبتمبر فستكون الحالة كارثية وستضطر الدولة لتقسيط الريّ وتسجيل انقطاعات في تدفق مياه الشرب بشكل أكبر.
إن الأزمة التي يعاني منها الناس اليوم ليست أزمة قلّة موارد وإنّما هي أزمة فساد حكم وغياب رعاية، فحاجة البلاد من المياه سنويًّا لا تتعدّى خمسة مليارات متر مكعب، وهو أقل بكثير من معدّل محاصيل الأمطار في السنة الواحدة الذي يبلغ 36 مليار متر مكعب، والمتاح منها للتعبئة لا يتجاوز 4,66 مليار متر مكعّب. وكذلك الموارد المائية الجوفية في الجنوب فهي لوحدها تبلغ 2,18 مليار متر مكعب، والمتاح منها 0,61 مليار متر مكعب فقط، وهي تصرف على السيّاح وأصحاب المال تحت الحماية المباشرة للدّولة، فالاستهلاك السنوي للفرد الواحد يقدّر بنسبة 167 متر مكعب، وهي نسبة أقلّ بكثير من حصّته المقدّرة حسب وزارة الفلاحة بـ 450 متر مكعّب في السّنة. وفي المقابل فإن هذه المياه تهدر على السّائح الأجنبي الذي يستهلك معدّل 490 لترًا من الماء في اليوم الواحد ـ شربًا واستحمامًا ـ على حساب معاناة مناطق كاملة من العطش يوميًّا.
أمّا بالنسبة للمياه المعدنيّة، فإن البلاد تتوفر على ثروة هائلة تتمثّل في المئات من العيون الطبيعية المنتشرة على كامل مساحتها من شمالها الى جنوبها، غير أن عائدات هذه الثروة تذهب الى جيوب أصحاب رؤوس الأموال، وهي تتعرّض للاستنزاف والتّدمير من أجل الحصول على الثّراء السريع والفاحش، حيث بلغ الإنتاج السنوي مليارًا و100 مليون لتر في سنة 2013 وشهد ارتفاعًا الى مليار و406 مليون لتر سنة 2015 وحدها. وهذه الثّروة المائيّة تتنافس عليها أكثر من 28 شركة، إلى جانب وجود خمسة مشاريع أخرى مستقبلية بطاقة انتاج تقدر بــ 57600 قارورة في السّاعة. كما برمج الديوان الوطني للمياه المعدنية لأكثر من 49 مشروعًا لتعليب المياه. فضلًا عن الجزء الكبير الذي يصدّر خارج البلد نحو إفريقيا وأوروبا في الوقت الذي تعاني فيه عدّة مناطق من العطش.
فهذه الأرقام الحقيقية تشهد على توفر البلاد على كميات هائلة من المياه، كما تشهد على التضليل المتعمّد الذي يمارسه الحكام والمتنفذين بادعائهم الباطل أن تونس تشهد تقلصًا في نسب المياه. فعوض العمل والسهر على توفير المياه للناس في بيوتهم، وللفلاحين في أراضيهم، تطلب الدولة من الفلاحين التقليل من المساحات السقوية المخصصة للزراعة، بما يعرّض البلاد والعباد لأزمات أخرى أكثر شدّة على مستوى معيشتهم وقوتهم مما يضعهم تحت رحمة مزايدات أصحاب رؤوس الأموال والأسواق العالمية.
هذه هي سياسة الدّولة، سياسة قائمة على مرجعيّة فاسدة ونظام رأسمالي جشع يصنع الفقر والبؤس والاحتياج، وهذه المرجعية تستهدف بالأساس مقدّرات البلاد والعباد. والذي يجب الوعي عليه هو أن هذه الحالة البائسة التي آلت إليها البلاد لا تكمن في فساد أشخاص أو حكومات كما يروّجون له، فالحكومات في تونس ليست سوى مجرّد أدوات لخدمة هذا النّظام فلا يعتقد خروج تونس من أزمتها الحاليّة فقط بمجرّد قدوم رئيس حكومة جديد، وللعلم فإن "يوسف الشاهد" هذا كان مكلّفًا بمهام في قسم الخدمات الزراعية الخارجيّة في السفارة الأميركيّة في تونس، وهو المؤيّد لحريّة العمل الفلاحي ورفع يد الدّولة عن هذا المجال لصالح الاستثمار الأجنبي حسب إملاءات صندوق النّقد الدّولي، وهو من سيشرف عمليًّا أيضًا على ضرب القطاعات الحيّة للتفريط فيها للمستعمر كخصخصة (الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه والشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لتكرير النفط) والأراضي الفلاحية التي سيقع كراؤها للمستثمرين الأجانب لمدة عشرين سنة قابلة للتجديد.
وهكذا بات من الواضح أنّ ما تمرّ به بعض ولايات البلاد من أزمة المياه ليس سوى خطوة أخرى لتنفيذ مخطّطات الغرب الكافر لضرب مقدّرات البلاد وطرحها للخصخصة بعد التأكيد على عجز الدّولة عن إدارتها. فبعد سير حكّامنا في التفريط في المجال الصناعي والصحّي والتعليمي يأتي اليوم الدّور على المجال الفلاحي الذي يعتبر أهم المجالات المستهلكة للمياه وذلك بنسبة تفوق 80 % من جملة استهلاك كافة القطاعات، وهو استكمال في السير على ما صادقوا عليه في اتفاقيّة التبادل الحرّ بين تونس والاتّحاد الأوروبي بشكل معمّق وموسّع في شهر نيسان/أفريل 2016، والتي بموجبها ترفع الدّولة يدها عن دعم الفلاحين وتوفير الإمكانات اللاّزمة لهم، بل وفتح الأبواب للشركات الغربيّة مع تمتيعهم بكافّة الامتيازات الجبائيّة، وذلك خضوعًا للإملاءات الاستعماريّة لصندوق النقد والبنك الدوليين، وكلّ ذلك باسم الاستثمار والتّشغيل وانعاش الحياة الاقتصاديّة. وبالتالي كلّ الأخبار التي تروّجها الدّولة بخصوص الشحّ في الموارد المائيّة، وإقبال البلد على موجة من العطش ليس سوى تضليل للشعب لدفع الفلّاحين للتخلّي عن أراضيهم بعد عدم قدرتهم على مواكبة السياسة المتّبعة من الدّولة. وكذلك حتى لا تنكشف عمالة هؤلاء الحكّام لأسيادهم على حساب أهل البلد إزاء التفريط في الأراضي الفلاحيّة وتبيان عدم قدرتهم على إدارتها أمام النّاس بعد تعمّدهم إيجاد هذه الاضطرابات، والوزير الجديد المعيّن على رأس وزارة الفلاحة سيزيد الطين بلّة لعدم علاقته بالفلاحة والفلاحين.
وعليه فلا بدّ من رفض هذه السياسة، والوقوف بوجهها ببيان زيفها وكشف عورة الحكام والمتنفذين والذي يتمترسون وراءها لتضليل الناس بها. فخيرات البلاد المنهوبة من الفاسدين والمفسدين تكفي لمعالجة الاختلالات الاقتصاديّة التي تستغلّها المؤسّسات الدّوليّة لفرض أجندتها على البلد، وبالتالي لا بدّ من وضع الحواجز الكثيفة أمام التدخّل الخارجي في شؤون الاقتصاد المحلّي، وأن يتمّ استبعاد جميع العناصر الفاسدة من الدّولة، ولا يكون ذلك إلّا بإزاحة هذا النظام المطبق من جذوره، وإحلال أحكام الإسلام ومعالجاته لتطبق في الحياة والدّولة والمجتمع تطبيقًا انقلابيًّا شاملًا؛ لأنّ الدّولة في الإسلام هي المسؤولة عن رعاية شؤون الناس، وليس ذلك منّة من الدّولة أو من رئيسها بل هو واجب شرعي عليها عملًا بحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته، والإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته...". فمن واجبها أن تقوم برعاية شؤون النّاس في جميع المجالات، فهي التي تشرف على القطاع المائي باعتباره ملكيّة عامّة كما بيّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم "الناس شركاء في ثلاث، الماء الكلأ والنار" وبالتالي يحرّم عليها شرعًا أن تمتلك الثروة المائية أو تملّكها للأفراد بغاية الربح المادي مثلما هو مشهود حاليًّا مع (الشركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه)، ويكون مجال تدخّلها هو الإشراف على استخراج هذه الثّروة لا غير وذلك تحت جهاز إدارة المصالح. كما أنها هي التي تشرف على المجال الزراعي وذلك عن طريق دعم الفلّاح وتوفير كلّ الإمكانيات الماديّة له لتمكينه من استصلاح الأرض مع توفير البنية التّحتية للتصنيع الزراعي حتى لا يذهب فائض الإنتاج هدرًا.
وفي ظل غياب الدّولة التي تتقي الله تعالى في الناس وتحسن رعاية شؤونهم، تحكّمت فينا هذه الأنظمة التي صنعها الغرب الكافر لتثبيت الأوضاع التي أوجدها في بلاد المسلمين، وذلك للحيلولة دون انعتاقها من ربقة سيطرته. ولذلك فإنّ ما يعانيه الناس اليوم من شقاء مردّه هذه السياسة المرتهنة للغرب الكافر والتي ينتهجها هؤلاء الحكّام ومن معهم من طبقة سياسيّة فاسدة وإعلام مأجور يروّج لتضليلهم همّهم الوحيد الاستحواذ على ثروات البلاد لمنفعتهم الخاصّة على حساب شقاء النّاس.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
اللجنة المسؤولة
لحزب التحرير- بتونس-
19 ذي القعدة 1437 هـ
22 أوت 2016