عبد الواحد جعفر
01-07-2016, 12:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
متابعة سياسية
تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
تمهيد: وصف الواقع
إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يكن متوقعًا بهذا الشكل، فقد أخطأ ديفيد كاميرون في حساباته باختيار الاستفتاء كوسيلة للحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي في القضايا التي أرادها. وكان يتوقع أن يكون مصير هذا الاستفتاء مثل مصير استفتاء اسكتلندا. ومع ذلك فإن هذا الخروج هو بمنزلة الخسائر الجانبية التي حركت المياه الراكدة للسياسات الأميركية في أوروبا. وبعبارة أخرى فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو من بعض النتائج غير المتوقعة للسياسة الأميركية قي قضية الهجرة إلى أوروبا.
لقد حاولت أميركا منذ فترة استغلال قضية الهجرة المتدفقة على أوروبا وكذا قضية مقاومة الإرهاب من أجل تخويف دول الاتحاد الأوروبي ودفعها كرهًا نحو مشاركة أميركا في مشاكل الشرق الأوسط ومن ثم تسخيرها لمصلحة المخططات الأميركية كما نرى ذلك في سوريا وليبيا. وهذا ما جعلنا نرى كثيرًا من السياسيين في أوروبا يرددون نفس سيمفونية الخوف من المهاجرين التي اشتعلت نارها كثيرًا في بريطانيا وكانت أحد أهم أسباب دعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الأسباب: السيادة الوطنية وقضية الهجرة
لقد أرادت أميركا من وراء إثارة قضية الهجرة في أوروبا إبراز الهوية القومية للشعوب الأوروبية بالقدر الذي يدفعها مجتمعة داخل الاتحاد الأوروبي للعمل سويًا ضد المسلمين في العالم الإسلامي تحت راية الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن إثارة مشاعر الكراهية للمهاجرين والخوف من المسلمين في أوروبا يساعد أميركا ودول الاتحاد نفسها في تبرير تدخلاتها وحروبها على المسلمين أمام الرأي العام الأوروبي. وهذا من شأنه أن يسهل على أميركا قيادة دول الاتحاد والزج بها ضمن سياساتها الدولية ومخططاتها الإستراتيجية.
لكن الوضع في بريطانيا أن هناك بعض السياسيين الرافضين للسياسات الأميركية مثل بوريس جونسون من حزب المحافظين ونايجل فاراج زعيم حزب الإستقلال البريطاني، استغلوا أجواء الهجرة للدفع نحو قيادة حملة الخروج من أوروبا. بالطبع استغل هؤلاء السياسيون مسائل أخرى لكسب معركة الخروج من الاتحاد مثل مسألة سيطرة ألمانيا على مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو التخويف من دخول تركيا معاهدة "شنغن"، بالإضافة إلى حالة الفقر والتهميش التي تعيشها مدن الأطراف ومناطق الأرياف بسبب الأزمات الإقتصادية المتلاحقة وسوء التوزيع للثروة والخدمات لينشروا حالة من الخوف والفزع على الهوية القومية البريطانية إذا ما بقيت ضمن الاتحاد الأوروبي.
وبالرغم من أن أغلب الخبراء يؤكدون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون مفيدًا لها من الناحية الإقتصادية، ومع ذلك قرر الناخب البريطاني التصويت بالخروج بدافع النزعة القومية المتحيزة ضد المهاجرين، ورفضًا لقوانين الهجرة والتشريعات الاقتصادية الخاصة بالمهاجرين في الاتحاد الأوروبي. ولذلك جاءت نتيجة الاستفتاء على غير مراد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وبالطبع على غير مراد الولايات المتحدة التي عملت منذ سنين على التحكم بالعالم من خلال التجمعات السياسية والاقتصادية الكبرى.
هذه هي أهم الأسباب التي تقف وراء انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وليس كما يُردد بعضهم من أن هذا الخروج كان "دهاء من الإنجليز، وثقلهم السياسي خولهم أن يدبروا الدخول في الاتحاد عندما كان دخوله غنمًا وخرجوا منه عندما أصبح غرمًا"!!.
أما تداعيات هذا الحدث على دول الاتحاد وعلى السياسات الأميركية فنذكر منها على سبيل الأهمية ما يلي:
التداعيات: مخاطر جيوسياسية بالدرجة الأولى
أولًا: انفراط عقد النظام العالمي
إن الاتحاد الأوروبي هو أحد ركائز هذا النظام العالمي الذي عملت أميركا على المساهمة في تأسيسه منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم عملت بعد ذلك على اكمال حلقاته عندما أصبحت الدولة الأولى ثم الدولة المتفردة في العالم. فالنظام العالمي الذي تقوده أميركا وتتحكم به حاليًا يقوم على مجموعة من المؤسسات "فوق الوطنية" مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي ومنظمة التجارة العالمية، هذا فضلًا عن المنظمات الإقليمية التي تمثل أيضًا أجزاء من النظام العالمي.
ومن هنا ينبع خوف الولايات المتحدة واستياؤها بعد تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ لأن ذلك يعبر عن خوفها الإستراتيجي من انفراط أول حلقة في عقد النظام العالمي، فالاتحاد الأوروبي هو أحد أهم أعمدة النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولذلك فأميركا لا تزال متمسكة بالاتحاد الأوروبي مع الأخذ بعين الاعتبار تداعيات خروج بريطانيا منه، وما يعنيه ذلك من توجيه العناية إلى اصلاح شكل عمل الاتحاد حتى لا ينفرط عقده بعد أن عملت أميركا كثيرًا على توطيد وجوده إقليميًا ودوليًا لمصلحة مخططاتها تجاه روسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا ما تحت الصحراء والسوداء.
فالمخيف بالنسبة لأميركا ليس هو مجرد خروج بريطانيا بل هو انفراط عقد النظام العالمي، فبريطانيا قد تكون مجرد البداية في سلسلة استفتاءات في بلاد أخرى للخروج من الاتحاد الأوروبي. ذلك أن التيار اليميني المعادي للمهاجرين في أوروبا يدفع بشدة في اتجاه تكرار استفتاء بريطانيا، كما نرى ذلك في فرنسا وهولاندا وألمانيا والسويد. ومما يقوي من هذا الإتجاه أن ظروف هذه البلدان تشابه بريطانيا في مشاكل الهجرة وازدياد أعداد الناخبين ذوي الدخل المحدود والمستوى التعليمي المنخفض والذين يعيشون على هامش المكاسب المادية للنظام العالمي الأميركي.
وإن ما صرح به نايجل فراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، وأحد زعماء معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي يصب في هذا الاتجاه، فقد ذكر فراج قائلًا: "يحدوني الأمل أن يكون هذا الانتصار بداية سقوط هذا المشروع الفاشل، ويؤدي إلى قارة أوروبية تتمتع دولها بسيادة كاملة على أراضيها"، وأضاف في "خطاب الإنتصار" صباح يوم 24 حزيران/يونيو 2016 قائلًا: "نجاحنا ليس لنا فقط، إنما نجاح لأجل أوروبا كلها".
ثانيًا: اختلال سياسة التوازن الأوروبي
لقد كشف استفتاء بريطانيا عن مقدار الانقسام الحاد الذي تعيشه الطبقة السياسية في هذه البلاد من الموقف من الاتحاد الأوروبي والعلاقة مع أميركا، وهذا أمر واضح داخل حزب المحافظين وحزب العمال بين داعم للوحدة مع أوروبا وتمتين العلاقة مع أميركا من خلال هذه الوحدة وبين ساع للإنفصال عن أوروبا ومطالب بالعلاقة الخاصة مع أميركا. وقد انعكس هذا الانقسام في النخبة السياسية والحاكمة على المجتمع البريطاني نفسه حول هذه المواضيع. وهذا أكبر دليل على أن بريطانيا تعيش حالة من التيه الفكري والسياسي تظهر جليًا في عدم وجود وضوح في الرؤية السياسية والمجتمعية لبريطانيا وعلاقتها بأميركا والاتحاد الاوروبي.
ولو كان في بريطانيا سياسيون من طراز رجال دولة لما دعا ديفيد كاميرون لهذا الاستفتاء من أصله، فمنذ متى تقرر الدول مصائرها المستقبلية وقضاياها الاستراتيجية عبر الاستفتاء، ولكن ضعف بريطانيا دوليًا وإقليميًا وغياب رؤية مستقلة لها عن أميركا هو الذي جعلها تنزلق في مسار الاستفتاء. والذي تخشاه أميركا هو أن ينفرط عقد بريطانيا نفسها في صورة ما لو طالبت اسكتلندا أو إيرلندا الشمالية بالاستفتاء على الانفصال عن المملكة المتحدة! ولا نظن أن دهاء بريطانيا التاريخي والمزعوم حاليًا ليمنع تفتتها إلى دويلات بعد أن فقدت مكانتها وقوتها وغابت عنها شمسها منذ أمد بعيد!
إن التحالف الفرنسي الألماني هو حجر الزاوية في بناء القوة الأوروبية وايجاد السلام في أوروبا بعد ثلاث حروب قارية بينهما بين عامي 1870 و1945. ولكن فرنسا وألمانيا ليست هي الدول الوحيدة التي تشكل ميزان القوى في أوروبا، فهناك أيضًا بريطانيا التي تمثل القوة الثالثة التي تلعب دور الوسيط في استقرار علاقة القوة بينهما على مستوى القارة. ومن هنا فإن التأثير الجيوسياسي لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الذي تخشاه أميركا؛ لأنه قد يهز أسس ميزان القوى في أوروبا وما يعنيه ذلك من إعادة النظر بدور الاتحاد في العالم.
ومن هنا نفهم سر زيارات الرئيس أوباما المتكررة إلى بريطانيا وتدخله المباشر في الشؤون الداخلية للمملكة وكأنها أحد دول العالم بشكل لم يسبق له مثيل. فالذي تخشاه أميركا أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما يمكن أن يؤدي إليه من تفتت المملكة المتحدة أن يؤثر ذلك في سياسة توازن القوى الأوروبية التي تعتبرها أميركا أحد ركائز سياستها في التعامل مع الدول الأوروبية "الكبرى" أي فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ومن هنا عبر باراك أوباما في أكثر من مناسبة عن دعمه المطلق لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي رابطًا ذلك بموقعها في الاتحاد، واعتبر أن وجودها في الاتحاد ذو "أهمية كبيرة" بالنسبة للولايات المتحدة، واتفق معه في ذلك ثمانية وزراء خزانة أميركيون في رسالة مفتوحة حذروا فيها من خطر خروج بريطانيا معتبرينها أقوى ضمن الاتحاد الأوروبي، وأن بقاءها هو السبيل الأمثل لمستقبل أفضل لها وللاتحاد. وفي زيارته الأخيرة لبريطانيا دافع أوباما باستماتة عن بقاء المملكة في الاتحاد وخاطب أوباما البريطانيين في المؤتمر الصحفي مع كاميرون في 22/4/2016، بالقول إن "الولايات المتحدة تدرك أن صوتكم القوي في أوروبا يضمن أن يكون لأوروبا موقف قوي في العالم، وبقاء الاتحاد الأوروبي منفتحًا ومتطلعًا للخارج وعلى صلة وثيقة بحلفائه على الضفة الأخرى من الأطلسي".
متابعة سياسية
تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
تمهيد: وصف الواقع
إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يكن متوقعًا بهذا الشكل، فقد أخطأ ديفيد كاميرون في حساباته باختيار الاستفتاء كوسيلة للحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي في القضايا التي أرادها. وكان يتوقع أن يكون مصير هذا الاستفتاء مثل مصير استفتاء اسكتلندا. ومع ذلك فإن هذا الخروج هو بمنزلة الخسائر الجانبية التي حركت المياه الراكدة للسياسات الأميركية في أوروبا. وبعبارة أخرى فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو من بعض النتائج غير المتوقعة للسياسة الأميركية قي قضية الهجرة إلى أوروبا.
لقد حاولت أميركا منذ فترة استغلال قضية الهجرة المتدفقة على أوروبا وكذا قضية مقاومة الإرهاب من أجل تخويف دول الاتحاد الأوروبي ودفعها كرهًا نحو مشاركة أميركا في مشاكل الشرق الأوسط ومن ثم تسخيرها لمصلحة المخططات الأميركية كما نرى ذلك في سوريا وليبيا. وهذا ما جعلنا نرى كثيرًا من السياسيين في أوروبا يرددون نفس سيمفونية الخوف من المهاجرين التي اشتعلت نارها كثيرًا في بريطانيا وكانت أحد أهم أسباب دعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الأسباب: السيادة الوطنية وقضية الهجرة
لقد أرادت أميركا من وراء إثارة قضية الهجرة في أوروبا إبراز الهوية القومية للشعوب الأوروبية بالقدر الذي يدفعها مجتمعة داخل الاتحاد الأوروبي للعمل سويًا ضد المسلمين في العالم الإسلامي تحت راية الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن إثارة مشاعر الكراهية للمهاجرين والخوف من المسلمين في أوروبا يساعد أميركا ودول الاتحاد نفسها في تبرير تدخلاتها وحروبها على المسلمين أمام الرأي العام الأوروبي. وهذا من شأنه أن يسهل على أميركا قيادة دول الاتحاد والزج بها ضمن سياساتها الدولية ومخططاتها الإستراتيجية.
لكن الوضع في بريطانيا أن هناك بعض السياسيين الرافضين للسياسات الأميركية مثل بوريس جونسون من حزب المحافظين ونايجل فاراج زعيم حزب الإستقلال البريطاني، استغلوا أجواء الهجرة للدفع نحو قيادة حملة الخروج من أوروبا. بالطبع استغل هؤلاء السياسيون مسائل أخرى لكسب معركة الخروج من الاتحاد مثل مسألة سيطرة ألمانيا على مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو التخويف من دخول تركيا معاهدة "شنغن"، بالإضافة إلى حالة الفقر والتهميش التي تعيشها مدن الأطراف ومناطق الأرياف بسبب الأزمات الإقتصادية المتلاحقة وسوء التوزيع للثروة والخدمات لينشروا حالة من الخوف والفزع على الهوية القومية البريطانية إذا ما بقيت ضمن الاتحاد الأوروبي.
وبالرغم من أن أغلب الخبراء يؤكدون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون مفيدًا لها من الناحية الإقتصادية، ومع ذلك قرر الناخب البريطاني التصويت بالخروج بدافع النزعة القومية المتحيزة ضد المهاجرين، ورفضًا لقوانين الهجرة والتشريعات الاقتصادية الخاصة بالمهاجرين في الاتحاد الأوروبي. ولذلك جاءت نتيجة الاستفتاء على غير مراد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وبالطبع على غير مراد الولايات المتحدة التي عملت منذ سنين على التحكم بالعالم من خلال التجمعات السياسية والاقتصادية الكبرى.
هذه هي أهم الأسباب التي تقف وراء انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وليس كما يُردد بعضهم من أن هذا الخروج كان "دهاء من الإنجليز، وثقلهم السياسي خولهم أن يدبروا الدخول في الاتحاد عندما كان دخوله غنمًا وخرجوا منه عندما أصبح غرمًا"!!.
أما تداعيات هذا الحدث على دول الاتحاد وعلى السياسات الأميركية فنذكر منها على سبيل الأهمية ما يلي:
التداعيات: مخاطر جيوسياسية بالدرجة الأولى
أولًا: انفراط عقد النظام العالمي
إن الاتحاد الأوروبي هو أحد ركائز هذا النظام العالمي الذي عملت أميركا على المساهمة في تأسيسه منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم عملت بعد ذلك على اكمال حلقاته عندما أصبحت الدولة الأولى ثم الدولة المتفردة في العالم. فالنظام العالمي الذي تقوده أميركا وتتحكم به حاليًا يقوم على مجموعة من المؤسسات "فوق الوطنية" مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي ومنظمة التجارة العالمية، هذا فضلًا عن المنظمات الإقليمية التي تمثل أيضًا أجزاء من النظام العالمي.
ومن هنا ينبع خوف الولايات المتحدة واستياؤها بعد تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ لأن ذلك يعبر عن خوفها الإستراتيجي من انفراط أول حلقة في عقد النظام العالمي، فالاتحاد الأوروبي هو أحد أهم أعمدة النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولذلك فأميركا لا تزال متمسكة بالاتحاد الأوروبي مع الأخذ بعين الاعتبار تداعيات خروج بريطانيا منه، وما يعنيه ذلك من توجيه العناية إلى اصلاح شكل عمل الاتحاد حتى لا ينفرط عقده بعد أن عملت أميركا كثيرًا على توطيد وجوده إقليميًا ودوليًا لمصلحة مخططاتها تجاه روسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا ما تحت الصحراء والسوداء.
فالمخيف بالنسبة لأميركا ليس هو مجرد خروج بريطانيا بل هو انفراط عقد النظام العالمي، فبريطانيا قد تكون مجرد البداية في سلسلة استفتاءات في بلاد أخرى للخروج من الاتحاد الأوروبي. ذلك أن التيار اليميني المعادي للمهاجرين في أوروبا يدفع بشدة في اتجاه تكرار استفتاء بريطانيا، كما نرى ذلك في فرنسا وهولاندا وألمانيا والسويد. ومما يقوي من هذا الإتجاه أن ظروف هذه البلدان تشابه بريطانيا في مشاكل الهجرة وازدياد أعداد الناخبين ذوي الدخل المحدود والمستوى التعليمي المنخفض والذين يعيشون على هامش المكاسب المادية للنظام العالمي الأميركي.
وإن ما صرح به نايجل فراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، وأحد زعماء معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي يصب في هذا الاتجاه، فقد ذكر فراج قائلًا: "يحدوني الأمل أن يكون هذا الانتصار بداية سقوط هذا المشروع الفاشل، ويؤدي إلى قارة أوروبية تتمتع دولها بسيادة كاملة على أراضيها"، وأضاف في "خطاب الإنتصار" صباح يوم 24 حزيران/يونيو 2016 قائلًا: "نجاحنا ليس لنا فقط، إنما نجاح لأجل أوروبا كلها".
ثانيًا: اختلال سياسة التوازن الأوروبي
لقد كشف استفتاء بريطانيا عن مقدار الانقسام الحاد الذي تعيشه الطبقة السياسية في هذه البلاد من الموقف من الاتحاد الأوروبي والعلاقة مع أميركا، وهذا أمر واضح داخل حزب المحافظين وحزب العمال بين داعم للوحدة مع أوروبا وتمتين العلاقة مع أميركا من خلال هذه الوحدة وبين ساع للإنفصال عن أوروبا ومطالب بالعلاقة الخاصة مع أميركا. وقد انعكس هذا الانقسام في النخبة السياسية والحاكمة على المجتمع البريطاني نفسه حول هذه المواضيع. وهذا أكبر دليل على أن بريطانيا تعيش حالة من التيه الفكري والسياسي تظهر جليًا في عدم وجود وضوح في الرؤية السياسية والمجتمعية لبريطانيا وعلاقتها بأميركا والاتحاد الاوروبي.
ولو كان في بريطانيا سياسيون من طراز رجال دولة لما دعا ديفيد كاميرون لهذا الاستفتاء من أصله، فمنذ متى تقرر الدول مصائرها المستقبلية وقضاياها الاستراتيجية عبر الاستفتاء، ولكن ضعف بريطانيا دوليًا وإقليميًا وغياب رؤية مستقلة لها عن أميركا هو الذي جعلها تنزلق في مسار الاستفتاء. والذي تخشاه أميركا هو أن ينفرط عقد بريطانيا نفسها في صورة ما لو طالبت اسكتلندا أو إيرلندا الشمالية بالاستفتاء على الانفصال عن المملكة المتحدة! ولا نظن أن دهاء بريطانيا التاريخي والمزعوم حاليًا ليمنع تفتتها إلى دويلات بعد أن فقدت مكانتها وقوتها وغابت عنها شمسها منذ أمد بعيد!
إن التحالف الفرنسي الألماني هو حجر الزاوية في بناء القوة الأوروبية وايجاد السلام في أوروبا بعد ثلاث حروب قارية بينهما بين عامي 1870 و1945. ولكن فرنسا وألمانيا ليست هي الدول الوحيدة التي تشكل ميزان القوى في أوروبا، فهناك أيضًا بريطانيا التي تمثل القوة الثالثة التي تلعب دور الوسيط في استقرار علاقة القوة بينهما على مستوى القارة. ومن هنا فإن التأثير الجيوسياسي لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الذي تخشاه أميركا؛ لأنه قد يهز أسس ميزان القوى في أوروبا وما يعنيه ذلك من إعادة النظر بدور الاتحاد في العالم.
ومن هنا نفهم سر زيارات الرئيس أوباما المتكررة إلى بريطانيا وتدخله المباشر في الشؤون الداخلية للمملكة وكأنها أحد دول العالم بشكل لم يسبق له مثيل. فالذي تخشاه أميركا أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما يمكن أن يؤدي إليه من تفتت المملكة المتحدة أن يؤثر ذلك في سياسة توازن القوى الأوروبية التي تعتبرها أميركا أحد ركائز سياستها في التعامل مع الدول الأوروبية "الكبرى" أي فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ومن هنا عبر باراك أوباما في أكثر من مناسبة عن دعمه المطلق لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي رابطًا ذلك بموقعها في الاتحاد، واعتبر أن وجودها في الاتحاد ذو "أهمية كبيرة" بالنسبة للولايات المتحدة، واتفق معه في ذلك ثمانية وزراء خزانة أميركيون في رسالة مفتوحة حذروا فيها من خطر خروج بريطانيا معتبرينها أقوى ضمن الاتحاد الأوروبي، وأن بقاءها هو السبيل الأمثل لمستقبل أفضل لها وللاتحاد. وفي زيارته الأخيرة لبريطانيا دافع أوباما باستماتة عن بقاء المملكة في الاتحاد وخاطب أوباما البريطانيين في المؤتمر الصحفي مع كاميرون في 22/4/2016، بالقول إن "الولايات المتحدة تدرك أن صوتكم القوي في أوروبا يضمن أن يكون لأوروبا موقف قوي في العالم، وبقاء الاتحاد الأوروبي منفتحًا ومتطلعًا للخارج وعلى صلة وثيقة بحلفائه على الضفة الأخرى من الأطلسي".