تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تيمور الشرقية قصة نفطية نموذجية



عبد الواحد جعفر
27-04-2016, 07:26 PM
"تيمور الشرقية" قصة نفطية نموذجية
د. ثائر دوري - سوريا
ما جرى ويجري في "تيمور الشرقية" قصة مدرسية تماماً وتستحق أن تدرس لأنها تتشابه في الخطوط العامة للمقدمات وفي المآل والنتائج مع قصص يجري طبخها الآن في المطبخ الأمريكي لفصل أقاليم وإنشاء دول جديدة في المنطقة العربية وفي مناطق أخرى من العالم، تعالوا نستعرض تفاصيل هذه القصة.
"تيمور الشرقية" هي مساحة جغرافية صغيرة في أقصى شرق الأرخبيل الإندونيسي، وهي تفصل الأرخبيل عن أستراليا، أدت المرحلة الاستعمارية إلى اختلافات دينية ولغوية بينها وبين هذا الأرخبيل. فالأرخبيل بأغلبية إسلامية أما تيمور الشرقية فمسيحية ووثنية، كما أن الأرخبيل كان مستعمرة هولندية أما تيمور فبرتغالية، ونجم عن هذا اختلاف لغوي فسكانها يتكلمون البرتغالية. لكن لا الاختلافات الدينية ولا العرقية يمكن أن تشكل أساساً لانفصال "تيمور الشرقية" عن أرخبيل متعدد القوميات والإثنيات والأعراق واللغات والأديان، فالعرقية الجاوية أكبر العرقيات لا تشكل سوى 45% من السكان، كما يوجد في الأرخبيل تعدد لغوي هائل فهناك 668 لغة، ويبلغ عدد اللغات التي يتحدث بها أكثر من مليون إنسان 15 لغة، ويشكل المسلمون 87% من السكان. ويوجد مسيحيون بروتستانت وكاثوليك، وبوذيين، وهندوس. ومن الدلالات الهامة على عدم التمييز العرقي أو الديني أن الأقلية الصينية التي لا تتجاوز نسبتها 4 % من السكان تسيطر على نصف الاقتصاد، فليس عن عبث أن يكون شعار الأرخبيل الوحدة ضمن التنوع (البانكاسيلا).
استولت اندونيسيا على الجزيرة عام 1975 عند انتهاء عهد الاستعمار البرتغالي وبالطبع فإن الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت حليفة لنظام سوهارتو الدموي المجرم، ساندت سيطرة إندونيسيا على الجزيرة، فهي كانت تخشى سقوطها في يد السوفييت وتحولها إلى كوبا أخرى. وخلال عدة عقود ساندت الولايات المتحدة هذا النظام الدموي الذي ارتكب أفظع المجازر، ويقال إنه قتل ثلاثة أرباع المليون إنسان من الشيوعيين الحقيقيين أو المشتبهين عند استلامه السلطة بتشجيع ودعم وإسناد من قبل السفارة الأمريكية التي كانت تسلم النظام لوائح بأسماء الكوادر الشيوعية أو الوطنية التي يجب تصفيتها ولم يكن النظام ليتأخر عن التنفيذ. وبالطبع نال أهالي تيمور الفقراء من الظلم مثلما نال إخوانهم في بقية أرجاء الأرخبيل بل ربما أقل لأن الجزيرة كانت بعيدة عن مركز الصراع.
وكان أن انتهت الحرب الباردة وتغيرت السياسات فتمت إزاحة سوهارتو عن السلطة وحل نظام فيه قدر معقول من الديمقراطية عندها انفجرت مشكلة "تيمور الشرقية" في وجه هذا النظام. ودارت طاحونة الإعلام الغربي، التي لا تدور إلا على باطل، فبدأت القصص عن مآسي هذا الشعب وعن المجازر التي يتعرض لها، وملأت حكايات القتل والاغتصاب والسلب والنهب شاشات التلفزة الغربية، ولتقريب الصورة شاهدوا التغطية الإعلامية الغربية عما يحدث في دارفور فهي نفسها التي اتبعت في "تيمور الشرقية"، نفس المفردات والتعابير، وذات القصص التي سمعناها من الإعلام الغربي يوم تيمور وسنسمعها في مناسبات أخرى، وكأن عمل هذا الإعلام ينحصر في تغيير أسماء الأماكن و إضافة بعض العناصر المحلية من أجل المصداقية والترويج والتشويق.
لم يعد لدى الإعلام الغربي من مادة سوى كفاح شعب "تيمور الشرقية" من أجل الحرية والاستقلال، وصار قادة التمرد أبطالا للحرية يطلون من الشاشات العالمية فمنح أحدهم جائزة نوبل للسلام، وهذه الجائزة لا تمنح سوى من أجل باطل أو للباطل بعينه، وبقدرة قادر صارت أمريكا وحليفاتها الغربيات، وخاصة استراليا، حريصات على حرية "تيمور الشرقية" مؤمنات بحقوق الشعوب بتقرير المصير وبالطبع لم يسأل أحد عن سر تحول موقف الولايات المتحدة فالهداية من الله، والله قد دل سادة البيت الأبيض على الصواب!!!
ضغطت الولايات المتحدة على حكومة جاكرتا المترنحة بعد أزمة اقتصادية خانقة واضطرابات سياسية تلت إزاحة الدكتاتور، فربطت المساعدات الاقتصادية بالقبول بانفصال "تيمور الشرقية"، وتم هذا الأمر عام 2002 فرأينا احتفالات في "تيمور الشرقية" ذكرتنا بمشاهد استقلال جرت قبل نصف قرن، فسمعنا خطابات عن الحرية والاستقلال وعُزف النشيد الوطني ورفع العلم وصار للدولة الوليدة حرس رئاسي وشركة طيران. وسيق سكان تيمور إلى انتخابات حسبوا أنها ستدخلهم في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. لكن هيهات هيهات. فكما سارت الأمور قبل نصف قرن مع الدول التي استقلت عن الاستعمار الغربي وحسبت شعوبها أنها حققت المراد بامتلاكها لعلم ونشيد وطنيين ولشركة طيران تحمل اسم دولتهم قبل أن تصاب بالخيبة العميقة وتكتشف لاحقاً أنها حصلت على وهم استقلال لأن المستعمر قبل أن يخرج كان قد كبل هذه الدول وجعلها تدور في فلكه إلى أبد الآبدين وهي تظن نفسها مستقلة وحرة. لكن الحالة تختلف قليلاً في تيمور من ناحية واحدة وهي أن هذا الاستقلال المزعوم هو الذي أدخل القوات الغربية تحت يافطة الأمم المتحدة.
عند هذا الحد انتهت قصة "تيمور الشرقية" في وسائل الإعلام الغربية فغابت وكأنها لم تكن قبل أن تبرز من جديد في الأيام الماضية.
ما لم تذكره هذه الوسائل في حينها أن فصل الجزيرة عن الأرخبيل الإندونيسي لا علاقة له لا بالحلال ولا بالحرام ولا هو لدعم مطالب وأماني الشعوب في الحرية والانعتاق إنما الأمر لا يعدو عن كونه قصة نفطية لأن الجزيرة لديها احتياطي ضخم من النفط والغاز. والأنغلوساكسون (تمثلهم استراليا في هذه الحالة) يعشقون النفط والغاز. وأن الاتفاق (إذا سمينا السلب والنهب الذي تتعرض له هذه الدول اتفاقيات) مع الدول الصغيرة والأجزاء المفتتة أسهل منه مع الدول الكبيرة المتماسكة. فإبرام اتفاق نفطي (أي أن تستولي) مع جزيرة صغيرة فقيرة تحت سيطرة قواتك العسكرية، التي ترفع علم الأمم المتحدة، هو أمر أسهل من الاستيلاء على نفط نفس الجزيرة عندما تكون ضمن الأرخبيل الإندونيسي ذي الحكومة المركزية القوية. وهذه القصة لا تخص "تيمور الشرقية" وحدها بل هي سياسة قديمة ومضمونة النتائج فهي مجربة مراراً وتكراراً، ويتم إعادة تطبيقها هذه الأيام في العراق الذي يراد تفتيته إلى مجوعات متناحرة متصارعة ليسهل السيطرة على نفطه عبر اتفاقيات تعقد مع كل مجموعة على حدا، ونفس الأمر يتكرر في السودان في حكاية دارفور ويمكننا أن نعدد ما لا يحصى من هذه القصص في عالم اليوم، الذي يزداد توحداً في الشمال الغني مقابل مزيد من التفتيت في الجنوب الضعيف، فوحدة الأغنياء و رخائهم لا تتم إلا بتفتيت الفقراء و سلب ثرواتهم.
يبقى الجانب الآخر من القصة:
أين تكمن مصلحة للشعوب المعنية بهذا التفتيت الذي يتم تحت شعارات الحرية والاستقلال والديمقراطية وحقوق الإنسان ووعود الرخاء القادم؟
تجيب على هذا السؤال أحداث "تيمور الشرقية"، فقد اكتشفنا أن بؤس سكان هذه الجزيرة قد ازداد مقابل رخاء أقلية أجنبية تعمل في شركات النفط وفي مكاتب الأمم المتحدة والقوات الدولية (بالمناسبة حدث أن أعلنت الأمم المتحدة قبل مدة عن طلب موظفين لمكاتبها في الجزيرة واشترطت أن يكونوا يتقنون الإنجليزية في بلد يتكلم 99% من أهله البرتغالية)، وبالطبع مع بعض النخب العميلة. ولم يستفد السكان من النفط والغاز بل رأينا قصة غريبة، فجرى الحديث عن حرب أهلية بين سكان الشرق والغرب في جزيرة لا تتجاوز مساحتها 15007 كم مربع ولا يزيد عدد سكانها عن ثلاثمائة ألف نسمة، وهم بحجم حي من أحياء أي مدينة كبيرة معاصرة. فقد شكا سكان الشرق أو الغرب من التهميش وسيطرة سكان الطرف الثاني على السلطة فاندلعت حرب أهلية بين الطرفين، وأتى الحل هذه المرة أسترالياً عبر إرسال ألف و ثلاثمائة جندي وتسليمهم السيطرة على العاصمة.
يمكنكم أن تبدلوا اسم "تيمور الشرقية" باسم أي مكان يتم تجهيزه كي ينفصل عن فضائه الكبير سواء كان في العراق أم في السودان أم في يوغسلافيا أم في الإتحاد السوفيتي السابق. وستحصلون على نفس النتائج التي حصل عليها أهل تيمور: مزيد من الفساد و من انحدار شروط الحياة، ومزيد من البؤس والفقر والجوع والحروب الأهلية. ومن ثم احتلال أنغلوسكسوني بحجة وقف المذابح والسيطرة على الحرب الأهلية التي ستندلع بعد حين بين السكان أنفسهم، أو بحجة نشر الأمن. أما وعود الرخاء والحرية فسيكتشف الناس أنهم كانوا يركضون وراء السراب وسيدخلون في حلقة جديدة من التفتيت بين شرق و غرب أو سكان جبال وسهول، أو بين طوال القامة وقصارها........ الخ. أما الهدف الحقيقي من وراء كل ذلك فهو سيطرة الأنغلوساكسون على النفط واليورانيوم والنحاس وليذهب البشر إلى الجحيم.
والعاقل من اتعظ بتجربة غيره..